إن مفهوم "القومية" يرجع إلى العلاقة الوطيدة بين الأديب وبلده، إلا أن هذا المفهوم يتغير من عصر إلى آخر ومن مجتمع إلى مجتمع، وكذلك لا يتشابك مع غيره من المفاهيم الأدبية الأخرى مثل الواقعية والرومانسية والعبثية..، ولكنه يفرض عليها أن تتخذ منه موقفا ما. إذ بإمكان أي أديب أن يرفض الرومانسية مثلا، أو يُعارض التجريدية أو الواقعية، لكنه لا يمكنه أن يتجاهل القومية لأنها الروح التي تمنح أدبه الخاصية التي تمكننا من التعرف عليه وبدونها يكون الإنتاج الأدبي عديم اللون والطعم. لذا فلا يمكن لأيّ أديب ناضج أن يتجاهل هذا المفهوم أو يتهرب منه.
هناك خصائص توضح هذا المفهوم في ثلاث نقط أساسية:
1- الاهتمام باللغة المحلية القومية وإحاطتها بسياج من الأصالة والمناعة.
2- الرغبة الملحة في أن يرى أبناء الدولة أو الإقليم أو المنطقة حياتهم يتردد صداها في الأعمال الأدبية.
3- إشعال الروح الوطنية عن طريق تجسيدها في الأعمال الأدبية وإخصابها بآراءٍ ومشاعر قومية.
البدايات المبكرة للقومية في الأدب:
1- قبل الميلاد:
بدأ هذا التيار في الأدب الروماني القديم مع الفيلسوف والمفكر الروماني ماركوس بورسيوس كاتو (234ق.م-149ق.م). الذي دعا إلى التخلي عن التقليد والتخلي عن الاتجاهات الإغريقية التي يسير عليها الكتّاب في روما، وأن إمبراطورية عظيمة كروما لا ينبغي لها أن تحاكي وتقلد النماذج الإغريقية خصوصا في الشعر والمسرح والفلسفة والخطابة.
وهو بهذا الاتجاه يعارض الاتجاه الذي تفشى آنذاك والذي تزعمه الأديب الروماني لانو فيناس وتلاميذه الذين قالوا أنه لا يمكن ان يكون الأدب أدبا إلا إذا كان ضمن إطار الأدب الإغريقي. ولهذا فقد شهدت العصور الأولى مذهبان الأول مغدق في التقليد والآخر قومي بحت.
2- العصور الوسطى:
لم يتجسد مفهوم القومية كاملا في الاتجاه الكلاسيكي اللاتيني، لأن الأمر انتهى به إلى تمجيد النماذج الإغريقية. وبمرور الوقت تطور مفهوم القومية في الأدب وأصبح يعني النهضة الأدبية التي تعتمد أولا وأخيرا على التراث القومي والفنون المحلية والأساطير الشعبية.
وتحول المفهوم إلى حركة أدبية شاملة وصلت قمتها في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، فنجد النقاد والأدباء الألمان مثل غوتهولد إفرايم ليسينغ (ت1781) وفريديريك شيللر (ت 1805) يؤكدون الخصائص القومية للشعب الألماني. ولكن هذا أدى إلى التطرف وتمجيد شعب على شعب آخر، كما حدث للجنس الآري بألمانيا. ولذلك يحرص النقاد والمفكرون الآن على وضع الحد الفاصل بين الإحساس بالقومية والانتماء وبين المناداة بعبقرية الجنس على أساس جغرافي.
القومية بين الأدب والعلم:
إن الفرق بين العلم والأدب مكمن سره هو القومية؛ فالعلم عالميًّ في مضمونه وشكله، أما الأدب فلا يكون إلا محليَّ الشكل والمضمون. فالمسرح مثلا لا يتخذ شكلا واحدا لدى كل الشعوب. لأنه فن؛ وفي الفن لا يوجد شكل ومضمون. لأن الشكل مضمونٌ فني والمضمون شكلٌ فني.
وعليه فالأدب محليّ قوميّ بطبيعته، ويجري على ألسنتنا القول بالأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي والأدب العربي والروسي وهكذا.
لكن لا يمكننا أن نقول نفس القول بالنسبة للرياضيات أو الكيمياء أو الهندسة. فابن الهيثم مثلا يمكنه أن يكون عربيا أو فرنسيا أو روسيا...، ولكن هذا لن يعوّق عبقريته العلمية التي أوصلته إلى النظريات والقوانين التي اكتشفها. بينما الجاحظ كان لا بد أن يكون عربيا وإلا فإنه لن يكون شيئا على الإطلاق. لهذا نجد من الطبيعي أن ترتبط كل أمة بكاتب قومي أو أكثر. لأنه يبلور روحها وطبيعتها ونبضها. لذا كلما ذكرنا موليير ذكرنا فرنسا، وشكسبير انجلترا، وطاغور في الهند، وتشيكوف في روسيا، ودانتي في إيطاليا، وميلفيل في الولايات المتحدة، وجيتيه في ألمانيا.
مرونة القومية في الأدب:
كلما استغرق العمل الأدبي في المحلية الأصيلة اقترب بذلك من مجال العالمية، وهذا يناقض الرأي السائد للذين يظنون أنه لو كتب روائي روسي رواية أحداثها بالمغرب مثلا لتذوقه المغاربة أكثر من تذوقهم لأديب مغربي يكتب من أعماق الأرياف المغربية.
لذلك نقول: إن المعايشة شرط للخلق الفني. وفي الأدب بون شاسع بين المعايشة الفنية والعيش التقليدي، فالعيش لا يتيح إلا فرصة تسجيل الظواهر ورصدها من الخارج أما المعايشة فتساعد الكاتب على الهضم والاستيعاب والرؤية العميقة والعريضة والبعيدة ثم الإفراز والتحليل والتشكيل. على سبيل المثال الروائي الأمريكي John Ernest Steinbeck مثالا للتدليل على هذا؛ فقد حصر معظم أعماله الروائية في نطاق الكتابة عن قرية صغيرة تدعى مونتيري في ولاية كاليفورنيا لا يكاد يسمع عنها أحد، ومع ذلك فقد اشتهرت رواياته على المستوى العالمي مثل "رجال وفئران"، "رصيف كاناري"، "شتاء السخط".
لقد تمكن John Ernest Steinbeck من الرؤية العميقة الموضوعية ولذلك وجد من يفهمه ويتذوق أدبه في مختلف الأمكنة. لأنه مهما اختلفت الأعراق والعادات والتقاليد والاتجاهات والتكوين الاجتماعي والاقتصادي والنفسي والسياسي بين البشر فإن هناك شيئا مشتركا يشدهم إلى بعضهم البعض، هذا الرابط نسميه أحيانا بالإنسانية وأحيانا بالحضارة وأحيانا بالتشارك الوجداني.
هذا الرابط هو الذي يربط بين القومية المحلية والإنسانية الشاملة رغم التعارض الذي يحصل بينها بعض الأحيان؛ إلا أن الأدب كفيل بصبهما في شكل جميل متناسق وتحويلهما إلى وجهين لعملة واحدة.
ومن هنا كان دور الأدب هو الربط بين قوميات مختلفة. ولهذا قال الشاعر روبت لويل (ت 1977) أن الفكر والأدب هما من ممتلكات البشر جميعا ولا يمكن أن يتحددا بالفواصل الجغرافية أو التاريخية.
كما برز مفهوم المحلية بقوة في نفس الوقت في ألمانيا وانجلترا وإسبانيا، حتى اختلط مفهوم القومية بمفهوم المحلية بحيث أصبح التعبير عن الشعور القومي مجرد صورة حرفية للمزاج المحلي بكل أشخاصه وأفكاره المرتبطة به، والمفهوم الناضج للقومية يؤكد على الربط بين أرض الواقع واستيعاب أبعادها وبين المُثل الإنسانية العامة.
رغم كل هذا، فالمفهوم الضيق للقومية يظل يدور في دائرة مغلقة للإقليمية الضيقة، وغالبا ما ينتهي به الأمر إلى الركود أو الموات لعدم اتصاله بالروافد الإنسانية العريضة فالمعروف أن الأدب القومي يعتمد على ركيزتين أساسيتين:
- استكشاف التراث الشعبي المحلي وتنقيته من الرواسب التي تعوّق نضجه وتطوره.
- الاستفادة من التراث الإنساني بحقن التراث المحلي بدماء جديدة بشرط أن تكون من نفس الفصيلة، كي لا تتسبب في موته. ومن التفاعل العضوي بين القومية والإنسانية من خلال التأثير والتأثر.
يستطيع أي أدب قومي أن يساهم في الأدب الإنساني لأنه في الحقيقة ليس سوى مجموعة متناسقة من الآداب القومية بلغت حدا من النضج الفكري والفنيّ جعلها تساهم في التراث الأدبي الإنساني وتضيف إليه، وتوسع من رقعته.