«كان افضل الأزمان، وكان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كان عهد الأيمان، وكان عهد الكفران. كان زمن النور، وكان زمن الظلام. كان ربيع الأمل، وكان شتاء اليأس. كان أمامنا كل شيء، ولم يكن أمامنا أي شيء. كنا جميعا إلى الجنة مباشرة ذاهبين، وكنا جميعاً مباشرة الى الجحيم متجهين» تشارلز ديكنز
القسم الاول
الفصل الاول
(1)
لم تكن الرصاصة المنطلقة في الفجر الكانوني البارد، غير نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة. انها مفترق طرق دلتني اليها صفعة يده، ثم يدي المندفعة الى جرابه في الحزام، لتكون السبابة على زناد المسدس، وجسد زيتوني الملابس ملقى على الارض الحجرية، ملوث بالدماء، والبيرية (*) بعيدة عن رأسه.
لقد تضاءلت وتضخمت اللحظة معا عند مشاهدتي آمر السرية بهذه الهيئة، مفارقا الحياة، وتاركا حقيبته السوداء الخاصة، بينما حقائبه التي كنت احملها تحدق بي كأنها تخشى تركي لها في العراء. لقد مات سيدي الضابط بسبب حقيبة اخرى كنت قد نسيتها في غمرة تحضير الحقائب الباقية، والتي توجد فيها علب الراشي والمربى والبسة طفولية كان قد جلبها احد الجنود له... لقد ولجت زمنا سريا مصنوعا من خفقات قلب وعرق بارد، ونظرات طائشة لا علاقة لها بخطوات القدم المتسارعة. اصبحت قاتلا فجأة وبلا مكاسب اجنيها. كانت عيناه نصف مغمضتين تغمرهما الدهشة والعتاب من جندي مكلف اسمه فهد، كان فيما مضى خادمه في ركن الضباط. مراسله (*) الذي يجلب وجبات الاكل الثلاث له، ويغسل ويكوي ملابسه، ويدلك ظهره قبل النوم ..
اتذكر مشهد القتل بعد ساعات فاجده حلما عابرا، او حكاية سمعتها من اخرين. لقد تركت جثته والحقائب الثلاث في مكان ناء، ولا يمكن ان يطرقه احد قبل مرور مدة اجازتي، حيث تاخذ وجبة جديدة من الجنود في النزول الى اهاليهم، وعندها سيكتشفون الحقيقة، وربما يجدون سيدي الضابط مشوها بفعل كواسر الليل الجبلية، او كلاب سائبة تتضور جوعا، ويعرفون ان فهداً كان معه، وبعد اسبوع ادخل في عقول الجميع عندما أتغيب عن الوحدة، فتتضح الصورة بكوني الشخص الذي قتله، وينبغي ملاحقته في مدينته وازقتها، ويخضع الاهل للاستجواب، والملاحقة من قبل عشيرة سيدي الضابط، ولا بد لهم من اعطاء الفصل(*) في جلسة شيوخ ترفع فيها البيارق، وفي شارع اهل القتيل للتأكيد على انهم اخذوا حقهم من القاتل الذي هو انا!!
كان المقهى يضج بالرواد، فهو اكبر مقاهي مدينة كركوك. هدير من الاصوات وحركات اليدين وزارات وقطع دومينو ساقطة بين اونة واخرى، لم استطع البقاء فيه، فالاصوات تخترق جمجمتي دفعة واحدة. ليس هناك نبرات منفصلة تعني اشياء محددة ... بنج شاي، ومالص حامض، وحليب الازنيف، ولا اعرف ان كانت الوجوه معنية حقا بما تتحدث به اوما يدور في رأسها. كان عليّ الخروج ودفع ثمن السائل الاسود الذي لم اشربه، لكي انقب عن بقعة التمس فيها الصفاء. راحة الراس الملغوم بالضجيج، والحنين الى ساعات الليل الاخير قبل الفجر.
السيارات ضجرة فيما بينها، وشرطي المرور يزهو بصفارته وبائعو الرصيف لهم نداءات لا تتوقف، وملابسي الخاكية لا تزال ملتصقة على جلدي. كنت ادور في دروب المدينة وفي رأسي تدور شوارع العاصمة التي فقدتها الى الابد. فقدت خطواتي ونظراتي الى طالبات الإعدادية قرب بيتنا، اللائي احدق اليهن من السطح، جالسات في الصفوف، وأخريات يمشين الهوينى في الساحة الخلفية للمدرسة. اشارات اليدين والصفير ونزق تسريحة الشعر الملمعة بالدهان. جميعها حدثت بعد كارثة الفرار من الوحدة في ذلك الغروب الملئ بالقاذورات، والبقاء في البيت خمسة اشهر وستة ايام وبضع ساعات، ثم العودة من جديد الى ساحة العرضات ونواب العرفاء والشوربة الصباحية، حاملا خساراتي الجديدة. تلك الخسارات الملمعة بالدهان والمفجوعة بالصفير وغسل الملابس الداخلية .. لقد تغيرت مهمتي في الجيش، واصبحت خادما لامر السرية .. أي لم يعد فهد سائقا مغامرا يستدير في اصعب الزوايا. تحولت عصا قيادة الدبابة لديه الى صينية من الفافون الرخيص يقودها من مطعم الضباط الى حجرة سيده، واحواض الكاز والهيدروليك انقلبت فجأة الى بهارات وملح ورز عنبر طيب الرائحة. انها الخسارات المنبعثة من الغروب عند مشاهدتي الشارع العام من بعيد وهو يتلوى نزولا حيث العاصمة. كانت الدمعة متسخة بزيت الطعام المحترق، متسخة كزقاقنا الجميل المختنق بالمارة في تلك الساعة.
قبل دخولي فندق الميلاد شاهدت شيخا يبيع المسابح والخرز والحصى الملون والخواتم ذات الفصوص النادرة، يعتمر كوفية خضراء وعقال اسود، وتجمع قربه بضعة جنود بحقائبهم الجلدية الملونة. كانت احدى الحقائب تشبه حقيبة سيدي الضابط التي نسيتها. رعدة شديدة عند عتبة الباب وارتباكة كادت تكشف امري امام مدير الفندق.
استأجرت غرفة في الطابق الثاني كانت نافذتها مطلة على الشارع وغرقت في نوم حتى السابعة مساء. كان اليوم الاول من الاجازة الدورية يغادر، ويودع احلامي في التسريح من الجندية، واحلام أم فهد الملفعة بمصائب ابي الحارقة. ستة ايام قادمة وبعدها تكتشف جثة سيدي الضابط، وبعدها ايضا لا يهدأ بال عائلتي المركونة هناك في العاصمة.
(2)
الصباح هادئ في كركوك، وممرات الفندق تشي بخطوات ومفردات، واحلام الليلة الفائتة عصية على التذكر. كتلة من الوجوه والاماكن تستيقظ دفعة واحدة. عامل الفندق يضرب الباب في التاسعة صباحا، يود ترتيب الغرفة وتنظيمها، بينما جسدي ثقيل، ليس له القدرة على النهوض، فاقول له: ساخرج، حالما أستطيع ذلك، حدق بي لحظات، ثم ذهب بمكنسته وقد ترك لي فرصة التحديق بالمروحة السقفية المتوقفة واثار براز الذباب الملتصق عليها، الذي يسميه سليم النقاط السود في المجتمع! انظروا كيف يشير الذباب بدلالاته الى انحدار المعيشة الى الحضيض، وقد عدل نظارته السميكة عدة مرات، وكانت اذناه تغرقان بشعر كثيف.
استطعت النزول وتناول طعام الافطار في مطعم قريب، وعدت الى غرفتي بسرعة. مدير الفندق رمقني بنظرة ربما فيها تساؤل عن معنى ارتداء الملابس الخاكية حتى اللحظة. كان يظن ان الصباح سيشهد التحاقي بالوحدة، لاني قد حجزت الغرفة لليلة واحدة فقط..
وجدت الغرفة نظيفة والسرير مرتبا، والحقيبة تقبع بطيتين وسحاب مفتوح، وذات عروتين بيضاوين. كيان جلدي له شعور بالالفة. الفة تشبه ألفة الدبابة المسجلة باسمي في السرية الاولى التي اعرف نواقصها ومكامن قوتها عند القيادة، ومثل ألفة صينية الفافون الخاصة بسيدي الضابط، المضروبة من المنتصف بمعدن غريب ...
هل يمكني تسميتها بالصداقة الصامتة؟!
طرقتان على الباب، ومدير الفندق في غرفتي. وجه يحمل سمرة الجنوب، وجسد يستطيع ان يقذفني بكل سهولة من النافذة، كنت اشبه بمتهم خلف القضبان. لذت بالصمت وعدم الحراك، بينما بصري يصطدم بنظراته. كان واقفا بلا كلام، اغلق الباب بهدوء وجلس قربي على السرير. يحدق بوجهي المفصح عن اشياء خطيرة.
لماذا يتقمص دور الذي يعرف كل شيء؟
كانت المروحة متوقفة بفعل الشتاء، ونقاط المجتمع السود كثيفة بحيث شوهت لون الدهان الاصلي، بينما الحقيبة جاثية هناك في مكانها.
- اعلم كل شيء عنك!
ما الذي يعنيه؟ اكان مختبئا بين الصخور في ذلك الفجر؟
- لاحظت تعثرك بباب الفندق!
كان مبتسما، وعيناه واسعتان تؤكدان ما يقوله. وضع كفه على كفي ونهض الى النافذة. كان يدفع نظراته الى السوق والناس المزدحمين فيه، ويداه تعبثان بسلسلة مفاتيح احدثت رنينا ونغمة تشبه دقات القلب، وكانت الحقيبة الشاهد قرب قدميه. بدت الغرفة وهي تحتوي جسدينا كحجرة آمر الكتيبة في ذلك اليوم المتطايرة أوراق أشجاره، حين اتيت الى وحدتي مكبل اليدين، والوساخة تأكلني من اخمص القدمين حتى قمة الرأس. اتيت من سجن اللواء الذي اتيت اليه من سجن القيادة الذي اتيت اليه من معتقل الحارثية الرهيب، ولأكمل الحلقة المأساوية واقول اتيت اليه من بيتنا قرب مدرسة اعدادية البنات، وتحديدا من حجرة التلفزيون عندما اطبق الحزبيون علي دون مقدمات. امسكوا (الفرار) ومنعوني من اكمال فلم السهرة الكابوي، وبطله الذي لا يبتسم ابدا. وقابلني المقدم الركن في غرفته بالشتائم، ونعتني بالجبن والخيانة، ثم ذهبت بعدها الى سجن الوحدة، الذي أطلقني كحمامة الى بهو الضباط.
عاد من النافذة وقد ربت على كتفي قائلا:
- ساخفيك عن اعينهم، فلا تخف.
كانت المفردات تسقط في بئر عميق. لم يكن فهد يستطيع الجواب، او قول كلمة واحدة، فقد غادرت زماني الى تخوم بعيدة. مجرة اخرى خالية من القيود. ليس فيها ملابس خاكية، وقدور متفحمة ينبغي تنظيفها. ليس هناك عوز لتدبير نقود الالتحاق بالوحدة. كل شيء صامت هنا.
- لا اعلم لماذا حدست قضيتك، ربما لانك انسان طيب.
يمتلك ابي حاجيات كثيرة. قفل ضاع مفتاحه، وبراغي صدئة، وقداحات عاطلة، واشياء لا تسمى. جميعها تقبع في كيس خشن، ولا اعلم لم ضرب امي حين ارادت رميها في كيس القمامة؟ فهي بلا فائدة!
خرج من الغرفة وقد حدجني بنظرة فيها عطف مزيف. انه كاذب حتى النخاع، فانا لا اخطيء في تقييم البشر، كما ان سليماً لا يخطيء في معرفة الكتاب الجيد، وكما هي مآرب لا تخطئ في دروسها المدرسية.
(3)
مرحى للكوابيس حين تزدهر في الجمجمة، وتأتي الوجوه وقد تشوهت وتشيطنت، فثمة رؤوس بقرون ومؤخرات بذيول، والسنة حمراء تتدلى الى الارض . ادخل حجرة سيدي الضابط لتدليك ظهره المترجرج بالشحوم فاجده ممدا على سريره الحديد، وصفحة وجهه على الوسادة. راحت يدي تدلك ظهره من الرقبة المحمرة حتى هضبة مؤخرته المختفية بلباس ابيض. كان يطلق آهات طويلة كلما مررت بيدي على لحمه، تشبه آهات عاهرة اسمها نجاة ضاجعتها في الكمالية، حتى تضخم عضوي بصورة لم اعهدها، وبقوة مزق فيها البنطلون خارجا اليه، كان الضابط يحدق اليه وقد اخذه الضحك، ثم راح ينشج بعد مدة قصيرة. كان يبكي مثل امرأة في شارعنا رأت زوجها في تابوت ملفع بالعلم. كنت طفلا يلفه الرعب من مرأى النساء الكثيرات المتناثرة شعورهن، والمكشوفة اثداؤهن اثناء اللطم. ثمة رائحة غريبة في حجرة العويل مصدرها العرق وامور اخرى. تكرر المشهد مرارا في مدينتنا وجاء دورنا وفقدنا عمي ياسين الى الابد. هل مازلت اقوم بالتدليك؟ نعم لكن عضوي ارتخى مع بكاء سيدي الضابط، الذي تحول انينه الى دموع بللت وسادته البيضاء، وراح يزعق بشدة: دلك بقسوة ايها الجندي الكسول. جيم ميم جحش مربوط(*). اندفعت في دعك عضلاته بشراسة جعلت كفي ويدي تغوصان في لحمه. لقد اخترقت جلده ومسكت اعضاءه المدماة. كان الدم ينبجس من ظهره الى السرير والبلاط بغزارة. انه امر طبيعي حدوث ذلك، لان القوة والعنف كانتا موجودتين على ظهره .. هو يريد ذلك، وانا الجندي المطيع. ايها الجندي نفذ ثم ناقش. منطق عجيب ان اذهب الى شجرة ضخمة لقلعها من مكانها. ثم الرجوع والقول انني لا استطيع فعلها. تلك هي الأوامر، لان الشجرة راسخة قبل قذف نطفتك سيدي .. حسن، انت جندي سبع، وتستحق يومين مساعدة فوق اجازتك!!
وكان صباح آخر ياتي، يحمل قواعد لعبة جديدة اسمها الاختباء، وعبر لغز يتمثل بمدير الفندق الذي لم أذهب اليه طيلة البارحة، والسبب خوفي ان يكون قنبلة موقوتة تنفلق امامي، فينتهي كل شيء. يتجسد بصورة مخبر او انضباط عسكري بلا بيرية حمراء، وربما على هيئة اخرى لا علاقة لها بالسلطة، بل بالاخرين خارج الحدود، الذين يتوقون الى سماع اسرار الجيش وحقائقه الموجودة تحت الشمس، وكلتا الحالتين تعنيان ان فهدا قد ابتعد عن الأمان، وغرق بتهوره في ذلك الفجر بدوامة الرحيل، والهجرة في قطارات لم يعرف وجهتها.
كنت انتظر ذلك الهاجس طيلة الليل. يضرب الباب فتأتي مجموعة من الرجال لاقتيادي، او يقدم مدير الفندق فيقول: هيا نذهب الى المكان الاَمن. حشد من التصورات يتحرك في الرأس، وابن عمي سليم كان حاضرا معي. اعطيه الدور الذي وقعت فيه، فاراه كيف يتصرف؟ انه ذكي وناقم على الجميع. سيفكر اول الامر بالدافع الذي يكمن عند مدير الفندق ولماذا يود مساعدتي؟ ثم يجد طريقة للخلاص من الشرك، ويعدها مغامرة تضاف الى مغامراته العديدة في سجون الحكومة، التي تنتهي بدخول عناد بزيه الزيتوني وعلاقاته بالكبار في القضية، وهو يحلف انها المرة الاخيرة التي ينقذ فيها ابن خالته من الموت. لكن عناداً لاينقذني الاَن. فهو يكره ابي ويحقد عليه لاسباب تافهة، وكنا نخاف منه من تلفيق تهمة لنا وهو في مركز يصدقه الاخرون مهما كذب!
تحرك الباب، فدخل مدير الفندق باناقته المعهودة وسيجارته البيضاء، وابتسامة على محياه. جلس قربي على السرير حاملا البشرى: لقد وجدت مخبأ وعملا في الوقت نفسه، وستكون رجل الجبال الذي لا يقهر. فالمستقبل للتجار في هذا البلد، عليك ان تكون صلبا في خطواتك الاولى، وان تطرد الخوف من قلبك لكي تستطيع العيش .. اليوم وبعد الغداء ننطلق اليهم .. ابناء بلدك الاخرين!!
ثمة اشياء تتدفق بسرعة. ولامجال للوقوف ووضع الفوارز والنقاط. انها حقائق موجودة وعلي ادراكها ..
قال عند اكماله الحديث :
- اريدك ان تكون كلاوجي و لوتي (*)و(**)و تفهمها وهي طايرة!
- لم افهم ما قلته سوى انه يبعدني عن الخطر.
- ستفهم عند الغداء، ولكن الا تريد رؤية عائلتك!
- كيف؟
نهض من السرير، ودار في الغرفة بضع دورات، ثم صار بمواجهتي.
- ساعطيك رخصة مزورة للذهاب الى محافظتك.
اجبته وقد تلاشى الامل:
- لكنني امتلك رخصة حقيقية لخمسة ايام قادمة.
- حقا ، اذن اذهب ؟
- لا استطيع ، انت لا تعرف القصة باكملها.
- اعرفها كلها . الايام الخمسة هي الاخيرة في تنقلك بحرية.
وحلق هاجس الذهاب الى العاصمة، فجثة سيدي الضابط لم تكتشف بعد، ووجوه عائلتي بدت الان امامي. جميعهم حتى الوجوه التي اشاهدها دون ان تكون لي صلة معهم. ارى مآرب للمرة الأخيرة، خارج مدرستها. احدثها عن عينيها الجميلتين، وصوتها المثير جدا. وامي التي لا تعرف متى يحين خلاصها من الزوج الذي هو ابي، واخي واختي و ....
- نعم، ساذهب.
- كنت جنديا مسكينا، والان رجل شجاع!
الفصل الثاني
(1)
تركت الكتابة الى زمن آخر، فيه الهدوء وعدم الحركة! والنوم دون كوابيس تسعينية. لعل ذلك امر صعب ان اتوقف عن تدوين ما اشاهده واجعله مؤثرا في قصة قصيرة او رواية. لكن اتخاذ طريقة أخرى ربما تكون صالحة في الوصول الى ما ابغيه .. لقد غادرت منطقة القلم والورقة الى منطقة العين والصورة، حيث الكاميرا الصغيرة التي تؤرخ للقادم من البشر ملامح خانها الوقت، وعبثت بها اللحظات.
اقرأ آخر قصاصة كتبتها، فاجد ((لطالما تساءلت عن معنى اندفاع الحياة الى الطريق الخاطئة، واصرار الاخرين على السير بها الى الخراب.. الاخرون هم من يمتلكون القدرة على اتلاف السعادة، بينما الاخرون ايضا يواجهون صعوبة في العيش، والمواصلة بالاخلاق والافعال نفسها.. الايام تنقضي اذن، والجميع يبحث عن امان اللقمة. هؤلاء الغارقون في الأساطير، حيث الكهنة وقطاع الطرق، والجنيات السحرية في القصر المهجور، والكأس الاخيرة قبل الموت .. لقد تناسل الكذابون وعودا بالجملة، ونثروها للناس في السوق .. والحقيقة عالقة هناك في الاقاصي. هل استطيع ان اجمل وجه ما سيأتي لهم، لكي يخرجوا من دائرة اليأس، وتتلون قسماتهم بالرحيق المسكر، ويدوخوا برائحة العنبر، ويناموا .......؟)).
ماذا اعني بالرحيق المسكر ورائحة العنبر؟ الا ترون ان الذهن يلوك الكلمات ويبصقها على الورق. يجمع الصفات والكنايات والتشبيهات، ثم الافعال المجردة والقياسية، ثم يمسك فكرة حلقت في الحافلة او السوق او المقهى، او في حجرة النوم!!
حقا، حجرة النوم!
لا املك غير حجرة واحدة هي لنوم اربعة افراد، واستقبال الضيوف، وتتسع لعدة عمليات منها الجنس ايضا، الذي احصل عليه بشق الانفس. زوجتي تتمنى ذلك. لكن البنتين تأبيان مغادرة الصحو الا عند نومنا. مشكلتي اذن في البدء أيروتيكية مفخخة بالتأزمات. تصوروا، كيف اكتب عن لحظات زاخرة بالفجاعة، وسليم الحلاتمه، المشهور بصبره المطاطي يتوق الى رعشة ليلية رخيصة.
ها آنذا اعود من حيث اتيت، وسأتي من حيث اعود، ارمم اخطاء الصحف الصفراء من اجل العيش، وتأكيد جدارتي في مضغ الهزيمة، التي اصبحت حقيقة يجب الايمان بها، والتعامل معها دون تطويل اللسان، والثرثرة بالتفاهات المعلبة القادمة من الجانب الاخر. الضفة الناصعة البياض ذات الجدائل الملمعة بدهن الزيتون وزيت المرارة الاصفر.. »عفوا، انها عدوى التزويق اللفظي، التي تضيع الحقيقة، ولتكن الجدائل والضفة في امكنة اخرى، بينما خطواتي التي تسير الان الى مخبئي السري، بيتي العزيز، زنزانتي الفريدة، حجرتي الوحيدة، في المكان الذي هو تحت الشمس. حيث الصورة المتجسدة يوميا في حي المنكوبين، الواقع قرب نهر دجلة، وامام دكان صليوه النصراني بالضبط!!»
يبدو ان تأثير الصور الفوتغرافية اسهم في تشويش مخيلتي، وابعادها عن تأثيث عالم آخر فيه المرارة .. شبح يتجسد على هيئة مجنون يفطر في الصباح على قمامة تختنق بقشور البطيخ والرمان وقطع خبز مبللة، ثم يستجدي سيجارة من العابرين، ليبدأ في قذف دخانها متأملا زرقة السماء. انه مشهد من ملايين المشاهد في مدينتي الكبيرة. مشهد سرعان ما يتلاشى في الذاكرة عند قدوم مشهد افظع منه. لربما مثل أمرأة تستجدي وعيون الاخرين ترقبها بشهوة.
كيف للمخيلة ان تستجمع ذلك في شيء له قيمته؟ لكن الصور ستبقى مركونة في الصندوق الخشبي الموضوع فوق الدولاب. اسمع انينها في عتمة الليالي. وعندما يلفظ التيار الكهربائي انفاسه معلنا قدوم الوحوش. نشيج لا يسمعه الا سليم الحلاتمه المبتلى بالوساوس الشيطانية، الذي يحاول ايقاف هواجسه بتمرير يده الافعوانية الى فخذ زوجته النائمة، موقظاً اياها ببشرى نوم البنتين فيغرق في ضوضاء الجسد، معلنا وصوله مرحلة الهدوء والرزانة. ليبدأ التفكير باصرار في ايجاد طريقة تنقذ ابن عمه فهد من اللوثة. ذلك السر المكنون في دواخل ذات جريحة. خدمة آمر السرية او البقاء في السجن خمسة اشهر قادمة. لم يتصور ان تكون الجندية وقحة الى هذه الدرجة. لا تفكر كثيرا وانت جندي مكلف، لانك ستتعب. هذه مقولة احدهم لي في الحرب الثمانينية.
ادخل حجرتي او بيتي العزيز، حين دفعت باب الشارع. ستارة قماشية داكنة خلفه تحجب أنظار المتلصصين. ولتكون المساحة الفاصلة بين الباب والحجرة مكانا للموقد الغازي والقدور والمغسلة.. تلك مساحة هي في القياس لا تتعدى خطوتين من قدمي طولا وزهاء ثماني خطوات عرضا، ونادرا ما اجد زوجتي فيه، فهي توجد عند طهوها للوجبات الثلاث فقط، واغلب الاحيان اراها مضطجعة على فراش لا يطوى ابدا.
(2)
ينقطع التيار الكهربائي، وتشتد الظلمة، فاجتاز تلك الخطوات التي لا تتعدى السبع، بين حجرتي ودكان صليوة النصراني، مؤملا في كل مرة الاجهاز على ثرثرة البنتين والزوجة، وحفنة من هواجس النهار، على مائدة صغيرة منزوية اسفل تخت الحلويات والسيجائر.
تبدأ الجلسة حين يحضر صليوه دبية العرق البعشيقي من الثلاجة، وقد افرد اوراق الخس المبللة في الماعون، ولكي يثبت حبه لي يشرع بتقطيع خيارة ذابلة كما اشتهيها في (كاسة) زجاجية. ثم يبعد الفانوس من واجهة الدكان الى آخره لكي تزداد العتمة في المقدمة، وتبدو ملامح الزبائن المتقاطرين كل حين غائمة، ومخنوقة بالف خيط من خيوط اول الليل.
انها لقطة مكررة او تفاصيل يومية معتادة تبلغ حدتها عندما يبتلع صليوه قرصين من الحبوب المخدرة، يدفع الارتين او المكدون في احشائه بجرعة من العرق، فيغدو وحشاً يهشم زجاجات الصاص والمعجون، ويدعك اعواد الشعرية والبسكويت، ويركل اكياس الفاصوليا، والعدس والحمص واشياء اخرى، وعند امساكي به يصر على خروجي من الدكان وانهاء جلسة الليل الخرافية فاتركه لجنونه واضعا عدة جدران بيني وبينه. انا في مقدمة الدكان وهو في آخره. اتجرع مرارة الجن الخام واستلذ بقطعة خيار باردة، وعيناي تستقران على دبية عرق البعشيقة المحلي، مستفسرا عن اللذة التي يقتنصها صليوه من هذا المشروب، الذي هو شرابه المفضل، كما ان الجن شرابي المفضل. اراه يأخذ جرعة فيتلمض بها، ثم يتركها تستقر في أمعائه، مع صرخة ودمعة ومسكة بكفه لجبينه!
هذا المشهد تجسد على شكل صورة فوتغرافية هي الاولى في مشروعي الجديد. مشغل آخر يتيح لذهني القدرة في اخراج شيء له معنى. صورة اولى يظهر فيها صليوه وقد اراح جسده على كيس الفاصولياء، واحدى يديه ملوثة بصاص سماقي اللون، وقسماته تشي بتعليق طريف ادخرته حتى اكمال روايتي الفوتغرافية.
رواية لا تكتب، بل هي مجموعة صور ربما تصل الالف او اكثر. يجمعها الالبوم الذي يعد شكلا او اطارا تتحرك فيه تلك المشاعر والحيوات .. ربما يصل العدد الى خمسين البوماً .. فكرة مجنونة وغبية وناجحة ايضا .. سيدخل الآخرون كلهم ضمن عالمها الصغير. وجوه ملطخة ببسمة سرعان ما افسرها بضغط الفلاش وانارته المرتقبة. ارتعاشة الجفن واغلاق الشفتين او فتحهما باتساع قلق، ووقفة يجب ان تكون راسخة ومتعالية بعض الشيء.
وهذا يعني ان صليوه قد انجرف دون ارادته في لعبة المخيلة، وبات الشخصية الثانية بعد ابن عمي فهد، الذي افردت له دور البطولة، بوصفه يمر في خضم صراع مرير في وحدته العسكرية. فهو يحاول الإمساك برجولته، وحماية جمجمته النابضة بالصداع كلما شاهد بقايا المني المتكلسة على لباس آمر سريته. يزيل بكفيه آثار حلم يغص بالسيقان والنهود والأرداف. ويبعد نظرات الجنود له، التي تحاول بحدتها حلق شاربيه المستقرين بكثافة تحت انفه المدبب.
كان موقع دكان صليوه بمواجهة حجرتي او بيتي كما يحلو للاخرين قوله، قد ساعدني في التقاط صور اخرى دون علمه .. في الصباح، وعندما تأتي المرأة المعيدية بصواني القيمر والجبن، تختفي برهة في دكانه قبل ان تغلق واجهته، ثم تعود وقد افترشت الرصيف قرب الدكان، في ذلك الفيء المنعش، بينما صليوه العازب على كرسيه خلف تخت الحلويات والسيجائر يبسبس بتلك الكلمات التي استطيع ان احدسها بعد رعشة اتت مع شروق الشمس .. انها صورة فريدة يبرز منها جسم هر اسود يتثاءب فوق سطح الدكان، وهو يحدق اليهما ببرود. اشاهد ذلك من الزجاجة التي تعلو بابي، الذي افتحه لاكون في الشارع، ومع تحية لا علاقة لها بجلسة الليل أمزق بكارة يوم جديد في تصحيح اخطاء الصحف.
لم تكن الجريدة التي اعمل فيها مشهورة بحيث تدر مبلغا لا بأس به من المال. انها اسبوعية وغير مرغوبة عند القراء، لانها غارقة في تمجيد الكذب ونشر الشائعات .
*خمسة آلاف قطعة سكنية توزع الى .....،
*مطرب البلد المشهور يتنازل عن عرشه الغنائي لـ …..،
*مكرمة جديدة من لدن القائد قوامها دجاجة مذبوحة من الوريد الى الوريد !
اعتقد ان ذهابي صباحا اليها وعودتي في المساء منها، يؤكد تصميمي على العيش بالطرق السليمة، وعدم التفريط بتلك الوريقات النقدية المهانة في السوق. فانا مكسور واستدر عطف الاخرين. وليس كما يصر بعضهم على امكانية التحول الى بطل تتداوله الالسن في جلسات الشتاء، وان سنوات البسيتين. وشرق البصرة(*،*)ليست شاهدا على جسارتي في البقاء حيا، ثم معركة ام القطط(***) التي انهكت اقدامي جدا، وجعلتني اسير حافيا من الجنوب حتى العاصمة.
هل ما تزال الاسئلة مخبأة هناك؟
لم يكن بيننا بطل اسطوري، وحتى تلك الاختفاءات المتكررة بين حين وحين لم تكن سوى لعبة يديرها ابن الخالة الارعن عناد، صاحب العقل الزيتوني. يود اذلالي قليلا و(كسر خشمي)، ثم يتدخل مسرحيا وامام اخوتي المتناثرين في المحافظات، ويخرجني من الزنازين الموبوءة بالجنون والحكايات التي تشوه الخلايا المخية.
جنون ولواط وارتعاشة ذراع بالكهرباء ...
تلك كانت صولة عزوم !!
(3)
عدت مساء، كعادتي من الصحيفة، لأجد زوجتي وقد تملكها الرعب، كانت تلوك المفردات بمرارة. قالت : سليم سيقتلوننا.
تلك هي البداية!
وفي الحكايات يكون الاستهلال هادئا.
صورة اخرى مكبرة لا يسعها الالبوم. جاء عمي خلفٌ باكيا الى بيتي، وهو يحدث زوجتي عن ابنه فهد : ربما قتل آمر سريته وهرب! فتشت الشرطة المنزل، واخذوني للتحقيق منذ الصباح.
كنت اعلم ان الربما لا وجود لها، وان فهدا قد انهى عذاباته بطريقة يحسد عليها.. شجاعة مبررة وحالة يجب ان تنتهي وتنسى الى الابد.
واضافت الزوجة : عشيرة الضابط يهددونا!
لا اعتقد ان المسمى عناد يدخل ضمن دائرة التهديد، فرأسه لا يحوي غير الاوامر والتنفيذ. هو من يهدد ويجلد الناس انى اراد ومتى شاء. ولكن ربما تمتلك عشيرة الضابط عنادا آخر اكبر من عنادنا .. ووقتها يتبارز العنادان في معركة عنادية بالغة الروعة. من ينتصر ويطرح الثاني ارضا ؟
ساقوم بانذار اخوتي في المحافظات بالحادثة، لان علاقتهم بعناد وطيدة، وسيرغمونه حتما على مواجهة الاخر، الذي يستجمع قواته للهجوم على عشيرة الحلاتمه (يجب التركيز على الكلمات الخاكية).
لم اتصور حقيقة ان يكون جسدي مستهدفا الان، فقد ولت تلك الهواجس الثمانينية في الموت، وان النسيان الذي ادخره علامة على البقاء. يظن اغلب المثقفين انني قريب من لحظة الاندثار في الاقبية، او الموت تحت اثر السياط في الحاكمية او الرضوانية. ثمة امور غائبة عن اذهان المقربين مني، وهي ان عنادا لا يتركني وشأني، وبات يرسم صورتي للاخرين بفرشاته .. أي اني بعيد عن الالم الذي يشكو منه الناس، و لابد لي من الوصول الى ما اطمح اليه عبر القيام بفعل يشبه تماما ما انجزه فهد في وحدته العسكرية. فعل شجاع يتأتى مع دفقة السمو والارتياح، والنظر الى زرقة السماء بابتسامة. ثم ترك القدمين تخطوان الى المجهول الملون بالمفآجات. هل اعني حقا ما اقوله؟ قد تكون ثمة رجعة الى الوراء الان، لكوني جالسا باسترخاء في حجرتي الوحيدة، وابنتاي تلهوان على جسد ابيهما، والزوجة في فسحة المطبخ تعد طعام العشاء.
من يموت اولا؟ انها لعبة الروليت. المغامرة الاكيدة التي تجلي الاسرار، وتعطي اليقين براءته .. ارجوكم. معظم حي المنكوبين يتصورون قدرتي الكبيرة على ايذائهم. وان سكني في حجرة حقيرة هو من باب التمويه والتلصص. مخبر امني يود الاجهاز على الالسن والعقول. لا احد يدرك المدى الذي اتحرك فيه، حتى انسحبت الهيبة الكاذبة الى صليوه النصراني … فكلانا حقير وزيتوني .. ماالذي يجعل صليوه يعيش مع امه في بيت كبير ذي طابقين؟ ويبقى حتى بلوغه الاربعين دون زواج!
يحدثني فهد عن التناقض الذي وجده في الجيش بين طالب تخرج في كلية الاداب – فرع علم النفس، وبين جندي يخدم آمر سريته برغم أنفه .. عام ونصف العام لا تضمحل، وتجعلك تكفر بكل ما قرأته طوال سنوات دراستك، وخاصة سنوات الابتدائية التي اشبعت ذهنك مفردات ادركت فضاضتها في ما بعد .. فلا وجود للعشق الملائكي الذي ينثره مدرس التربية الوطنية علينا كل صباح، وان الحرب كانت ماثلة للعيان في كل دقيقة تمر علينا. حرب المناصب والزعامات، وحرب الكلمات والتصورات، وحرب النزوات التي تؤدي الى التهلكة، ودائما كنت اردد مستفسرا عن جدوى الدراسة وقراءة الكتب مادام هناك شخص في كل الأوقات مدجج بخاكية يحلم بالسلطة. انقلاب يطيح بالآمال التي خطط لها من قبل العارفين بأسرار الكتب، ويتحول الدكتور الى ثور قبل شروق الشمس بقليل!!
كلما مرت تلك الايام البعيدة يغمرني احساس التاجر الذي خسر ، واباه حين حصر القضية بالدنانير التي سيدفعها الى عشيرة الضابط ان تأكدت الحقيقة، فهو لا يمكنه تصديق ان يدفع مبلغا ضخما الى احد. المشكلة كانت في ام فهد، وفي مآرب التي احبته، وذهبت الى الدروب المعروفة في كل حكاية!!
اما الصور الفوتغرافية فانها اليقين المرعب للايام الماضية. اخذت تتكاثر يوما بعد يوم. قصاصات لاماكن وملامح بشرية و احتفالات ترسخت عبر لافتاتها تحكي للقادمين زحام الطرق واختفاء سيارات الاجرة ... هل استطيع القول ان مادة الرواية الصورية قد اكتملت الان؟
ربما يتبقى القليل، لان فهداً ما يزال مجهولا، وحكايته لا بد لها من نهاية، لانني جعلته في مخيلتي دراميا. يضج بالحركة ويقترف أعمالا خارقة، مثلا، يدخل سجن ابي غريب اثر اتهامه باغتصاب سيده الضابط، ويحكم عليه بالسجن المؤبد فيرى العجائب هناك. حياة مصغرة تبدأ من صباغ الاحذية وتنتهي بأحد الشيوخ المجرمين وهو يجلس امام شيخ آخر مثله في قضية فصل عشائري. انها اثارة تبلغ الروعة، وخاصة بقولي ان الفصل انتهى بتقديم ست مؤخرات إنسانية شاذة واربعين شريطا من الحبوب المخدرة.. اما المشكلة فهي ان فردا من جماعة الشيخ الاول أعتدى جنسيا على رجل من جماعة الشيخ الثاني …
ولم استطع إدخال صليوه في السجن معه، لان علاقاته بالناس ضيقة، ويعيش من دكانه، فضلا على ما يأتيه من خارج البلد من نقود، فعائلته تعيش هناك، وأقربائه الذين يستغربون من بقائه حتى الان، يشكون في نواياه المتعلقة بحبه للوطن!! لذا أبقيته في حي المنكوبين، وتحديدا في حلقة البعشيقة والحبوب المخدرة والمرأة المعيدية والعادة السرية. ومع بعض المغامرات التي تحتاجها شخصيته الخجلة المندفعة في بعض الاحيان الى التهور. باعتقاده مثلا ان الشعبة الحزبية في الحي هي كنيسة كلدانية يتقرب فيها المرء الى الله، وقد ذهب مرارا وهو في حالة سكر شديدة كانت فيها الرحلة الأولى زيارة لأكثر من زنزانة وحشدا من ملفات التحقيق وضعت في أدراج الأمن العامة، وجسدا يعج باثار السياط، وتلك استغرقت سبعة اشهر جاء بعدها مندهشا من فعلته.
ثمة قنابل صورية تنفلق في اللحظات التي تسبق التيه. تتشظى الى انفعالات وحقائق غير مفهومة. نندفع معها صانعين صورا جديدة. نضعها في الذاكرة بلا كلام منا، فالذاكرة تسع الاشياء السيئة، ومنها الحرب. شيخوخة كانت ترافقنا ونحن نحني ظهورنا راكضين في الخنادق. نلحق بالسراب لعله يضيء الحقيقة!!
الفصل الثالث
(1)
ينبغي ان اكون اكثر صلابة، وقدرة على ترويض ما اتمناه، فما فعلته حين تراجعت في آخر لحظة عن الذهاب الى العاصمة، يعد شجاعة افتخر بها !
بعد ذلك الغداء في الفندق اشتريت خاتما من بائع يفترش الرصيف اردته ان يكون مجرد ذكرى، وانطلقت بعدها مع مدير الفندق في سيارته، وبملابس مدنية جديدة .. كنت مدركا ان ذهني يأخذ في الاتساع، وان حكايات من النوع الذي قرأته في كتب سليم الحلاتمه تأتي مع دوران اطار السيارة، حتى وصلنا الى بيت حجري يستقر على تلة تشرف على بعض الازقة، وكانت سلسلة الجبال خلفه بادية للعيان، وثمة اطفال يلهون بكرة في ساحة ترابية مائلة.. الحصى كثير في الشوارع، والشراويل الفضفاضة لثلاثة رجال تخرج من الباب. ازدحمت الأصوات في عبارة واحدة فرمو فرمو(*)وجهت لمدير الفندق الذي ترجل من السيارة. كنت في المقعد الامامي احدق ببيوت الحجر وفوهة النار المشتعلة في شركة نفط الشمال وبالأرض التي تعلو وتنخفض دون ان تؤثر في طبيعة الحي.
لم يتعرف مدير الفندق على حكاية سيدي الضابط بل افهمته عن القرف من الجندية والسبب هو الفقر والمعاملة السيئة التي يلقاها الجنود.
كان مدير الفندق يعي تماما حاجتي للمال والحرية فهو سيوفرها لي مادمت أنفذ رغباته.
كان الحديث يدور بالكردية وافهمني انه سيغادر المنزل ويبقيني معهم يومين وبعدها يتم ترحيلي خارج الحدود. هذا التداخل بين الخلاص والحكومة سبب لي الارق، فلم انم غير ساعات قليلة في ليلتين فالحكاية بدات تتسع والمخاطر تتزايد لكن عبارة (الطز بالاتي) دفعتني الى الامام. فلا تفكير بالصورة التي يمكن ان تحدث، ولا اعتقد ان هذا الاحساس عدمي مئة في المئة لانه يتيح لي بهجة لم اجدها حتى في حياتي المدنية.
اذن..
انتهى اليومان وغادرت بصحبة خمسة رجال اكراد في ليلة تنثر المطر مع الريح والأرض كانت وعرة بحيث تسببت باصابة كاحل قدمي. السير الى نهاية الطريق بين التلال والظلمة يعد يقينا بقدرة المرء على اتيان الخوارق ، وتذكرت ابي دون غيره وعالمه الضيق فدمعت عيناي وشعرت ان الاهتمامات الصغيرة تاخذنا بعيدا ..
قماصل عسكرية وشراويل(*) عريضة وانا واحد منهم، ولاول مرة ارتدي شروالا. حالة تشعرني بالمواطنة، والرعد كان يدوي فوق القرى النائمة. يوقظها قليلا من ذلك الخدر المعجون بالبراءة، وايضا يوقظ بعض الجنود فوق الربايا اثناء نوبات الحراسة، ممن ينسحبون الى لذة النوم، بعدما استحضروا في رؤوسهم صورة المرأة. أي امرأة تعني الهروب قليلا من حقيقة الكلاشنكوف ومخازن العتاد الثلاثة المعلقة في الصدر.. كنا خائفين ان يلمحوا اشباحنا ويسددوا اليها النيران، وبرغم ان كاكه حمه وهو الذي يقودنا اكد سلامة الطريق، فالوحدات لا تكتشفنا. لكن هذا لا يعني ترك الحذر من مجموعة الكمائن التي تتقدم وتنتشر في الوديان.
حتى الان لم اقل ان خمسة كيانات كانت ترافقنا، محملة بالسجائر وامواس الحلاقة وحاجيات منزلية خفيفة الوزن. انها البغال، تسير كما نحن نسير تحت المطر المدرار، فالمصير واحد وموحل ايضا. كائنات صامتة باربعة قوائم لا تتكلم، وانا صامت ايضا، فاللغة قد اسقطتها في بئر هو الدهشة، واستطيع ان استعير شعاراً يكتب عادة على جدران معسكرات الجيش (اعمل بصمت ودع عملك يتكلم). والعمل هو المشي مع المجموعة الى منطقة آمنة. لكن الامر لا يعني وقوع مخيلتي أسيرة الوقت، فقد كنت افكر بسليم الحلاتمه، كاتب الحكايات الجميلة، الذي يكدس مايكتبه تحت بلاطة في حجرته، فضلا عن هوسه الجنوني في التقاط صور فوتوغرافية لنا جميعاً. ويصر على وضعها في البومات بجانب صور للمجانين والمشردين ومن لهم ملامح اجرام وقسوة.
كان الوحل لزجاً، والريح عالية، والمطر ينزل بحبات كبيرة، والظلمة تضع عباءة سوداء فوق التلال والوديان. لقد صمم كاكه حمه على القيام بتهريب بضاعته هذه الليلة لأختلال حراسة الجيش للطرق المؤدية الى اربيل، فهو على دراية بأن الجنود يحاولون الاختباء تحت أية مظلة وينظرون عن بعد، وكذلك عدم وجود دوريات الضباط في نقاط الحراسة، وطلب رأيي في ذلك فأكدت صحته.
اعتقد ان تلك الليلة لها فعل الصدمة، فخلالها نفذت الى تصور جديد يبتعد تماماً عن التصورات القديمة. ذاكرة تشبعت بالمخاطر، وتلونت بخطوط حمر كنا نظن عدم اجتيازها. فهل يوجد شخص ممن اعرفهم يرى اني اصل الى منطقة الشمال بالتهريب. اجتاز الحدود الى بقعة كانت تسميها صحف العاصمة بمستنقع الافاعي، حيث الجواسيس والمتآمرين والخونة الانذال. كان المدى يتسع في رأسي، وحروف الصحف ومعانيها تتردد كضربات طبل في هدأة الليل. الاعداء في كل مكان، خلف الحدود يكمنون ويتربصون، قوى عديدة اهمها الامبريالية واخطبوطها اللعين، بينما الداخل يضج بالف لعين ومارق.
لا داعي ان نتكلم في السياسة! لاننا لم نجتز الحدود بعد، والصخور لها آذان وانوف ومؤخرات، والهواء له خراطيش تسدد على حائط مصاب بالجدري.
لماذا لا يكف المطر عن الهطول؟ وتستكين الريح في مخابئها؟ ليس هناك خطر في الربايا . الجنود نائمون والحراس يمتشقون سيوف الرغبة الذكورية، ويحلفون في الصباح انهم ضاجعوا حسناء الجبل، التي تخرج فقط لمن تحبه.. تلك المرأة البلورية الغارقة بالصفاء تدعوه الى ترك البندقية والهبوط معها الى الوادي، فثمة حقيقة يجب ان يعيها تتعلق بالدافع في استمراره بالخدمة. هي تقول له ان الخوف يدفعه، وهو يؤكد ذلك، لكن قدرته تتهشم حين يكون بديل الحلم والشهوة دعوة الى الوعي بالآخر. وان يكون في موقف التقويم والحكم. هنا، تتراجع الرغبة، ويقفل عائداً الى ربيته، وبندقيته، ونوبة حراسته، ويختنق رأسه بحلم جديد هو خلاص المدة المقررة، غير انه في الصباح، وقبل دخوله ساحة العرضات يتفاخر امام رفاقه الجنود بأنه عاش اجمل لحظات العمر مع امرأة لم تقع عيناه على امرأة مثلها. وانه قد وطأها!!
ولم تذب هذه الليلة كبقية الليالي كما توقعنا، لان الرصاص انهمر اسرع من المطر من فوق الربايا. كان حراس الوطن يذودون عن ترابه، ويطلقون القذائف المضيئة لأستبيان العدو الخفي. كنا نختبئ خلف الصخور والمنحدرات، قبل ان يسقط بعضنا مطلقاً صرخته الاخيرة، وكانت اللحظة تكبر وتغدو جبلاً من نار، وكانت البغال تطلق اصواتها الخاصة، وكنت ملتصقاً بالارض الموحلة، وخدي الايمن يلامس استواءها، وكنت انظر على ذلك الامتداد الى ومضة النيران من فوهات البنادق، واسمع رنينها وصوت تحطم الحجيرات.. كنت احصي الآهات المندفعة من حنجرة المصابين قربي، فاجدها ملغومة بمفردات لم افهمها.. كنت ....، وكنت ......، حتى صرخ كاكه حمه بنا:
- دلير، ابو شهاب، عرب، اردلان. تقدموا، واختبئوا عند اطلاق المضيء!
لم تعد الخسارات متعبة لجسدي. ثمة قوة حملتني على السير. سبقتُ المجموعة بامتار، لان حدسي كان دليلاً لايخطئ. كنا ثلاثة فقط. كاكه حمه وآخر من الاسماء الاربعة، ثلاثة اجساد انسانية سقطت في المواجهة. قنبلة مضيئة تعني التصاق الرأس بالوحل، وعند الظلمة كانت السيقان تهرول الى الخلاص. نهبط ونرتفع مع الارض.. كان الرصاص بيننا، والبغال تركت تلعق جراحها وتيهها.
حتى انقطعت النيران،
وانقطع المطر.
لكن الريح ازدادت شراسة، كأنها تريد غلق الابواب السرية بوجهنا، واخذت اعيننا تعانق اضواءً بعيدة، قرية صغيرة في اعلى التلة، تقبع خارج المدار.. قال كاكه حمه وهو ينشج:
- فيان ينتظرنا قرب شجرة البلوط الكبيرة.
وكانت الشجرة وحشاً من دخان!
( 2 )
بعد وصولنا الشجرة وجدنا فيان يحصي الخيبات في ملامحنا.
البضاعة والبغال ورجال ثلاثة. كانت ثيابنا موحلة واجسادنا ترتجف من البرد، وكاكه حمه يبكي لفقدانه اردلان. اخاه الاصغر الذي اسقطته الاهتمامات الكبيرة!.
كنت ضئيلاً جداً. ابعثر الدهشة على الوجوه والقرية التي كانت بيوتاتها مبنية بالحجر، ومتفرقة بلا انتظام. ووجدت ان دليراً يشبهني تماماً. فهو ليس له علاقة بتهريب البضائع، وانما بتهريب جسده الذي تريده الحكومة. ويختلف عني بالاحترام الزائد الذي يكنه كاكه حمه له ..
دخلنا حجرة قريبة من منزل صغير له مساحة بجانبه من الارض مخصصة للخرفان والماعز. كانت دافئة بحيث استشعرت دفقة عائلية. وانا ارى أزاهير الورود، وكوميدينو الالبسة، ومرآة هناك تعكس ملابسنا الموحلة. وكانت الساعة تشير الى الرابعة وعشر دقائق صباحاً. خلعنا الملابس وارتدينا اخرى جافة، كان كاكه حمه يخلع شرواله باكياً وكنت أبكي معه في قلبي!
ما الذي حدث؟ لم أعد أزن الوقائع. هل البضاعة موازية لثلاثة رجال وخمسة بغال؟ ثمانية ارواح ازهقت في ليل مطير وموحل. لعلها الريح كانت سبباً، او خوف الجنود من العقوبة العسكرية، أو امورا اخرى دنيئة.
لااعرف لو كنت في الربايا ماذا سأفعل؟ اغض الطرف عن الاعداء؟ أم اضغط الزناد موقظاً الوحدة بأكملها؟ انها اللحظة، شاسعة جداً بأفعالها!
واسينا كاكه حمه وجلسنا قربه على حصيرة قماشية سميكة.
كان كاكه حمه ينشج ويقول:
- قبل شهرين تزوج!
الزواج حلم لم يتحقق في العاصمة، ومآرب اندفعت اكثر في طيف الدراسة، كانت تقول لي: نبقى هكذا احسن، وبعيدين عن المشاكل. كنت اسير معها في متنزه الزوراء حليق الرأس، لكوني خرجت قبل يومين من سجن الوحدة، وغسلت ملابس سيدي الضابط مرة واحدة، وكانت مشاكل ابي على اشدها في البيت، وجيبي لايحوي غير بضع وريقات نقدية استلفتها من صليوه صديق سليم.
جاء فيان بصينية فيها صحن لبن كبير وخبز رقاق(*)، وحاول أن يجذب كاكه حمه اليه، لكنه فشل، فالمصيبة كان وقعها شديداً عليه. كان طعم اللبن غريباً لان المرارة تسكن حلوقنا. مجرد حموضة نزلت في البطن، وبعدها بقينا انا ودلير وحيدين في الحجرة، مضطجعين على فراشين شتويين، والباب مغلق والظلمة قائمة.
كنت احدق بالسقف فأشاهد سخاماً.
قال دلير بعربية ركيكة:
- اتمنى ان يكون الجنود مثلك!
يعتقد دلير انني هارب من الجندية لموقف منها!
قلت:
- قلة منهم من يفعل ذلك.
- لو كان هناك وعي لما بقي احد.
- ليست قضية وعي، بل خوف من الآتي.
قال دلير ونبرته ازدادت سخونة:
- ابويه. الوعي يعني موقف، والموقف يعني شجاعة!
- كأنك لاتعرف الداخل.
- الحكومة تريد ذلك.. أترضخ لها؟
- بالطبع نعم. فرغم المعاناة نمتلك احلاماً. ندرس ونتخرج ونتزوج، وننجب ونعمل و.........
أكمل دلير بسخرية:
- ونأكل ايضاً.
- احسنت، فهناك البطاقة التموينية!
ثم اردفت محاولاً تغيير الحديث:
- وما حكايتك؟
- مناضل. اتسقط اخبار المسؤولين في كركوك وبعض المحافظات القريبة.. اسر ذلك لك، لأنك اصبحت في جانبنا..
- مع المهربين؟
- كلا، مع الذين يحلمون بالتغيير، وأود ان تقبل دعوتي للانضمام معنا.. اياك ان تقبل بالعمل عند كاكه حمه وفيان.
كانت الحجرة لاتزال غارقة في السكون والظلمة، والرأس ينبض بتلك الاطلاقات النارية الهابطة من الجبل، واصوات الموت تتعملق. فثمة ارواح بكت قبل مغادرتها الجسد..
قلت:
- لم اعد امتلك امري. هناك صفقة بين مدير الفندق وكاكه حمه. أي انا مجرد بضاعة!
- هذا لايهم. هل تقبل دعوتي؟
- كيف لايهم؟ لقد فقدوا الرجال والنقود!
- هذا عملهم، وتلك خسارات تعودوا عليها. نريد منك ان تكون معنا. سأدفع المبلغ الذي يطلبونه.. هيا نم وتصبح على خير.
( 3 )
لمحت ثوب امرأة يخطف من عند النافذة، تبعته خفقات قلب وبهجة واحساس بالأمن. لم ار امرأة منذ خمسة وعشرين يوماً. كان رأسي محشواً بالرجال والالم والخوف. ثوب احمر دفعني الى النهوض من الفراش، والتحديق اليه وهو يختفي في كوخ الحطب. ربما زوجة فيان. تلقم الموقد اغصاناً يابسة، وثلاثة اطفال قربها. احدهم يطعم جرواً الحليب. كان دلير نائماً، وقد اخفى جسده كلياً تحت الغطاء. الموقد ينفث ناراً فتبتعد المرأة وطفلها عن اللهب، والوقت هو شروق الشمس حيث تكتسي الاجساد برودة قاتلة، وتغدو الحاجيات في العراء عرضة لزغب ثلجي طري. روضت المرأة نار الموقد، وقرفصت امام قدر العجين. كان وجهها متأثراً بالسخونة، فقد توارى البياض الى حمرة دموية وهو اسير الفوطة الملونة. ثمة سحر له قوة الرجفة، فالتلال المزهوة بالصمت قريبة من القرية، والاشجار العارية محملة بعشرات العصافير. اصوات الصباح تضعني في مدار خارج الخطورة، اقصد، داخل الحلم الذي اهفو اليه، وابتعد عن هواجس الانقياد الى الآخر، ذلك الاكبر الذي يستطيع ان يقودني كيفما يشاء، ويقذفني من فاصلة الى اخرى.
استيقظ دلير وشاهدني استرق النظر، فأنبني على ذلك قائلاً:
-ولك كاكه عيب.(*)
لم تحملني الشهوة على التحديق، هل تفهم السر الحقيقي؟
- كنتُ انظر الى السماء والارض.
نهض من فراشه، ودعاني للخروج من الحجرة، اقتربنا من المرأة وقد اطلق دلير التحية بالكردية. ردتها وكان اطفالها ينظرون الينا.
وعندما قرفصت ثانية امام صينية العجين، جاء زوجها فيان بسيارته البيك آب. ترجل منها بوجه بشوش، وكأن شيئاً لم يحدث البارحة. طلب دلير منه حديثاً على انفراد، وقال لي:
- فهد، اجلس على الكرسي.
اجل، سأطيع الامر.انا بضاعة ، والبضاعة ستحدق من هنا الى التلال والارض الموحلة، وهناك في الحجرة يرسم الخط الجديد لها. كيف حالك يا طفل؟ وياطفلة؟ وياصبي يمسك عوداً يعبث بالجمر؟! وياامرأة بيضاء توحي بالهدوء؟ ويا أجساد ثلاثة غرقت في الظلمة؟ ويا جسداً زيتونياً فقد روحه بالمصادفة؟ ويامدينة تركت مصيرها لنزوات عناد؟ ويا هواجس كرهها سليم الحلاتمه؟
تنظر المرأة خلسة نحوي، وكلما فرشت العجينة على الصاج. هل تعلم حقيقة المسارات التي نطرقها؟ كانت اثار اقدامنا مرسومة على الطين، ووقفاتنا في بقع اختارها كاكه حمه البارحة، لقد بكى اخاه، بينما الآخران عرب وابو شهاب لم يستدرا الدموع. ثمة نشيج في مكان آخر لهما. نساء يلطمن الخدود ويهمشن زجاج النوافذ. اما البغال فانها تركت في الفضاء، نافقة، وستغدو برائحة كريهة بعد ايام!
خرجا من الحجرة، وضع دلير ذراعه على كتفي، وهو ينطق لي بالانكليزية:
- OK.
زعق فيان بامرأته ان تسرع في اعداد الفطور. دخلت الحجرة مع دلير الذي تحدث:
- رجل حقير، لو كنتُ نذلاً لأخذتك منهم بالقوة.. لقد اعطيتهم مايريدونه!
- اشكرك جداً.
وبعدئذٍ..
والساعات تتدحرج من علو شاهق.
كانت رحلتنا الى السليمانية، نحو الجبال الملفعة بالبياض، صعوداً مع الشارع الملتوي وانخفاضاته المخيفة، فقد ذهبت مع دلير بعد خروجه من قرية فيان الى قرية اخرى كانت مساكنها مشيدة فوق تلال عالية، مع مسجدها ومقبرتها ودكاكينها المتفرقة القليلة، ونسوتها اللائي خرجن بدلائهن الملونة البلاستيكية الى البئر الموجودة في الاسفل. ذلك المنخفض الذي جاءت منه سيارتنا، ودخلت القرية بلهاث محركها القديم. وقد التقينا بأصدقاء دلير الذين تحدثوا بمفردات صامتة المعنى، فبقيت اخبئ وجوههم الجديدة في جمجمتي، الى مستودع الذاكرة والاكتشافات.
دخلنا البيت وكانت الاشياء المكتشفة جميلة، ولذيذة بحيث تمنيت ان اكون منهم، احساس غير مفهوم اطلاقاً، وبعيد عن التفكير فيه. ربما سببه الالوان الزاهية لثياب النساء او منظر الطبيعة التي لم اشاهدها من قبل..
تلمست الخاتم في اصبعي، فتذكرت البائع العجوز امام باب الفندق. كان وجهه مغضناً بالسنين، اشارة تذكرني باللحظة التي انطلقت منها.. جلست بينهم على سجادة نقشت عليها صورة تنين وهو ينفث ناراً، بينما الحديث كان يدور في ساحة اللغة الثانية، مزامناً لبندول الساعة المتحرك قبالتي.. انهم مازالوا يتكلمون عن الصورة المتجسدة في المستقبل. كلمات لاتستدعي الذهن وتغويه للوصول الى الحقيقة. انا بعيد اذن عن العالم.. كانت الشفاه تتحرك، والعيون تصوب نحوي بالتعاقب. ثمة ابتسامة تخرج من تحت شوارب كثة، وجراويات(*) لفت بعناية، وانوف اغلبها محمرة..
أما النقطة الاولى في الصراع كله، فهي الظهيرة التموزية اللعينة. تلك التي دخل فيها جندي مع آخر مثله، مشاجرة، وكانت بندقية الكلاشينكوف عند احدهم، اطلاقة هنا واطلاقة هناك، وباقي جنود السرية تحت الدبابات المتوقفة، هلع من الموت المجاني الرخيص كان يبثه امرؤ لايقرأ ولايكتب. قروي اصيل من الجزيرة. اية جزيرة لا اعلم؟ ثم قام معظم جنود السرية بضرب صاحب الاطلاقات، طرحوه ارضاً واشبعوه ركلاً ولكمات وبصاق وشتائم. بكى الجندي الصنديد الفارغة معدته من أي طعام وذهب الى مقر الكتيبة يشكو الجميع. لم أكن طرفاً في النزاع، ولا السرية ايضاً، يوجد اثنان فقط متنازعان على صمونة شعير مسروقة!!
هذه الحكاية مللتُ من سردها للآخرين، وقد بكى سليم لسماعها، لكنها لم تثر فيّ غير الغضب من قسمها الثاني، لانه يخصني.. فقد قال المقدم الركن لآمر سريتنا النقيب: ان سريتك منفلتة ومشاكلها كثيرة. هذه العبارة قذفتنا الى بوابة الجحيم. لكون الاية العسكرية تقول: ان الشر يعم والخير يخص، وقد نزلت ربما على النبي ابو خليل(*) في قاطع شرق البصرة، حتى غرقنا في المياه الثقيلة لبهو الضباط طيلة النهار، وعند الغروب، كان جسدي يترك الوحدة، بحثاً عن النظافة، ودون رخصة من الضباط، فالرأس قد أعد العدة لرحلة قد تطول!
الفصل الرابع
( 1 )
اعتذرت من صليوه لعدم حضوري السهرة، لان الصور الفوتوغرافية كثرت وملأت الصندوق الخشبي.
وبعد العشاء..
واثناء انشداد العائلة الى التلفزيون، احتكرت الزاوية القريبة من الباب ونثرت الصور فيها، وعلى اربع مجموعات دونت اسماءها على ورقة بيضاء. الاولى تلك الوجوه التي تصارع الآخر، والثانية تلك التي تقسو وتهمش الآخر، والثالثة تلك التي تبحث عن وجودها وسط الجنون، والرابعة تلك الوجوه المطمئنة، الساكنة حتى لو وقع الظلم عليها.. وكانت اغلب السحنات تبتسم للعدسة حتى المجانين، ممن يسكنون الطرقات والحدائق العامة والخرائب، فهم يحملون للصورة دلائل اليقين السماوي. مثل ذلك المجنون العاري تماماً في الحديقة العامة، الذي استحم من خرطوم المياه. كان لايبالي بجسده وهو يرشق اشارات تصادمه مع المنطق، بينما الرجال كانوا يتقافزون ضاحكين من حوله، والنسوة غارقات في الذهول، والاطفال هلعين يمسكون عباءات امهاتهم. لقد اجتاز المجنون ذلك الحاجز، انفلت صوب برزخ شفيف لايراه احد.. عشر صور كافية لابراز القدحة التي لم تدركها زوجتي حين شاهدته، وصرخت (يمه سليم) ثم ابعدت ناظريها بدافع الخجل. اردتها ان تراه وتحصي ارتعاشات قسماته، وانغماره في لعبة الاستحمام، فملامحه صمتت على نقطة في رأسه. ابتسامة ثم استغراق كامل في عملية سحب الخرطوم من بين الشجيرات، وفرح، وبرودة، وانتشاء بالماء، ومزامير السيارات تهلهل للموقعة الفريدة، وشرطي النجدة يقف قرب سيارته، يتحدث بجهازه اللاسلكي، فيبتسم، ثم ينطلق مخلفاً وراءه اسئلة محيرة!
صور عديدة لعناد بزيه الزيتوني واخرى لفهد وابيه وامه وصليوه ومختار المحلة، والمعيدية وسكرتير التحرير والمحررين وشرطة المرور، ومرضى وممرضين ولافتات بيض تمثل احتفالات السنة بأكملها، وصبيان بملابس عسكرية سود ومعلمين اشتعل رأسهم بالبياض، ورجال معممين لهم لحى طويلة غير مشذبة، وفلاحين باليشامغ والمساحي بأيديهم، ومحامين بحقائبهم السود وجنود كراجي النهضة والعلاوي، وقوادات يجلسن عند عتبات بيوت ايلة للسقوط، وخلفهن فتيات يختنقون بالشهوة، وتماثيل وجداريات عند مفترقات الطرق وواجهات المدارس، ورجال بودي كارد (جندله) يقفون خلف رجل قميء، ولي انا ايضاً العديد من الصور!!
غرقت في الوجوه الى ساعة متأخرة، حتى استسلمت ابنتاي ورود واريج للنوم. ثم تحدثت زوجتي بغنج يقطر انوثة:
- سليم.. ياسليم، سلالم!
ارجعت الصور الى الصندوق واطفأت النور. لأكون مستعداً لنزع فتيل عبوات ناسفة مزروعة في المناطق الحساسة. وعند اقترابي منها، خرج صوت من حنجرة احدى البنتين، واستطعت ان احدده بدقة. كان الصوت (لا يابابا، لا، لا).. توقفت مذهولاً ومستفسراً من زوجتي التي قالت:
- اريج مستيقظة!
بقينا لحظات نتربص الحقيقة، وبرغم العتمة كانت تخميناتنا تصب في جانب اكتشافها للعبة. فالشعاع الدقيق من مصباح دكان صليوه كان يندفع من زجاجة الباب العليا، وهو الذي أثار شكوكاً حول عدة ليال سابقة. التصقت بها ثانية، وقبلة ومداعبات، حتى وصلت آخر المقدمات لينفلت الصوت مجدداً من حنجرة البنت (بابا، لالا، بابا). انفصلنا وقد خارت قواي، وهزني يقين ثقيل بأن الطفلة ترى ما لا نراه. زرقاء اليمامة من نوع يصلح للعتمة. او عيون قطة خالية من اللمعان. نهضت زوجتي بغلالتها الوردية الى زر المصباح. جاء الضوء ليكشف عن اريج الصغيرة وهي مغمضة العينين.. نحن نحدق وهي تتنفس ببراءة، ثم لاحت فكرة لدي، فقفزت الى الكاميرا، لأدون جسد اللحظة. ضربة الفلاش امسكت بأريج والنصف الايسر لأختها ورود. عدتُ الى الزوجة وكانت الدقائق تسقط من علو منتصف الليل. خمس، وعشر، وبعدها أتت المفردات الملتهبة (لا يابابا).
انها تحلم بي...
ابوها الذي دائماً يعنفها حين ترتكب الحماقات.
هكذا هي المصادفة ترسم تصوراتنا.
لعل معظم التصورات كاذبة؟
اطفأت زوجتي المصباح وعدنا الى اللعبة الازلية للبشر، نمسد الظلمة باطمئنان. كان لهاثنا وانيننا يطغى على صوت الطفلة. لا يعبأ به حتى لو اطلق المفردات الصريحة. لان الذهن لديه القناعة بأن الصحو كان يجمعنا، كما هو العوز!
(2)
لم اذهب الى مبنى الجريدة هذا اليوم، لأن قضية فهد قد تطورت كثيراً وباتت تنذر بالمخاطر. قبل يومين اعتقلت الشرطة عمي خلف، وجاء اقاربنا الواحد تلو الآخر الى بيته في الكرنتينه، يطمئنون ام فهد على وقوف العشيرة معهم بالكامل. كان صليوه قد اخرج سيارته من كراج المنزل، وراح يزمر بصورة متقطعة لي. لم يكن الصباح يشي بكوارث مقبلة. الارصفة مكتظة بالناس، والشوارع تبدو خالية من المركبات، والساعة هي الثامنة والنصف صباحاً. كانت الدكاكين تعلق في واجهاتها لافتات تؤكد ان مناسبة الجيش هي أقدم الاعياد. الكل مشغول بمكان الاحتفال. بنادق تُحمل في بداية الطرق والمنعطفات، والعدسة تفتح على اتساع لألتهام الوجوه المكابرة.
قال صليوه:
- اخفي الكاميرا، سيظنون بنا شيئاً آخر.
- لا عليك، احمل بطاقة صحفية.
وتسير السيارة واذرع الناس ممدودة. لقد ضاعت سيارات النقل الكبيرة والصغيرة في دائرة السخرة. فاليوم ليس للعمل على باب الله، بل للفرح واطلاق الزغاريد فقط..
جيوش الشعب ستدخل المضمار لأستعراض جبروتها الناري وحقدها الفلفلي على الاعداء.. كانت الاشجار تهفو مع النسيمات المتوسطة الحركة، وفهد هناك يلملم حيرته وشجاعته في المجهول. لماذا يأتي البكاء دائماً بعد الكارثة؟ كان فهد واقعاً في الخطر منذ البدء، منذ يوم موافقته الخروج من السجن الى بهو الضباط، فالشرط كان قاسياً ولايمكن قبوله. لكن حجرة السجن مكان تختلط فيه روائح البول والغائط، ولكل جندي صفيحته المعدنية.
العمارات شاهقة وسط العاصمة، والناس مايزالون يتناثرون جماعات على الارصفة، وصليوه يكثر الحديث عن بائعة القيمر.
- سليم، جسدها ساخن.. تنضج البيضة لو وضعت على خصرها.
- عين لو خبط.
- حتى سلق(*). مااجمل الحب عند الفجر!
واطلق زفرة من صدره، وقد ضرب المقود بيديه. كان وجهه قد احتقن بالدماء، فبانت الحمرة في انفه وشحمتي اذنيه. ثم ارتد فجأة في كلامه، وقال:
- نتحدث في التفاهات، ونترك مشكلة فهد.
- هكذا نحن، نتغابى عن الاشياء المهمة!
- اجمل شيء عندكم انتم المسلمون قوة العشيرة. لايترك الشخص نهباً للآخرين.
- قل، اسوأ شيء!
واستدار الى جهة اليسار قائلاً:
- حقاً، عناد كيف حاله؟
- بخير، وربما استهوته المشكلة فقرر الدخول فيها.
- سيجعل عشيرة الضابط كلهم في السجن..
واندفعت يد صليوه اليمنى قرب (الكير) ليخرج دبية مملوءة بعرق البعشيقة. تفاجأت من شربه في الصباح، فازدانت صورته بهيبة من لا يعبأ بالآخرين. يهشم الممكن والمألوف لكي يمسك بالسعادة.
نقف عند الاشارة الضوئية، فنرى شرطي المرور يحمل بندقية كلاشينكوف، وشحاذين توزعوا عند مفترقات الشوارع.. يأتي احدهم لنا فيمطرنا بالبركات واسماء الاولياء. أبعدت وجهي عنه لأنني تركت فعل الخير منذ بداية التسعينيات ، بينما صليوه كان يماحكه في الكلام:
- انا مسيحي. قل لي عليك النبي يسوع!
فيرد المسكين وهو يتمتم:
- عليك النبي سوع!
- كلا، يسوع، وسأعطيك جرعة بعشيقة.
جفل الشحاذ، وراح يحدق حواليه كمن سمع حديث بالسياسة، فقال:
- عليك النبي يسوع ستين مرة.
ضحكنا منه، وقبل ان تأتلق الاشارة الخضراء، كان الشحاذ قد شرب جرعتين من العرق، وسحب صليوه الدبية قائلاً له:
- لا اعطيك ستين جرعة.. اذهب.
واندفعت السيارة مسافة، ثم دلفت الى جهة اليمين لنوقفها قرب مقهى الجماهير، لان بيت عمي خلف في زقاق ضيق، تتوسطه المياه الراكدة. بعض النسوة يجلسن امام عتبات بيوتهن، وكان زوجان من طيور الفاختة يتشاجران وربما يتداعبان بشوق على سلك الكهرباء المحصور بين البنايات، وعند مسيرنا صوب البيت كانت يد صليوه تأخذ طريقها الى جيبي، وهو يمنعني من الكلام قائلاً:
- ربما يحتاج الاهل بعض النقود.
الباب خشبي له مطرقة نحاسية، والسماء ضيقة الى ابعد الحدود، وام فهد ترحب بنا باكية. وجدنا رجلين شاهدت احدهما من قبل. انه خال فهد، بينما الآخر ذو وجه طفولي وشعر كثيف يغطي قفاه.. دار الحديث عن المصيبة ولم يبتعد عنها اطلاقاً. كان صليوه يعقب على عبارتنا بالتأكيد. المنزل مراقب ومهدد في كل لحظة بالتفتيش. ثلاث مرات كانت الشرطة ورجالها المدنيون يدخلون الغرف والسرداب، ويصعدون السطح بحثاً عن فهد.. قالت ام فهد:
- يتهموننا بالتجسس!
لم اتصور دخول القضية هذا الدرب المخيف.. لقد قتل الضابط بسبب تفاهة عقله وحب سيطرته.
- وعشيرة الضابط تنتظر تحقيق الشرطة. قالوا: لو ثبت الامر، سيكون القتل لثلاثة أشخاص، لان ولدنا له ثلاثة ابناء!
كان الذهن مقفلاً تماماً، فالقصة غير مكتملة، كما هي روايتي الفوتوغرافية التي سأنجزها حتماً.. اثنان خرجا في طريق نيسمي من الوحدة العسكرية الى الشارع العام. الضابط قُتل ومراسله اختفى عن الانظار. هل قطاع الطرق انهوا حياة الاول وخطفوا الثاني؟ القضية سياسية بالدرجة الاولى، فالحقائب موجودة لم تسرق كما قالت ام فهد. ربما تركها فهد وهرب بعيداً. اعتقد ذلك بالضبط. كانت ام فهد تتحدث بحرقة، وتلوم عمي لانه سبب المشكلة، فهو لم يستطع اقناع رأسه الحجري بشراء دكان لفهد، لكي يشتري بدخله الاجازات من الضباط.. الف دينار سعر اليوم الواحد. ثلاثون الف دينار قيمة الشهر العسكري، حتى يتم الخلاص بالتسريح.
اعطيت لهم مال صليوه وعبارات المواساة، ثم اعقبتها بتأكيدات لاأجد لها سنداً قوياً في فعل أي شيء لأنهاء الكارثة. خرجنا من الزقاق نتخوف من سقوط اقدامنا في فخ المياه الثقيلة، ولأشاهد رأس فتاة شابة تقف خلف الباب. كانت مآرب تلاحقنا بنظراتها حتى دلفنا يميناً الى السيارة. كانت هيئة فهد تأخذ بالاتساع في مخيلتي، وباتت تطير كالعفريت فوق الكرنتينه.
كان فهد يرى احتفالات عيد الجيش. يرى ذلك فحسب!
( 3 )
جاء عناد الى بيتي، فوجدني في الدكان اشرب الخمر اليومي مع صليوه، الذي رحب به بطريقة تثير الراحة في نفسه.
- اتفضل استاذ. زارنا الخير والبركة!
نزل من سيارته اللاندكروز الحديثة، ودخل الى الدكان وهو يقول لي:
- لم تنهض ياسليم. حسن سأتي اليك لأرحب بك.. كيف حالك يابن خالتي.
لم اود تخريب الجلسة، فقلت:
- بخير.
قال عناد مخاطباً صليوه:
- لااعرف لماذا يكرهني؟
ثم وجه كلامه لي:
- بربك قل. أأخطأت بحقك دون ان ادري.
وذهب صليوه الى باب الدكان الخلفي ليجلب كرسياً من البيت، وكان عناد يجلس قربي، وامام دبية عرق البعشيقة.
- لاداعي لنتحدث في هذا الكلام. نريد ان نشرب فقط.
- على كيفك، سأشرب معكم!
اتى صليوه بكرسي خيزران فخم، وصمم على ان ينهض عناد من كرسيه المتواضع ليجلس عليه. كنا ثلاثة، والشارع امامنا يخلو من المارة.
قال عناد:
- سليم، اتيت من اجل ابن عمك فهد. اود سماع القضية منك بالتحديد..
- نعم، قتل الضابط، وهرب فهد الى مكان مجهول.
كان ربع الجن صامداً بيني وبين عناد. اما صليوه فهو مع شرابه العتيد، كان منشغلاً باختيار حبة زيتون جيدة. بقينا اكثر من نصف ساعة، حتى قال عناد وقد اخرج مسدسه متضايقاً من خاصرته، ووضعه على تخت الحلويات:
- عذراً، سهرتكم بائسة. انتم مدعوون الآن لقضاء سهرة عنادية.
التمعت عينا صليوه ببريق قديم، فهو يعرف ماهي السهرة؟ وقد خبرها قبل شهرين حين اعتذرت عن الذهاب اليها. اما الليلة فانني على استعداد كامل للذهاب معه الى آخر الدنيا، وقد قلت له ذلك، فضحك، واجابني:
- على كلمتك، آخر الدنيا.
كان فهد امامي يدعوني للذهاب، لان عناداً وحده القادر على طمطمة القضية(*) عند الحكومة، وقطع ألسن عشيرة الضابط..
قبل الركوب معه في السيارة، أراد عناد دخول حجرتي أو بيتي لرؤية الطفلتين والقاء التحية على زوجتي، لكنني اكدت له انهم يغرقون في النوم. وكان صليوه يسحب باب الدكان من الاعلى بسرعة ويغلقه، حاملاً دبية العرق بيده، فانطلقنا في شوارع حي المنكوبين قبل ان تنفلت المركبة بسرعة جنونية الى الطريق السريعة.
قال عناد:
- كما اعلم ان صليوه يحب اللامألوف. سترون المفاجأة بعد قليل.
وانطلق من آلة التسجيل صوت غجرية تغني على ايقاع عزف ربابة. لم افهم منها سوى (آه، وياويلي)، فهي مقطوعة اهل البلد جميعاً. يغنيها الطفل والشيخ معاً، وفي الاعراس والطهور واعياد الميلاد.
- سليم، اتمنى ان تمحو الليلة حقدك عليّ.
- ليس هناك حقد، بل اراك تافهاً. وعذراً!
- لا اغضب منك. انت كاتب العائلة الفريد.
قال صليوه مخاطباً عناد:
- مستقبل فهد بيدك، فلاتتوانى عن مساعدته.
- سأساعده حتماً، هذه الامور تشعرني بالفخر..
اشجار يوكالبتوس عالية مزروعة بمحاذاة جدار حديدي لمقبرة المدينة، وسيارتنا تدخل بوابتها. كنت احدق الى يشماغ البواب وهو يكرر بارتباك مفردة (الاستاذ) لعناد، التفتُ الى صليوه في المقعد الخلفي مستفسراً منه، فأدى حركة بملامحه تشي بدهشته ايضاً. قال عناد:
- هذه المفاجأة.
توقفت السيارة قرب حجرة تم بناؤها وسط القبور، كانت في اعلاها سارية حملت شمعة فلورنسية بالغة الاضاءة، بحيث بدت الشواهد الرخامية واضحة للنظر، وعلى امتداد العين، بين اشجار الاثل واليوكالبتوس العالية، خرج الينا شخص يهرول بدشداشة رمادية وغترة بيضاء لف بها رأسه، وهو ينطق بتلعثم كصاحبه البواب (اهلاً بالاستاذ). نزلنا من السيارة وثمة تيار بارد من الهواء يضرب وجوهنا الذاهلة، فلم اتحدث الى عناد لكي يشرح لي مايدور، وحتى صليوه بقي صامتاً يبعثر فقط بصره الى القبور. قال عناد في النهاية، ونحن ندخل الحجرة الدافئة:
- اليس المكان جميلاً!
وراح يبتسم لنا، وقد صاح على الشخص، الذي اتاه مسرعاً:
- ياولد، خذ السيارة واجلب لنا شراباً.
- حاضر استاذ.
واعطاه رزمة تقدر بخمسة وعشرين الف دينار، ثم عاد الينا ليطلب منا الخروج من الحجرة والتنزه قليلاً بين الاشجار، فقاطعه صليوه قائلاً:
- تقصد بين القبور!!
اجل، ماذا تقول ياسليم؟
خرجنا الى شوارع المقبرة، كان الظلام متناثراً هنا وهناك. تتضاءل كميته بفعل المصابيح المنيرة، والسكون يؤكد بثقله ان الموت موجود وبأعداد كبيرة.. كانت ذكريات الآخرين مخبأة تحت التراب. احزانهم وافراحهم. تلك اللحظات المشبعة بالتفكير والقلق. منهم من واجه نيران الحربين الثمانينية والتسعينية واندثر، ومنهم من تلقف دون علمه وفجأة عنواناً اسمه الحادث المؤسف. لكن كلمة الشهيد البطل تطغى على الشواهد الرخامية مع وجوه تبتسم في الصور المزججة ربما لظهور زغب اسود فوق الشفتين!!!
ابتعدت عن صليوه وعناد، لان حديثهم اتسم بالغباء، فلا اعلم كيف يتغنون بجلسات الشرب والنساء وسط القبور؟
.. كنت وسط القبور والاشجار استعيد تلك الرموز اليقينية حول الموت، واخترق بمخيلتي المتواضعة قداسة العالم الآخر. ذلك السر الموجود في المتعالي، أو المتصور الاعظم للوجود.
غمرتني الدهشة لرؤيتي حشدا من القبور عزلت في ركن السياج. كان الضوء يلهث للوصول اليها. بيد انني استطعت قراءة الارقام المدونة بوضوح على قطع حديدية رقيقة (7571، 7572، 7573، ....،..) دقت بوتد سميك على تلة صغيرة. قبور لم تبنَ بالطابوق، بل بالتراب وكانت مثل حدبات على الارض. عاهات كثيرة ممتدة حتى آخر الظلام. تلك المنطقة الخالية من المصابيح، ومن الاسماء ايضاً.. ربما اشخاص فقدوا في ظروف غامضة. اعدادهم كبيرة جداً، وهواجسي تزداد اتساعاً. الموت يأخذ اشكالاً متعددة، والجوهر واحد هو فقدان الروح، ولا اعلم لِمَ رسمت مخيلتي حكاية لمسدس عناد الذي اخرجه في الدكان، فطلقة منه في رأسي كافية لجعلي في هذا المكان؟ ولا ادري ان كنت سأنضم الى مجموعة الشواهد المكتوبة بالحروف؟ او بالارقام؟!
القسم الثاني
(1)
اكملت نصف مخطوطة الرواية، عندما طلب مني ابو مولود استلامها، فالأوامر قد صدرت اليه بجمعها من الاسماء المختارة قسراً، وتلك كانت فرصة طيبة للخروج من اسر الكتابة، وهواجسها التي بدت تتعملق في رأسي حول مصير النهاية، واقصد النهايتين، أي الرواية وحياتي المهددة بالفقدان. ولكن، رغم هذا، كان القلق قد توزع على ثلاثة كيانات، فهد في المنطقة الشمالية، وسليم في العاصمة، ومروان بدوي في مزرعة كبيرة قرب عقرقوف(*)*، ولا اظن ان وهم المخيلة سيكون كبيراً في الوعد الذي قطعه لي ابو مولود باطلاق سراحي عند اكمال الرواية، وبشرط ان تكون صادقة مع نفسي، وخالية من الرياء للحكومة، لان الامر خلاف ذلك، سيكون طبيعياً، ومشابهاً لكثير من الاقلام، الموزعة داخل البلد وخارجه وهي تنافق لقاء ثمن.
لقد تم اختياري، وضمن مجموعة، لانني لم ادع مفرداتي تدخل مبغى الكلمات، وهم يريدون منا كتابة الروايات التي نطمح اليها، وفي وسط تغمره الحرية. تلك هي الوعود التي لايمكن تصديقها، فقد تم خطفي بالقوة من شارع باب المعظم، وامام مرأى من الناس، تحت تهديد السلاح.. وهذا يعني عدم مصداقيتهم، وأن لهم تصوراتهم الشيطانية التي يودون الحصول منها على اشياء دائم التفكير فيها. لماذا يجمعون اقلام الرفض، ويامرونهم بكتابة الروايات؟ ويسجنون في مزارع كبيرة، وبيوت فخمة، ومعهم امرأة خارقة الجمال تلبي حاجتهم؟ وثمة تهديد صريح بالقتل اذا ماحاول احدهم الهرب. فضلاً عن التأكيد مراراً وتكراراً بعدم التزلف للحكومة على امل الخلاص، لان ذلك مفاده الكذب والنفاق، وان الموقف القديم ماهو الاّ ريش طاووس مختال.. ينبغي الكتابة بصدق، والاّ........
(2)
للصدق مقاييس عديدة، اهمها ان تلمس الخيط الدقيق بين ماهو حقيقي ومزيف، ثم تنطلق بعدها الى حجم الحرية المتاحة.. هل هي مصنوعة؟ أو جاءت تلقائياً ودون عقول تفكر بالسوء؟ ولتكون على يقين تام بالصورة النهائية، وفي حالتي فقد تداخل موقفي مع واقعي الجديد، واعلم تماماً انني مهما كتبت سأجد نوعاً من الرفض في الأعماق يمنعني من تحقيق ما اريده. ولي مثال في الجزء الاول من الرواية، فقد بدا سليم الحلاتمه، برغم اغترابه عن محيطه لا يتجرأ في الاقتراب من منطقة الخطر، ولايبوح بمعظم الحروقات التي يعيشها، الى صليوه مثلاً، أو اصحابه المثقفين في الجريدة أو المقهى الذين لم يذكرهم اطلاقاً، وكذلك فهد في رحلته المحفوفة بالمخاطر الذي لايستطيع ان يمتلك رؤية مضادة لواقعه. فالزمن يسير الى الامام وليس الى الخلف، وهو برأيه الحل الوحيد.
كنتُ اكتب فصول الرواية الأربعة، وحالتي الصحية في المزرعة تزداد سوءاً، يوماً بعد يوم، ومازلت أتذكر لحظة انهمار الرصاص على فهد وزملائه الاكراد التي أصابتني بنوبة اختناق شديدة. تلك مصادفة في نظر هيلة الجميلة، الا انها رد فعل مرتبط تماماً بالادراك الحقيقي للمشكلة عندي.. هذا تفسير منطقي جداً..
(3)
تموز يولول في الظهيرة، والمزرعة شاسعة الخضرة، وانا وهيلة نتمشى تحت اشجار العرموط(*) المثمرة. وحدنا نحن الاثنين نتبادل الحكايات القديمة، واحوال حياتنا السابقة، فهي كاولية(**) وجدت نفسها بالصدفة اسيرة الرقص وملاطفة الرجال الكبار، وانا مروان بدوي معلم ابتدائية وكاتب روائي، له اربعة اولاد وزوجة يتيمة الابوين..
كانت هيلة ترتدي دشداشة بيضاء مطعمة بالورود، شفافة بحيث تظهر هضاب جسدها ووديانه حين تعكس الشمس اشعتها عليها.. اجتزنا صف الاشجار، ودلفنا في ممر طابوقي يتصل بالممشى الكبير، حيث توجد فوقه عرائش العنب المثقلة بالعناقيد. طلبت مني مساعدتها في قطف عنقود مغرٍ. فاردت الذهاب لجلب كرسي، أو أي شيء لكي تصعد فوقه، غير انها ضحكت بعهر، وقالت:
- انحنِ، سأصعد فوقك!
وصعدت، فانحسر ثوبها خلف رقبتي، واندلق فخذاها اللدنان من تحت اذني الى الامام، وبصري يمسدهمها برقة حتى الاصبع الكبير. كانت تصرخ ضاحكة، وتمسك رأسي، وانا استعيد توازني بين آونة وأخرى. حتى أمسكت بالطريدة، وسحبته، لنسقط على الارض غارقين في متاهة اللحظة. تكركر ولباسها الداخلي بمواجهتي تماماً .
قالت:
- اصطدتُ الملعون.
وأكلت حبة عنب دون ان تغسلها. اعطتني واحدة، ونهضت وهي تضرب بكفها عجيزتها المتسخة بالتراب. كنت متوهجاً بمشاهدتها وهي تتنقل في الحديقة، وتهرول بين الشجيرات. فراشة تحسن الغزل في الفراش، وتجيد صنع السعادة كلما نطقت أو حركت جسدها او بقسمات وجهها. ندهتْ عليّ فذهبت وراءها. كانت تمسك خرطوم الماء وترش على الاشجار القريبة، ثم تجعل الفوهة على رأسها. كانت المياه خبيثة إذ تلصق ثوبها بالجسد. اشياء ضخمة تثور في الجمجمة، ولا علاقة لها بمأساة فهد وسليم. بل بمشاهد مروان الجديدة.. غرقنا بالرطوبة تحت فيء السقيفة المعدنية، وحركة الخرطوم تحدث قوس قزح سرعان ما يتلاشى.
(4)
شعرت في البدء ان الروح ستذهب اثر رصاصة يطلقها شخص منتفخ الأوداج، ولكن بمرور الوقت تلاشى ذلك الهاجس، وحل بدلاً عنه السجن المؤبد، وبعد لقائي بعد ساعات بابي مولود في هذه المزرعة، ظننتُ قوله لعبة ماكرة يهدف من ورائها الحصول على اعتراف مني حول رفاقي.
- ستكتب الرواية الجوهرة!
- انت وزملاؤك.
- انظر في هذه الورقة.
وكانت اسماء زملائي من الواحد الى الثمانية. اصحاب مقهى الشاهبندر الذين ينعزلون دائماً في ركنه. كنا نعتقد ابتعادنا عن عقولهم لاننا تركنا النشر في الصحف. لكننا دخلنا في حساباتهم دفعة واحدة.. قال ابو مولود:
- كنتم تتمنون الحرية، والان بين ايديكم.
لقد اخطرت عائلتي برسالة كتبتها بتوجيه منهم بأنني مسافر خارج البلد، وقد اردتها ان تكون مفاجأة سارة لأم الاولاد. تزيح تراكم المصائب والعوز طيلة التسعينيات، وخاصة عندما رافق الورقة كيس جنفاصي حشي بربع مليون دينار، ولااعلم ما هو شعور زوجتي بكل ذلك؟ سفرة عاجلة وربع مليون دينار امامها.
ومنذ اليوم الاول في المزرعة وجدت هيلة ببنطلونها الكابوي تبتسم لي، وتسير خلف ابي مولود ورجاله الاربعة، الذي ادخلني الى حجرة المكتب الفخمة، وهو يقول:
- هنا، ستكتب الرواية!!
ثم اردف، وهو يفتح خزانة الكتب المذهبة:
- وهذه للقراءة.
وقبل خروجه، اشار باصبعه الى هيلة قائلاً:
- والجميلة تحت امرك.
لم يكن فهد وسليم وقتها في المخيلة، لكن تصوراً ناصع البياض حول تفاهة الهواء اليومي كان موجوداً، وله صبغة عسكرية، ومن خلاله لابد ان يخرج الف سليم وفهد، وصليوه، وضابط لا يرى سوى جوعه الى المكاسب امامه.
كان ذلك قبل شهرين، مما يعني ان مروان بدوي قد اصبح بطلاً لحكايات المقاهي والمنتديات الثقافية الآن، ولكن على الطريقة السرية، التي تخلد الوجه، وتأسطر حركات الجسد.
(5)
مضى اسبوع ومخطوطة نصف الرواية خارج المزرعة، وشاهدت ابا مولود مرة واحدة، قال فيها:
- مازالت تحت تقويم الخبراء.
من هم الخبراء؟ ولماذا لم ينتظروا حتى اكمالها لتكون الصورة واضحة؟ بدت الوساوس تكبر، والحنين يزداد الى الخلاص، فلستٌ اعلم بالضبط ماهي الامور التي يريدونها؟ لقد كتبت الفصول الاربعة بلا تملق وسفالة. تركت الاحداث تسير على سكة الايام التي نعيشها. لم اجعل القتامة تأخذ طريقها كما هي في الظهور. ليس بسبب الخوف منهم، وانما ايماني بقدرة الفن على ملامسة روح الوقائع، فهي التي ستبقى كما بقيت الأحاسيس التي تنتابني كلما مشيت من امام بناية وزارة الدفاع القديمة!
لقد تمنى سليم الحلاتمه اكمال روايته الفوتوغرافية، لكي يحرق اوراقه السود في نفسه. تلك التي تشير الى اتهامه بالخمول وعدم فعاليته تجاه مايصيب الناس من بلاء، فالسطور التي قرأها سابقاً واستقرت في جمجمته نوابض حلزونية تهتز لتذكر الوعي بالخطر، واحرف المعرفة الملونة تسحبه كل ليلة الى دكان صليوه لنسيان ملامح الوقت.. لماذا لم يدرك سليم خيبته حين رأى صلعة صليوه وقد نقش عليها وشم البلادة؟ اعتقد ان الدروب التي ينبغي السير فيها غير موجودة، وربما غير واضحة امام من تعثر بالعوز، واكثر الاشخاص يدورون حول المركز دون الوصول الى هدف، وسوى انهم يتمنون البقاء هكذا حتى النهاية.. وهنا تختلط قيمة النهايات، وتختلف، لتبرز حقيقة واحدة اسمها الخسارات!
(6)
عصر الخميس من كل اسبوع، تبدأ سيارات الصالون الفخمة بالتقاطر على المزرعة، والاوامر تقتضي مني البقاء مع هيلة في البيت، وعدم الخروج لأي سبب كان. فقد رصفت القنفات(*) الاسفنجية على شكل مربع ناقص ضلع في الحديقة، ووضعت في كل ركن مبردة هواء كهربائية لإزالة مايتبقى من اثر تموز حتى آخر الليل. اصابتني الصدمة في الخميس الاول، وانا احدق من نافذة الغرفة العليا، فقد رأيت وجوهاً شاهدتها سابقاً في التلفزيون، وعند اخبار الساعة الثامنة مساءً ببزاتهم العسكرية ورتبهم العالية. اهتزت ساقاي وخفق قلبي، وجلست قرب النافذة مذهولاً، وهيلة تبصرني ضاحكة وكأن قسمات الحديقة عابرة ويمكن لها الظهور في السوق أو المقهى دون ان تثير احداً. كانت الوجوه هي التي تمسك بأحلام الملايين، وترسم الكوابيس على واجهات المباني والمنعطفات. تذكرت الاراضي الشاسعة والجبال العالية والاهوار الصحراوية الممتدة مع النظر، والجواميس والطيور والنفط والتمور واليشاميغ والسدارات والشراويل العريضة، والروايات التي قرأتها لاجيال مضت وبيوت الدعارة السرية ولاعبي كرة القدم وهم يحتفون بالكأس. ثم جاءت الحروب مع رؤيتي الكروش الاسمنتية وهي تهتز بفعل الرقص على انغام (الجوبي) ومع نساء وزعن الرعشة مقدماً الى اشجار التين والعرموط والتفاح.
ذهبت الصدمة بعد مرور عشرة اسابيع، لكن فضولي بقي عنيداً، يحفزني لاقتناص اللحظات الفريدة من عمر كرتنا الارضية، فكل الحقائق اسيرة الهواء والزمن الذي ولدت فيه، ذلك الزمن الواحد الذي يجمع جميع البشر في دوائر وهمية بالغة الخطورة، وتقترف بداخلها المحن والكوارث وافعال القتل.
وبعد الغروب، ومع انتشار الظلمة، دخلت مركبتان، تبينت في احداها مطرب البلد الكبير، الذي نزل مهرولاً لمصافحة الحضور، بينما اعضاء فرقته انشغلوا في عملية نصب الاجهزة الموسيقية واللاقطات، وعيونهم تسترق النظر كلما تحينت الفرصة الى الوجوه، فهي كبيرة في رؤوسهم، وضخمة الى درجة جعل الجسد يشعر بارتخاء مذل!
اخذت الانغام تمضي بين اغصان الاشجار والشجيرات والادغال الضارة، ونبرة المغني تكشف عن طاقتها الجمالية العالية، بينما الفتيات الصغيرات يضربن الارض بأقدامهن في رقصة مجنونة. كنت اشاهد اجسادهن البيض المشعة وقد قطعت بالفساتين الملونة، يغدون مع اللحن الى السادة المسؤولين الذين ينتفضون مع مفردة الـ(آه)، ويقرصون افخاذهن ونهودهن، ثم يرجعون الى اماكنهم مطلقين الابتسامات.. ومع انتصاف الليل سقط الجميع في وحل السكر، وبدت المشاهد تأخذ جانباً مسلياً ومؤلماً، مثل سكب اقداح الويسكي فوق رؤوس الراقصات، او بين نهودهن، أو اطلاق العيارات النارية فوق رؤوس فرقة الغناء، الذين طلب منهم في الاخير، وبنبرة وعيد ان يخلعوا ملابسهم كما خلقهم رب السماء، وان يغنوا ويبتسموا وكأن بنطلونات الجينز تخفي عوراتهم.
وفي تلك الاثناء صعدت هيلة الى الغرفة العلوية وهي تصرخ من فرط اللذة:
- الروعة، الروعة يامروان!
ومسكت عضوي بعصبية، فأبعدت يدها مرتبكاً، ومنشغلاً بلحن قديم كان يغنيه المطرب (يمته نجي عالبال، وتساعدون الحال، يمته، يمته، تذكرونا)*(*).
(7)
استيقظت صباحاً على صوت ابي مولود، وهو يدخل حجرة المكتب التي نمت فيها ليلة امس:
- انهض ياكاتبنا!
كانت ليلة عنيفة، اختلط فيها السأم بالارق، والفكر باللذة، وبدت ارضية المكان غارقة بأعقاب سجائر فضلت رميها خارج المنفضة، وقشور مكسرات، وقناني بيرة فارغة، وبضع وريقات قرب الوسادة. لم تكن نبرته تشي بالقسوة، بل بمداعبة يظن من يسمعها ان صداقة منذ الطفولة بيني وبينه. كان جسدي بأكمله يعاني من تعب شديد وثقل في الحركة. لم أتكلم سوى بتقديم التحية، وتركته يجلس خلف المنضدة الخشبية الباذنجانية اللون، وقبل خروجي الى الحمام، قال:
- احمل ورقة الخبير الاول عن مخطوطتك.
فرجعت اليه، وجلستُ على الكرسي المقابل له، على امل تقديم ورقة الخبير، لكنه ابعد الأمر ببعض المجاملات حول صحتي وسعادتي في المزرعة، وماهي الاشياء التي اطلبها؟ وهل ان هيلة تقوم بالواجب وتسمع الكلام ام غير ذلك؟ كنت افتح جفني بصعوبة، واشم رائحة فمي النتنة بسبب الضرس المنخور، وارى وجه ابي مولود الريان، وهو يتغير مع كل مفردة يطلقها. وكانت النافذة خلفه تكشف عن ورود الجوري والياسمين، وهيلة وهي تضع الخرطوم في آلة دوارة توزع المياه على الثيل.
قال ابو مولود:
- اثارت مخطوطتك الكثير من الاسئلة.
- حقاً، ماهي؟
- ستعرف بعد ان تفطر.
وبعد الفطور جلسنا في ظل عريشة العنب. كان ابو مولود يجيل بنظراته الى الخضرة المترامية، وفي يديه سيجار متين يأخذ جرعات منه، ليطلقها فوق الطاولة التي تفصل بيننا.
قال:
- يعتقد الخبير بعد تمحيص دقيق، انك تملك رفضاً من النوع المهادن.
- لم افهم؟
- أي انك تتغير حالما تتحسن ظروفك الاقتصادية.
كانت سبابة يده تسقط رماد السيجار بتؤدة، بينما العصافير دخلت فجأة في مشاجرة مجهولة السبب، وصوت بعيد لماطور ماء يتردد في المكان، واردف قائلاً:
- ولكن الرأي ليس ثابتاً، فربما يتغير في النصف الثاني.
- ابو مولود،هل اسأت شروط الحرية ؟
- لا .
- اذن فأنني لاأعرف كيف تكون الحرية ؟!!
- بل تعرفها جيدا، وعليك ان لا تأخذ كلامي على محمل الجد، لأن الخبير قالها في لحظة سكر..وقال ايضا انك نجحت في النصف الاول، ولم تكن هناك خيانة لموقفك القديم، وهذا يعني ان معدنك اصيل!!
- هل هو اطراء؟
- نعم، وقد فرحت لذلك، فأنا مسؤولك المباشر.
وضعت هيلة كوبين من الشاي على الطاولة، وانسحبت تاركةً بصري يلاحق عجيزتها المخنوقة في شورت حليبي اللون ومطرز بصورة فيلين صغيرين. انتبه ابو مولود لذلك فقال:
- اليست مصدر الالهام؟
- أجل مصدر الغموض..
- لست معك ، لأن من متطلبات الحرية الأبتعاد عن الغموض!!
ومع اول رشفتين عدنا الى حديث الخبير.
- انه متشوق للنهاية، ماالذي سيفعله فهد عند العصاة؟(*) وسليم الحلاتمه في بغداد؟
- ستعرفون النهايات كلها بالتأكيد، ومنها نهاية عناد!
- آه، ذلك البطل الزيتوني.
شيء من الحقيقة تناثر امامي، مايدريه ان عناداً وفهدا وسليما موجودين في مخطوطة الرواية؟ هل ابو مولود هو الخبير؟ لقد غرقت تماماً في الآتي. ذلك المجهول الجميل الشفاف الذي يبدو كجبل شامخ لاتهزه ريح المعرفة العقلية، او الحدس الملون..
قلت له:
- لم تعطني الورقة؟
فقال:
- ليست للقراءة الان، وانما في النهاية!
وابصرت في السماء الزرقاء جميع النهايات دفعة واحدة!
(8)
الالم طاووس يختال بريش زاهٍ منذ حقب على الأمكنة، واطلال عقرقوف تنتصب وتبرز فوق الخضرة من بعيد. اشاهد الزمن الذي انقضى ومثّل تأريخ البشرية، ومدى قدرة المرء على صنع العجائب لقاء تصميم وتحد يجابهه. فتأثير الحكاية الاسطورية التي رواها الاجداد للأبناء وهم في طفولتهم تختلف حين يكبرون. لقد كنا نسمع ان نمرود اراد منازلة الله وقتله، فبني هذا المخلوق الحجري العالي، ولتكون الاحاسيس نافرة من ذلك الكافر الملعون، وتغمرنا مشاعر الحقد عليه عندما نلتحف بأغطيتنا القطنية في الليل. كيف يتجرأ ان ينوي قتل الله ؟ وهو الذي خلقه وخلق الكرة الارضية التي نعيش عليها؟ ولكنني الان، ارى الحكاية من جانب آخر، وهي الارادة التي جعلته يبني الاثر، وبهذا العلو والضخامة لكي يسهل اقترابه من الله في السماء، وكم انفق العمال من جهد وايام لقاء حقيقة غير مؤكدة عالقة برأسه؟!
لم تكن الحرارة قد استوطنت بكثافة على الارض، عندما مشيت الى الجهة الخلفية للمزرعة، ومفضلاً الدروب الترابية المنحشرة بين اغصان الاشجار على الدرب المسفلت الذي يقطع الخضرة الى نصفين.. كانت كلمات رسالة زوجتي ما تزال ترن في جمجمتي.. لانريد المال، ولكن عد الينا يامروان!
ولقد جلب ابو مولود المكتوب وهو يقول:
- حتى لا تقول اننا نظلمك!
لا اعلم لِمَ شدني أثر عقرقوف بهذه الصورة، وكأنه لم يكن موجوداً من قبل؟ وربما وجوه عائلتي قد اربكت ادراكي للاشياء، وغيرتها على نحو جديد.. كنت احمل الرسالة في جيبي، واعبر السواقي الصغيرة بخفة، واصفر بلحن يشبه هديل الفاختات المنطلق من الاشجار كافة، حتى وصلت الى الاسلاك الشائكة التي تفصل المزرعة عن مزرعة اخرى تشابهها تماماً، ولربما يكون احد رفاقي كتاب الرواية موجوداً هناك يقضي ايامه مع هيلة مختلفة. جلستُ وبدأت أعيد قراءة الرسالة.
زوجي العزيز ابو نعمان
تحية طيبة
قلبي يعلمني انك تمر بأصعب ايام حياتك، وانك في مشكلة كبيرة، فقد تأكدت من ذلك بعد وصول المبلغ الخرافي الينا، لااعرف ماذا اقول لك؟ الالم يسحقنا جميعاً والفراق لايمحى بربع مليون دينار. انت في خطر يا مروان. ارجوك، عد، وارجع النقود الى من جلبها.
ام اطفالك سعاد
بكيت للمرة الثانية، وفقدت القدرة على كتابة الفصول القادمة للرواية بذلك الاندفاع المشروط، وفكرت لأول مرة في الهرب، وبتصميم يهشم المخاوف والمحاذير.. لقد غرقت في دائرة تفكيرهم وانتهى الامر، وبقائي لفترة اطول لايغير النهاية، وانما يؤجلها لحين اكتمال تصورهم الذي يريدونه منا حول الروايات.
وتذكرت حادثة كنت بطلها ولااعرف لِمَ انتفضت من سباتها الان عندما رجعت من التسوق عصراً على دراجتي الهوائية، وكيف كان الناس ينبهونني لسقوط كيس اللحم المفروم الصغير من السلة خلفي، وبالضبط مع مرور الشفل الاصفر المزمجر بهدير محركه. لم استطع اعادة نصف كيلو اللحم الى السلة بسبب تأخري في انقاذه من تحت اطارات الشفل، الذي دهسه وفرشه على اسفلت الشارع. كان الناس متأثرين أشد التأثر، بينما السائق انطلق ولم يعلم انه انزل حرقة مسائية في صدر معلم توقف عن كتابة الروايات منذ زمن. .
لِمَ تذكرت ذلك؟
أبسبب الرسالة؟
أم اطلال عقرقوف كانت تشير الى اشياء عابرة؟!
(9)
وفي احد النهارات، وبعد رجوعي من جولة يومية في اطراف المزرعة الى البيت، رأيت هيلة تبكي ووجهها مليء بالكدمات والدماء اليابسة، وقدميها محمرتين ومرفوعتين فوق الاريكة. كانت ملابسها ممزقة وذؤابات شعرها الامامية ساقطة على وجهها.. اصابني الرعب، وغرقت في هستريا لم اعرفها منذ الحرب الثمانينية.
- تكلمي.
لكنها لا ترد، بل تشير نحو شريط فيديو وضع على الطاولة. بدت المخاوف تزداد كلما تضخم الجهل بالحادثة التي جرت في غيابي. اخذت الكاسيت وذهبت صوب جهاز الفيديو، متفادياً الاستمرار في سؤالها، حتى ظهرت مشاهد التصوير المرعبة، وبات البصر والذهن في غمرة انفعالات جارفة، كان ثلاثة رجال يقومون بضرب هيلة بصورة جماعية، يمسكها احدهم من شعرها الاشقر ليسدد الآخر لكمة الى وجهها، فينبجس الدم من انفها سائلاً فوق شفتيها، والآخر يأتي من خلفهم ليهوي بكفه على خدها، كانت عزيمتي تتضاءل تدريجياً، ووصلت الى حالة لم تستطع قدماي حمل جسدي، فتهاويت على البلاط اللامع. اشاهد الثلاثة وهم يلكمون هيلة كأنها كيس للملاكمة، ويسحبونها من شعرها في انحاء الحجرة، ودون ان يعيروا اهتماماً للعدسة. ثم بعد دقائق جلب احدهم لوحاً خشبياً ربط طرفاه بحبل سميك. انها الفلقة، حيث وضعت قدما هيلة بين الحبل والخشبة، واداروا الفلقة لتكون باطن القدمين مرفوعتين، وضربات بعصا بلاستيكية سوداء نزلت على المكان الذي اختاروه، والثالث كان يضع كفه على فم هيلة لمنعها من الصراخ. كان جسدها يختنق بالالم، وبأشياء غير مفهومة ظهرت مع حركات بطنها ويديها. لقد توقف العقل تماماً، ولم تعد له القدرة على ترتيب مايراه. مات فجأة وسط وقائع فرضت عليه بالقوة، وتوارت قراءات الكتب ومعارفها خجلة الى دهاليز سرية.. ماالذي حدث؟ ولماذا أبصر ذلك في هذه الظهيرة؟ لم تكن ثمة مقدمات تشير الى الصدمة. فالمخيلة مازالت على عهدها لأكمال مخطوطة الرواية، والانتهاء من الامر الرئاسي الذي صدر في قصر يخشاه الآخرون أشد خشية!
هيلة اسيرة النشيج، وصوتي تضاءلت نبرته. لكنه يواصل استفهامه للذي حصل. لاجواب سوى الدماء والوجه المشوه، والصورة في التلفزيون تذهب ليحل بدلها السواد. اطفئ الجهاز واعود الى هيلتي الجميلة. محتضناً اياها بعطف ادخرته منذ عهد طويل. .
كررت السؤال عليها، وقد أنزلتُ قدميها المنتفختين من الاريكة، ووضعت رأسها على صدري في لحظة اخترقت بسرعتها جدار الزمن.
- لم افعل أي شيء!
لم اصدق ذلك، غير انها حلفت بالله عدم معرفتها بما جرى، وأكدتْ ثانية:
- لم افعل شيئاً، صوروني، وقالوا: هذا الشريط الى الاستاذ مروان!
تمسكت بأعصابي لكي افهم اللعبة، واستطيع الوصول الى حفنة من الحقيقة.
كان النهار يجري كعادته، يمضي في رحلته المملة، وهواجسنا تتسع بحجم الخضرة المترامية في الخارج!
(10)
منذ الحادثة، باتت الايام عجلة قلق متدحرجة.. أزاحت عن طريقها الهواجس الاولى والتمنيات حول امكانية الخلاص بانتهاء مخطوطة الرواية. وكانت وجوه الرجال الثلاثة بأجسادهم المفتولة تستقر داخل الجمجمة، فربما يأتون متحزمين بأوامر ابي مولود لانهاء فصول حياتي في هذه المزرعة، تلك هي الحقيقة التي آمنت بها، ووجدتها قابلة للتنفيذ في اية لحظة، وخاصة بعد اختفاء ابي مولود عن زيارتنا الى المزرعة.. ولكن الشك ينبض في مساماتي حول الخطأ الذي اقترفته. هل انطلقت الرواية في طريق معاكس لما يريدونه؟ وان الفكرة التي اخترتها قد صدمتهم واطاشت عقولهم؟ أكان عليّ عدم اختيار اساس الموضوعة وهي حادثة قتل الضابط؟ وترك فهد يغادر وحدته العسكرية هارباً منها، لان الضابط هو رمز يمثل الكل والمجموع، وان قتله بسبب حقيبة تافهة نسيها خادمه يعد جريمة لا تغتفر.
الليلة الرابعة سوداء، وكدمات هيلة أخذت اللون الازرق، والريح تدفع اوراق الاشجار الى جهة الغرب.. اتنقل فوق سطح البيت هرباً من الارق، ومن الكوابيس حيث انام. فقد حملت كوابيس فهد وسليم الحلاتمه معي اينما حللت،
باتوا يشاركونني مخاوفهم من ذلك الآتي الجميل الطلعة، المتخفى دائماً خلف قناع الضعف!!
اضع ذراعيّ على حائط السطح، والبصر يحاول ان يفهم صوت حفيف الاشجار، وسرعان ما يرتد الى الارض المعشوشبة وانعكاس الانوار الكاشفة عليها.
الارجوحة صامتة وسط الحديقة، وزوجتي تنام وحدها - منذ مايقارب الثلاثة اشهر، واطفالي ايضاً، ومازلنا نحن في العطلة الصيفية و......
قد اكون ساذجاً في تذكر هذه الاشياء، ووصفها بتلك الدرجة المؤلمة، فلأترك الاشجار وحفيفها والحديقة والنجوم والمشاهد الرومانسية، واندفع في ايجاد طريقة تزيل جدار عدم الثقة بيني وبين هيلة، فهي اشبه بصندوق يختنق بأسرار الخليقة والكون. هي السر الكامن في قلب الاحداث. المفتاح الذي يكشف بفتح ابوابه الأبيض والاسود، وغالباً ماتصورتها طيبة وخبيثة في الوقت نفسه. تكون معك ان اردتها وتبتعد عنك حين تريدها ايضاً. تجسد دهاء ملوك التاريخ وقسوتهم، وعطفهم على المحتاجين والصعاليك، ولانقاش في كونها خيطاً من خيوط شبكة كبيرة !
ولو استطعت تهشيم ذلك الحاجز لأقتربت من الحقيقة التي تدلني على طريق الهرب، وترك المزرعة ومفاجأتها المخيفة، وكذلك ادع نصف مخطوطة الرواية لأهوائهم الزيتونية، فليقتلوا فهدا بحادثة دهس تقوم بها شاحنة ضخمة، ليبدو القدر الانساني عادلاً تجاه كل من اخطأ بحق البلد واهله، ويكون مصير سليم وروايته الفوتوغرافية وعائلته هو الذوبان وسط النيران بسبب انفجار قنينة الغاز في الفسحة الضيقة لحجرته، وهكذا تبدو النهاية تافهة لمن كان يختنق بالضيق!
(11)
عندما صعد نمرود الى قمة بنائه الحجري المهول، حاملاً القوس والنشاب، كان متيقناً تماماً انه يستطيع قتل الاله، وانهاء الصراع لصالحه. وتأكد ذلك في تصوره باطلاق سهمه عالياً الى بطن السماء. ترافقه صيحات الناس المتجمهرين في الاسفل، الذين قدموا الى المكان عنوة، وتحت ضغط الحرس النمرودي.. غاب السهم لحظات ليعود اليه وقد تلطخ نصله بدهان احمر، وعندها صرخ ونشوة النصر تدفعه الى القفز عالياً: لقد نجحت، فتعالت ثانية صيحات الناس، وغمرتهم فرحة افسر سببها حول السنين الطويلة التي انفقوها في بناء الاثر، وانها لم تضع هباءً!
(12)
جسدي في ساقية رطبة خالية من المياه، وفوقي شجرة التوت الضخمة، محاولاً التخلص من انهاك شديد يلف ساقي، فقد مشيت حول الجهات الاربع للمزرعة، ومع اسلاك BRC بحثاً عن منفذ للهرب. فلايمكن البقاء اسير وهم الخلاص باكمال الرواية، والانشغال ليل نهار بالسؤال الكبير عن السر في اختطافي. اعتقد ان الخروج من المزرعة سيضفي صبغة درامية على الموقعة البشرية الدائرة قرب عقرقوف، ويجعلها تنبض بالمتعة والشوق الى الصورة النهائية لذلك الانسان المسمى مروان بدوي، الملون بخيبات الجوع والعوز، والمعلم لمادة الرياضيات للصف السادس الابتدائي.
لم تكن اصوات الطيور والعصافير تعني شيئاً لي، ولاصوت تطرطش الماء المندفع من خرطوم الماطور الى الحوض الكونكريتي يغويني لخلع ملابسي كما في كل مرة. فالمشكلة اقتربت من نهايتها، ولايمكن اكمال مخطوطة الرواية ووضع شخصياتها في النقطة الاخيرة. معظم الحكايات ناقصة، والمصائر معلقة بيد قوة مجهولة، واشعر بحالة من الضيق لذلك التصور برغم ان فعل الكتابة جاء تحت ضغط ابي مولود ومجموعته الآلية، واعلم تماماً ان الشخصيات بقيت في العدم قرابة اسبوع أو ثمانية ايام، لانني كنتُ متوحلاً بصدمة الخطف والأمر بالكتابة. أي موضوعة اكتب؟ تلاشت احلام المقاهي في تدوين رائعة تتحدث عنها الأجيال. نثرثر ونتجادل حول امكانية امساك الحرية، التي أتت وسط غبار المخاوف والاشياء الفنطازية.. زوجتي تقول ان الكتب تعني الفقر، وجلسات ما بعد الظهر في المقاهي هي عدم الشعور بالمسؤولية تجاه الاسرة، والاقارب يؤكدون انني رجل فاشل، واطفالي ضحايا اب غبي غير مدرك لحالته المعيشية.
مرت اربع ساعات منذ العاشرة صباحاً، وهو وقت ربما أثار شكوك هيلة، فهي العين الساهرة التي لاتنام. لكنني استجبت في الايام الاخيرة للامبالاة، فاضطجعت على طين الساقية المنعش، وبصري يلاحق عصافير مشغولة مع بعضها حول اشياء اجهلها. وبدأت افكر بالشخصيات الثانوية في المخطوطة.. مآرب، تلك الفتاة التي احبت فهداً وتمنت الزواج منه بعد اكمال الدراسة، وكيف انها سترتكب حماقة بنظر اهلها وشجاعة بنظر سليم الحلاتمه حين تنطلق هاربة الى كردستان مع حبيبها، الذي عاد متخفياً الى العاصمة. انها مجرد خطوط اولية ربما تتغير مع قدحة جديدة للمخيلة، والحديث عنها سابق لأوانه، مثل شخصية الاب البخيل وكيف سيعرقل قضية ابنه نتيجة حبه الشديد للمال، وعندها يحلف عناد على ترك الامر للقضاء، لولا اصرار سليم وتنازله عن كبريائه وتوسله اليه، ولكنه يثأر منه حين يكمل روايته الفوتوغرافية بطريقة مثيرة بجعل عناد شخصية تبتسم في سجن ابي غريب، وتحديداً يوم الاربعاء حين ترتفع راية حمراء في الباحة الخلفية، وهي راية الاعدام للمحكومين، وكيف يجلب عناد مجنونين من مستشفى الامراض العقلية لغرض اعدامهما، بدلاً من المجرمين الحقيقيين، وتظهر بعض الصور عناداً وسط المجنونين، احدهم يرتدي دشداشة بازة مقلمة، وثمة خطان اخضران من المخاط اسفل منخريه، وآخر منغولي يبتسم للعدسة مرتدياً قميصاً سمائياً وربطة عنق سوداء.
أكان الناس يعتقدون ان نمرودَ قد نجح في تصميمه؟ أم ان الخوف بدا كبيراً وصنع المعجزات؟
لكن الحقيقة تقول ان المزارع الخضر قرب عقرقوف كانت زاخرة بالشقاء يوم تحركت اول لبنة للبناء.
والان..
ارى هيلة تسير بمشيتها المغرية في الشارع المسفلت بحثاً عني، تحمل مظلة اتقاءً للشمس القوية..
(13)
جاء الخميس الأول بعد الحادثة، وهو يوم انتظرته لكي ارى ابا مولود، واحدثه عما جرى في غيابه، مؤملاً نفسي انه سيغرق في المفاجأة، ويقدم المواساة الى فتاتهم الامينة هيلة، ويؤكد انه سيقتص من الجناة الغرباء الذين دخلوا مزرعته المحصنة. واسررتُ ذلك القول الى هيلة، لكنها لم تتحمس اليه، وقالت:
- حسن، حدثه!
كالعادة، كان خدم يوم الخميس قد نصبوا القنفات على الثيل الاخضر قبل ساعة أو اكثر، وعدوا علب الفلين البيض المملوءة بقناني البيرة والثلج،وعلب الويسكي الكارتونية، وهناك المجامر الكبيرة مهيئة لأستقبال الخرفان الصغيرة. وأخذت المركبات تدخل المزرعة من بوابتها البعيدة وسط اشجار النخيل.. رجال في غاية الاناقة. فيهم الشباب وفيهم من يحمل صلعة لامعة وكرشا متدليا، وآخرون محمرو الجسد، نحيفون، يبتسمون وهم سائرون الى اشجار التفاح القريبة، يوجهون اطلاقات بنادق الصيد الى الاعالي، ومع قدوم المركبات تأتي سيارة الكوستر المظللة بستائرها القماشية الداكنة، وهي محملة بفتيات صغار السن، جميلات جداً، يطلقن الضحكات كمدفع رشاش من باب السيارة وحتى دخولهن ذلك المربع الناقص الضلع، ثم يأتي الضلع وبعد الغروب، بدخول مركبة اهل الطرب، التي تكون مختلفة عن الخميس الماضي، في نوعية المغني واعضاء فرقته. لكن المشابه هو فيما يحدث بعد الثالثة صباحاً، حين تدفعهم ثمالة الضيوف وتحت تهديد السلاح ان يقدموا فاصلة العري والاغاني الريفية والتراثية، فتنساب الالحان والحرقات الداخلية في هدأة الوقت، ومع النسيم العذب وصياح الديوك!
تلك صورة مكررة لليالي الخميس.
ولكن الشيء المختلف هو غياب ابي مولود عنهم، برغم انه كان عريف الحفل في كل مرة، وهذه اشارة على ان تغييراً قد طرأ على خططهم، وربما سيحدث مااخشاه في ان يتخلصوا مني برصاصة مسدس، كما مر الخاطر في رأس سليم الحلاتمه عندما شاهد مسدس عناد في دكان صليوه. لكنني استطيع معرفة مكاني في المقبرة. أي في تلك الكومة الترابية التي تشبه الحدبة على الارض، وتشير بشاهدتها المعدنية عن رقم لايعرف تسلسله الا اصحاب المزارع الزاهية بالخضرة!
واول خميس ابصر هيلة من نافذتي العليا وهي تخرج من البيت الى مكان الحفل. فهي ممنوعة من ذلك في السابق، مثلي تماماً. خرجت مرتدية زياً يكشف عن كونها مدعوة معهم، وبرغم انها جاءت متأخرة، فالليل في منتصفه، والخرفان الموضوعة في الجمر بعلاقات حديدية قد أكتمل شواؤها.
لم استطع النزول وكسر طوق ابي مولود. ربما بسبب سلبية زائدة، أو ايمان بان متسعاً فيه الخلاص قادم لا محالة. ولكن التوتر يزداد كلما حدقت بهم. رقص داخل المربع السلطوي، ودخان يتلوى صعوداً مع نغمات الاورغن وآهات المغني، واطلاقات نار تمزق اوراق الشجر وتفزع العصافير والفاختات النائمات.
لكن هيلة عادت بعدما وزعت التحايا اليهم وبرفقتها رجل في الثلاثين من عمره يحمل شيئاً من الوسامة، فسارعتُ الى ترك النافذة والهبوط الى الطابق الارضي، والذهاب مباشرة الى حجرة المكتب ناثراً قصاصات ورقية على المنضدة.
ادخلتْ هيلة الرجل الحجرة وغادرت بعدما قدمتني اليه بأشارة من يديها :
- استاذ مروان.
الجميل انني ما زلت احمل لقب الاستاذية حتى هذه اللحظة. تركتني معه. كانت ملامحه توحي ان القسوة غائبة على الاقل هذه الليلة، فقد بادرني بأبتسامة وعبارة جميلة ومفاجئة:
- لي الشرف ان اتحدث معك.. انا بلاسم الكنكوني!
بقيت المجاملات تتقافز في المكان بضع دقائق، حتى أنتهت وشرعت تظهر حقيقة وجود الرجل معي، أذ قال:
- قرأت نصف مخطوطة الرواية، وكانت دهشتي الأولى في كونها بلا عنوان.
- حقاً، هل انت الخبير؟
- أجل، الخبير الثاني، وسينتهي الخبير الثالث من قراءتها يوم الغد. واعتقد ان رأيي ورأيه سيكونان متطابقين عكس رأي الخبير الأول، الذي وجدها تحمل من الكذب ما لا يطاق.
- وأنت؟
- برغم كونها مغالية بعض الشيء فيما يخص فهد وسيده الضابط، الا انها تعبير عن الادب المشاكس.
- لقد كتبتها بفعل صدمة لم افق منها حتى اللحظة!
- نعم بالتأكيد، زملاؤك الاخرون المتوزعون في المزارع يعانون من المشكلة ذاتها!
- استاذ بلاسم، اريد معرفة الدافع من كل هذا؟
- نحن نريد اشياء قد تبدو لك غير صادقة. مثلاً، معرفة امكانيات كتابنا في الداخل على تقديم نموذج متميز. وربما نوافق على نشره لتأكيد الحرية في بلادنا، وعلى العكس من المتخاذلين في الخارج، ورواياتهم المملوءة بالشتائم فقط على حساب الفن.
ارتمى بصري على لوحة زيتية خلفه، تمثل ظهري شخصين يسيران الى مكان ما. لكنني عدتُ اليه مستفهماً:
- اناقد انت؟
- نعم، ولكن في الكواليس الخلفية.
ثمة دهشة تغطي المكان، ثم تنفرط الى دهشات صغيرة تتوزع على مدار اللحظات، وهذا حلم تحقق بطريقة عكسية لما تمنيته سابقاً في حياتي الرتيبة، ويومها كنت اصرخ في صدري: اريد دهشة بحجم العالم، ووجود له صبغة ملونة، وذاكرة خصبة تخلو من الكوابيس..
- استاذ بلاسم. قل لي متى اخرج من المزرعة؟
- انتظر رأي الخبير الثالث غداً!
ثم أردف قائلاً:
- وربما تكمل روايتك!
قلت له:
- وأين ابو مولود؟
اجابني وهو ينهض:
- لم يعد مسؤولك المباشر!!
(14)
انفضت السهرة الرئاسية عند الفجر، وخرجت المركبات تباعاً من المزرعة، وبدت الحديقة كساحة معركة منتهية. طاولات مقلوبة وقناني ويسكي فارغة وعلب فلين مكسورة واقداح وكومة ملابس ربما تعود لمغني الفرقة الموسيقية.
وعادت هيلة من ذلك الخراب مخمورة. تتمايل وتسقط على الثيل، ثم تنهض بخطوات وئيدة الى البيت. تركتُ النافذة وهبطت اليها، فوجدتها تلعن ابا مولود وسط وحل ساقية صغيرة. ملطخة بالطين عند وجهها المليء بالكدمات الزرق وبنطلونها ويديها.. كانت تشتم ابا مولود بعبارات داعرة ايضاً. انها شجاعة أتت بعد حفلة ماجنة وفجر هادئ.. رأيتها بأم عيني وسمعتها بأذني تخرج عن صمتها وخوفها!
ابن الكلب..شاذ!
كانت تردد ذلك بأستمرار. ساعدتها في النهوض فتلطخت ملابسي، وأدخلتها الى غرفة الضيوف الفخمة، وغير مبال بما تحمله من وساخة الى البلاط النظيف.
- انت الشريف فقط يامروان!
لعل الحقيقة بدأت تبرز من خلف جبل اجرد، والمتاهات تغادر، والوهم يتفتت مع نور الفجر الفضي!!
الكثير من الناس الأن يستيقظون والبسملة في أفواههم للقاء يوم عمل جديد. باعة السجائر المنتشرون على الأرصفة، والموظفون، والجنود في ساحات العرضات، وسواق مركبات الأجرة، والشحاذون عند الأشارات الضوئية، و....، جميعهم يتمنون بركة من عند الخالق.
- يرسل ثلاثة كواويد(*) لضربي!
سأدعها تنثر اليقين الأرضي، وأشارك يديها في خلع فانيلتها البيضاء الضيقة بسحبها الى الأعلى، ليبدوا ثدياها في صدرية خاكية، والبنطلون البني عصي على الانتزاع في هذه الجلسة، فأضطجعت على الأريكة، لأسحبه بكل سهولة، وأكشف عن سروالها الخاكي المختنق بين فخذيها الرجراجين!
- أراد أن يخيفك، فكنت الضحية!
ونهضتْ من الأريكة، وهي تقول بحرقة:
- لا يهم، فأنا مجرد(حيوانه).
أحتضنتها بأشفاق. لقد أنهارت فعلاً. فهي تحمل الكثير من حقائق العالم الزيتوني، والصورة واضحة امامها. ليس مثل صورتي الغائمة، فالوشوشة ما زالت ملعونة وقبيحة في رأسي. وهذا جنون ضئيل أخشى ان يتضخم فتكون الكارثة، وتبدو وجوه الناس أقنعة تتغير مع الدقائق، والكلام عبارة عن حركة للشفتين واصوات طائشة في فضاء يخلو من الجاذبية. ولم تعد هناك نقاط نسعى للوصول اليها. يصبح الوجود كتلة صماء. عالم يبحث عن فتحة للتهوية.
- سأرقص حتى الصباح والظهيرة والعصر و.....
ضرب الرجال الثلاثة هيلة بأمر من ابي مولود الذي اراد ايصال رسالة لي. اعتقد انه ينذرني بقوته، وسخطه على مخطوطة الرواية. لكنه لم يقل لي صراحة عن ذلك. لماذا عمل هؤلاء يتسم دوماً بالغدر؟ والعمل خفية بأشياء يستطيعون الحصول عليها بأبسط الاساليب؟ كان يأتي دوماً بوجه بشوش ضاحك، ويبدي احترامه لي حد التمثيل.
- خيوه بنت الديرة، خيوه حلوة صغيرة. (*)
ارقصي يا هيلة بملابسك الداخلية وأنسي هموم المزرعة، ولا تفكري بمروان وروايته غير المعنونة.
وخلعت حمالة صدرها وسروالها فاصبحت عارية، خفيفة تقفز هنا وهناك، وأثار السكر تغادرها دفعة واحدة. تثرثر بأسماء شخوص لا أعرفهم. تدور وتبكي وتضحك وتصفق، واشتهيت ان اشاركها اللعبة وادخل في عوالمها، فخلعت ملابسي رامياً القميص على الثريا المؤتلقة في السقف، والتصقت بهيلة الى حد الذوبان. ولكن دون شهوة، بل في رحلة عناق ابدي، وامتزاج مسكر خارق للعادة، ايدينا تقبض جسد الآخر وتعانقه بشراسة، وأشعة الصباح تدخل متدفقة من الشباك الكبير المواجه للحديقة.. نقفز معاً، ونبكي، ونصرخ محدقين بالسقف، وباللوحات الجدارية الكبيرة، وبالسيوف المتقاطعة، وبصور السيد رئيس الجمهورية. نقفز بأستمرار دون أن نترك لعقولنا تمييز هذه الفعلة وسببها، لكننا ندرك فائدتها بالراحة والصفاء اللذين نشعر بهما. أنها لحظة فريدة أندفعت خارج حسابات الوقت والمكان. ذوبان رهيب ابعدنا عن المزرعة والرجال السيئين. حالة استغراق كاملة مع مطلق يزدهي بالوضوح، ولأول مرة اقترب من ملامسة الأشياء التي لا تسمى، وجاءت عن طريق التجربة والدخول في قلب المشكلة، ولم أصل اليها سابقاً برغم قراءتي الآف الصفحات..
وأجمل اللحظات تلك التي كانت ترفعنا عن البلاط، وتدفعنا بشوق الى الحمام، نحلق مع الدموع، وهذه ليست عبرات الحزن اطلاقاً، انما اشياء ثقيلة تسقط عنا، نبعدها بمشيئتنا وأصرارنا على أزالة جمهرة الخسارات، ولو الى حين. قبل ان نتعانق بشدة تحت دش الحمام، تحت المياه الساقطة، على جسدينا الملتحمين، وايدينا المتصالبتين بفرح بدائي أخاذ، بينما النثار اللؤلؤي لحبات الماء يبدأ من عنق هيلة الى مؤخرتها التي بدت هذه المرة قاصرة عن تفجير شهوة الآخر. كانت بلورتان في غاية الجمال. تنعكسان بدقة على مرآة الجدار الفرفوري الابيض، وتحتهما ساقان ابصرهما لأول مرة على هذا النحو.. كانت هيلة هادئة تضع رأسها على صدري. تغرق بالصمت وبأشياء بعيدة المنال!
كنا ندرك ان الزمن يمر.
وأن ابا مولود قد غادر المزرعة الى الابد!
(15)
نمنا حتى الظهيرة في فراش واحد، عاريين بلا غطاء، اشبه بطفلين استراحا بعد نزق نهار كامل، ولا اعلم سبب يقظتي بالضبط. نباح كلاب المزرعة المجاورة؟ ام هاتف خفي تسرب في جسدي الغافي وذكرني بموعد الخبير الثالث، الذي سيأتي ومعه نصف مخطوطة الرواية؟
كانت هيلة نائمة، فمها مفغور قليلاً، وشعرها الذهبي يغطي الوسادة، وخيل الي انها ستبقى هكذا الى الأبد. قريبة مني وبعيدة عنهم. استطيع عبرها تلمس خطواتي الى خارج المزرعة. فالهرب فعل ثوري صعب، يثير راحة في النفس، وقيمة عليا لموقفي القديم الذي شيدته منذ سنوات، وجعلت اسرتي تدخل عنوة دائرة الحاجة والعوز، وربما بقائي لأكثر من اربعة اشهر في هذا المكان هو فشل في امتلاك ارادة قوية عنوانها الصدام معهم.
عند العصر كانت مركبة من نوع مرسيدس حديثة سوداء تدخل المزرعة. كنت وقتها جالساً على الأرجوحة احدق في السماء، ومع تضاؤل المسافة بيني وبين المركبة بدت ملامح الشخص الجالس قرب السائق تتضح وترسم دهشة ثقيلة. توقفت المركبة امام باحة البيت ونزل منها عبد الودود الأخرس. الكاتب الروائي المعروف بكثرة اصداراته الشهرية. احتضنني بلهفة وقبلات على الخدين، بينما اندفعت فتاة كانت خلفه في المركبة الى البيت وصرخات هيلة من الشرفة عالية: جنان، جنان.. بادلت عبد الودود التحية. انه رفيق اسواق الكتب ومقاهي السبعينات. وجدت نفسي اسحبه بلهفة للجلوس على الأرجوحة واسأله عن شارع الرشيد وباب المعظم، وعن الرفاق ممن يدمنون المقاهي طيلة النهار. كان يبتسم ويجيب: كلهم بخير.. ولم استفسر عن وجوده في المزرعة خوفاً من تهشم امل ولد بالصدفة.. مسكت كفه مراراً وانا اتحدث عن اهلي والعاصمة الجميلة، ودون ان اتطرق الى هزائمي المتتالية في المزرعة، لأنني اريد منه ان يبدأ هو بينما انا اتمترس في خنادقي . لن اسعى بلساني الى الكارثة، بل اترك لأذني أستقبالها.. لكنه عبد الودود الأخرس، خبيري الثالث الذي انتظرته! وتلك هي الحقيقة.
قدم سيجارة لي فأخذتها واشعلت سيجارته، وقال:
- يا مروان، لو سمعت كلامنا لما حدث ذلك.
- لم يحدث شيء، طلبوا مني كتابة رواية كما كانوا يطلبون منكم.
- الأمر مختلف. نحن نتقاضى بدلاً عنها ملايين الدنانير، أما انت فربما تخسر حياتك!
بدت الحقائق تنهال يوم الجمعة، كبيرة، ومتوحشة، وغادرة.
قلت:
- أرادوا مني أن اكتب بهذه الطريقة.
- لقد دخلت في لعبة أهواء وعقول تحركها النزوة!
- ماذا تقول؟
- نعم، انت صديقي، ولن أخشى من صراحتي معك. حالما تنتهي من المخطوطة ربما يقتلونك، وربما ايضاً تذهب روايتك الى نيران الموقد.
- ارجوك، كف عن تعذيبي.
رمى عقب سيجارته. كانت المزرعة هادئة، والأرجوحة تهتز قليلاً، وهيلة تنشغل بحديث ساخن مع جنان في الشرفة.
قال عبد الودود الأخرس:
- ولكن لا تخف. عليك فقط ان تستوعب ما اقوله لك.
صمتنا معاً، وحدنا، المركبة السوداء قربنا، والسائق اندفع صوب اشجار العرموط.
- سيكون النصف الثاني من الرواية تحت أمرتي. أي سأتلو عليك حركات الشخوص وأقوالهم، لعلني استطيع تعديل الأعوجاج الذي سببته.. لا بد لي ولك ايضاً أن نجلب فهداً من الشمال مقراً بذنبه، ولا يهم ما سيلقى من مصير، ونجعل سليم الحلاتمه متفائلاً ومرحاً يحب الحياة كصديقه صليوه، وابن خالته عناد، تلك الشخصية الايجابية الوحيدة عندك، وسيجد عناد وظيفة لسليم تنقله من جحره في حي المنكوبين الى منزل فخم مرصع بالمرمر على نهر دجلة.
ولكن الكارثة والمصيبة تكمن في أمر السرية الذي قتل في الصفحة الأولى. ولا يمكن اعادته الى الحياة.
- جميل، جميل جداً.
- تسخر مني؟
- لا، بل امجد مخيلتك الفذة.
- ابا نعمان، اسخر مني وقتما تشاء، ولكن تذكر ان ايامك ربما معدودة.
- الغ المخطوطة، واكتب رواية انت.
- فكرت في ذلك، لكن مخطوطتك قرأتها المراجع العليا، ووضعت التقارير بشأنها.
- مهزلة!
- اجل،( مهزلة العقل البشري)(*) !!
لم تعد في المزرعة نسمة هواء، أحسست بالضيق. عرق بارد يغلف جسدي. اثر عقرقوف ينتصب هناك. بقى مئات السنين دليلاً على خلود الألم. يشير بفوهته الكبيرة على ان الزمن القادم اجوف ومثقوب.
عبد الودود الأخرس يرمي نظراته الى الاشجار والسماء، لكي يدعني اراجع اوراقي الخاصة.. اسم جديد دخل اللعبة حاملاً هواجس الكبار. لعله كان السبب في ما جرى حتى الأن؟ ولكنه صديق قديم قبل مرحلة العوز. انقلب من النقيض الى النقيض في طرفة عين، او لأقل في ليلة واحدة. حدثنا في الصباح انه سيدع قلمه يسير بالأتجاه المريح، السهل، الذي لا يتطلب خلق مدينة اسطورية يحتقن تأريخها بالأزمات. بل يدون الصفات فقط، ويلصقها بملابس خاكية وأمهات يبكين بدموع الفرح حالما يشاهدن نعوش ابنائهن..
- افعل ما تشاء!
ابتسم عبد الودود، وقبلني بحركة مفاجئة، قائلاً:
- سأخرجك من المأزق.
- المؤلم في الامر انني لم افهم ما يحدث!
- ابقى في جهلك حتى تعود الى اسرتك!
حدقت الى الشرفة فوجدتها خالية، ثم الى سائق المرسيدس الكهل وهو يتسكع بلذة المكتشف لأوراق الشجر.. من يزود الناس بطاقة الاستمرار للعيش؟ اغلب الايام مفترقات طرق وحواجز واشارات مرورية بلون احمر فقط، والغريب اننا ننفق اعمارنا دون اللحاق بما نريده. ذلك الشهاب الساقط من علو قصي. مجرة نائية وحلم بعيد المنال. ضوء سطع ثم اختفى في لجة معتمة.
(16)
وذهبت تلك الجمعة!
عبد الودود الأخرس!
جنان!
عطل المخيلة!
رحيل هيلة عن المزرعة!
ما زلت أتذكر تلك اللحظات وكأنها البارحة. ودعتُّ هيلة بعينين دامعتين وهي تصعد سيارة المرسيدس مع عبد الودود. تلوح لي بكفها ثم تغيب مع استدارة شارع بوابة المزرعة. دخلتُ البيت مع جنان. فتاة سمراء بشعر اسود، ممتلئة، وعينان نجلاوان، وبسمة لا تقوى على اخفاء حزن قديم.
شعرت بالوحدة مراراً، كلما وجدت ملامح اسرتي على الاشياء. تستفهم مني ما حدث. لا أرى اجابة، لأن نزوتهم بلغت ذروتها، وكوّنت لعبة جديدة لم يعرفها البشر السابقون.
من يدرك حقيقة ما جرى لحظة بلحظة؟
قال عبد الودود انني اصبحت رمزاً للتحدي والشهامة!!
بطل الحروف والرؤى والمواقف!!
نشرت ملفات ادبية حول حياتي وكتبي في (الصحف المعادية). شهادات الاصدقاء وحكاياتهم معي مهما كانت تافهة. اما داخل البلد فأن الهمس والحذر واجبان. اجل. مروان بدوي اسم من الاسماء التي رحلت.
أتت جنان وغادرت هيلة، ثم غادرت جنان وأتت لميس، ثم اتت هند وغادرت لميس، ثم غادرت هند وأتت....، لتكون الحصيلة انصاف ست مخطوطات روائية. اكتب النصف الأول فقط بمخيلتي، ليكمله بعدي عبد الودود الأخرس ورشيد الثائر وقتيبة المهاجر وسلمان المرقط وحميد البمبري ودريد الحلو!
كل رواية اشرع بكتابتها تتقدمها جيوش من النصائح والأوامر والمقاييس التي ينبغي الأذعان اليها، برغم انها ضبابية، متقلبة، ومتغيرة مع الساعات..
بأختصار......
كان القلم يعشو بحثاً عن الخلاص، يطرق ابواب الجنون وينشد الوصول الى مبتغى مؤجل !!
انتهت
نيسان- آب 2004
(*) البيرية: القبعة العسكرية
(*) المراسل: الجندي الذي يخدم الضابط في الجيش
(*) الفصل: حكم عشائري
(*) جيم ميم: كناية جندي مكلف
(*)و(**) كلاوجي ولوتي: من المفردات الشعبية البغدادية وتعني الشخص النبه المصلحي
(*،*) البسيتين وشرق البصرة:من معارك الحرب العراقية الايرانية
(***) ام القطط:ام المعارك
(*) فرمو: عبارة كردية وتعني تفضلوا بالدخول
(*) شروال: سروال عريض جدا
(*) خبز رقاق: خبز كردي
(*) صيغة عتاب كردي
(*) جراويات: لفافة اليشماغ
(*) ابو خليل: كناية اهل العراق للرجل العسكري
(*) عين وخبط وسلق: ثلاث حالات لانضاج البيضة
(*)طمطمة القضية: لملمتها
(*)عقرقوف: بناء تأريخي في ضواحي بغداد
(*)العرموط: الكمثري
(**)كاولية: غجرية
(*) القنفات: الاريك
(*) اغنية عراقية تراثية
(*) العصاة: تسمية تطلق على الاكراد المتمردين على الحكومة
(*)كواويد:جمع قواد
(*) اسم كتاب لرائد علم الاجتماع العراقي علي الوردي