الفيلم السينمائي في حالة الكمال هو كائن جمالي، من لحم ودم، عبر صور سينمائية وكادرات بصرية شاهقة التأمل والجمال، يستوجب امكانيات سردية وتكوينات مشهدية تثير الذائقة الجمالية لدي المتفرج، فالصورة السينمائية هي لوحات متحركة تتلاعب بالزمان والمكان من اجل اثبات قدرتها علي اثارة حسية المشاهد، هذه الحسية اكثر جزء فيها هو الحسية الجمالية، لذا المهمة الرئيسية لهذه اللوحات السينمائية المتكاملة هو اثارة الجمال.
وعلاقة الانسان بالسينما علاقة وطيدة، فالانسان كائن جمالي، يبحث عن الجماليات في كل شئ، وقيم الجمال هي سمة رئيسية في طبيعة تفكيره العقلي وتأملاته المتعددة، وفي طبيعة فلسفة تعامله مع الوجود ومع الكائياء والاشياء، وصفة الجمال تعطي للانسان ما يحتاجه من مشاعر وقيم متعددة منها الرضا واللطف، والخير والحق، وتشعره بالانتظام والتناغم والكمال، ويشير أحد ادباء الانكليز، وهو الاديب اوسكار وايلد، أن الجمال نوع من العبقرية، بل هو ارقي من العبقرية لا يحتاج الي تفسير، والانسان قادر علي تذوق الجمال، وصناعة وابداع اشكال جمالية حسية او وصفية، او تفاعلية، وخير ما يمثل ذلك هو الابداع السينمائي، احد انواع الفنون الجمالية التي باستمرار يبدعها الانسان.
فلسفة الفن والجماليات
يهرب الفن دائما من النقد والتنظير الفلسفي، يضع حول نفسه حواجز للحماية، فهناك جدل حول جدوي التنظير الفلسفي للفن في العموم، والسعي لنقده، فالتفكير الفلسفي في الفن أمر لا يعترف به معظم الفنانين، بل لا يعترف به كثير من النقاد الذين يمارسون هذا التفكير ذاته في عملهم دون وعي، لأن الفن هو مجال الابداع الفردي، وهو ميدان العبقرية التلقائية، التي تتجاوز القواعد ولا تعترف بالقيود، ولذلك يمكننا القول أن الحسية الجمالية الفيلمية معقدة الي ابعد حد. يشعر فيلسوف الفن بالمدخل الجمالي الفلسفي بصعوبة كبيرة في تفنيدها تفنيدا استقراريا وثبوتياً، لوضع اسس نظرية لهذه الجمال السينمائي، لذا هناك محاولات فلسفية فنية وفلسفية جمالية، وفلسفية هرمنيوطيقة، وفلسفية سيميولوجية وفلسفية ظاهراتية في تحديد تفسير هذه الظاهرة الجمالية السينمائية، وذلك لخصوصية الخطاب الجمالي في السينما، ولعلو حسيته التي تتطلع لمرحلة المجاز المفتوحة التأويل، حيث اللقطة الجمالية المجازية هي محاكاة للحظة زمانية في الواقع بشكل سردي حكائي وبصريات، هذه القدرة الاخراجية صعبة الحدوث والتكرار في بحر المخرجين في السينما.
وذلك لا يعني فشل هذه المحاولات الفلسفية في تفسير الظاهرة الجمالية في السينما، ولكنها محاولات لا تتمتع بالدقة التطبيقية في الربط بين فلسفة الفن ونظريات الجمال وبين اللغز الجمالي السينمائي، الذي يستوجب فرادة في التفسير الجمالي، وذاتية داخل الخطاب والمحتوي السينمائي نفسه.
الناقد الفني والمفكر الجمالي في السينما
دائما نقرأ كثير من المقالات والدرسات النقدية في السينما، تتناول مدي وجود القيمة في العمل الفني، وهل هو عمل جميل أو انه فن عظيم، ومقارنته بالاعمال الاخري للفنان والاعمال الأخري بشكل عام، وتفتقد هذه الرؤية النقدية الي الأبعاد والدلالات الجمالية من حيث معرفة الأسباب التي دفعته الي إصدار حكم القيمة، والمقارنة النقدية، والقدرة علي تفسير استحسانه للعمل تفسيرا عميقا وموسعا، وليس سريعا خاطفة مثل الصيحات، والكلمات المختزلة عن الأشياء، فعلي الناقد الفني للأفلام، أن تغمر روحه فلسفة الجمال، وأبعادها، وأن تتجسد فيه المقارنات الجمالية للفنون والحياة، وليس فقط التحليل الفني السريع، فلابد أن يكون قادرا علي تحديد بوضوح ما الذي يعينه الجمال، أو العظمة، في الفيلم الذي يخضعه للتحليل النقدي، وما هي معايير القيمة التي توصل في ضوئها الي حكمه. وذلك لا يقلل من أهمية التحليل النقدي والفني للأفلام، ولكن التحليل الجمالي يمنحه قوة وأهمية اكثر، ويصبح العمل اكثر انفتاحا في ذهنية قارئ التحليل، واكثر جمالا ورونقا، فالتحليل الجمالي، يصبر اغوار العمل الفني، ويكشف ويزيل الغبار عن مناطق الجاذبية والجمال في الفيلم.
الأثر الفني للجماليات والسينما
يحتفظ العمل الفني، دائما بلمسة خاصة به، قواعده الخاصة، خطابه الذاتي، الذي يعبر عن نفسه، دون عمل فني أخر، او رؤية الانسان له، التجربة التي يثيرها هذا العمل الفني لا تشبه علي الإطلاق تلك التي يثيرها أخر. وهذا التفرد بعينه هو الذي نعتز به في العمل الفني، فالعمل هو العمل نفسه، وهو يختلف عن كل ما عداه في العالم، وكل فيلم سينمائي له جمالياته الخاصة، وخطابه السردي والبصري الخاص، فالمخرج والمؤلف والممثلين، وتقنيات المونتاج والتوير، تصنع في الفيلم الواحد تحفة فنية جمالية خاصة لن تكرر مرة أخري، بجانب الرؤية النقدية والتحليل الفني، واراء المشاهدين، وتفاعلات الزمان مع الفيلم، يظل العمل السينمائي له قواعده الخاصة للفن.
التذوق الجمالي للسينما
الطرح الجمالي للسينما يتضمن عدة مستويات لفكرة التذوق، من حيث فهم ذائقة المتفرج تجاه المشاهدة الفيلمية، ما بين خطابات المتعة واللذة الراقية، الي مستوي التسلية وقضاء وقت الفراغ دون هدف جمالي ناضج يتضمن التأمل الفكري والجهد البصري، هذه الثنائية في ذائقة المتفرج توضح معايير الاتجاه الجمالي للمشاهدة.
وتميل الطبقات الشعبية الي الخطاب المتعي العادي والسطحي، حيث يتصور الجمهور ان الفن عامةَ والسينما خاصة، فن متعلق ومتواكب مع حياتهم، لذا يستمر تأثير الفن علي تفاصيل حياتهم، فهم يريدون فنا يجعلهم يرتاحون من متاعب الحياة اليومية، فمساحة التفكير والتأمل الجمالي هنا تتناقص تدريجيا بحثا عن أشياء فنية أخري جمالية ولكنها غير معقدة وراقية وناضجة.
أما الطبقات الراقية والمتوسطة، فهي تملك قدرات وامكانيات علي الانتاج الثقافي، بمعني الرأسمالي الثقافي، وذلك يمكنها من فهم الخطاب الجمالي المعقد والناضج، وتفكيكه، وتأويله، وتفسيره وفك شفراته، وهم بذلك يتمايزون عن الطبقات الشعبية، ولكن ذلك لا يعني ان كل الطبقات الراقية تمتلك ناصية فهم الخطاب الجمالي الناضج، ولكن هناك الكثير من هذه الطبقات تتابع أفلام التسلية، وافلام قضاء الوقت الفراغ التي تخلو من معايير الجمال الراقية، وايضا هناك نسبة قليلة من الطبقات الشعبية تسمو بطبيعتها وليس ببيئتها وثقافتها الي الجمال الناضج والحقيقي، ولكن معظم ما يملك نواصي هذا الخطاب الجمالي هم من الطبقات الراقية.
جماليات الواقعي والخيالي
هناك جماليات مفارقة السينما بتجاوزها للواقع، هذه الثنائية ستدهش المشاهد حيث تربط ذهنيته بين تفاصيل الواقع الممل وقدرة السينما علي محاكاته ثم القدرة علي تجازوه الي مراحل اعلي ليذوب الجمال السينمائي مع جمال الواقع في جماليات جديدة متكاملة من هذه الثنائية. فليست الصورة السينمائية نسخ للواقع، انما ما يحدث الأن عالميا هو تأثير الصورة بشكل هائل في العالم، فهناك ثورة رقمية ومعلوماتية يتحدث عنها العالم منذ فترة ليست قصيرة، وقدرة الخيال الانساني عن تجاوز الواقع، فالسينما في هذه البيئة هي الاولي والاحق بتجاوز الواقع، والسعي نحو جماليات خيالية جديدة.
طغيان الصورة في العالم جعل الواقع طيعا في يد السينمائي، فالسينما الآن لها دور رئيسي في صنع الفكر الخيالي الجمالي للمجتمع، فالواقع الآن ليس دوره كما سبق، بل اصبح هامشيا للغاية، فمكنون جماليات المجتمع الآن لا تنبع من الواقع، فهناك من مصادرها السينما، ووسائل الاعلام المتعددة، واصبحت بذلك الصورة السينمائية مفهوما معقدا، جماليات المشهد اصبحت كذلك لغزا مكثفا، فهناك حاجة للدراسات كثيرة ومحاولات نظرية وفلسفية لتفكيك الخطاب الجمالي للصورة السينمائية، ومعرفة دور السينما وعلاقتها بالواقع، هذه العلاقات المعقدة والمتشعبة تثير القلق لدي الباحث، فهناك قدرة عالية للصورة علي ادارة وخلق الوعي الجمالي للافراد وذلك يمثل خطورة، يمكن تفسيرها بايدلوجية الفيلم وها ما يتم ذكره لاحقا في محور اخر في الدراسة. فهناك سجن الصورة الذي يجلس بداخله المشاهد السينمائي، فهناك مقولات ان كل شئ في العالم يمر عبر الصورة، فالوسيط المهين للوعي العالمي هو الصورة. وبذلك ابحت صورة ليست رمزا او تابع، او ظاهرة لاشياء جوهرية واساسية انما اساس وجوهري الوجود.
دائما الوعي الجمالي يحتاج الي خيال تستعرضه الصورة، وهو ما يتحقق عبر الصورة السينمائية، فالموضوع الجمالي مركب ومستوعب عن طريق وعي تخيلي بصفته كشيء غير حقيقي، وايضا ذلك يؤكده حقيقة العمل الفني، الذي يرتاح مناطق الخيال اكثر من مناطق الواقع، ويري الفيلسوف الفرنسي البير كامي، أن الإنسان يفقد الوحدة في عالمه الواقعي فيجد نفسه مضطرًا إلى إبداع آخر يقيمه بديلاً لهذا العالم. والفن في جوهره هو الحركة التمردية التي يقوم بها الإنسان حينما يرفض الواقع من أجل إيجاد العالم الجديد الذي يستطيع أن يجد فيه ما ينشده من وحدة وتماسك، ولهذا يصبح "التمرد" في حد ذاته مطلبًا جماليًا.
ايديولوجية الخطاب الجمالي
هناك ايديولوجية تؤثر علي جماليات الصورة، وتصبح عملية التحرر الجمالي لدي المشاهد من سلطة الصورة امر صعباً، حتي لو كان مخرجا عظيما وفيلسوفاً لا يقصد اشكال دعائية او يتبني ايدلوجية معينة، فهناك دائما اتجاه وتحيز يريد ايصاله لدي المشاهد بشكل مستمر.
إذن تعتبر الأيديولوجية أهم متطلبات التعبير الفيلمي، حيث يشير الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر إلى "أنكل عمل فني لابد من انطوائه على موقف أو فكر اجتماعي معين، ما يزيد من القدرة على الفهم، فلكل سينما مرجعية فكرية محددة يستوجب الكشف عنها". وهناك أفلام واضح تأثرها بالايديولوجية، مثل الافلام السوفيتية أو التي تحاول غرسها الأفلام الأمريكية الحالية في شعبها وفي الشعوب الاخري. وكما ذكرنا ان الصورة لا تحاكي الواقع ولكنها تتجاوزه، وتؤوله وتفتح باب التفسيرات علي مصراعيه، حتي يصبح المشاهد في حيرة من الصورة السينمائية، وفي اطار ذلك، تتسمم الجماليات في الصورة بتشكيلات ايديولوجية كثيرة، بل تصبح الرؤية البصرية كائنا ايديولوجيا، لبعدها عن الواقع تماما، ويرى الفيلسوف الفرنسي إدغار موران أن الصور هي "تصنيع ثانٍ" و"استعمار ثانٍ" لا ينتج الاستهلاك فحسب بل ينتج المستهلك أيضاً، ويري الفيلسوف اليساري لويس التوسير أن الإنسان نفسه كائن أيديولوجي، يستجيب لما يسمى "اللعب الحر" بين الدال والمدلول ويستجيب لدال مُراوغ يخفي مدلوله لدرجة لم تعد فيها للمعاني بؤرة مركزية، هناك فقط "لعب الدوال" والمعاني وانزياح تام للمعنى.