يعد توفيق الحكيم أحد رواد الروايه العربيه والكتابه المسرحيه في العصر الحديث فهو من أبرز العلامات في حياتنا الأدبيه والفكريه والثقافيه في العالم العربي، وقد امتد تأثيره لأجيال كثيره متعاقبه من الأدباء والمبدعين وهو ايضا رائد المسرح الذهني ومؤسس هذا الفن المسرحي الجديد وهو ما جعله يعد واحدا من المؤسسين الحقيقيين لفن الكتابه المسرحيه ليس على مستوى الوطن العربي فحسب وانما ايضا على المستوى العالمي.
وتتجلى مقدره الحكيم الفنيه في قدرته على الأبداع وابتكار الشخصيات وتوظيف الأسطوره والتاريخ على نحو يتميز بالبراعه والأتقان ويكشف عن مهاره تمرس وحسن اختيار للقالب الفني الذي يصب فيه ابداعه سواء في القصه او المسرحيه بالأضافه الى تنوع مستويات الحوار لديه بما يناسب كل شخصيه من شخصياته ويتفق على مستواها الفكري والأجتماعي.
وبالنسبه للمسرح عند الحكيم فقد قسم الحكيم اعماله المسرحيه الى ثلاثة انماط رئيسيه هي:
- المسرح الذهني.
- مسرح اللامعقول.
- المسرح الاجتماعي.
وسأتناول الحديث بإيجاز عن المسرح الذهني ومسرح اللامعقول.
أولا: المسرح الذهني (مسرح الأفكار والعقل):
كتب الحكيم الكثير من المسرحيات وكانت مسرحياته من النوع الذي يطلق عليه المسرح الذهني والذي كتب ليقرأ فيكتشف القارىء من خلاله عالما من الدلائل والرموز التي يمكن اسقاطها على الواقع في سهوله ويسر لتسهم في تقديم رؤيه نقديه للحياه والمجتمع تتسم بقدر كبير من العمق والوعي.
وهو يحرص على تاكيد تلك الحقيقه في العديد من كتاباته، ويفسر صعوبه تجسيد مسرحياته وتمثيلها على خشبه المسرح فيقول (اني اليوم اقيم مسرحي داخل الذهن واجعل الممثلين افكارا تتحرك في المطلق من المعاني مرتديه أثواب الرموز... لهذا اتسعت الهوه بيني وبين خشبه المسرح ولم اجد قنطره تنقل متل هذه الأعمال الى الناس غير المطبعه).
وقد كتب الحكيم الكثير من المسرحيات الذهنيه من أشهرها:
1- مسرحية أهل الكهف: لقد تألق الحكيم وأشتهر ككاتب مسرحي بعد النجاح الذي حققته مسرحيه اهل الكهف والتي نشرت عام 1933 والتي مزج فيها بين الرمزيه والواقعيه على نحو فريد يتميز بالخيال والعمق دون تعقيد او غموض وطبعت هذه المسرحيه مرتين في عامها الأول كما ترجمت الى الفرنسيه والأيطاليه والأنجليزيه وهذا أكبر دليل على شهرتها والجدير بالذكر ان المسرح القومي قد افتتح بها نشاطه المسرحي فكانت اول العروض المسرحيه المعروضه فيه هي اهل الكهف وكان ذلك عام 1935 وكان مخرجها الفنان الكبير زكي طليمات، ولكن للأسف كان الفشل حليفها، واصطدم الجميع بذلك حتى الأستاذ توفيق الحـكيم نفسه الذي عزا السبب في ذلك إلى أنها كتبت فكرياً ومخاطبة للذهن ولا يصلح أن تعرض عملياً.
إن محور هذه المسرحية يدور حول صراع الإنسان مع الزمن. وهذا الصراع بين الإنسان والزمن يتمثل في ثلاثة من البشر يبعثون إلى الحياة بعد نوم يستغرق أكثر من ثلاثة قرون ليجدوا أنفسهم في زمن غير الزمن الذي عاشوا فيه من قبل. وكانت لكل منهم علاقات وصلات اجتماعية تربطهم بالناس والحياة، تلك العلاقات والصلات التي كان كلاً منهم يرى فيها معنى حياته وجوهرها. وفي حينها وعندما يستيقظون مرة أخرى يسعى كل منهم ليعيش ويجرد هذه العلاقة الحياتية، لكنهم سرعان ما يدركون بأن هذه العلاقات قد انقضت بمضي الزمن؛ الأمر الذي يحملهم على الإحساس بالوحدة والغربة في عالم جديد لم يعد عالمهم القديم وبالتالي يفرون سريعاً إلى كهفهم مؤثرين موتهم على حياتهم.
2- مسرحية "بيجماليون"، ونشرت عام 1942:
وهي من المسرحيات الذهنية الشهيرة للحكيم، وهي من المسرحيات التي اعتمد فيها الحكيم على الأساطير، وخاصةً أساطير الإغريق القديمة.
والأساطير إدراك رمزي لحقائق الحياة الإنسانية التي قد تكون قاسية. وهدفها خلق نوع من الانسجام بين الحقائق الإنسانية حتى تستطيع أن تستجمع إرادتنا وتوحد قوانا ويتزن كياننا المضطرب.
وحسب هذا المفهوم استغل الحكيم الأساطير وخاصةً الأساطير اليونانية، فكتب ثلاث مسرحيات أحداثها مستوحاة من التراث الإغريقي الأسطوري وهي: "براكسا" و"بيجماليون" و"الملك أوديب". ولكنه بثّ في هذه المسرحيات أفكاره ورؤيته الخاصة في الموضوع الذي تتحدث عنه كل مسرحية.
3- مسرحية "براكسا" أو "مشكلة الحكم". ونشرت عام 1939:
وهي أيضاً مستقاة من التراث الإغريقي. ويظهر الحكيم من خلال هذه المسرحية وهو يسخر من الإطار الإغريقي من النظام السياسي القائم في مصر وهو الديموقراطية التي لم تكن في تقدير الحكيم تحمل سوى عنوانها. وفي هذه المسرحية التي تحمل الطابع الأريستوفاني جسدّ الحكيم آراؤه في نظام الأحزاب والتكالب على المغانم الشخصية والتضحية بالمصالح العامة في سبيل المنافع الخاصة.
4- مسرحية "محمد"، ونشرت عام 1936:
لم تتجلى الموهبة العبقرية للحكيم كما تجلت في مسرحيته "محمد" وهي أطول مسرحياته بل أطول مسرحية عربية. وربما بسبب طولها فإنه من الصعب وضعها على المسرح. وقد استقى الحكيم مادتها من المراجع الدينية المعروفة. والمسرحية بمثابة سيرة للرسول عليه السلام، إذ أنها تشمل فقرات من حياة الرسول تغطي أهم جوانب تلك الحياة.
وهناك الكثير غير هذه المسرحيات الآنفة الذكر كتبها الحكيم، ومن أشهر مسرحياته: "شهرزاد" و"سليمان الحكيم" و"الملك أوديب" و"إيزيس" و"السلطان الحائر" … وغيرها.
ثانيا، مسرح اللامعقول:
يقول الحكيم في مجال اللامعقول:
"إنّ اللامعقول عندي ليس هو ما يسمى بالعبث في المذاهب الأوروبية ... ولكنه استكشاف لما في فننا وتفكيرنا الشعبي من تلاحم المعقول في اللامعقول … ولم يكن للتيارات الأوروبية الحديثة إلا مجرد التشجيع على ارتياد هذه المنابع فنياً دون خشية من سيطرة التفكير المنطقي الكلاسيكي الذي كان يحكم الفنون العالمية في العصور المختلفة… فما إن وجدنا تيارات ومذاهب تتحرر اليوم من ذلـك حتى شعرنا أننـا أحـق من غيرنا بالبحث عـن هـذه التيارات في أنفسنا … لأنها عندنا أقدم وأعمق وأشد ارتباطاً بشخصيتنا
ولقد كتب الحكيم في هذا المجال العديد من المسرحيات ومن أشهرها:
1- مسرحية "الطعام لكل فـم":
وهي مزيج من الواقعية والرمزية. ويدعو الحكيم في هذه المسرحية إلى حل مشكلة الجوع في العالم عن طريق التفكير في مشروعات علمية خيالية لتوفير الطعام للجميع، فهو ينظر إلى هذه القضية الخطيرة نظرته المثالية نفسها التي تعزل قضية الجوع عن القضية السياسية. فالحكيم لا يتطرق هنا إلى علاقة الاستعمار والإمبريالية والاستغلال الطبقي بقضية الجوع ولا يخطر بباله أو أنه يتناسى عمداً أن القضاء على الجوع لا يتم إلا بالقضاء على الإمبريالية التي تنهب خيرات الشعوب نهباً، ولا يتم ذلك إلا بالقضاء على النظام الرأسمالي الاستغلالي وسيادة النظام الاشتراكي الذي يوفر الطعام للكل عن طريق زيادة الإنتاج والتوزيع العادل.
2- مسرحية "نهر الجنون":
وهي مسرحية من فصل واحد، وتتضح فيها أيضاً رمزية الحكـيم. وفيها يعيد الحكيم علينا ذكر أسطورة قديمة عن ملك شرب جمـيع رعاياه من نهر كان، كما رأى الملك في منامه، مصدراً لجنون جميع الذين شربوا من مائه، ثمّ يعزف هو ورفيق له عن الشرب، وتتطور الأحداث حتى ليصّدق رعاياهم فعلاً أن هذين الاثنين الذين لم يشربا مثلهم، بما فيهما من اختلاف عنهم، لا بدّ وأنهما هما المجنونان إذاً. وعلى ذلك فإنّ عليهما أن يشربا أيضاً مثلما شربوا. وقد جردّ الحكيم مسرحيته من أي إشارة إلى الزمان والمكان. وهكذا فإننا نستطيع أن نشعر بصورة أكثر وضوحاً لاعترض الحكيم ضد هذا القسر الذي يزاوله المجتمع على الإنسان فيجبره على الانسياق والتماثل.
وهناك العديد من المسرحيات الأخرى المتسمة بطابع اللامعقول، ومن أهمها: "رحلة إلى الغد" و"لو عرف الشباب". وفي المسرحية الأولى منهما يسافر رجلان خمسمائة سنة في المستقبل. وفي الثانية يسترد رجل مسن شبابه. ويحاول هؤلاء جميعاً التكيف مع حياتهم الجديدة ولكنهم يخفقون.
ويخرج الحكيم من هذا بأنّ الزمن لا يقهر، والخلود لا ينال، لأنهما أبعد من متناول أيديّنا. وإلى جوار فكرة الزمن يشير الحكيم إلى النتائج الخطيرة التي يمكن أن تنجم عن البحث العلمي والتقدم فيه.
خصائص مسرح توفيق الحكيم:
يمكن أن نجمل أهم مميزات مسرح توفيق الحكيم فيما يلي:
1) التنوع في الشكل المسرحي عند الحكيم. حيث نجد في مسرحياته: الدراما الحديثة، والكوميديا، والتراجيوكوميديا، والكوميديا الاجتماعية.
2) جمع الحكيم بين المذاهب الأدبية المسرحية في كتاباته المسرحية. حيث نلمس عنده: المذهب الطبيعي والواقعي والرومانسي والرمزي.
3) نتيجة لثقافة الحكيم الواسعة واطلاعه على الثقافات الأجنبية أثناء إقامته في فرنسا فقد استطاع أن يستفيد من هذه الثقافات على مختلف أنواعها. فاستفاد من التراث الأسطوري لبعض هذه الثقافات، ورجع إلى الأدب العربي أيضاً لينهل من تراثه الضخم ويوظفه في مسرحياته.
4) استطاع الحكيم في أسلوبه أن يتفادى المونولوج المحلي الذي كان سمة من سبقه. واستبدله بالحوار المشع والحبكة الواسعة.
5) تميزت مسرحيات الحكيم بجمال التعبير، إضافة إلى حيوية موضوعاتها.
6) تزخر مؤلفات الحكيم بالتناقض الأسلوبي. فهي تلفت النظر لأول وهلة بما فيها مـن واقعية التفصيلات وعمق الرمزية الفلسـفية بروحها الفكهة وعمق شاعريتها… بنزعة حديثة مقترنة في كثير من الأحيان بنزعة كلاسيكية.
7) مما يؤخذ على المسرحيات الذهنية عند الحكيم مسألة خلق الشخصيات. فالشخصيات في مسرحه الذهني لا تبدو حيةً نابضةً منفعلة بالصراع متأثرةً به ومؤثرةً فيه.
8) تظهر البيئة المصرية بوضوح في المسرحيات الاجتماعية. ويَبرُز الحكيم فيها من خلال قدرته البارعة في تصوير مشاكل المجتمع المصري التي عاصرتها مسرحياته الاجتماعية في ذلك الوقت. وأسلوب الحكيم في معالجته لهذه المشاكل.
9) ظهرت المرأة في مسرح توفيق الحكيم على صورتين متناقضتين. كان في أولاهما معادياً لها، بينما كان في الأخرى مناصراً ومتعاطفاً معها.
10) يمكن أن نستنتج خاصية تميز مسرح الحكيم الذهني بصفة خاصة ومسرحه الاجتماعي ومسرحه المتصف بطابع اللامعقول بصفةٍ عامة وهي النظام الدقيق الذي اتبعه في اختياره لموضوعات مسرحياته وتفاصيلها، والبناء المحكم لهذه المسرحيات الذي توصل إلى أسراره بعد تمرس طويل بأشهر المسرحيات العالمية.
* * *
(كلمة ألقيت في صالون الأستاذة الدكتورة أفنان دروزه)