معرض القاهرة الدولي للكتاب
فعالياتٌ محدودة ونهاياتٌ مفتوحة
احتفت الثقافة العربية للمرة الواحدة والأربعين بالحدث الثقافي المصري الأكبر، والمتمثل في معرض القاهرة الدولي للكتاب، والذي افتتحت فعالياته في الحادي والعشرين من يناير، واختُتِمت في الخامس من فبراير، بمشاركة سبعةٍ وعشرين دولةً عربية وأجنبية تمثلهم ستمائة وخمسة وسبعين دار نشر، في ظل أزمات متنوعة يشهدها العالم والمنطقة، ألقت بظلالها على ذلك الحدث الثقافي الكبير، مما طبع هذه الدورة بطابعٍ خاص من الإيجابيات المحدودة والسلبيات المتعددة، ناهيك عما قامت به اللجنة المنظمة للمعرض من إجراءات تنظيمية ووقائية، أحالت المعرض إلى ثكنةٍ عسكرية، حتى يخال داخلُ المعرض أنه يخترق أحد المعابر الحدودية لدى دخوله من إحدى بوابات أرض المعارض بالقاهرة. وبين المقهى الثقافي وقاعة 6 أكتوبر غابت من المشهد تماماً عدة عناصر اعتاد زوار المعرض وجودها في الدورات السابقة، فقد افتقد المثقفون لحظات لقائهم على المقهى الكبير، الذي كان يتسع لحواراتهم المفتوحة خارج الندوات الرسمية، وإيقاعها المنتظم الرتيب. كما افتقدوا مخيم الإبداع الروائي الذي كانت تقيمه هيئة الكتاب بإدارة الدكتورة سهير المصادفة، والذي كان يمثّل مجالاً مفتوحاً لمناقشة الأعمال الأدبية المختلفة، ويقدم لزوار المعرض أصواتاً أدبية ونقدية جديدة، تختلف عن تلك التي يقدمها المقهى الثقافي الذي يستضيف أسماء لها حضورها المعتَمد لدى الجماهير ولدى الوسط الثقافي أيضا. كما افتقد زوار المعرض من العامة مخيم الإبداع الفني الذي كانت تقيمه الهيئة العامة لقصور الثقافة للفرق الفنية المختلفة، ذلك المخيم الذي كان يشهد حضوراً جماهيرياً كثيفاً، والذي كان لا يكتفي بالترويح عن زوار المعرض وبث المتعة في نفوسهم، وإنما كان يحمل فرصاً للتعريف بفرق الهواة والموهوبين، ويكشف عن جانبٍ آخر من جوانب النشاط الفني والثقافي المصري يختلف عن ذلك الجانب الذي يمثله الكتاب المطبوع. ولم تكن مبررات اللجنة المنظمة للمعرض هذا العام كافيةً للرد على ما أثير من قضايا حول دورته الحادية والأربعين، وتحديداً ما صرحت به بعض دور النشر المصرية، قبل بدء فعاليات المعرض، من عدم تسلمهم المساحات المخصصة لهم إلا قبيل انطلاق فعاليات المعرض بأسبوع واحد فقط، مما هدد قدرتهم على تجهيز تلك المساحات لعرض مطبوعاتهم بالشكل اللائق، كما أثار منع بعض دور النشر العربية الكثير من الانتقادات والتساؤلات، كدار الساقي والانتشار العربي، والهادي، والآداب اللبنانية، والتي صرح المسئولون عنها لبعض الصحف بأنهم بُلِّغوا شفوياً بأن سبب هذا المنع هو "أوامر عليا"، بينما حاول بعض المسئولين بالهيئة المصرية العامة للكتاب سوق بعض التبريرات المنطقية شكلاً، والمتمثلة في تأخر هذه الدور وغيرها عن التقدم برغبتها في المشاركة بمعرض 2009 في المواعيد المحددة لذلك، كما برروا إلغاء جزء من الفعاليات والأنشطة الثقافية، وتضييق مساحات العرض، بوجود مشاريع معمارية قيد الإنشاء داخل حيز المعرض، مما أثّر ـ على حد تصريحاتهم ـ على المساحات المخصصة لدور النشر والأنشطة الأخرى المجاورة لها. وعلى جانبٍ آخر كان من المفترض أن يكون احتفال هذه الدورة بالقدس كعاصمة للثقافة العربية احتفالا له طابعٌ خاص في ظل مجيء المعرض مباشرةً بعد الحرب الإسرائيلية الغاشمة على غزة، واعتبار هذه الاحتفال بالقدس كعاصمةٍ للثقافة العربية رداً مباشراً على الأحداث، وتلبيةً لتوجيهات الجامعة العربية بضرورة احتفاء كافة العواصم العربية بهذه المناسبة، لكن ذلك الاحتفاء اقتصر على معرض للصور الفوتوغرافية عن تاريخ المدينة، وندوة أدبية عن مكانة القدس في الأدب العربي بمشاركة الفلسطينيين عبد القادر ياسين ومريد البرغوثي والليبي أحمد إبراهيم الفقيه، هذا بالإضافة إلى ندوة فنية بعنوان (القدس ومكانتها في الفنون التشكيلية) شارك فيها فنانون تشكيليون هم أحمد نوار وعز الدين نجيب ولطيفة يوسف، ورغم ما قام به المنظمون من جهد تنظيمي لإقامة هذه الندوات، إلا أن ذلك الجهد لم يشبع رغبة الحضور، إذ اقتصر الأمر على البعدين الثقافي والتاريخي للمدينة، دونما تطرق أو محاولة إضفاء بعد سياسي على تلك الاحتفالية، بل يبدو أن الجهد الأكبر كان منصباً على تهميش ذلك البعد السياسي لأسباب تتعلق بالسيطرة على فعاليات المعرض، وعدم إحداث قلاقل أمنية داخله، ودليلُ ذلك عدم الدعاية الكافية لمثل تلك الندوات والفعاليات، في مقابل حشد الدعاية للمحورين الموازيين "مصر وأفريقيا" و "الإبداع الثقافي والوسائط الجديدة"، وهي ندوات جاءت كالعادة مقصورةً على حضور الإعلام الرسمي ورجالات المؤسسة، وقليل من المهتمين والدارسين، ونذر يسير جدا من الزوار العاديين الذين تصادف وجودهم في مكان انعقاد الندوات، غير أن الندوة الأخيرة تميزت بحضور جيد من قبل المبدعين الشباب المهتمين بالنشر الإلكتروني ودور الوسائط المتعددة فيه، والذي يبدو أنه حمل متنفساً لهم في ظل أزمة الكتاب المطبوع التي لا تزال تفرض نفسها بأشكالٍ متنوعة على المبدع والمتلقي على حدٍ سواء. أما فيما يتعلق بحركة الكتب ودور النشر والقوة الشرائية للزوار، فيبدو أن الأزمة المالية العالمية ألقت بظلالها على معرض هذا العام، والتي تبدت في تناقص أعداد الزوار بشكلٍ ملحوظ، ناهيكَ عن الافتتاح الذي تزامن مع أواخر امتحانات منتصف العام الدراسي، وعدم فتح أبواب المعرض في أيام الجمع إلا بعد الثانية ظهرا، وقد ظلت عناوين الكتب الأكثر مبيعاً مقصورةً من جهة على الكتب الدينية المشهورة ككتاب عائض القرني "لا تحزن" (للعام الخامس على التوالي)، ومجلدات الفقه والسيرة التي تقدم دور النشر المتخصصة فيها تخفيضات خاصة عليها، ومن جهة أخرى كانت الأعمال الأدبية والفكرية التي أُحدثت حولها ضجةً إعلامية سبقت المعرض كرواية "عزازيل" للدكتور يوسف زيدان و"وداعاً أيتها السماء" لحامد عبد الصمد، وكتاب "تاكسي حواديت المشاوير" لخالد الخميسي (للعام الثاني على التوالي)، ومؤلفات إبراهيم عيسى وكتب الدكتور زغلول النجار والشيخ الشعراوي، ومثنوي جلال الدين الرومي الذي قدمه المجلس الأعلى للثقافة في جناحه بتخفيض وصل إلى ثلاثين بالمائة. ولكن ظل سعر الكتب المختلفة في العموم عائقاً عن الوصول إليها، خاصةً في ظل توقعات المهتمين بانخفاض أسعار الورق مستقبلاً، واحتمالات إلغاء التعريفة الجمركية عليه في ظل القرارات المتتالية لمصلحة الجمارك المصرية، والهادفة إلى رفع كفاءة السوق وجذب الاستثمار لمجابهة الأزمة الاقتصادية العالمية. وفي مقابل ذلك الإحجام الجماهيري النسبي عن الشراء حاولت دور النشر المختلفة تنشيط حركة الزوار فيها عبر حفلات التوقيع المقامة داخل مساحات مخصصة لتلك المراسم لم يعلن عنها للأسف بشكل جيد، وقد حظيت دار الشروق بحفل توقيع متميز للطبعة الخامسة (في أقل من تسعة أشهر) من رواية "عزازيل" ليوسف زيدان، بينما أقامت الدّار المصرية اللبنانية حفل توقيع للكاتب الصحفي والمذيع خيري رمضان بجناحها، وذلك لكتابيه:"صرخة العار" و"نوافذ الاشتهاء"، وقد حرصت دور نشرٍ أخرى كميريت، ودار الجديد اللبنانية، واتحاد الكتاب العرب، على إقامة هذه المراسم الاحتفالية على اختلاف مستوى النجاح الذي تم تحقيقه من خلالها. والجدير بالذكر أن جناح المملكة المتحدة شهد نشاطاً غير مسبوق كضيف شرفٍ لدورة هذا العام، وقد تنوع ذلك النشاط بين الثقافة والفن والندوات واللقاءات، وذلك برعاية عدة هيئات هي :المجلس الثقافي البريطاني ومعرض لندن للكتاب وهيئة الناشرين ورابطة الناشرين المستقلة، وفضلاً عن المشاركة الفنية المتميزة التي قامت بها المملكة المتحدة والتي تمثلت في عدة أفلام سينمائية ما بين تسجيلية وروائية، تم عرضها في فعاليات المعرض بجناح المملكة المتحدة، كما أقيمت عدة ندوات عن جذب الشباب للآثار والتاريخ المصري القديم، واستخدام الأسطورة في الأدب المعاصر، واستلهام الكتاب للثقافات المغايرة لثقافتهم، وسياسات الترجمة، والترجمة بين اللغتين العربية والانجليزية، ودور الكتابة في تناول الأحداث الساخنة في عالمنا المعاصر.وكان من اللافت للانتباه ذلك الحضور اللافت لكتاب القصة القصيرة الانجليز مثل: "أنتوني هورويتز، وروزيف، وديفيد ألموند، ومشاركة الروائي بن أوكري الفائز بجائزة البوكر الدولية، والروائيتان الشهيرتان: مارجريت درابل ومارينا وارنر، فضلا عن تقديم عدد الشعراء والأصوات الجديدة في الشعر الانجليزي المعاصر مثل: بول فارلي، وليونتا فلين، ومينا إلفين. لكن السمة الغالبة التي طبعت ندوات وأنشطة المعرض هذا العام، والتي استشعرها العامة والخاصة، هي غياب نجوم الأدب والفكر والفن عن المشاركة كما كانت بشكلها المعهود، فباستثناء ندوة المخرج الراحل يوسف شاهين بقاعة المراسم، والتي حضرها مجموعة من نجوم السينما المصرية، افتقد المعرض ندوات اعتاد عليها رواده لنجوم السينما والتلفزيون المصريين والعرب، كما افتقد الزوار ذلك التدافع على بوابات قاعات تلك الندوات، وعلى المستوى الأدبي والثقافي لم يشهد معرض هذا العام حضوراً جماهيرياً لندوات نجوم الأدب، كتلك التي كانت تقام للأبنودي أو فاروق جويدة أو محمود درويش، وجاءت ندوات المقهى الثقافي باهتةً ومقصورةً على شاغلي المنصة ومعارفهم وأصدقائهم، والقليل القليل ممن يمكن وصفهم بالمهتمين بالأدب والثقافة، ولم تثر تلك الندوات حالةً من الجدل الثقافي أو تحقق الأهداف المرجوة، إلا في أضيق الحدود. غير أن القليل من هذه الندوات، وهو عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ترك أثراً بالغاً في الساحة الثقافية امتد لما بعد انتهاء فعاليات المعرض، وأكبر شاهدٍ على ذلك تلك الندوة التي أقيمت بالمقهى الثقافي تحت عنوان "الظواهر الجديدة في قصيدة العامية" والتي أدارها الدكتور يسري العزب والشاعر طاهر البرنبالي، وتناولت قصيدة النثر العامية وإبداعات شعرائها، وقد كان من بين الحضور عدد لا بأس به من المهتمين بالشعر عامة وشعر العامية وقصيدة النثر خاصة، وكان على رأسهم الشاعر المصري الكبير محمد عفيفي مطر، الذي طلب من المنصة الكلمة للتعقيب، ففتح النار على قصيدة النثر وكتابها، وجاء في كلمته أن قصيدة النثر نوع من البلطجة الأدبية، ونهب للقيمة بلا جهد ولا تعب، وأشار إلى أنها الآن نتاج العجزة الذين لا يقومون ببذل الجهد، فيقدمون نوعاً من تداعى الخواطر، ولا يهتمون بالبناء والخيال، ويملئون اللغة بالثرثرة.. وفي تعقيبه على الصراع بين العامية والفصحى ذكر مطر أنه لا صراع بينهما، بل إن فكرة التجديد الموسيقي في شعر الفصحى كانت معتمدة على الالتفات إلى الشعر العامي، حيث العلاقة بينهما عميقة، وأضاف مطر أن الفصحى والعامية هما جناحان للشعر، يطير بهما في فضاء الإبداع، ولابد من التفريق بين الشعر والزجل، حيث يمثل الزجل وقائع يومية مباشرة في النقد الاجتماعي والسياسي، والبعد عن الخيال، على نحو أقرب إلى اللغة المنطقية. أما الشعر فهو طاقة الخلق وهدم المعايير بالخيال. وقد وافق الشاعر طاهر البرنبالي مطر في اختلافه مع من يكتبون شعر العامية بالنثر، لأن شعر العامية ـ حسب رأيه ـ سمعي وشفاهي، بما يتطلب الوزن بدرجة أعلى. أما كتابة الشعر بالنثر فتتحول إلى مناجاة للنفس وعشوائية، ومن جانبه شن الشاعر والناقد الدكتور يسرى العزب هجوماً صاخباً على كتاب قصيدة النثر، واتهمهم بأنهم لا يعرفون الموسيقى، فيطلقون على ما يكتبون "قصيدة نثر"، فصنعوا بذلك فجوة بينهم وبين المتلقي. وقد كانت آراء المشاركين في هذه الندوة بمثابة شرارة أشعلت فتيل الأزمة في الأوساط الثقافية المصرية والعربية، خاصةً وأنها ذكَّرت الفريق المدافع عن قصيدة النثر بهجمة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي على قصيدتهم في كتابه الصادر قبل انطلاق فعاليات المعرض بأسابيع تحت عنوان "القصيدة الخرساء"، كما أن توقيت الندوة تزامن مع استعداد هؤلاء الشعراء لإقامة مؤتمر قصيدة النثر، المزمع عقده في شهر مارس المقبل بنقابة الصحفيين المصرية، مواكباً لمؤتمر الشعر الذي يقيمه المجلس الأعلى للثقافة ممثلاً في لجنة الشعر التي يرأسها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وقد رأى المهتمون والمشاركون بالندوة من أبناء قصيدة النثر أنهم مستهدفون من قبل المؤسسة الرسمية وأعضائها من الشعراء، فانطلقوا في الدفاع عن وجهة نظرهم وقصيدتهم في المحافل المختلفة، مؤكدين على تمسكهم أكثر مما سبق بإقامة مؤتمرهم الحر، ودعوة الشعراء والنقاد العرب من كافة الأقطار لمشاركتهم فعالياته التي ستمتد بموازاة المؤتمر الرسمي منتصف مارس المقبل. ولعل رأي الشاعر الكبير مطر لم يحمل في حد ذاته صدمةً لأبناء قصيدة النثر، فهي ليست المرة الأولى التي يردد فيها مطر رأيه هذا بكل صراحة، وإنما التوقيت في حد ذاته هو الذي سبب لهم تلك الصدمة، خصوصاً وأنهم كانوا يعتبرون الهدنة بينهم وبين المؤسسة الرسمية ـ التي تمثلها لجنة الشعر لا عفيفي مطر ـ ممتدة بعد توقف المساجلات حول كتاب حجازي، وكان أغلب ظنهم امتدادها حتى اقتراب موعد المؤتمرَين المتزامنين، إلا أن ندوة "الظواهر الجديدة في قصيدة العامية" قطعت تلك التهدئة، في ندوةٍ جاءت صاخبةً ومؤثرة على غير طبيعة ندوات المقهى الثقافي بمعرض هذا العام للكتاب. لقد جاء معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام في موعدٍ هو الأسوأ في تاريخ العرس الثقافي المصري الأشهر، وبين حربٍ طاحنة أدمت قلوب العرب وأوغرت صدورهم، وقلقٍ أمني يحاول امتصاص غضب الشارع، والحفاظ على ماء وجه الأنظمة، وفرض سيطرتها على الأحداث، وأزمةٍ اقتصادية أخذت في طريقها الأخضر واليابس، وتركت آثاراً هزت الأسس الاقتصادية للعالم الرأسمالي، كانت دورة 2009 لا تحمل ذلك الوجه الناضج لحدثٍ خطا فوق الأربعين، وكان يُنتظر منه أن ينطق بلسان حاله: "حتى إذا بلغَ أشدَّهُ وبَلَغ أربعين سنةً قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ"، لكن يبدو أنه سينتظر، كما سينتظر مريدوه وعشاقه، دورةً جديدةً وعاماً آخر، حتى يوفي ذلك الشكر حقّه عبر أنشطة حقيقية، وفعاليات متميزة تليق، وتاريخ معرض القاهرة الدولي للكتاب في الثقافة العربية المعاصرة.
احتفت الثقافة العربية للمرة الواحدة والأربعين بالحدث الثقافي المصري الأكبر، والمتمثل في معرض القاهرة الدولي للكتاب، والذي افتتحت فعالياته في الحادي والعشرين من يناير، واختُتِمت في الخامس من فبراير، بمشاركة سبعةٍ وعشرين دولةً عربية وأجنبية تمثلهم ستمائة وخمسة وسبعين دار نشر، في ظل أزمات متنوعة يشهدها العالم والمنطقة، ألقت بظلالها على ذلك الحدث الثقافي الكبير، مما طبع هذه الدورة بطابعٍ خاص من الإيجابيات المحدودة والسلبيات المتعددة، ناهيك عما قامت به اللجنة المنظمة للمعرض من إجراءات تنظيمية ووقائية، أحالت المعرض إلى ثكنةٍ عسكرية، حتى يخال داخلُ المعرض أنه يخترق أحد المعابر الحدودية لدى دخوله من إحدى بوابات أرض المعارض بالقاهرة.
وبين المقهى الثقافي وقاعة 6 أكتوبر غابت من المشهد تماماً عدة عناصر اعتاد زوار المعرض وجودها في الدورات السابقة، فقد افتقد المثقفون لحظات لقائهم على المقهى الكبير، الذي كان يتسع لحواراتهم المفتوحة خارج الندوات الرسمية، وإيقاعها المنتظم الرتيب. كما افتقدوا مخيم الإبداع الروائي الذي كانت تقيمه هيئة الكتاب بإدارة الدكتورة سهير المصادفة، والذي كان يمثّل مجالاً مفتوحاً لمناقشة الأعمال الأدبية المختلفة، ويقدم لزوار المعرض أصواتاً أدبية ونقدية جديدة، تختلف عن تلك التي يقدمها المقهى الثقافي الذي يستضيف أسماء لها حضورها المعتَمد لدى الجماهير ولدى الوسط الثقافي أيضا. كما افتقد زوار المعرض من العامة مخيم الإبداع الفني الذي كانت تقيمه الهيئة العامة لقصور الثقافة للفرق الفنية المختلفة، ذلك المخيم الذي كان يشهد حضوراً جماهيرياً كثيفاً، والذي كان لا يكتفي بالترويح عن زوار المعرض وبث المتعة في نفوسهم، وإنما كان يحمل فرصاً للتعريف بفرق الهواة والموهوبين، ويكشف عن جانبٍ آخر من جوانب النشاط الفني والثقافي المصري يختلف عن ذلك الجانب الذي يمثله الكتاب المطبوع.
ولم تكن مبررات اللجنة المنظمة للمعرض هذا العام كافيةً للرد على ما أثير من قضايا حول دورته الحادية والأربعين، وتحديداً ما صرحت به بعض دور النشر المصرية، قبل بدء فعاليات المعرض، من عدم تسلمهم المساحات المخصصة لهم إلا قبيل انطلاق فعاليات المعرض بأسبوع واحد فقط، مما هدد قدرتهم على تجهيز تلك المساحات لعرض مطبوعاتهم بالشكل اللائق، كما أثار منع بعض دور النشر العربية الكثير من الانتقادات والتساؤلات، كدار الساقي والانتشار العربي، والهادي، والآداب اللبنانية، والتي صرح المسئولون عنها لبعض الصحف بأنهم بُلِّغوا شفوياً بأن سبب هذا المنع هو "أوامر عليا"، بينما حاول بعض المسئولين بالهيئة المصرية العامة للكتاب سوق بعض التبريرات المنطقية شكلاً، والمتمثلة في تأخر هذه الدور وغيرها عن التقدم برغبتها في المشاركة بمعرض 2009 في المواعيد المحددة لذلك، كما برروا إلغاء جزء من الفعاليات والأنشطة الثقافية، وتضييق مساحات العرض، بوجود مشاريع معمارية قيد الإنشاء داخل حيز المعرض، مما أثّر ـ على حد تصريحاتهم ـ على المساحات المخصصة لدور النشر والأنشطة الأخرى المجاورة لها.
وعلى جانبٍ آخر كان من المفترض أن يكون احتفال هذه الدورة بالقدس كعاصمة للثقافة العربية احتفالا له طابعٌ خاص في ظل مجيء المعرض مباشرةً بعد الحرب الإسرائيلية الغاشمة على غزة، واعتبار هذه الاحتفال بالقدس كعاصمةٍ للثقافة العربية رداً مباشراً على الأحداث، وتلبيةً لتوجيهات الجامعة العربية بضرورة احتفاء كافة العواصم العربية بهذه المناسبة، لكن ذلك الاحتفاء اقتصر على معرض للصور الفوتوغرافية عن تاريخ المدينة، وندوة أدبية عن مكانة القدس في الأدب العربي بمشاركة الفلسطينيين عبد القادر ياسين ومريد البرغوثي والليبي أحمد إبراهيم الفقيه، هذا بالإضافة إلى ندوة فنية بعنوان (القدس ومكانتها في الفنون التشكيلية) شارك فيها فنانون تشكيليون هم أحمد نوار وعز الدين نجيب ولطيفة يوسف، ورغم ما قام به المنظمون من جهد تنظيمي لإقامة هذه الندوات، إلا أن ذلك الجهد لم يشبع رغبة الحضور، إذ اقتصر الأمر على البعدين الثقافي والتاريخي للمدينة، دونما تطرق أو محاولة إضفاء بعد سياسي على تلك الاحتفالية، بل يبدو أن الجهد الأكبر كان منصباً على تهميش ذلك البعد السياسي لأسباب تتعلق بالسيطرة على فعاليات المعرض، وعدم إحداث قلاقل أمنية داخله، ودليلُ ذلك عدم الدعاية الكافية لمثل تلك الندوات والفعاليات، في مقابل حشد الدعاية للمحورين الموازيين "مصر وأفريقيا" و "الإبداع الثقافي والوسائط الجديدة"، وهي ندوات جاءت كالعادة مقصورةً على حضور الإعلام الرسمي ورجالات المؤسسة، وقليل من المهتمين والدارسين، ونذر يسير جدا من الزوار العاديين الذين تصادف وجودهم في مكان انعقاد الندوات، غير أن الندوة الأخيرة تميزت بحضور جيد من قبل المبدعين الشباب المهتمين بالنشر الإلكتروني ودور الوسائط المتعددة فيه، والذي يبدو أنه حمل متنفساً لهم في ظل أزمة الكتاب المطبوع التي لا تزال تفرض نفسها بأشكالٍ متنوعة على المبدع والمتلقي على حدٍ سواء.
أما فيما يتعلق بحركة الكتب ودور النشر والقوة الشرائية للزوار، فيبدو أن الأزمة المالية العالمية ألقت بظلالها على معرض هذا العام، والتي تبدت في تناقص أعداد الزوار بشكلٍ ملحوظ، ناهيكَ عن الافتتاح الذي تزامن مع أواخر امتحانات منتصف العام الدراسي، وعدم فتح أبواب المعرض في أيام الجمع إلا بعد الثانية ظهرا، وقد ظلت عناوين الكتب الأكثر مبيعاً مقصورةً من جهة على الكتب الدينية المشهورة ككتاب عائض القرني "لا تحزن" (للعام الخامس على التوالي)، ومجلدات الفقه والسيرة التي تقدم دور النشر المتخصصة فيها تخفيضات خاصة عليها، ومن جهة أخرى كانت الأعمال الأدبية والفكرية التي أُحدثت حولها ضجةً إعلامية سبقت المعرض كرواية "عزازيل" للدكتور يوسف زيدان و"وداعاً أيتها السماء" لحامد عبد الصمد، وكتاب "تاكسي حواديت المشاوير" لخالد الخميسي (للعام الثاني على التوالي)، ومؤلفات إبراهيم عيسى وكتب الدكتور زغلول النجار والشيخ الشعراوي، ومثنوي جلال الدين الرومي الذي قدمه المجلس الأعلى للثقافة في جناحه بتخفيض وصل إلى ثلاثين بالمائة. ولكن ظل سعر الكتب المختلفة في العموم عائقاً عن الوصول إليها، خاصةً في ظل توقعات المهتمين بانخفاض أسعار الورق مستقبلاً، واحتمالات إلغاء التعريفة الجمركية عليه في ظل القرارات المتتالية لمصلحة الجمارك المصرية، والهادفة إلى رفع كفاءة السوق وجذب الاستثمار لمجابهة الأزمة الاقتصادية العالمية. وفي مقابل ذلك الإحجام الجماهيري النسبي عن الشراء حاولت دور النشر المختلفة تنشيط حركة الزوار فيها عبر حفلات التوقيع المقامة داخل مساحات مخصصة لتلك المراسم لم يعلن عنها للأسف بشكل جيد، وقد حظيت دار الشروق بحفل توقيع متميز للطبعة الخامسة (في أقل من تسعة أشهر) من رواية "عزازيل" ليوسف زيدان، بينما أقامت الدّار المصرية اللبنانية حفل توقيع للكاتب الصحفي والمذيع خيري رمضان بجناحها، وذلك لكتابيه:"صرخة العار" و"نوافذ الاشتهاء"، وقد حرصت دور نشرٍ أخرى كميريت، ودار الجديد اللبنانية، واتحاد الكتاب العرب، على إقامة هذه المراسم الاحتفالية على اختلاف مستوى النجاح الذي تم تحقيقه من خلالها.
والجدير بالذكر أن جناح المملكة المتحدة شهد نشاطاً غير مسبوق كضيف شرفٍ لدورة هذا العام، وقد تنوع ذلك النشاط بين الثقافة والفن والندوات واللقاءات، وذلك برعاية عدة هيئات هي :المجلس الثقافي البريطاني ومعرض لندن للكتاب وهيئة الناشرين ورابطة الناشرين المستقلة، وفضلاً عن المشاركة الفنية المتميزة التي قامت بها المملكة المتحدة والتي تمثلت في عدة أفلام سينمائية ما بين تسجيلية وروائية، تم عرضها في فعاليات المعرض بجناح المملكة المتحدة، كما أقيمت عدة ندوات عن جذب الشباب للآثار والتاريخ المصري القديم، واستخدام الأسطورة في الأدب المعاصر، واستلهام الكتاب للثقافات المغايرة لثقافتهم، وسياسات الترجمة، والترجمة بين اللغتين العربية والانجليزية، ودور الكتابة في تناول الأحداث الساخنة في عالمنا المعاصر.وكان من اللافت للانتباه ذلك الحضور اللافت لكتاب القصة القصيرة الانجليز مثل: "أنتوني هورويتز، وروزيف، وديفيد ألموند، ومشاركة الروائي بن أوكري الفائز بجائزة البوكر الدولية، والروائيتان الشهيرتان: مارجريت درابل ومارينا وارنر، فضلا عن تقديم عدد الشعراء والأصوات الجديدة في الشعر الانجليزي المعاصر مثل: بول فارلي، وليونتا فلين، ومينا إلفين.
لكن السمة الغالبة التي طبعت ندوات وأنشطة المعرض هذا العام، والتي استشعرها العامة والخاصة، هي غياب نجوم الأدب والفكر والفن عن المشاركة كما كانت بشكلها المعهود، فباستثناء ندوة المخرج الراحل يوسف شاهين بقاعة المراسم، والتي حضرها مجموعة من نجوم السينما المصرية، افتقد المعرض ندوات اعتاد عليها رواده لنجوم السينما والتلفزيون المصريين والعرب، كما افتقد الزوار ذلك التدافع على بوابات قاعات تلك الندوات، وعلى المستوى الأدبي والثقافي لم يشهد معرض هذا العام حضوراً جماهيرياً لندوات نجوم الأدب، كتلك التي كانت تقام للأبنودي أو فاروق جويدة أو محمود درويش، وجاءت ندوات المقهى الثقافي باهتةً ومقصورةً على شاغلي المنصة ومعارفهم وأصدقائهم، والقليل القليل ممن يمكن وصفهم بالمهتمين بالأدب والثقافة، ولم تثر تلك الندوات حالةً من الجدل الثقافي أو تحقق الأهداف المرجوة، إلا في أضيق الحدود.
غير أن القليل من هذه الندوات، وهو عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ترك أثراً بالغاً في الساحة الثقافية امتد لما بعد انتهاء فعاليات المعرض، وأكبر شاهدٍ على ذلك تلك الندوة التي أقيمت بالمقهى الثقافي تحت عنوان "الظواهر الجديدة في قصيدة العامية" والتي أدارها الدكتور يسري العزب والشاعر طاهر البرنبالي، وتناولت قصيدة النثر العامية وإبداعات شعرائها، وقد كان من بين الحضور عدد لا بأس به من المهتمين بالشعر عامة وشعر العامية وقصيدة النثر خاصة، وكان على رأسهم الشاعر المصري الكبير محمد عفيفي مطر، الذي طلب من المنصة الكلمة للتعقيب، ففتح النار على قصيدة النثر وكتابها، وجاء في كلمته أن قصيدة النثر نوع من البلطجة الأدبية، ونهب للقيمة بلا جهد ولا تعب، وأشار إلى أنها الآن نتاج العجزة الذين لا يقومون ببذل الجهد، فيقدمون نوعاً من تداعى الخواطر، ولا يهتمون بالبناء والخيال، ويملئون اللغة بالثرثرة.. وفي تعقيبه على الصراع بين العامية والفصحى ذكر مطر أنه لا صراع بينهما، بل إن فكرة التجديد الموسيقي في شعر الفصحى كانت معتمدة على الالتفات إلى الشعر العامي، حيث العلاقة بينهما عميقة، وأضاف مطر أن الفصحى والعامية هما جناحان للشعر، يطير بهما في فضاء الإبداع، ولابد من التفريق بين الشعر والزجل، حيث يمثل الزجل وقائع يومية مباشرة في النقد الاجتماعي والسياسي، والبعد عن الخيال، على نحو أقرب إلى اللغة المنطقية. أما الشعر فهو طاقة الخلق وهدم المعايير بالخيال. وقد وافق الشاعر طاهر البرنبالي مطر في اختلافه مع من يكتبون شعر العامية بالنثر، لأن شعر العامية ـ حسب رأيه ـ سمعي وشفاهي، بما يتطلب الوزن بدرجة أعلى. أما كتابة الشعر بالنثر فتتحول إلى مناجاة للنفس وعشوائية، ومن جانبه شن الشاعر والناقد الدكتور يسرى العزب هجوماً صاخباً على كتاب قصيدة النثر، واتهمهم بأنهم لا يعرفون الموسيقى، فيطلقون على ما يكتبون "قصيدة نثر"، فصنعوا بذلك فجوة بينهم وبين المتلقي.
وقد كانت آراء المشاركين في هذه الندوة بمثابة شرارة أشعلت فتيل الأزمة في الأوساط الثقافية المصرية والعربية، خاصةً وأنها ذكَّرت الفريق المدافع عن قصيدة النثر بهجمة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي على قصيدتهم في كتابه الصادر قبل انطلاق فعاليات المعرض بأسابيع تحت عنوان "القصيدة الخرساء"، كما أن توقيت الندوة تزامن مع استعداد هؤلاء الشعراء لإقامة مؤتمر قصيدة النثر، المزمع عقده في شهر مارس المقبل بنقابة الصحفيين المصرية، مواكباً لمؤتمر الشعر الذي يقيمه المجلس الأعلى للثقافة ممثلاً في لجنة الشعر التي يرأسها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وقد رأى المهتمون والمشاركون بالندوة من أبناء قصيدة النثر أنهم مستهدفون من قبل المؤسسة الرسمية وأعضائها من الشعراء، فانطلقوا في الدفاع عن وجهة نظرهم وقصيدتهم في المحافل المختلفة، مؤكدين على تمسكهم أكثر مما سبق بإقامة مؤتمرهم الحر، ودعوة الشعراء والنقاد العرب من كافة الأقطار لمشاركتهم فعالياته التي ستمتد بموازاة المؤتمر الرسمي منتصف مارس المقبل. ولعل رأي الشاعر الكبير مطر لم يحمل في حد ذاته صدمةً لأبناء قصيدة النثر، فهي ليست المرة الأولى التي يردد فيها مطر رأيه هذا بكل صراحة، وإنما التوقيت في حد ذاته هو الذي سبب لهم تلك الصدمة، خصوصاً وأنهم كانوا يعتبرون الهدنة بينهم وبين المؤسسة الرسمية ـ التي تمثلها لجنة الشعر لا عفيفي مطر ـ ممتدة بعد توقف المساجلات حول كتاب حجازي، وكان أغلب ظنهم امتدادها حتى اقتراب موعد المؤتمرَين المتزامنين، إلا أن ندوة "الظواهر الجديدة في قصيدة العامية" قطعت تلك التهدئة، في ندوةٍ جاءت صاخبةً ومؤثرة على غير طبيعة ندوات المقهى الثقافي بمعرض هذا العام للكتاب.
لقد جاء معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام في موعدٍ هو الأسوأ في تاريخ العرس الثقافي المصري الأشهر، وبين حربٍ طاحنة أدمت قلوب العرب وأوغرت صدورهم، وقلقٍ أمني يحاول امتصاص غضب الشارع، والحفاظ على ماء وجه الأنظمة، وفرض سيطرتها على الأحداث، وأزمةٍ اقتصادية أخذت في طريقها الأخضر واليابس، وتركت آثاراً هزت الأسس الاقتصادية للعالم الرأسمالي، كانت دورة 2009 لا تحمل ذلك الوجه الناضج لحدثٍ خطا فوق الأربعين، وكان يُنتظر منه أن ينطق بلسان حاله: "حتى إذا بلغَ أشدَّهُ وبَلَغ أربعين سنةً قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ"، لكن يبدو أنه سينتظر، كما سينتظر مريدوه وعشاقه، دورةً جديدةً وعاماً آخر، حتى يوفي ذلك الشكر حقّه عبر أنشطة حقيقية، وفعاليات متميزة تليق، وتاريخ معرض القاهرة الدولي للكتاب في الثقافة العربية المعاصرة.