يقارب الكاتب مفهوم الصوفية من حيث تجلياتها في ممارسة الحب الإلهي لدى مختلف الأديان. فهي ليست ديناً وإنما هي طريقة يسلكها الانسان للوصول الى الله، وذلك بالزهد وسعادة التقرّب من الله، لدى كل متعبد ناسك سواء كان بوذياً أو مسيحياّ أو مسلماً أو يهودياً أو هندوسياً.

الصوفية طريق لممارسة الحب الالهي الأصيل

صبري المقدسي

ليست الصوفية ديناً أو مذهباً وإنما هي طريقة يسلكها الانسان للوصول الى الله، وذلك بالتقشف والزهد بالحياة ومحاولة التقرّب منه الى درجة السعادة القصوى، التي يتكلم عنها كل ناسك سواء كان بوذياً يريد الوصول الى حالة الكارما (النيرفانا) أو مسلماً يريد التطهّر أو يهودياً يريد النقاوة الروحية أو هندوسياً يريد الوصول الى حالة الاندماج مع "براهمان" بعد التناسخات المتوالية أو مسيحياً يتكلم عن الولادة الجديدة: "الحق الحق أقول لكم ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله الا اذا وُلد من فوق" (انجيل يوحنا 3:3). وكذلك بولس الرسول في رسالته الثانية الى أهل الكورنثيين: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدا"(2 كورونثوس).

فالصوفية هي على الارجح مُشتقة من كلمة (الصوف)، لأن المنتمين الى هذه الطريقة كانوا يلبسون الصوف تقليداً بالأنبياء والرهبان الشرق أوسطيين في مصر وسوريا والعراق ولبنان. وقد كان الصوف شعاراً للرهبان والفقراء المُتنسكين الذين يشبه مذهبهم، مذهب النساك والزهاد، الذين يبتعدون عن الدنيا وملذاتها، ويلجؤون الى كل أنواع التأملات والرياضات الروحية وكل أنواع الطرق التقشفية وذلك للتقرّب الى الله، ولتلقي الحكمة والمعرفة الالهية، وبالاتحاد به كليا فيما يسمى بوحدة الوجود. ولهذا يُسمون بالثيوصوفيين أي الحكماء الالهيون، وذلك تطبيقا لقول النبي سليمان في حكمته المشهورة: "طوبى للانسان الذي وجد الحكمة، وللانسان الذي نال الفطنة، هي أكرم من اللآليء، وكل نفائسك لا تساويها. طول الأيام في يمينها، والغنى والمجد في يسارها. الرب بالحكمة أسس الارض، وبالفطنة ثبّت السماوات". وأما عن تعريف التصوف فيقول المتصوف الكبير "محمد منصور الحلاج":

ليس التصوف خيلة وتكلفا وتقشفا وتواجدا وصيـاح

ليس التصوف كذبة وتظلما وجهالة ودعابة ومـزاح

بل عفة ومـروءة وفتـوة وقناعة وطهارة وصـلاح

وقفا وعلما واقتداء وصفـا ورضا وصدقا ووقا وسماح

يرغب البشر جميعا في حياتهم، في ممارسة الحب والصداقة، فالحب زهرة تتفتح وتكشف عن جمالها أمام أعيننا المبهورة، بل هو طاقة حيّة تسري من الواحد نحو "الآخر" وتفتحهما للحياة وتفجر فيهما كل طاقات الخلق والابداع. ويلعب الحب دوراً عظيما في توحيدهما بكيان واحد (فليسا هما اثنان بل واحد) "انجيل متى". وكيف إذا كان هذا الآخر هو "الله"، الذي هو مصدر هذا الحب اللامتناهي، الذي يدعو الانسان اليه: (أن نكون واحد). ويؤكد الإنجيل على أن الحب رسالة إلهية تدعو الإنسان الى الكمال: "كونوا كاملين كما أنا وأبي كامل". فهذا هو الحب الصوفي الذي هو فوق كل شىء، ويوجه نحو الآخر، ونحو كل المخلوقات. وقد ظهر هذا الحب الصوفي في حياة القديسين كالقديس فرنسيس الاسيزي الذي كان يحب الحيوانات حباً كبيراً وعجيباً. وكذلك حب المتصوفين للطبيعة حباً جمّاً (لان جمالها من جمال الله). وحبهم حتى للأعداء: "أحبوا أعداءكم وادعوا لمضطهديكم، فتكونوا بني أبيكم في السماوات، لانه يُطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل غيثه على الأبرار والفجار" (متى 5: 44ـ 45). فالحب "السراني" الصوفي هو دعوة الى النمو في معرفة الله وإدراك حكمته ورؤية الأشياء من خلال نوره وجماله، والنمو في البذل والعطاء والتضحية من أجله وأجل خليقته، حتى التضحية بالذات، وهي أغلى شىء في الوجود: "أحبوا بعضكم بعضا كما أنا أحببتكم، ما من حب أعظم من هذا، أن يبذل الانسان نفسه في سبيل أحبائه" (يوحنا 15: 12ـ 14). نلاحظ من هذا المقطع من انجيل يوحنا، التاكيد على المحبة والبذل والعطاء والتضحية بالذات. ونرى الشىء نفسه عند شيخ المتصوفين (منصور الحلاج)، إذ يقول:

اقتلوني يا ثـقاتي ان في قتلي حياتي

ومماتي في حياتي وحياتي في مماتي

ان عندي محو ذاتي من أجل المكرمات

فالصوفية إذن، طريق لممارسة هذا الحب، الحب الالهي الأصيل، وهي رؤية الله في كل شىء ورؤية كل الاشياء من خلال عيون جديدة تريان من خلال نور الله وجماله. وتاتي هذه المحبة في طبيعة الحال، من الله، فهو مصدرها وهو الذي يبادر بها أولا ومن ثم الانسان: "المحبوب يجذبك اليه لكي تُحبه"، ويصير كلاهما واحد "أنا فيكم وأنتم فيّ"( يوحنا )، فيولدون من جديد ولادة جديدة: "الحق أقول الحق أقول لكم: ما من أحد يُمكنه أن يرى ملكوت الله الا اذا ولد من فوق "عل" (انجيل يوحنا 3:3). وكما يقول يسوع في انجيل متى: "أحبب الله ربك بكلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ ذهنك". تلك هي الوصية الكبرى والاولى. والثانية مثلها: "أحبب قريبك حبك لنفسك. بهاتين الوصيتين يرتبط كلام الشريعة كلها والأنبياء" (متى 22: 38ـ 39). أو كما قالت رابعة العدوية، التي عاشت في القرن الثامن الميلادي: "الصديق الذي يعيش في بيتي هو حبيب قلبي"، وكذلك في مخاطبتها لله، حيث تُظهر حباً في قمة الصفاء والاخلاص، الذي لاغرض فيه "لا طمعا في ثواب، ولاخوفاً من عقاب"، اذ تقول:

أحبك حبين: حب الهوى وحب لأنك أهل لذاك

فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكراك عمّن سواكا

وأما الذي انت اهل له فكشفك لي الحجب حتى اراك

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاك

فحبها لله جعلها تبتعد عن الزواج وتترهّب مثل الراهبات المسيحيات، حيث رفضت الزواج من أبي سليمان الهاشمي الذي كان غنيا جداً قائلة: "إنها امة الله وحده، ولا تريد ان يُشغلها أحد سواه". ومن صلاتها المشهورة جداً والتي تدل على حياتها النسكية: "الهي اذا كنت اعبدك رهبة من النار، فأحرقني بنار جهنم، واذا كنت أعبدك رغبة في الجنة، فأحرمنيها، وأما اذا كنت أعبدك من أجل محبتك فلا تحرمني يا إلهي من جمالك الأزلي".

ونرى هذا الحب يبلغ قمته في التضحية والعمل ونكران الذات في حياة السيد المسيح وتعاليمه التي جاء بها والنسق الحياتي الذي سلكه في بشارته وكذلك سلوك أكثر الرهبان في دعوتهم الصادقة الى الزهد والتعبّد والتقشف والابتعاد عن مغريات الحياة. ومن هؤلاء، القديس فرنسيس الاسيزي والقديس يوحنا الصليبي (1545ـ 1591)، والقديسة ترازيا الافيلية (1515 ـ 1582)، والقديسة كاترينا السيانية (1347ـ 1347) وشيخ الروحانيات الصوفية في كنيسة المشرق، الراهب يوحنا الدلياثي (728ـ 823)، الذي يقول: "يا الهي وحياتي، نفسي عطشى اليك وفمي يبتغيك، اما الصعود اليك، فبالحديث معـك مستطـاع، ورؤية وجهك بالتفكير فيك تعطى"، وغيرهم الذين أثَّروا في التصوف في العالم تاثيرا كبيرا.

واذا تتبعنا حياة المتصوف "الحسين بن منصور الحلاج" فنراه يعيش مثل المسيح في آلامه وصلبه ومحاربة الائمة (فقهاء الشريعة) له، حين بدأ في الدعوة جهاراً الى الحقيقة المطلقة ووحدة الوجود وعن كونـه (هـو الله) بقـوله "انا الحق"، الاعلان الخطير بالنسبة لفقهاء الشريعة الاسلامية ولعلمائها، الذين قرروا قتله وصلبه، حينما قال:

أنا الحق والحق للحق حق لابس ذاته فما ثمة فرق

قد طلعت طوالع زاهرات يتشعشعن في لوامع برق

مع العلم أن صلب المسيح كان للسبب نفسه، حينما ادعى، أنه هو "الله" بقوله: "انا هوالطريق والحق والحياة" (انجيل يوحنا 14:6)، وكذلك: "من رآني رأى الآب". وتعدّ هذه الشهادة من أقوى الصور التصوفية التي يتكلم عنها المسيح. اذ نجد فيها، التباعة والمعرفة والحياة الالهية. فالطريق في الصوفية هو الممر للذهاب الى الحقيقة المطلقة "الله".

وكذلك حينما يقول الحلاج:

لست أنا ولست هو فمن أنا ومن هو

لا وأنا ما هو انا ولا أنا ما هوهو

وكذلك قوله:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حلَلَنا بدنا

فاذا أبصرتنـي أبصرتـه وإذا أبصرته أبصرتنا

وبالمعنى نفسه، نرى المسيح يقول: "انا في الآب والآب في.. انا والآب واحد.. من رآني رأى الآب" (انجيل يوحنا).

ونرى الحلاج، يغفر لصالبيه قائلا: "هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك، وتقرباً اليك، فاغفر لهم، فانك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت. فلك الحمد فيما تفعل، ولك احمد فيما تريد".

كأنه هنا يقول ما قاله المسيح وهو على خشبة الصليب: "يا أبَت اغفر لهم، لانهم لايدركون ما يفعلون" (لوقا 23: 34).

وهو يريد أن يُقلد المسيح حياته ومماته ويتمنى هذ النوع من الميتة على الصليب فيقول:

الا ابلـغ احبـائـي لأنـي ركبت البحر وانكسرت السفينة

على دين الصليب يكون موتي فلا البطحاء اريد ولا المدينة

كأنه يؤمن بمبدأ الحلولية، التي تعلم بحلول الله في كل البشر والكائنات. فالمسيح عنده هو الله، فمن هذا المنطلق، يدعَّى الالوهية لنفسه في قوله "انا الحق" كما أسلفنا سابقاً. فيقول عن الوهية المسيح:

سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب

ثم بدا لخلقـه ظاهـرا في صورة الآكل والشارب

حتى لقد عاينـه خلقه كلحظة الحاجب بالحاجب

وللحكيم العربي (محي الدين بن عربي) دور أيضا في هذا المجال ولا سيما في معتقده نظرية وحدة الوجود في الحب، وكذلك في حكمته البارعة في الحياة والتصوف. فهو لا يرى شيئا غير الله، أو بالأحرى لا يرى شيئا إلا ويرى الله فيه، ففي شعره التصوفي نرى أن: "الله "هو المقصود الأول والأخير في كل كتاباته (الثيوصوفية) أوالحكمية. وحين يكتب عن الواحد والتثليث، فهو يكتب دائما من منطلق الحب الذي هو دينه، اينما ذهب. فيقول:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لاوثان وكعبة طائـف والواح توراة ومصحف قرآن

ادين بدين الحب أنىّ توجهت ركائبه فالحب ديني وايماني

وقد اقتنع ابن عربي بضرورة التثليث في الله الواحد، لأن من الواحد لا يصدر الا" الواحد". لذا يكون عدد "ثلاثة" ابسط الاعداد في داخل الكثرة، والسبب الاول للوجود كله، وما من شىء يتشكل إلا منه وبه وفيه.

ولا يمكن أن ننكر في الحقيقة أن التصوف المسيحي والإسلامي قد تأثرا بالتصوف اليهودي الذي هو في مجمله الطريق الى الاتحاد مع الله، أو انه ارتقاء النفس الى الله للحصول على نظرة الى الجلال الالهي وأسرار ملكوته. وما أجمل الكلام الذي لا ينتهي عن سفر نشيد الاناشيد وعن الحب والعشق الالهي الذي فيه، اذ هو كله شعر صوفي روحاني مليء بالتشبيهات والصور الشعرية والمجازية عن الله والعاشق الولهان الذي يتوق لرؤيته ومعرفة سره الالهي اللامحدود:

قبلني بقبلات فمك

فحبك اطيب من الخمر

عبيرك طيب الرائحة

واسمك عطر مراق

لذلك احبتك العذارى

اجذبني وراءك فنجري

ادخلني خدرك يا ملكي

لنبتهج ولنفرح بك

ونذكر حبك اكثر من الخمر

فعن حق يحبونك.

سوداء ولكني جميلة

يا بنات اورشليم،

سوداء كخيام قيدار.

جميلة كستائر سليمان.

لا تنظرن الى سوادي،

فالشمس هي التي لوحتني.

بنو امي نقموا علي،

فجعلوني ناطورة للكروم،

والكرم الذي لي لم انطره،

اخبرني، يا من يحبه قلبي،

اين ترعى غنمك

واين تربض عند الظهيرة.

فلا اكون كمن يتلظى

عند قطعان رفاقك.

(سفر نشيد الانشاد 1: 1ـ 7).

فهنا يجسد هذا السفر العلاقة الحُبية والسّرانية المقدسة، التي تصبح مصدرا للالهام الصوفي في كل أديان العالم ولاسيما الاديان الابراهيمية: اليهودية والمسيحية والاسلام.

* * *

الأعلام:

رابعة العدوية: ولدت في البصرة (العراق) سنة 793م من ابوين فقيرين سرعان ما توفيا، فاصبحت يتيمة وعاشت في فقر مدقع كعبدة ذليلة وقضت معظم وقتها في الصلاة والاعتكاف.

منصور الحلاج: (858 ـ 932) هو الحسين بن منصور الحلاج، صوفي وفيلسوف من القرن التاسع الميلادي، كان يدعّي الحلول ومعناه حلول الله فيه. صلب بسبب تعاليمه ثم قطع رأسه واحرق بعدها.

ابن عربي: ولد في الاندلس سنة 1160 ميلادية في بيت علم وفضيلة. وهو قطب الدين بن عربي الاندلسي، والملقب بالشيخ الاكبر عند الصوفية. كان رئيس مدرسة الوجود.

يوحنا الدالياثي: (728ـ 823)، راهب من الكنيسة الشرقية من منطقة زاخو في شمال العراق. له كتب في النسك والرهبنة.

* * *

المصادر:

(1) الانسان والله (لاهوت عقائدي)، تأليف المطران كوركيس كرمو، ص 154.

(2) تاريخ التصوف الاسلامي، عبد الرحمن بدوي.

(3) الفكر المسيحي، الرابعة العدوية، الأخت ماريان ابراهيم، العدد 116 سنة 1976.

(4) جهاد لويس ماسينون، مقالة الاب باولو دالوليو.

(5) الحكيم العربي، محي الدين بن عربي ـ مقالة ندرة اليازجي.

(6) القوة الروحية للمادة، الاب تيلار دي شاردان.

(7) المعجم الفلسفي، 1/ 360 عن التوحيد.

(8) أضواء على التصوف، طلعت غنام.

(9) مقدمة لدراسة السرانية، ديمتري افييرينوس.

(10) الحب طريقنا الى الحضارة، بول سالومون.

(11) عن التصوف والأديان، لقاء مع بيير لوري.