وفي يوم الاحتفال بالعيد الوطني من عام 1986، وصل التمساح عند الساعة العاشرة صباحا الى ساحة الميدان قادما من باب المعظم، كان يرتدي كالعادة حذاءه الرياضي، يضع نظارته الطبية ويفتح الزرين العلويين من قميصه الزهري، ولقد ظهر بالفعل مميزا، بل ومثيرا للحسد، نعم الحسد، هذا الشيء الذي يقود الى الضغينة، فلم يكن في تلك الأوقات الا القليل من الناس، القليل جدا من الشبان ومتوسطي العمر يمكنهم اختيار ألوان ملابسهم والخروج بها في الهواء الطلق.
حسنا ، يقول التمساح انه لايمكن الشفاء من صورة الموت الا من خلال تدمير تجلياته، والألوان هي حقل في مواجهة الصحراء، بالنسية لي، عندما أرتدي قميصا ملونا يشبه أن اقوم بعملية قفز بالزانة لعبور الجدران الى الضفة الآمنة، فاللون الكاكي في الحقيقة هو واحد من تجليات الموت.
وفي اللحظة التي هبط بها ليربط حبل الحذاء، شعر باليد التي هبطت على ياقة قميصه الزهري، تسارع نبض قلبه ومضغ عشبته التي لاتفارق فمه، ثم وصلته الصورة الأولى التي أنتجها احساسة بالخطر، وكانت اليد بالفعل حين انغرزت في رقبتة، هي لواحد من عناصر الانضباط العسكري، ثم ارتفع مستوى الانذار حينما ظهرت الصورة الثانية بعد هذا مباشرة، فكانت لحبل مشنقة يتدلى في الفراغ الذي يعدّ لتنفيذ الأحكام التي تصدر ضد الهاربين من الجيش أيام الحرب، الجنود الخونة كما تنعتهم قرارات المحاكم العسكرية. وبالطبع لم يكن التمساح لينتظر حتى يستقيم، ألقى نظرة خاطفة فقط وهو مازال منحنيا، تأكد من الحذاء العسكري الملّمع بعناية وهو يقف بثبات خلفه، تأكد من السروال الكاكي الذي قبل ان يهبط لمستوى الكاحل، أحيطت حوافه بشريط ابيض، ثم نفض المنحنيّ كل جسده، هزّه مرة واحدة، كما لو أنه يحاول أن يسخر من الصرامة التي في قانون الجاذبية، ثم دفع في ذات اللحظة كوعه الى الخلف، طار في الهواء حتى قبل أن تستقيم قامته بشكل كامل، ولايعرف مالذي دعاه الى القيام بنصف التفاتة، ربما ليتأكد أن رسول الموت قد تلقى الطعنة الكافية لتعطيل مهمته، حسنا ، لقد رآه وهو يرتفع قليلا في الفراغ ثم يسقط على الاسفلت، يداه تقبضان على بطنه، وعيناه مغمضتان في محاولة لامتصاص الألم، بينما التمساح في تلك اللحظة كان قد تحول الى مايشبه العاصفة.
وداخل الازقة الضيقة اللولبية خلف جامع الحيدرحانة، كان يركض بينما العشبة تفرز الكثير من السوائل، تغذي جسده المليء بعاطفة الحياة ، فيشعر التمساح بقوة الخوف الذي غمر كيانه كله، وقد اكتشف في تلك اللحظات المصيريه أن أفضل وسيلة للحفاظ على الحياة في هذه الظروف، أن يدخل المرء في ثقب الأبرة، وعلى كل حال، لم يكن بمقدور أي من رجال الأنضباط العسكري الذين يطاردونه الدخول في ثقب الابرة، حيث لايمكن لأحد ان يفعل ذلك اطلاقا، سوى الخائف الذي لم تنطبع في مخيلته، صورة الرجل المستسلم لقدره، المحكوم الذي يقف في حياد تام أمام حبل المشنقة .
وبالرغم من كل المناورات التي لاتبدو ضرورية جدا، قطع المسافة من الميدان حتى شارع الجمهورية، كان في رأسه أثناء ذلك كتيبة كاملة تريد القبض عليه، كل شيء كان يدور في رأسه، رغم انه في الواقع كان يسمع تسابق الخطى خلفه، اخترق الحواجز وخلّف اثناء هذا الاختراق الكوارث، بالطبع، هذا أقل ماتفعله العواصف حين تمر، ومن ردود الأفعال مثلا، صاحب عربة لفلافل في ساحة الرصافي، لقد أطلق الرجل شتائم بذيئة ظلت تتابع التمساح حتى وصل الى شارع الجمهورية، اختلطت هذه البذاءات بصرخات نساء طارت عباءاتهن في الهواء مثل بالونات سوداء، وبتهديدات الرجال الذي تناثروا مثل الاجسام الخشبية التي تصدمها كرة البولنع المندفعة باتجاه العمق.
وعند شارع السعدون، كان التمساح قد خفف من السرعة، ثم أراد بالفعل أن يتوقف ،وأن يلتفت على الأقل، خاصة بعدما اختفى صوت الاقدام الثقيلة المتخيلة التي تملأ رأسه، والتي تحاول اللحاق به، أراد أيضا أن يمسح عرقه ويشرب الماء، لكن رسول الموت ظهر له على شكل سيارة عسكرية تقف في الجوار عند محل الزهور، وكان ثمة ضابط يتكلم بعصبية مستخدما جهاز لاسلكي صغير وقد احاط به جنود الانضباط العسكري، ثم ظهر أمامه أو تخيل ذلك في نفس اللحظة، أفيش بحجم كبير لفلم على واجهة صالة السينما، كان بالفعل اشارة غريبة، هكذا فسرها التمساح، وكانت مثيرة للفزع، رجل مشنوق بحبل على غصن شجرة، كانت عيناه مفتوحتين ويداه يهبطان الى الاسفل وقدماه يتدليان في الهواء، لهذا واصل الركض، ركض بتعجيل اسرع ، نسى عطشة، ونسى عرقه الذي رشح من كل مكان في جسده.
ولايعرف التمساح بالضبط ، كيف وصل بالقرب من ساحة الاندلس في تلك الظهيرة الساخنة. لقد توقف أخيرا، وفي الحقيقة كانت طاقته قد نفدت تماما، لم يعد بامكانه الركض حتى أربعة امتار اضافية، وفي شارع فرعي لمح العداء الذي وصل خط النهاية الذي وضعته له الأقدار، محل عصير صغير، تقدم وكان أنفه الكبير مفتوحا كبئر، يشفط الهواء كما لو أنه يحتاج بالفعل الى كمية من الاوكسجين تكفي خمسين تمساحا، وكان لهاثه ينذر بأن قلبه سوف يتوقف بعد لحظة واحدة، مسح عرقه لكن شفته كانت متشققه وحيله مهدودا كليا:
- اعطني عصير "عمو".
قال للرجل صاحب المحل بصوت خافت متهدج هو اقرب الى طلب النجدة منه الى طلب لشراب، وكانت عيناه تمسحان رغم ذلك الجهات، شرب كأسا وأثنين وثلاثة وأربعة، ثم شعر أنه ينهار عندما وضع فمه على حافة الكأس الخامسة، جسده الضخم ترهل، ولم تعد ساقاه تقويان على حمله، ثم مرت غيوم كثيفة، غمره الظلام قبل أن يسقط فيحدث سقوطه دويا، اهتز له قلب صاحب المحل، الرجل الخمسيني الذي ظهر هادئا بعد ذلك وكأنه يعرف كل شيء.
وعندما فتح التمساح عينيه بعد ساعات، كان أول ما شاهده هو صورة بنت في العشرين تقريبا:
- الحمد لله على السلامة .
نطقت الصورة بصوت كما لو أنه يأتي من الحلم، ثم أضافت:
- لم نستطع نقلك للمستشفى، الوالد قال: ربما كنت هاربا من الانضباط العسكري، أو ربما من الأمن، أو من خطر ما، لاعليك، أنت في أمان، هل تحتاج لشيء ؟.
وفي فصل آخر من هذه القصة، الفصل الذي يبدو نمطيا، يشبه تلك المشاهد التي نفذها مخرجو الافلام العربية في الخمسينات، أن البنت التي كان صوتها ياتي دائما من بحيرات الحلم الهادئة ، تزوجت من التمساح بعينيه الكبيرتين وجسده الضخم وجلده الصلب، لقد سقطت الشابة في غرامه بسبب أسنانه البيضاء الجميلة، أو ربما بسبب قلبه الذي اكتشفت أنه لم يكن في الحقيقة قلب تمساح، فقد كان يخفق بسرعة حتى لنملة اضاعت طريقها الى مستعمرتها، أنه تمساح عاطفي رغم مظهرة الذي يوحي بالوحشية، أو أنه فراشة بيضاء ترتدي زي تمساح حريص على أن يكون ملونا، لهذا صار في حياتها كموضع العينين من الرأس، وبالنسبة له أغرم بصوتها الساحر، وربما بعصير أبيها الذي يكفي كل الهاربين من الموت، وربما، وهو الهارب من آلة الحرب التي ظلت تلاحقه سنوات طويلة ، لم يستطع مقاومة السمة الاسطورية المليئة بالسحر والتي تتمتع بها بنت شجاعة مثلها، فكان وجودها في حياته كوجود النبع في صحراء لتائه، وكانت تراقب مضغة لعشبته، تذكره بها، وحينما يتحول لعاصفة، كان يصل فتسقيه العصير حتى يسقط ، فيحدث سقوطه دويا ،ثم تحرس نومه الطويل، وكلما فتح عينيه، كانت تضمه الى صدرها، تقبله وتقول له بصوت يأتي من ينابيع الحلم المتدفقة:
- انك في أمان ايها التمساح!.