يستبين القارئ مفهوم "الجمال" حسب رؤية شارل لالو، من خلال تأكيده على المعايير السايكولوجية والسوسيولوجية، والطابع "الموضوعي" للحقيقة الجماليّة، وبأن القيمة الفنية متبدلة بتبدل العوامل التاريخية والاجتماعية. مما أدى لتسمية موقفه من علم الجمال بـ"النسبية التاريخية".

علم الجمال .. العوامل والمعايير

سرمد السرمدي

يعتبر شارل لالو (Ch. Lalo 1877-1953) أحد مؤسسي الأستيتيكا الفرنسية الحديثة كفرع علمي يأخذ بالمعيارين الامبيري والسوسيولوجي. ودرس لالو الفلسفة ثم قام بتعليمها في المدارس الفرنسية. وفي عام 1908 نال درجة الدكتوراه على دراستين كرسهما للأستيتيكا المعاصرة والموسيقى. وفي عام 1933 ترأس قسم الأستيتيكا في السوربون. وكانت حصيلته العلمية أكثر من خمسة عشر كتابا صارت اليوم مصدرا موسوعيا لعلم الجمال. وتراس لالو الجمعية الفرنسية للأستيتيكا، وتحرير مجلة (ريفو أستيتيك -العرض الأستيتيكي). وعرف لالو كمعارض لما يسمى بالأستيتيكا المثالية. وكان قد اعتبر الموسيقى فنا أساسيا إذ هي (لعبة التوليفات الفنية). رأى لالو أنه ينبغي تحليل كل فن وفق المعايير الرياضية والسايكوفيزيقية والسايكولوجية والسوسيولوجية مؤكدا على الطابع الموضوعي للحقيقة الأستيتيكية التي تنتهي بالعمل الفني، وهذا تقاس قيمته بمقدار النجاح الذي حققه، إلا أن هذه القيمة متبدلة وتعتمد على عوامل تاريخية واجتماعية. وقد سمّي موقف لالو من الأستيتيكا بـ(النسبية التاريخية). والنص المترجم هو الفصل الثاني من كتابه المعروف (الفن والحياة الاجتماعية) الصادر في باريس في عام 1921، وفيه اعتبر لالو الموضة نقطة انطلاق للقيام ببحث موّسع كرسه للطابع الاجتماعي للظواهر الأستيتيكية. وقد اعتمدت الترجمة أدناه على كتاب العالمة البولندية إرينا فوينار (أنثولوجيا الأستتيكا الفرنسية المعاصرة) الصادر في وارسو في عام1980. والعناوين الداخلية في النص هي من وضعي. (المترجم).

إن الموضة ظاهرة اجتماعية بارزة. فمن جهة تفترض، وفق تحليلات تارد Tarde، وجود (المبادرين) الذين يتمتعون في المجتمع بمكانة معيّنة ويجدون المسّرة في قيادة مثل هذا العدد الكبير من الآخرين مما يكون، بمعنى ما، طريقة للتواجد خارج المجموع. من ناحية أخرى تفترض وجود (مقلدين) يعثرون، خلافا لمن سبقهم، على القناعة في أنهم ليسوا منعزلين بل (يتصرفون مثل الآخرين) ويحيون حياة لا شخصية وجماعية الأمر الذي يمنحهم الشعور بالأمان. فهناك من يسندهم ويقودهم. إذن الموضة هي عملية تجمّع اجتماعي تذكر بعملية تجمّع للقطيع الذي لا يقوده الرعاة بل، وأنا أستخدم الكلمتين التاليتين من دون أيّ نية سيئة، حيوانات-أدلاء. فأمراء الموضة هم من أكبر الحيوانات. وهذه المؤسسة تتجاوب مع أحد غرائز القطيع في الإنسان. واسم الموضة يمنح فقط للأشكال الأكثر تقلبا من هذا الصنف للنشاط، والأكثر نزقا لكن ظاهريا حسب. من ناحية اخرى فإن هذه الظاهرة الجماعية هي في الوقت نفسه إجتماعية بمعنى آخر أيضا، أي أنها منظمة (بفتح الظاء) وتخضع للانضباط والعقوبات شأن كل وظيفة حياتية مهمة في المجتمع. وقد ربط هنا الشعور الخاص بالقبول نصف الأستيتيكي، باحترام الموضات المقرّرة (بفتح الراء الأولى). وهذا الشعور يمنح أحيانا لونا من ألوان السخرية التقليدية التي هي حسودة في جزء، وفي جزء آخر تتقبل المبادرات البالغة الجرأة التي قد تصبح بصورة ما، في الغد، قاعدة وتتحول من قبيحة الى جميلة. أما الشعور الحيّ للغاية بالإضحاك فهو عقاب على الإنفصال عن الموضة السائدة وإذا كانت تسود حقا. وبمكنة مؤسسة الموضة أن تتغلغل في كل مكان: هناك موضات سياسية ودينية وإستيتيكية بل هناك علمية أيضا. ففي كل حقل من حقول الحياة الجماعية يمكن أن تظهر حالات عمى مؤقتة تلقى التسامح لدن الرأي العام. إلا أن هذه الظاهرة هي مجرد نوع من الكماليات، وهذا يعني أنها تخص طبقات أقل عمقا من تلك الأشكال المتنوعة لنشاط الإنسان والتي تحكم جوهرها قوانين أكثر ديمومة. ولذلك يكون أيضا اسم الموضة محجوزا للتطورات الإنتقالية لكل ما هو مرتبط بالزينات الخارجية للسكن أو الشخص وخاصة لكل ماهو ترف فردي لدرجة أكبر أي اللباس. وإذا تجاوزنا منطقة الحاجات الأكثر أولية والمشروطة بالسخونة والبرودة والحياء النسبي لا نلقى أيّ شيء في هذا الميدان سوى الترف المتمثل بالكماليات. وهذا الترف لايعرف قواعدا أخرى غيرقواعد الموضة. وتبدو الموضة المفهومة بهذه الصورة الأوسع والأضيق (فالصورتان تتفقان فيما بينهما)، ظاهرة اجتماعية مثيرة للإهتمام. والسبب الأول هو أنها غالبما ما تفرض على الفن الحقيقي المواضيع والدوافع بل الأنواع. وبالتالي تسود وتعدّل الطبقة السطحية لكل الفنون، وفي الغالب يسمح قصر عمرها بتفرقتها عن الفن الحقيقي، وفي كل الأحوال لايملك التقسيم هنا حدودا صارمة، والمفروض أن يبقى هكذا. وفي الأخير فهي كموضة في حقل اللباس تكون صنفا فنيا قائما بحد ذاته وجزءا لا يتجزأ من الفن التزييني أي الفن الذي اعتبره رينان Renan الأكثر كمالا(1).

ليس الفن هو الواقع تماما بل هو حصيلة التقاء الفنان المبدع بالواقع وتفاعله معه والحق أن الفن ليس مرتبطا بالحياة أو منعزلا عنها وليس هو أيضا فقط الحياة أو فرارا منها بل هو هذه الصور جميعا وهذا ما ارتاّه شارل لالو عالم الجمال الفرنسي وقد اختط لالو طريقة علمية لدراسة الظواهر الجمالية وعلاقتها بالحياة فهو يرى ضرورة الامتناع عن إصدار أحكام تعسفية أولية بل يجب في نظره أن نجمع أولا طائفة من النماذج الجزئية المتباينة وندرسها كما يدرس عالم الأخلاق حالات الضمير الجزئية أي بمعنى آخر يجب أن ننشىء علما للوقائع الجمالية على نسق علم الوقائع الاْخلاقية فندرس عدة نماذج من انتاج كبار الفنانين ونقيم على أساس هذه الدراسة النقدية نظرية فى الابداع الفنى والتذوق الجمالي.

وقد تكشفت أمام شارل لالو خمسة أوجه لعلاقة الفن بالحياة من خلال دراسته للنماذج المختلفة وهي:

1- الوظيفة التكنيكية للفن: أي ممارسة الفن لذاته دون أن يرتبط بأية غاية أخلاقية أو عاطفية أو دينية أو سياسية. وهو موقف أصحاب مدرسة الفن للفن عند بودلير وأوسكار وايلد.

2- الوظيفة الترفيهية للفن أو الفن كترف كمالي: تتمثل وظيفة الفن حسب هذا الموقف في أنه ينسينا الحياة بأن يصرفنا إلى الترفيه ومعنى هذا أن تأمل الجمال هو ضرب من المتعة وسط مشاغل الحياة وهمومها وهذا هو رأي امانويل كانت، وشيلر، وهربرت سبنسر، وكذلك فلوبير ولامارتين، حيث كان لامارتين يمارس الفن لكي يهرب من وطاْة العمل السياسى.

3- الوظيفة المثالية للفن: وتكون مهمة الفنان حسب هذا الموقف الأفلاطوني محاولة تجميل الواقع أو تجسيم المثل الأعلى بأن يضفي الفنان على الحياة طابعا جميلا من خياله الخصب وذلك كما نجد في أقاصيص البطولة والفروسية والروايات الرومانسية ولوحات بعض الفنانين الأكاديميين.

4- الوظيفة التطهيرية للفن: وتكون مهمة الفن حسب هذا الموقف هو أن يطهر انفعالاتنا ويحررنا من الألم ويحصننا أخلاقيا فننعم بالراحة والسكينة.

5- الوظيفة التكرارية أو التسجيلية للفن: ومهمة الفن حسب هذا الموقف هو تسجيل ظروف الحياة بقصد العمل على استبقائها والاحتفاظ بصورها وهكذا يكون الفن هو الأداة التي يصوغ بها الفنان حياته الخاصة أو حياة الاّخرين مع شىء من التعديل الذي لا يقترب بالعمل الفني من التحوير الرومانتيكي ذي الطابع الخاص.

ويرى شارل لالو أن هذه الوظائف أو المواقف كلها موجودة فى مجال التجربة الجمالية وأن الخطأ كل الخطأ هو الإيمان بقيمة جمالية مطلقة تنتهي بنا إلى الخلط بين الخير والجمال، أي بين الكمال الأخلاقي والكمال الجمالي فليس الفن ميدانا للأخلاق أو الدين بل هو ظاهرة خصبة حرة يجب أن يدرس في ذاته وبهذا نستطيع -حسب رأي شارل لالو- إقامة علم للظواهر الجمالية على نسق علم الظواهر أو الوقائع الأخلاقية(2).

* * *

الهوامش
1- السنة الخامسة العدد (618)، الأربعاء 10. 10. 2007. شارل لالو.

2-الرابط: فن وثقافة، هند الرباط –مصر، صحيفة صوت العروبة، أسبوعية تصدر في الولايات المتحده الامريكية تعنى بشئون الوطن والجالية العربية في المهجر، 2005.