كتاب الباحث والمؤرخ اللبناني فواز طرابلسي «حرير وحديد: من جبل لبنان إلى قناة السويس»، الصادر عن دار رياض الريس قبل مدة، هو كتاب عن القرن التاسع عشر. ولكنه ليس كتاباً تأريخياً، بل هو سرديات حكايات متزامنة متناثرة، جمعها المؤلف من مدونات وكتابات وسير وشهادات، وهو مرويات رحالة ومؤرخين ومثقفين ومغامرين ومبشرين، ورجال إرساليات تعليمية وتبشيرية، كُتبت كلها في القرن التاسع عشر بين لبنان ومصر ولندن ومدريد وباريس، وغيرها من العواصم الأوروبية. وقام طرابلسي بتركيبها وتنسيقها لتقدم ما يشبه صورة شبكية عن حوادث وشخصيات في ذلك القرن.
في الصفحة الأولى كتب طرابلسي ملاحظة تشير إلى أن «شخصيات كتابه حقيقية، ومثلها الأحداث والمواقع والتطورات بحدود ما أمكن التوصل إليه من معارفنا التاريخية المسنودة». وهو يشير إلى دور للتخييل في ثلاثة نصوص من كتابه. وربما سمّى طرابلسي كتابه «حرير وحديد»، لأنه يعتبر أن هاتين المادتين رمزان أساسيان للقرن التاسع عشر. فللحرير قصة كبرى في العالم والتجارة العالمية، وفي جبل لبنان في هذا القرن. وللحديد أيضا قصة أخرى في المشرق إبان القرن الأخير من حياة الدولة العثمانية وإصلاحاتها، ومنها إنشاء سكك الحديد التي لم تستعمل سوى عقود قليلة، ثم لم تلبث أن أُهملت وأزيلت بعد سنوات قليلة من استقلال البلدان المشرقية.
الليدي اللندنية
إنه كتاب عن عبدالقادر الجزائري، الذي قاوم الاستعمار الفرنسي في بلاده، ثم نفي إلى دمشق، حيث أمضى معظم أيام حياته، وأصبح شخصية أساسية في تاريخ بلاد الشام في الحرب العالمية الأولى وأيام الانتداب الفرنسي. وهو كتاب عن المغامرة الليدي استير ستانهوب الارستقراطية اللندنية المهووسة بالشرق، التي نشاهدها ترتدي لباس الفرسان على فرس في الصحراء السورية، متلبسة شخصية زنوبيا ملكة تدمر. فستانهوب تتردد أخبارها ورواياتها في مواضع كثيرة من الكتاب بين بيت الدين الأمير بشير الشهابي والقناصل الأوروبيين في بيروت، لنعلم أنها لعبت دوراً لا يستهان به في الأيام الأخيرة من حكم العثمانيين في بلاد الشام. وفي مشاهد الكتاب الأخيرة نرى الليدي استير ستانهوب في دارتها في بلدة جون على فراش الاحتضار، بعد حياة مفعمة بالمغامرات، فيما خدمها ونساء القرية ينتظرون موتها، لكي يحملوا أثاثات قصرها الى بيوتهم. وهذا ما حصل فعلاً، حتى إن النساء أخذن ينزعن الأقراط والحلي من أذنيها وعنقها بعدما أسلمت الروح على سريرها.
أحمد فارس الشدياق
ومن مرويات هذا الكتاب نعلم أن أحمد فارس الشدياق، الذي ساهم مساهمة أساسية في النهضة الأدبية، وقد تزوج من ثلاث نساء، واحدة إنكليزية، وأخرى شامية، ثم أشهر إسلامه في تونس، وتعددت تفسيرات ذلك. فقيل إنها تكريس للملاءمة بين ثقافته وهويته الدينية، وقيل إنها حصلت لدافع بحثي، إذ يسهل عليه دخول المساجد بحثاً عن مخطوطات التراث، لأن بعض رجال الدين يمنعون دخول المساجد على غير المسلمين. وقيل إنها خيبة أمل من المسيحيين. وقيل أخيراً إنها سعي وراء وظيفة دسمة في إسطنبول. في كتاب «حرير وحديد» غالباً ما تتراوح تفسيرات الحوادث على نحو متناقض.
قرن الرجل المريض
ولمحمد علي باشا وزمنه في مصر، واحتلال ابنه إبراهيم سوريا وفلسطين، حصة من مرويات الكتاب الذي يبدو أن وجهته العامة تتركز على حضور الدول الأوروبية الكبرى في سوريا ولبنان وفلسطين، وصولاً إلى إسطنبول، طوال القرن الذي سميت فيه الإمبراطورية العثمانية بالرجل المريض، ولم تنفع الإصلاحات في شفائها أو تجنيبها كأس الانهيار أمام القوى الإمبريالية الأوروبية العظمى: بريطانيا وفرنسا اللتين اجتاحتا العالم، وصولاً إلى الهند والهند الصينية في قلب آسيا.
وفرناند ديليسبس مهندس فكرة شق قناة السويس ومنفذ شقها، حاضر في هذا الكتاب حضور قناة السويس نفسها، وحضور النساء خارج منازلهن، يعملن في معامل الحرير التي انتشرت بكثافة في جبل لبنان.
شخصيات «حرير وحديد» تنتقل في هذه الحوليات عبر البحر الأبيض المتوسط شرقه وغربه، فيبدأ التدوين من اطلالة موسم الحرير، الذي كانت نساء جبل لبنان تضعن بيوضه في أكياس قماشية يعلقنها في أعناقهن وبين أثدائهن، لأن بيوض الحرير تحتاج إلى الحرارة كي لا تفسد.
الإرساليات والصناعة:
وللقرن التاسع عشر الأوروبي حصته في هذا الكتاب، حيث نقرأ أخباراً عن انتفاضات عام 1948 في باريس ولندن وأوروبا الوسطى، كما نقرأ عن البؤس والتشرد اللذين نجما عن توسع التصنيع، وعن الفقر المدقع الذي عاش فيه كارل ماركس، فيما هو يكتب مؤلفه الكبير «رأس المال».
وللإرساليات التبشيرية والتعليمية، التي أتت من الغرب إلى بلاد الشام، حصة وافرة من الكتاب: «فمن لم يسمع بعين ورقة أم المدارس الأهلية في ذلك الزمان لا يعرف شيئاً عن التعلم في بلاد الشام. أنشأت تلك المدرسة الرهبنة المارونية في سنة 1789 على يد الأسقف يوسف اسطفان، وتخرّج فيها خمسة بطاركة وثلاثون مطراناً، وعدد كبير من الكهنة، ومعظم مؤسسي المعاهد التعليمية، وعدد وافر من رجال العلم والسياسة من آل البستاني والشدياق ودحداح». وعين ورقة هي النموذج الأول للمدارس التي تكاثرت في جبل لبنان وبيروت، وساهمت مساهمة أساسية في ما يسمى النهضة الفكرية والأدبية العربية. وللانتفاضات الفلاحية في جبل لبنان ما بين 1840 و1860 حضور كبير في هذا الكتاب. فمن طانيوس شاهين إلى يوسف بك كرم، وسواهما من رجالات تلك الانتفاضات، يبدون في مرويات الكتاب ألعوبة في أيدي السفارات.
مرويات الكتاب تختتم مع افتتاح قناة السويس في مصر. وبين البداية والنهاية هاتين تتشكل الأخبار وتعبر الشخصيات، مثل خيوط حرير فوق نول تروح وتجيء أحداث القرن التاسع عشر، فنقرأ مقتطفات من مصائر أفراد وجماعات وبلدان وأمصار وأقوام وحوادث وشعوب.