هذه شهادة أو صورة قلمية لعالم اجتماع مغربي أخلص لموضوعه، وآثر أن يستنطق الواقع، وأن يتيح للمجال باعتباره أداة تأثير وساحة صراعات حيوية ومتحولة دوما، تتخلق فيها التراتبات القيمية والاجتماعية والموقفية، في معالجاته المتعددة للظواهر الاجتماعية المختلفة من ريفية وحضرية، ومن استئثار بالاهتمام أو تهميش.

بورتريه

عبد الرحمان المالكي

عَالِمُ اجْتِمَاعٍ يَسْتَنْطِقُ المَجَالَ

عبد الرحيم العطري

المجال غير محايد بالمرة، كما أنه غير جامد ولا منغلق على ذاته، إنه الدرس القوي الذي علمنا إياه مانويل كاستلز في "المسألة الحضرية"، ففي المجال، أي مجال، تنكشف التراتبات الاجتماعية وتنفضح التوترات والصراعات والتسويات التي تعتمل في النسق العام، فالمجال ليس مجرد نطاق جغرافي مفرغ من أية دلالات ثقافية، إنه "حياة/ حيوات" تتأثر وتؤثر، وتحدد الحال والمآل، والمطلوب في كل حين، وتحديدا من آل مدرسة القلق الفكري، هو استنطاق المجال والكشف عن حركاته وسكناته.

عبد الرحمان المالكي يمكن اعتباره من رواد السوسيولوجيا الحضرية بالمغرب، ومن الداعين باستمرار إلى استنطاق المجال، وكشف أساسيات اشتغاله في تفاعل مع الثقافة التي تؤطره وتصوغ انبناءه، فقد حرص باستمرار على إثارة الانتباه إلى ما تعرفه المجالات التي نسكنها أو تسكننا من ديناميات التحضر والحضرية، وما تنتهي إليه تحولات في أنماط العيش والفعل والتفاعل. انشغاله بالمجال سيلوح مبكرا في اختياره لتناول الهجرة القروية باتجاه مدينة فاس، أفقا للاشتغال في مستوى الأطروحة الجامعية، ضدا على براديغمات أخرى كانت تمارس حينها نوعا من الإغراء المعرفي على مجايليه من آل السوسيولوجيا، فلم يَسِرْ مع درب محاورة التراث الكولونيالي، ولا إعادة إنتاج ثلاثية المخزن والقبيلة والزاوية، وإنما أسهم أيضا، كما فعل أحبته لحبيب امعمري وعبد السلام فراعي وأحمد شراك وغيرهم من أيقونات الجيل الثاني للسوسيولوجيا الوطنية، في تحرير البحث السوسيولوجي من مداراته الأولية، والانطلاق به نحو شواغل جديدة، وبمقاربات تعددية على مستوى الأطر النظرية والأدوات المنهجية.

في كتابه "الثقافة والمجال: دراسة في سوسيولوجيا التحضر والهجرة في المغرب"، يُكَثِّفُ عبد الرحمان المالكي كل دروسه في التأطير الجامعي والبحث العلمي، ويكشف عن "سوسيولوجياه" القائمة على التفهم العميق للبنيات الأشد خفاء في المجتمع، إنه يتوسل بالاستمارة والمقابلة وسيرة الحياة والملاحظة، ويستند على تراث نظري من السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والسيميولوجيا، ليعلمنا بأن هذه المعرفة التي نعلن الانتماء إليها لا تكون إلا بصيغة الجمع والتكامل بين الاختصاصات.

ذلك أن مقاربة ديناميات التحضر وما يتصل بها من هجرات وتحولات وحركيات مجالية يفترض الانتصار لبراديغم سوسيولوجي منفتح على كثير من المعارف، على اعتبار أن سؤال المدينة يثير برأيه "أزمة موضوع" و"أزمة منهج"، ولا سبيل لتجاوز هذا العائق الإبيستيمولوجي إلا بـ"مسح الطاولة" كما فعل ديكارت، والقطع مع اليقينيات والانطلاق نحو الميدان، لاستنطاق المجال كما هو، لا كما نريده أو نتخيله.

هنا لا بد من التأكيد على أن المالكي يعد مؤسسا لسوسيولوجيا الميدان، وهذا ما لاح بقوة في تأطيره لمئات البحوث والرسائل والأطاريح، والتي يفرض، بالمعنى الإيجابي، على طلبته ضرورة الرجوع إلى الميدان لأجل التقاط التفاصيل وموضعة القراءات الحقلية، التي تساعد حتما في بناء الموضوع السوسيولوجي وتحدد مدخلات ومخرجات الاشتغال عليه. فطريقته الأثيرة في الدرس السوسيولوجي ما تزال شاهدة عليه، ممهورة في كثير من الأعمال التي أشرف عليها، وفي كثير من المشاريع البحثية التي رافقها وساندها، والتي لاحت في مختبر التنمية الاجتماعية برفقة مؤسس سوسيولوجيا الصحة العزيز محمد عبابو. فللرجل أياد بيضاء على كثير من آل السوسيولوجيا هنا والآن، باعتباره معلما، مربيا، عالما وإنسانا من الزمن الجميل.

في درسه الجامعي يشتغل عبد الرحمان المالكي وفق مقاربة بيداغوجية نوعية، تتوزع بين التمهيد والأشكلة والاستعراض والتفكيك والاستجماع، منتقلا من نظرية إلى أخرى، ومن عالم اجتماع إلى آخر، ومن مثال واقعي إلى آخر، وهو يدفع طلبته إلى شحذ الأسئلة القصوى، وتجاوز البداهات الممكنة باتجاه اللا يقين والتنسيب الضروريين لإنتاج المعرفة السوسيولوجية. في ذات الدرس نلاحظ باستمرار نوعا من "القلق المنهجي" في مختلف أعماله، فالمنهجية عنده على درجة عليا من الأهمية، باعتبارها مفتاحا/ مغلاقا للبحث ورهاناته، وحتى عندما يصل إلى مستوى الاستجماع والتخريج، فإنه يفعل ذلك بحذر معرفي بالغ، على اعتبار أن الواقعة الاجتماعية لا تفسر تلقائيا، وبيسر واضح، وإنما تستلزم مجهودا استثنائيا، يدمن حركة متواترة، ولِمَ لا متوترة، بين النظري والميداني.

لقد أوضح في أطروحته أنه موزع بين براديغمين: "براديغم الواقعة الاجتماعية من خلال السوسيولوجيا الوضعية، وبراديغم الفعل الاجتماعي كما تجسده سوسيولوجيا الفهم"، وسيلفي نفسه باحثا منهجسا بالأفعال والتمثلات الفردية، معتمدا على المقابلة كوسيط منهجي يستوجب علاقة تفاعلية بين الباحث والمبحوث، معترفا بقلقه المعرفي إزاء حاصل هذه التصريحات التي يجود بها الميدان، قائلا بالحرف: "لـقـد كـانـت حيرتنا وتساؤلنا باستمرار على الطريقة الأمثل لتحليل المقابلات: هل هي التحليل الموضوعاتي/ الأفقي أم التحليل الموضوعاتي العمودي"، وهو درس آخر يعلمنا إياه عبد الرحمان المالكي، ضدا على كل "سوسيولوجيا فَرِحَة" بخلاصاتها غير المتأنية.

دفاعه المستميت عن ضرورات استنطاق المجال، والانتباه إلى حساسية "الثقافي" في إنتاج وإعادة إنتاج المجال نكتشفه في الشهادات الدالة التي حرص على تضمينها في منجزه، فقد نقلها بلغتها البليغة كما جاءت على ألسن المبحوثين، مؤكدا بأن "المدينة تتأثّر بأفواج المهاجرين الذين يغيّرونها مجالياً وديموغرافياً واجتماعياً وثقافياً، وهذه المدينة نفسها تؤثّر في الوافدين عليها، من خلال التنشئة الحضرية التي تجعلهم ينخرطون فيها".

لهذا يمكن القول بأن عبد الرحمان المالكي، رائد "علم" استنطاق المجال، ناب عن كثير من المهاجرين الوافدين إلى فاس، ناب عنهم في "ترجمة وتأويل" نظرتهم للكون/ المجال/ فاس، ناب عنهم وهو يُسمع صوتا يوصف بألا صوت له، في زمن مغربي مفتوح على التوتر والاحتقان، ناب عن أحياء بمجملها، أخطأتها مشاريع التنمية، وتركتها عرضة للتهميش والإقصاء، وكان بذلك عالم اجتماع ميداني، يتنقل بين عوينات الحجاج والليدو وباب الغول وصهريج كناوة والجنانات وبنسودة وبن دباب وزواغة، فضلا عن أبواب وأحياء المدينة القديمة، كمجالات "حضرية" ناتئة في المجال الفاسي، وكعلامات سوسيوتاريخية رامزة ومثقلة بالمعاني.

يشدد المالكي دوما على إيلاء فائق القيمة لما يقوله الأفراد في وضعياتهم الاجتماعية، فما يحكى، خلال المقابلة، عن التجارب والحيوات والتمثلات جدير بالانهمام والفهم والتأويل، وفي هذا الصدد يقول أستاذنا الجليل: "فما يقوله الناس عن تجاربهم وتمثلاتهم وحياتهم ومساراتهم ليس عاريا من الصحة، بل ربما فقط كلام مألوف ومعتاد ويومي. أليس المهم هنا هو السعي نحو فهم وتأويل ما يقوله هؤلاء الناس؟ أما التحليل في آخر المطاف، فما هو إلا استراتيجية عمل وبحث معمق، أو مجهود يجعل الباحث يتخيل، ويسعى جاهدا لجعل الوقائع تتكلم من خلال إبداعه للمؤشرات"، وبهكذا تخريج يقودنا المالكي إلى ضرورة التحرر من "التعالي السوسيولوجي" الذي ينبني على إحداث تراتبية غير مبررة بين "الباحث" و"المبحوث"، فما نقوم به في النهاية لا يعدو أن يكون غير إعادة تدوير للواقع ومحاولة موضوعية لفهم وتأويله وفقا لروايته الأصيلة القادمة من الميدان.

إننا أمام باحث صَموت/ صبور يشتغل بهدوء وحذر معرفي، يصيخ السمع جيدا لما تقوله الوقائع الاجتماعية، ويلتقط ترميزات الأفراد وتفاعلاتهم، ويراقب حركات وسكنات المجال الذي تتبارى وتتصارع وتتوافق فيه وعليه الرساميل والعلاقات والمراتب المجتمعية، ما يقوده نهاية إلى استنطاق المجال وتحديد ملامحه و"لعبه" و"رهانه"، فما يهم في البحث السوسيولوجي دوما هو اكتشاف "اللعب" و"الرهان" le jeu et l'enjeu الدائر باستمرار في مختلف حقول/ مجالات المجتمع.

إلى ذلك كله يبقى الدكتور عبد الرحمان المالكي باحثا ومثقفا ألمعيا، اختار الانتماء إلى السوسيولوجيا الحضرية مبحثا واشتغالا، وإلى "ظهر المهراز" مربيا وعالما مدافعا عن العلم والأخلاق، منتجا للمعنى ومساهما في التأسيس لسوسيولوجيا الميدان والفهم والتأويل، داعيا إيانا جميعا في مدرسة القلق الفكري إلى الانتباه لمقدمة جوهرية وهي أن الكتابة السوسيولوجية ليست سوى انتقال من حقيقة أقل صدقا أو وضوحا إلى حقيقة أكثر صدقا وتشريحا، والمأمول طبعا هو تجسير هذا الانتقال بقلق منهجي وأفق معرفي متوتر ومتواتر، حتى نكون جديرين بالانتماء إلى مدارات الدرس السوسيولوجي.

 

جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس