تمزج الروائية المصرية أساطير الخلق مع أسطورة إيزيس وأوزوريس وكيف جمعته وأعادة خلقه، بجريمة قتل الأخ البدئية، بخيال علمي يُخضع التطور والعلم الإنسان ويحوله إلى أله، وكل هذا العسف والتاريخ الأسطوري يقود الراوي إلى ميدان التحرير وسط القاهرة زمن أخر ثورة، وكأن الثورة مطهر وخلاص لعذاب البشر.

رواية العدد

الخروج إلى النهار (رواية العدد)

نجلاء علام

بسلامٍ إلى حقول الجنة من أجل أن يعرف

السطر : 28، من كتاب الموتى

 

إهداء: إلى الشهيد المبتسم

 

- 1 -

كُرةٌ مثقلة بالغازات، و بأقدار من سيأتون عليها، ضغطٌ شديد، تفاعلات لا تنتهي،

و صراخ يضرب جنبات الكُرة، و ينجح في فتح رتق صغير، تتصاعد من خلاله الأبخرة و الغازات، ثم انفجار هائل يجعل كل جزء يجري إلى مدار .

كون استقر بعد عراك، و بدأ يرى نفسه نجوماً و كواكباً و أجراماً، أقماراً، و شهباً

و نيازكاً تجمعها مجرات .

كونٌ يسأل نفسه : لماذا كانت أجزاؤه تتنافر عند الاتحاد، و الآن بعد الانفصال نشأت جاذبية جعلت كلاَ منهم، يدور في فَلَكه دون أن يلتصق بأخيه، أو يفلت إلى أعماقٍ سحيقة .

 

- 2 -

و جاء الإنسان ....

 

- 3 -

بين جدولٍ صغير، و عدة شجيرات أجلسُ، أرى أولادي يلعبون، و امرأتي تجلسُ أمام النار تنتظر نضوج الطعام، وحدي أنظر إلى ماء الجدول و أسأل ذلك السؤال، الذي يشقُ صدري كل آنٍ .. لِمَ ؟

كان الوسيم الهاديء، و كنتُ القوي المُعين، كان كالجدول ليّـناً عذباً، و كنتُ كالنار ملتهباً و ضرورياً، كنتُ المدافع عنهم حين تهجم الوحوش، من يأتي بالماء،

و يسقي الزرع، من يشعل النار لحواء كي تطهو، من يسلخ جلد الحيوان ليتدثر به آدم، كنتُ المحب في صمت، العزوف عن الكلام .

و كان من يمسح على شعر حواء بالماء، من يُطلق الطرفة، فيبتسم آدم، من يغني لأغنامه، فيلتم الأخوة و يسيرون خلفه، كأنهم مسحورون به، و رغم لين طبعه، كان يستميلني للعداء .

وقال آدم : قدما قرباناً .

و ما كنتُ أملك غير الحنطة، فوضعتُ بعض عيدانها، كنتُ الأحق حتى دون قربان، أليس للعامل أجر ؟!

و قًدِمً هو، يجر أكبر كبش، و أكلت النار كبشه، و تركت حنطتي، فعرفت أنني هالك .

نظر في عيني نظرةً، أماتت فيّ شيئاً، و أحيت فيّ شيئاً آخر، قال :

- إن مددت يدك إليّ لتقتلني، ما أنا بماددٍ يدي إليك لأقتلك .

هل كان هذا نهي، أم تحريض على القتل ؟

يزورني في الأحلام كثيراً، فأجده سعيداً بوقوعي في الشَرَك، يقول :

- نلتُ أنا السلام و المجد، أما أنتَ فنلتَ الندم .

و تتراءى أمامي كل حين : لِمَ .. ؟

هل كنتُ أخافه إلى هذه الدرجة، أم أنني خفتُ نظرة الحب في عيونهم له، و نظرة البين بين لي ؟

( لِمَ ؟ ) تدقُ رأسي كلما سمعتُ غناء الأبناء، أبحث في وجوههم عن وجهي فلا أجده، لهم عيونه، و طَلّته و صوته، صرختُ :

- يا أبناء السِفَاح، لماذا لم تأخذوا مني غير قسوة القلب ؟

و أرتد إليها، أُلقي بجسدي عليها، و أزأرُ :

- أريد ولداً يشبهني .

تنشبُ أظافرها في صدري، و تفحُ :

- كيف و هم أبناء غصب لا رضا ؟

لم تمكني من نفسها أبداً، إلا بعد عراك طويل، يدمي جسدي و جسدها، و أستوحشُ لآخذها، و تلينُ بعد جهد، فيكون اللقاء، تهذي حينها :

- لماذا رهنتَ متعتي بالألم ؟

أقوم من عليها، و أنا أرتجف، و أصرخُ :

- أأكونُ قد كتبتُ على ذريتي التعاسة ؟

و تنتفضُ الكلمة ناراً تحرقني ( لِمَ ؟ ) .

فيعلو صوتي، و ينفتحُ جرحي، و أبنائي من حولي يكبرون و يتكاثرون، يقبلون، و يدبرون، يتغيرون، و تختلف ألسنتهم و سِحنهم، و لا أحد فيهم يواسي شيخاً عجوزاً، يقفُ وحده يعاتب مقتوله .

 

- 4 -

منذ أحد عشر يوماً، لم تطلع علينا شمس، كنا قد دُفنا بعد انهيار الطبقة الأرضية التي نحفر فيها، انتهى من انتهى، و نجونا نحن الاثنيْن، قالوا لنا عبر مُكبرات الصوت، إن النجاة قريبة، و إنهم سيأتون بآلات عملاقة لانتشالنا، و أخذوا يرمون لنا ( الفبرو )، و زجاجات المياه، عن طريق الحفّار الذي يصل إلى منتصف المسافة بيننا و بينهم، و كنا قد بذلنا محاولات مستميتة أول هذه الأيام، لنمسك بهلبه الضخم، المعلق في الفراغ .. دون جدوى، و الغريب أنهم لم ينسوا أول الشهر، أن يسقطوا لنا كروتنا المعتادة في أظرف مغلقة بإحكام .

هنا في الأرض، حيث كل شـيء اسـتقر، عرفت كل حصـاة مكانها، فاطمأنت و رسخت، و مرت السنين من حولها دون تأثير، هذا قلب جامد، و هذا صخر لم يمر عليه الماء فَيَلِين .

تململ الذي معي، ثم سمعته يشرب و يغلق الزجاجة، لا أعرف لماذا لم ينته هذا الرشيق ذو النظرات الحادة .

عرفته من صوته، منذ سقطنا في هذا الظلام المراوغ، الذي أحياناً تبدده أنوار الكشافات من علٍ، فأرى من حولي أشباحاً و ظلالاً، و أحياناً أخرى يطفئونها دون سبب، فينزلُ بنا ظلام قاسي القلب، لا يبوح أبداً بسر فك طلسمه، فتبقى عيني معلقة على عينيها .

( احمر ناري )، هكذا صُنِفتُ بعد اختبارات دقيقة، و إثباتات للولاء عديدة، تم إعطائي بطاقة الاحمر الناري، ملابسي لونها احمر ناري، مسكني لونه احمر ناري، العربات التي تقلني لونها احمر ناري، الشوارع التي أتجولُ فيها لونها احمر ناري، حتى السماء منذ فترة طويلة، تغيّر لونها وتخضّبت بالحمرة .

كنتُ أعلم أنه لا سبيل للعيش إلا بالانضمام إلى أحد هذه الألوان الخمسة، التي يتلوّن بها العالم : الاحمر الناري، الأسود، الذهبي، البنفسجي، الفضي .

هذه هي ألوان المؤسسات الخمس التي تدير العالم، و دون الانضمام لإحداها، لا مكان لي على الأرض .

سقطت عليّ فجأة التمرات، منذ البارحة و هم يرمون لنا بالتمر و الماء، لابد أنهم تنبهوا أن عبوات الوجبات الجافة، و التي نسميها ( الفبرو ) قد ملأت المكان، و إذا استمروا في إرسالها، فسوف نُدفن تحتها .

أخذتُ أمسح التمرات بأصابعي، و أضعها في فمي، و أمتص حلاوتها، سمعتُ صوتها خافتاً :

- حلمتُ البارحة بتمر و ماء، و كنتُ عطشى، شربتُ الماء و لكنني لم أرتوِ، كان مالحاً كماء البحر، و كنتُ جوعى، و لكنني لم آكل، إذ كانت التمرات عفنة و مُرّة.

و ضعتُ يدي على أذني، و صرخت :

- لا أريد سماع صوتك، لماذا تلاحقني عينيك، ماذا تريدين بعد أن أورثتني التعاسة ؟

قلتها باللغة التي علمتني إيّاها، و كانت تُصر أن تتحدث بها معي، مما جعل اللين يصرخُ في :

- تكلم الفَصّلا .

و ( الفَصّلا )، هي اللغة التي يتكلم بها الآن جميع من في الأرض، و قد جُمعت من اللغات السابقة، مع الاستغناء عن كلمات لم يعد لها معنى، فألفاظ الفَصّلا تُعبّر عن كل ما هو موجود و مرئي، و لهذا كانت أمي تجد صعوبة في التعبير بها، و تلجأ إلى لغة قديمة متوارثة، لتعبر بها عن الرؤى و المشاعر .

كانت تصرفاتها بالنسبة لمن حولها دائماً غريبة، تبعث على الشك و الريبة، فهي تصر على خرق القوانين، تُربي نبتةً في أصيص، و تضعه في النافذة، فيأتون إلينا

و يلصقون على بابنا ثلاث نقاط خضراء، بجوار النقطتين السابقتين، لو اكتملت النقاط عشرين، سوف نطرد .

أجتهدُ في الشرح لها بلغتها، أن الأوكسجين موزع في الجو بالتساوي، و نحن نحصل على كميتنا المخصصة لنا، و معنى أن نمتلك زرعاً أننا نُخِلُ بالتوازن المعمول به، لكنها استمرت في خرق القوانين .

كانت تعترض على الأعمال التي تُكلف بها من قبل المدراء، تنزل إلى الشارع في غير الوقت المخصص لها، و تغني و هي تعمل بلغتها، فيسمعها الزملاء و يبلغون عنها، أما ما قضي علينا تماماً، فهو إصرارها على منادتي بـ ( اسم )، و كنت قد رُقمت منذ الولادة، و حصلتُ على حرف ( 232 ف ) .

و لهذا احتجزنا لفترة طويلة، تم فيها التحقيق معنا، و تبرأتُ أثناء التحقيق منها، ومن كل ما فعلته، و ادعيتُ أنني لا أعرفُ اللغة التي تتحدث بها على الإطلاق،

و أنها لغة خاصة بها، ربما تكون اخترعتها، و رغم كل شيء وُضعتُ تحت المراقبة لفترة طويلة،حتى تم اختياري لأكون حضّانة، أما هي فقد نُفيتْ إلى المنطقة التي بلا لون .

كانت فترة مستقرة تلك الفترة، التي عملتُ بها حضّانة، في البداية شرحوا لي كل شيء، كيف تم تخليق الزيجوت الذي سيصبح طفلاً، كيف حصلوا على البويضة من امرأة ذات صفات خاصة، و كيف تم تلقيحها، و ما هو المستهدف بعد معالجتها جنينياً، و كيف ستكون قدرات هذا الطفل المخلّط المصنوع أساساً لإجراء التجارب عليه، و أنني حاضنة طوال تسعة أشهر، سأحظى خلالها بالرعاية الصحية، و الطعام الجيد الوفير، و راحة لم يقدر لي أن أعرفها من قبل، هكذا قال لي الطبيب المشرف :

- إننا أشبه بخلية نحل، و قد سُمح لكِ أن تكوني ملكة فيها لبعض الوقت .

تم حقنه داخل الرحم بنجاح، و عندما أفقتُ من البنج، كانوا يعاملونني كملكةٍ بالفعل، بدأت بطني تتمدد، و معها بدأت تتمدد التساؤلات .

هل سيتذكرني هذا الطفل ؟ هل سيأخذ مني شيئاً ؟!

قالت أمي إن عيوني تشبه عيون والدي، و كيف لي أن أتأكد و أنا لم أره من قبل، و لن أراه، صحيح أنني طفلة فيزيقية، جئت للحياة نتيجة علاقة بين ذكر و أنثى، مما وضعني دائماً في المرتبة الثانية، إلا أنني لم أُصنف ( جنس ضعيف )، فبنياني قوي، و حين تم اختيار قدراتي، حصلتُ على ( كُفء )، و لهذا لازلتُ أعيش بينهم إلى الآن .

كثير من الفيزيقيين تم نفيهم، أو الاستفادة من أعضائهم، إن الحذر الذي يُقابل به الطفل الفيزيقي، ليس ناتجاً عن ضعف قدراته، مقارنة بالطفل المُعدل وراثياً فحسب، و إنما أيضاً لأنه نتاج عملية أصبح يُنظر لها على أنها تعبير صريح عن حيوانية الإنسان، و عدم اكتمال إرادته، و ينفى الذكر الذي يقوم بهذا الفعل، بينما تستخدم الأنثى في أدنى الأعمال .

لخمس مراتٍ تم حقن رحمي بالزيجوت المُخلّق، و لخمس مراتٍ تم شق بطني لاستخراج الوليد، و لخمس مراتٍ أُفيق من التخدير، فأجد ممرضة مبتسمة تقول :

- لم يكتمل الجنين، ربما في المرة المقبلة .

ذهبت إلى حجرة الأطفال الفيزيقيين، رأيتهم من وراء الزجاج، إنهم أنقياء جداً، جميلي المنظر، وجوههم ندية، و لهم نظرة تُحيي الروح، إنهم يحركون في النفس مشاعر لم تعد لغتنا تستطيع التعبير عنها .

هل شعر الطبيب بما أفكر فيه ؟ فسحبني من ورائه إلى الحجرة، و سلمني الشريحة و قال :

- حصلتِ على تقدير ممتاز، مما يؤهلك للاستمرار في العمل، و لكن في مجالٍ آخر، اخترتُ لكِ الحفريات .

قالت أمي، إن أمها احتفظت سراً بصورة الرجل الذي أنجبتها منه، و عندما ذهبتا للبحث عن الصورة، صدر الأمر بحقن أمها لتجميدها، و الاستفادة بأعضائها .

قالت :

- كنا مسرعتيْن نفتشُ في كل مكان، حتى نجد الصورة قبل تنفيذ الأمر .

و هكذا بقيت في بيتي صورة صغيرة، تم قطعها من بطاقة الحصول على الغذاء، كانت تخرجها بحذر، و تتأملها، و تقول :

- هذا الرجل جئتُ منه إنه أيضاً يشبه الرجل الذي أتيتُ بكِ منه .

كثيراً ما كان يُلحُ عليّ السؤال، و لكن كيف يُسألُ في ظل لغةٍ أسقطت هذه الألفاظ من قاموسها .

في المقابل، هي لم تُلمّح لهذا الموضوع، كأنها كانت تخشى أن أجدفُ ناحية التجربة، و عندما لاحظت نظرة عيوني، قالت :

- اتبعي طبيعتكِ .

 

-5 –

قادتني عيناه إلى الحب، كنتُ أعرفُ أنه لي و أنا له، ضربنا في الأرض طويلاً، تخطينا أحراشاً و برية، عَدَوْنا وسط الغابات حتى وصلنا إلى الصحراء، مر بنا دفء وحر و جليد، و قال آدم :

- تعلموا مما حولكم، ها هي الأرض تعلو و تهبط، تميد و تسكن، و كل ما فيها يريد إنساناً يعرف كيف يقبض عليه و يسوقه، لن ترضخ الأرض سريعاً لكم، إنها تريد محارباً جسوراً، لا تفتر عزيمته مهما مرت السنين .

و كنتُ أعرف أن قابيل توأمي هو الأقوى، هو الأسرع .. و كنتُ مثله شديدة الاعتزاز بعقلي، قادرة على ترويض ما حولي، قلتُ :

- ستكون لنا الأرض .

ظللتُ كثيراً أتأرجحُ بين قوة الحب في عيني هابيل، و قوة الإرادة و الطموح في عيني قابيل .

و جاء الميعاد، وقفتُ بزهو الرغبة في، و لعلي أورثته إلى كل امرأة من بعدي، وقفتُ أنتظر قبول القربان، لم أستطع حينها أن أنساق لأحدهما، و أعلن انحيازي له ولم يُطلب مني ذلك، فكرتُ أنني قادرة على الانتصار في كل الأحوال، سأصنعُ من هابيل رجلاً له أقدام يزرعها في الأرض، بدلاً من رفرفته الدائمة حولها، إن اختاره القدر لي، و سأزرع داخل قابيل قلباً يرحم إن كان من نصيبي .

وقفتُ أنتظر، و وقفت هي في الناحية الأخرى، قلتُ :

- هذا هو الاختيار الأول للإنسان .

و نزلت النار فالتهمت الكبش، جرى هابيل، و حملني بين يديه، رفعت فرع الشجرة الذي أحمله في يدي، هل كنتُ حينها أعبّر عن فرحتي، أم أُخيف قابيل الذي أرى عينيه و أعرف عزمه .

صرتُ في الأيام التالية أمشّطُ شعري، و استحم بمنقوع الزهور، ارتديتُ جلد الجاموس، و جلستُ إلى حواء لآخذ العظة قبل الزفاف، لكن حواء التي كانت تشعر أمراً، قالت على عجل :

- دعيه دائماً يأتي، لا ترفضي، و لكن لا تذهبي .

و كنتُ مثلها أحس أمراً، بل أعرفه و لكني رميتُ فرع الشجرة، و جلستُ أنتظر .

و جاء قابيل، و لكن عيون هابيل لم تمت، كنتُ أراها حولي في كل شيء، في أوراق الأشجار، في مياه الأنهار، في عيون الغزال المارق أمامي، في القلوب النابضة من حولي، و حتى في عيون قابيل عندما أرضخ له، بعد عراك طويل أدخل فيه ببسالة لأكفّر عن صمتي، و أرضخ عندما أرى عيون هابيل، و يد هابيل

و قلب هابيل، و أهذي عله يسمعني :

- لِمَ رهنتَ متعتي بالألم ؟

و أفح كما تفح الحيّات، و يزأرُ كما تزأر الأسود، و تنتفخ بطني، و ألد ثم تنتفخُ بطني و ألدُ .

نجري أنا و قابيل في كل اتجاه لنعمر الأرض، يصنع من الحجر سلاحاً، و أشذبُ فروع الأشـجار، لأجعـل منـها رمـاحاً، يتخذ الكهف بيتاً لنتخفى من الضواري و الوحوش، أربط جـلود الحيوانات لأصـنع منها مـلابس تدفئنا في البرد، نعمر و نعمر، و ننجب أولاداً لا أنظر في عيونهم قط .

أصرخ فيهم :

- إملأوا الأرض، اهجروا الصحاري و الغابات، و عيشوا على ضفاف الأنهار، اطلبوا المجد، خذوا الأرض، فمن أجل هذا ضحت أمكم .

 

- 6 -

عاد اللّين النحيف إلى عادة تسلق النتوءات من جديد، و قد أقلع عنها ليوميْن، كنتُ قد شاركته من قبل لمراتٍ، و لكننا لم نصل لشيء، و كنا دائماً نقعُ في النهاية، فالحفرة التي وقعنا فيها، تمثل فراغاً ما بين شقيْن من صخور الأرض، و لم أستطع أن أعرف أي صخور تلك، و لكن المؤكد أننا نزلنا أعمق بكثير مما كنا نظن، حتى إن الجاذبية لم تكن تعطينا فرصة للصعود لأكثر من متر، و من تكرار السقوط على الصخر الجاف، شعرتُ بآلام لم أعرفها من قبل، و لهذا صرخت فيه بالفَصّلا :

- سوف ننتهي من المحاولة، و ليس من الاستسلام .

و كنتُ أريد أن أقول :

- سوف نموت .

و لكن الفَصّلا ألغت كلمة ( موت )، و تم استبدالها بكلمة ( إنتهاء ) !

بعدها سكنت و جلست أراقب ظلاماً ما أثقله، و أتسرى بتخيّل محاولاته المستميتة .

لولا احتياجهم لنا، ما ضخوا إلينا هذه الكمية من الأوكسجين، و التي أشعر بها تتجدد كل فترة، مما يلهب فكري، و يساعدني على صفاء الذهن .

و الغريب أنني فوق ما كنتُ أشعر بهذا الصفاء، و كان عليّ أن أتمدد، لأنعم ببعض النوم، فقد قسمتُ الزمن، و أرغمت نفسي على النوم مرتيْن في اليوم، ربما لأقلّد أجدادي ممن كانوا ينامون ثماني ساعات في اليوم، بينما الشائع عندنا الآن، النوم لساعتيْن على جهاز سحب الشحنات الكهربية الزائدة .

و رغم أنني لم أجرّب من قبل النوم دون الجهاز، إلا أنني اعتدتُ النوم دونه منذ سقوطنا، لابد أنها عادة أصيلة عند الإنسان .

غير أنني اليوم هاجمتني صور و أصوات أثناء نومي، و احترتُ من أين أتت هذه الصور، التي لم أرها من قبل، و متى سمعت هذه الأصوات التي تنطق بلغة أمي لا بالفَصّلا .

كنتُ أريد أن أسأل الليّن، هل رأى شيئاً في نومه، لكنه كان مشغولاً بمحاولاته اليائسة في الصعود، كان صوت ارتطامه مكبوتاً، و لكن صدى الصوت الناتج عنه يزلزل المكان، و أنفاسه المتلاحقة، تشعرني بالتوتر، و لكن محاولاته تعطيني الفرصة للتمدد بكامل جسدي على الصخر .

عندما انتهى من محاولاته بالهزيمة كالعادة، كان عليّ أن أتكوّر مرة أخرى، لأن ملامسة قدمي له تثير غضبه .

هل أقول هنا إنني استعدتُ روحي، فرغم النهاية المحتومة، نما بداخلي شيء لم أشعر به من قبل، و لكنه بالتأكيد كان مخزوناً في مكان ما داخل النفس، كالنوم

والصوت و الصور .. شيء يجعلنا نقترب من أنفسنا أكثر، نعرف عنها أكثر،

و ربما نحبها أكثر .

 

- 7 -

و توالت الصور ..

 

كأنني في لجة أتخبط بين صحو و نوم، أعلو بسرعة جنونية، أطير بسرعة جنونية، أعبر نفقاً طويلاً من الزمن، نفقاً معتماً موحشاً خالياً من الهواء، أخرج منه على ديار و أقوام، كلما أمر على أحدهم يلقنني الأمانة كي أفرغها بين يدي مولاي عند المثول .

و قُذف بي، فإذا النور يغشى الأبصار، و إذا الملكوت في سكون .. و جيئ بآدم،

فصرختُ :

- لا تحملها، لا توّرثنا الشقاء .

و لكن صوتي انمحى، و لم يجد موجات تصونه و تحمله، اختار آدم، و نفذ السهم، و عدد الأسماء كلها، كلما عد اسماً، تراءى أمامي، حتى اكتملت الأسماء كلها، و حمل الإنسان عبء الاختيار، و تجسّدت الأسماء : نعيمه و شقاءه، كذبه و صدقه، بغضه و حبه، حسده و غبطته، لومه و عفوه، غضبه و حلمه، عنفه و سلامه، خيانته و أمانته، شهوته و عفته، طاعته و معصيته، فجوره و تقواه .

و تعلم آدم السعي للطيبات، و الندم على الخطيئة، و اكتملت الفطرة .

صرختُ :

- يا آدم تذكر، ستكون أول من يُصْلى بنار الاختيار .

و انسحبتُ إلى الأقوام، و كلما مررت بقومٍ، أقول :

- رُدتْ إليكم .

شعرتُ بجسدي يرتج، و بصوتي يهذي، و يدها توقظني، قالت :

- الصور .. أنا أعرفها .

و لم أرد، كنتُ ما أزال مبهوتاً بما رأيتُ، قالت و كأنها تحدث نفسها :

- هذا ما كانت تسميه أمي الأحلام .

 

- 8 -

فَركتُ حبات التمر بيدي، و ظللتُ أمصها لأستشعر حلاوتها، فهذا يعطيني الاحساس بالشبع أسرع، كما أنه يترك طعم التمر في فمي لمدة طويلة، بينما لا يزال اللين يلتهم حبات التمر، و يعب الماء بعد البلع، و لهذا يُدر بولاً كثيراً، له رائحة نفّاذة، لم أكن قلقة من تراكم البول أو البراز، فالصخور تشع سخونة، تجعل البول يتبخر في دقائق، و البراز يجف .

و لكن ما يقلقني هو تراكم الرائحة، و لهذا شرحت له أهمية أكل التمر بطريقتي، حتى لا يشعر بالعطش لفترات طويلة، في الحقيقة كنتُ أريده أن يستمتع بفعل الأكل.

- سُدّ أنفك .

لقد أكدت لي هذه الجملة، تكوره حول نفسه، و زهوه بها، و لفتْ حولي جدائل جديدة من الوحدة .

 

منذ سقطت في هذه الحفرة، و أنا أتحسس صخورها، ألصقُ أذني بها، أنفث أنفاسي على سطحها، و أشعر أنها تريد أن تخبرني بشيء، لماذا هي ملساء هكذا ؟!

كأنه كُتب عليها الصمت، ألم يحفر السابقون عليها مصائرهم كالصخور الموجودة في متاحف المنقرضين ؟

أم أنهم حفروا عليها مصائرنا نحن ؟ و لكن الزمن كان عطوفاً بنا، و لهذا محاها :

- تكلمي أيتها الصخور، اصرخي أيتها الجدران، ما هو المصير .. ما هو ؟

صوته يأتي من داخل بئر جفت فيه المياه، ليوقظ فيّ شعوراً بالأنس، و يبدد وحشة طالت .

 

- اهدأ .. اهدأ، تنفس بعمق، و اشرب بعض الماء .

رغم كلماته الفاترة، شعرت أن معي رفيقاً، للمرة الأولى، رفيقاً يواجه نفس مصيري، رفيقاً رغم تجنبه لي، و انكفائه على ذاته، و رغم انفعالي الشديد، لم أُرد انقضاء الفرصة، دون فتح حصّالته، فقلت بالفَصّلا :

- أتشعر بالانتهاء ؟

و كنت أريد أن اقول :

- أتشعر بالخوف ؟

و لكن الفََصّلا محت كلمة ( الخوف )، حتى ( الموت ) تم استبداله بكلمة

( الانتهاء ) .

ظل صوته يتأرجح بين ثغاء ماعز، و نقيق ضفدع، و هديل حمام، حفيف شجر،

و خرير ماء، رعد و نعيق بوم، و صهيل حصان .

سمعت في صوته أصوات الحياة، و هو المحبوس في قفص العجز، لا يستطيع التعبير عن نفسه بكلمة، ثم زئير انتهى بالصمت تلته همهمة .

- كيف لي أن أعلّق ... كيف ؟

و خمنتُ أن ( أُعلّق )، تعني ( أصف )، فالوصف لم يكن كلمة شائعة في الفَصّلا.

فقلت :

- أصف .

قال بوهج من وجد ضالته :

- نعم .. أصف .. برودة داخلي، رغم الحرارة .

 

يا لها من كلمة أرادت أن تصف مشاعر و أحاسيس، و لكن كيف و الوصف دائماً يحاول تلمس الاحساس و بلورته، يخرجه عبر كلمات كانعكاس الصورة على المرآة

و لكن أنى له أن يكون هو الأصل .

و زاد حنقي على الفَصّلا، إنها لغة ذات مرآة مشروخة من كل اتجاه، كيف يبحث الإنسان عن كلمة يعبر بها عن نفسه فلا يجدها، أي لغة هذه أُريد بها محو الأحاسيس و جعل الإنسان ضعيفاً هكذا .

 

- 9 -

إننا فى جوف الأرض تقريباً، حيث السخونة على أشدها، مما جعلنا أثناء الحفر نستخدم مبردات عملاقة فى كل مكان، و حتى على السطح كنا نستخدم المبردات، ولكنها أقل فى القوة، فالأرض منذ زمن طويل قررت عقاب الإنسان، وأخذت الأرض تشع سخونة، و قد اعتاد الإنسان على كل هذا وتغلب عليه، مثلما تغلب من قبل على تغيرات كونية كانت كفيلة بمحوه، وكنا نحسد الإنسان المدلل الذى عاش عصر الفصول، و رأى تقلبات الجو بين البارد و الحار.

تكومت وتلمست جسدى، شعرت بشىء غزير على رأسى، شىء منساب تجرى عليه يدى، و تتخلله أصابعى، أيكون شعرى ؟

لم أشهد من قبل شعراً بهذا الطول، و تحسسته مرة أخرى إنه يبلغ الكتف، كيف أبدو بهذا الشعر، إنه ناعم أو ليّن لا أعرف الكلمة بالتحديد، ليتني أستطيع رؤية لونه، إن لى عينين بلون الجوز فهل يكون شعرى بنفس اللون؟!

لم أعتد الحديث عن نوعي من قبل، فتلك نقيصة لا ميزة، فأُنثى فيزيقية فى عالمنا لا تعنى سوى الريبة و التشكك الدائم، ولكي يطمسوا أى ملمح أنثوى فينا، لابد من حلاقة الشعر بشكل دورى، و إضمار الثدي عن طريق التعرض لأشعة معينة كل فترة .

فى اليوم الثاني لسقوطنا خلعت ملابسى، كانت تشعرنى أكثر بالحرارة .

- هل ترى اليد ؟

هكذا خمنت، و رحت أستحثها أن ترنى جسدى، لم يسبق لى أن رأيته عارياً من قبل، فلم يكن يسمح لنا بالتخفف من ملابسنا إلا داخل المطهر، وهو بناء ضيق ندخل فيه، لينثر على أجسادنا، بعض السوائل و الأبخرة المطهرة، يعقبها هواء يساعد على تجفيفنا، و غير مسموح فيه بوجود مرايا .

لماذا كنا نخشى رؤية أنفسنا هكذا ؟

هل كنا نخاف اكتشاف جمال أصيل فينا ؟

أم إنه قبح دفين ؟!

دُليني يا يدي، و كوني مكان العين .

إن يدي تجري على جسد ناعم، رقبة طويلة، و ثدي ضامر ذي حلمة نافرة،

و بطن مرتفعة قليلاً، ثم شعر كثيف، انزعجت ..

من أين أتى الشعر ؟

كان دائماً كالزغب المتناثر، لابد أن شعر العانة يطول كشعر الرأس، إنه

( الهيمو ) بلا شك الذي كان يسقطه، مثلما كان يسقط شعر الرأس،

و ( الهيمو ) جهاز يرسل ذبذبات تسقط الشعر، و تزيل الحبوب و البثور .

فخذان طويلتان مستديرتان، و ساق معوّجة بعض الشيء، و ذراعان نحيلتان .

و تساءلت :

- هل أنا جميلة ؟!

و انتبهت، هل هذه حيلة من حيل النفس ؟!

فللنفس ألف حيلة، تجعلنا نقنع و نخضع، و نرى فيما حولنا من ظلام حالك شعرة من ضوء، و لكنا نظل دائماً في منطقة الرضاء، فقط الرضاء، بمقدار فوق مرارة السخط، و لكنه دائماً تحت حلاوة السعادة، و إلا لماذا أفكر الآن في الجمال،

و قبلها لم ألحظه في نفسي، و لا في الأشياء من حولي .

هل تفتح النفس طاقة لتحتمل النهاية على هذا النحو ؟!

 

- 10 -

- ما شارتك ؟

- 232 ف .

- ( ف )، هكذا عرفت .

يبدو أنه يريد أن يقول :

- ( خمنّت ) .

لكنها الفَصّلا على أية حال، تتفنن مفرداتها في إخفاء ما نعنيه، و ما نشعر به .

- و أنت ؟

- 194 .

- ( ف ) .

- نعم .

- ألم تلتق بأمك ؟

- لقد حُكم عليها بعد الولادة مباشرة بالتجميد .

- ألم ترغب ؟

- لا .

- و أبيك ؟

- لقد تم نفيه .

- كانت لي أماً ذات طباعٍ غريبة، و قد سببت لي الكثير من المشكلات، لكنني الآن أشعر أنها كانت تحب نفسها، و تستمتع بالحياة على الأقل .

- الحياة ؟! .. كنت أعيش، و لم أعرف بِمَ يشعر الإنسان، و هو حي ؟ و الآن أنتهي، و لم أعرف بِمَ يشعر الإنسان و هو يموت ؟! رغم أنني حضرت الكثير من عمليات التجميد .

- التجميد، إنها وسيلة باردة تسرق الحياة، في الحقيقة أنا أفضّل ( الصاعق )، فعلى الأقل سيعطيني فرصة للمقاومة قبل النهاية .

- قاوم الآن إذاً !

- لماذا تُذَكّرني دائماً، و لا زال في الفَصّلا ضمائر للتأنيث ؟

لم أتصوّر أنه يجهل نوعي إلى الآن، و قد عرفته على الفور من أول إدرارٍ للبول له، إذ خرج البول من عضوه مندفعاً، و اصطدم بالصخور مما جعل رذاذه يتناثر على جسدي .

 

- 11 -

منذ وقعنا هنا، بدأت أسمع ذلك الهاجس الخفي، الذي يحدثني بصوتي، نعم صوتي، صوتي يكلمني، صوتي يُذكّرني، صوتي يجعلني أفكر، يناقشني، و يختلف معي.

في البداية شعرت أن هذا من تأثير الاصطدام بالأرض، و قلت سيختفي، و لكنه لم يفعل، إنه يوقظني من النوم، يتبعني .. أيكون ذلك الصوت هو النفس ؟!

و أين كانت ؟ في أي مكان داخلي تسلّحت بالاختباء كي تخرج الآن .

 

علها كانت دائما تريد الخروج، و كنت أدحضها، هكذا تعلمت، نشأت في

( الهوانا )، أرضعوني مع الحليب الالتزام، و السير بمحازاة الصف، لم يتح لنا أبداً العيش فرادى، كنا كقطيعٍ مبرمج على الطاعة، المرة الوحيدة التي سمعت فيها ذلك الصوت، حين كنت يافعاً .

جاء طائر صغير، يزقزق على شجرة، ريشه لامع، سمعت زقزقاته، و شعرت أنه يغني لي، نظرتُ إلى الشجرة، فوجدته ينظر لي، كأنه يحدثني، لا أعرف من أين جاء، فسماء ( الهوانا ) خالية من الطيور، فقد أطلقوا منذ زمن بعيد تلك الموجات التي تسير في الجو، و تمنع الكائنات الحية من الاقتراب، أو دخول

( الهوانا )، و لهذا لم يتح لي على الإطلاق رؤية حشرة، أو عصفور، و إنما خبرته من الصور، التي كنا ندرسها عن الأرض و كائناتها .

و قال الصوت :

- أمسكه .

فخطوت بقدمي، و خرجت عن الصف، و رفعت يدي إلى الشجرة، و حينها رآني

( 110 ف )، و كان معلماً في ( الهوانا )، و عوقبتُ، و عاقبتُ الصوت داخلي،

بعدم سماعه مرة أخرى .

قالت :

- نشأت في ( الهوانا )، إذا كنت من المدللين، الذين يُختارون لأفضل الأعمال .

قلتُ : لم أُدلل قَطّ، إن المكانة التي كنت مطالب بها، ألقت عليّ عبئاً

لم يجعلني أستمتع بشيء، لقد ظلت نشأتي حائلاً بيني و بين .....

و توقفت، لم أجد مُفردة في ( الفَصّلا ) تسعفني، و أسعفتني هي :

- البهجة أو الفرح .

و كنت غير قادر على وصف إحساس الفرح أو البهجة .

فقلتُ :

- هكذا .

و انفرجت شفتاي، كتجسيدٍ للمشاعر، و لكن أنى لها أن ترى، و الظلام قاسٍ من حولنا الآن .

فوجئتُ بها تقول :

- لا تحاول الوصف، لن تستطيع، فإحساس الفرح لابد أن يُعاش، لا أن يوصف .

و كان هذا كفيلاً بالقضاء عليّ الليلة، إذ بتُ أتذكّر، و الصوت داخلي، أي إحساس عشناه من قبل .

في القتال، و مع التمرينات العنيفة، كنت أجد نفسي حاذقاً في صد الضربات في الأماكن المحددة بالضبط من الجسد، و التي لا تشعرني بالألم .

و لا أذكر أنني مرضت، فكنت مداوماً على برنامج مناعة الأمراض المستقبلية، و لم يسبق لي أن أحببت أو كرهت، أليست الكراهية أيضاً شعور ؟!

و لماذا لم أشعر بالحقد أو الامتنان، بالخيانة أو الاخلاص ؟!

بالخوف أو الأمان ؟

و لماذا قالوا لنا أن المشاعر هي سبب نكبة البشرية ؟ و زوال السابقين، و حرّموها علينا !

قالوا :

- إنها لا تزرع في الإنسان سوى الضعف، و الضعف يقوده إلى الانحياز،

و الانحياز يقوده إلى عدم الموضوعية، و في هذا إهانة للعقل .

لم أكن مقتنعاً بهذا من قبل، بل كنت مؤمناً به، عرفتُ أن العقل هو الطريق، فَرُحْتُ أغذيه في كل المجالات، حتى عند النوم، كنتُ دائماً أُفضّل استخدام جهاز سحب الشحنات الكهربية الزائدة، و العجيب أيضاً أنه كان يخلعني من الضعف النفسي، حين يعتريني، و أبدأ في سرد الذكريات قبل النوم .

في عالمي الصغير آثرتُ أن يكون كل شيء فيه تحت سيطرتي ؛ منزلي، نومي، نظم التحميل و المعلوماتية التي أُغذي بها عقلي .

و في العمل كنتُ دائماً مُجبراً على التفوق، في السيطرة على كل شيء ؛ الأشخاص، الآلات، البرامج .. و العجيب أنه بدلاً من أن يعجبهم ذلك، بدؤوا في الملاحظات، و التي لم تكن سوى عدم المرونة و الابتكار .

و هكذا أُرسلت إلى الحفر، و هو نوع من الأعمال المتوسطة شديدة النفع للون الأحمر الناري، فبعد أن جُبنا الفضاء، و خبرنا معظمه، واجهتنا الحقيقة الصادمة، أننا لن نستطيع أن نستفيد من الكون حولنا، و من الأفضل البحث داخل الأرض، و نجحت المحاولة .

و نُقل الصراع إلى باطن الأرض، و بدأت الألوان الخمسة في التسابق، من يُخرج خيرات الأرض، و يسيطر عليها .

و أُشيع أن سر الحياة يسكن بباطن الأرض، و كان مفروشاً على سطحها عند بداية الإنسان، و لم ير الإنسان السر رغم أنه تحت قدميه، فغضبت الأرض و خبّأت سرها عن الإنسان .

و يُقال إنه كلما غضبت الأرض من الإنسان أكثر، بعدت بسرها عنه، و أخفته داخل مكنونات باطنها .

أتحسس أحجار الأرض التي تلفنا، و أقول لها :

- أيتها الأرض العظيمة، أنا مدين لكِ باعتذار، كنتُ أظنكِ أكثر هشاشة و ضعفاً من هذا، لقد قاتلناكِ، فانتصرتِ علينا أيتها الأرض .

 

- 12 -

صنعتني حضارتي كما ترغب، و أعطيتها كل ما ترغب، كانت السنوات في

( الهوانا ) قاسية، رسّخت فيّ البعد عن الخصوصية، فلا أنثى و لا ذكر، و كان من المفروض علينا ألا نؤنث الأشياء، أن نتعامل مع كل ما حولنا على أنه محض شيء، لا شيء دائم و لا باقٍ سوى العقل، فرُحْتُ أغذيه من كل اتجاه، و أشحذه حتى اكتمل أو هكذا خُيّل ليّ .

و لكن كيف ؟

و كنتُ أحصل على أعلى الدرجات في كل التمارين، حتى تمرين الفداء، أجدنى مصنّفاً ( 194 ف )، خيبت هذه الشارة أملي، إنها لم تدل فقط على الانحياز، و عدم الموضوعية من جانبهم، بل أيضاً دلتني على أن إعوجاجاً ما أصاب هذه الحضارة .

لقد حرّموا علينا المشاعر و العلاقات الجسدية، و غيرها من الأمور التي تنحو في النهاية إلى عدم الموضوعية في الحكم على الأشياء و البشر، و هاهم في النهاية يحكمون علينا بنفس الأشياء التي حرّموها .

( 194 ف )، إنها نهاية الفئة الثالثة، و هذا معناه ضياع فرصة العمل في المختبرات و التسليح و الفضاء، و التحاقي بالأعمال شبه الدُنيا، التي كنت أحتقرها كالحفر .

تخيلي .. لم أمسك شيئاً بغرض تلمّسه إلا هذه الصخور .

ضربت صافرات الإنذار في كل مكان، و معها دار الشعاع المعبّر عن لون الهجوم، لا أراه جيداً من خلال نور الكشّافات المضاء الآن، و الحاجب لرؤية ما عداه، بجواري البذلة الهوائية، و الكمامة المضادة للغازات الكيميائية، يدي عليهما، منذ ألقوا بهما إلينا بعد السقوط، أحاول أن أرفع عيني لأرى .

قالت :

- بنفسجي .

فارتديتُ الكمامة مُسرعاً، و يبدو أنها ارتدتها قبلي، إذ جاء صوتها مكتموماً داخلها .

نعرف الألوان الخمسة، و نعرف بأي طريقة يُفضل كلٌ منهم الهجوم :

البنفسجي مولع بالغازات الكيميائية التي يركبها عقله المفضل ببراعة، و يغيّر مكوناتها كل فترة .

في القتال الأخير، الذي نشب عند توزيع الفضاء على الألوان الخمسة، ماتت معظم الكائنات جراء هذا الغاز .

أما نحن الأحمر الناري، فمولع عقلنا بالموجات، التي اكتشفها و يطلقها كل حين على الألوان الأخرى على سبيل تجربة شدتها و تطورها، و يتفاخر الأحمر الناري دائماً بأن طريقته أشد رقياً، و لا تسبب أي ألم، كما أنها لا تلوّث الجسم الإنساني، و بهذا يمكن الاستفادة من قطعه مرة أخرى .

بقيت يدي على الصخور، كأنني أحتمي بها .

قالت :

- يصعب أن يصل الغاز إلى هذه الأعماق السحيقة .

قلت :

- المشكلة أنه أقل كثافة من الهواء، و من الممكن أن يتجمع عند فوّهة النفق الواصل إلينا، فيحجب عنا الأكسجين .

قالت :

- مفاجأة غير متوقعة، و ماذا سيحدث إن لم يتجمع الغاز، أو لم يحدث انهيار أرضي علينا، أو منعوا عنا الأكسجين، إنها نهاية واحدة متوقعة .. الانتهاء، فلِمَ الخوف ؟

وضعت يدي على صدري، أتحسس نفسي، التي أشعر لأول مرة أني أخاف عليها،

أأحب الحياة الآن، و أنا على شفي الموت .

يدي على صدري تطمئنني، يدي تتحسس زغباً من شعر لم أعتده من قبل .

 

- 13 -

تمرين :

نزعت السكين من خشب البوفيه، و غرستها في منتصف الصدر، تفجّر الدم، و أغرق يدي التي لازالت تقبض على السكين المغروس .

حاول أن يهوي بين يدي، لكنني سندته، كنت أريده هكذا واقفاً، دارت عينه في أرجاء المكان، ثم استقرت على وجهي، لم تكن نظرة لومٍ، و كره، و لا غضب، فقط نظرة استسلام مريح، ثم هوى على السيراميك اللامع .

كنت قد حاصـرته أخيراً، في الركن بين حـافة البوفـيه و الجـدار، و استجمعتُ قوتي، و طعنت الطعنة الأخيرة، بعد عدة طعنات أخطأت طريقها للقلب .

 

قهوة باللبن :

بجوار منضدته جلست، تطلعتُ إلى وجهه، كان يضحك، و يشير بيده إلى المرأة الجالسة أمامه، يصف لها أشياء مضحكة، و ربما يُلقي نكتة، و المرأة تمسك بطنها من كثرة الضحك .

جاء النادل، فطلبت قهوة باللبن، كنت أبتسم من فترة إلى أخرى، وأنا جالسة بثباتٍ أراقبه .

التهم شريحة اللحم و طبقة السلاطة، أما الأرز فقد ترك بعضه، و كان عندما يدخل في الكلام و الشرح، تسقط حبيبات الأرز على جانبي فمه، و على الفوطة الرقيقة المشغولة عند أطرافها بالخيط الروزي الفاتح، و المسنودة على بطنه .

- امرأة شديدة الجمال تلك التي معه .

قلتُ و أنا أفسح مكاناً على طاولتي، كي يضع النادل الفنجان شممت الرائحة التي أحبها، للقهوة السميكة الفوّاحة، حين يحدها اللبن، بنكهته المائعة الخافتة، فتكون تلك الرائحة المميزة المشبعة .

رشفتُ أول رشفة فشعرت براحة و استمتاع، كان يستعد للخروج عندما ركزّت بصري على عينيه، فعرفت أنني سأناله، أخرج العشرينات من جيبه، و دفع الحساب، و ترك الهبة .

قامت المرأة التي معه، فبان طولها و جسدها الملفوف، و أشار لها، مشيا جنباً إلى جنب، مرا بجواري، و هما يهمسان، رشفتُ القهوة باللبن، وتركته يمر .

 

ليالٍ غير قصيرة :

قلتُ مراتٍ إنني سأقلعُ عن تلك المهنة، إنها تستولي على وقتي كله، ليالٍ غير قصيرة أقضيها في المراقبة، و معرفة كل شيء عنهم، حتى إنني اضطررتُ لعمل ملف لكل منهم .

كل هذه الملفات المركونة على الأرض بجوار الحائط، كل منهم كنتُ أراهن نفسي على الفوز به، و هكذا استحققتُ كل هذه النياشين .

هذه الصورة الزيتية لوجه طفل فزتُ بها أيام الرجل العجوز المتصابي، لم أقس عليه كان سيموت على أي حال قريباً، و هذه المروحة اليدوية، دقيقة الرسوم مبهجة الألوان، كانت أيام السيدة البدينة المضحكة، التي حاربتني، لم يكن يبدو عليها أبداً تشبثها بالحياة، لهذه الدرجة .

آه .. أما هذه الزجاجة الصغيرة، فهي لعطر فوّاح كانت للشاب الهادئ، ساحر العينين، لقد حزنتُ عليه جداً، و فكّرتُ و أنا أغسل يدي من أثر دمه، أن أنظر إليه، و هو نائم ممد على السرير .

مهنة متعبة، أجلس بالساعات في البرد و الحر، متتبعة الذي يخطو أمامي، مشيتُ مرة من العتبة إلى شبرا، في نهار صيفي كأنه النار وراء تلك المرأة التي سُرق كيس نقودها في الأتوبيس، و كنت ألعن الحرامي في كل لحظة .

 

فوق الجبل :

اليوم هو الاجتماع الشهري، نظرتُ في الساعة، لابد أنني تأخرت، نظرتُ إلى النار فوق الجبل، و صعدت .

الحجارة كبيرة جداً، و ذات حوافٍ مدببة، لا أخشى أن تزل قدمي، كل ما أخشاه، أن يعلق التراب ببذلتي السوداء الجديدة، التي اشتريتها بالأمس فقط، حين خرجت من الكافتيريا وراء الرجل، وجدته قد دخل محل ملابس، و ابتعتُ معها بابيون أسود لامعاً، و قميصاً أبيضَ .

نظرتُ في المرآة، كنت كما أريد، غير أن البنطال، كان طويلاً بعض الشيء، فقصّره البائع .

لا أحتاج إلى تمشيط شعري، فهو قصير جداً، و ملتصق بفروة الرأس، صعدتُ و اطمأننتُ على هيئتي، سمعت الموسيقى الراقصة، و الضحكات المجلجلة، و وجدتهم جميعاً ..

دارت الأنخاب، و نحن نستعرض إنجازات الشهر،

حكى ذو الشارب القصير، و الشعر الطويل :

- كانت مغامرة، انطلقتُ بأقصى سرعة، و مررتُ وسط الشوارع، مندفعاً إليه، كان يجري و يقع و يقوم و يجري، و أنا وراءه، مرة أُخطئه متعمداً، و مرة أسير على مهلٍ، ثم أفاجئه .

ثم كانت إطاحة رائعة في الهواء، تلك التي فعلتها مقدمة السيارة، ألقته في منتصف الشارع على بعد عشرة أمتار، اندفعتُ بالسيارة حتى مررت عليه، و شعرت بالعجلات، ترتفع و تنخفض، فقط لأتأكد .

رغم حكايته المثيرة، التي تفنن في تصويرها أمامنا بالصوت و الصورة، إلا أنها لم تلق ترحيباً، لقد كانت الطريقة معروفة و مكررة .

ثم حكت ذات الأظافر الطويلة و العيون الحمراء، عن المرأة التي أغرقتها في البحر، ثم اختتمت كلمتها، أنها لن تعود لتلك الوسيلة أبداً، فقد أصابها برد شديد، و عطست عطسة قوية .. فضحكنا .

أما أكثر القصص المثيرة، و التي حصل صاحبها على التاج الفضي، فهو ذلك الجديد الذي انضم إلينا في الدفعة السابقة، و هو سمين .. أبيض .. وجهه مشرب بحمرة، اختلط في شعره الأبيض بالأسود، حكى :

- في كل موضعٍ كنتُ اُخرج له لساني، أنا الذي نفختُ في الإشارة فجعلتها حمراء لمدة نصف ساعة، و هو واقف في الأتوبيس، يتصببُ منه العرق، و قفزت داخل موظف المصلحة، و قلت له اصعد إلى الدور العاشر، قلتها له سبع مرات، ثم أنزلته إلى الدور الأول عشر مرات، خرجت له ذات مرة من شاشة التلفزيون في يدي اليمنى قطعة آيس كريم كبيرة، و في اليد الأخرى مسحوق غسيل غزير الرغوة، و حولي أثاث مذهب، و على عينيّ نظّارة شمسية أحدث موديل، فقضمتُ قطعة الآيس كريم، و رشرشتُ حوله المسحوق، ثم أتيتُ بجردلٍ كبير مملوء بالماء، و دلقته عليه، فصنع المسحوق فقاقيع كثيرة .

.. و أتيتُ بجردلٍ ثان، حتى غطت الفقاقيع الرجل، وضعتُ الشريط في الكاسيت، و أدرته .. فانبعثت الموسيقى الصاخبة .

كنتُ أرى الرجل يقاوم على إيقاعها وسط الفقاقيع التي لا يبدو من تحتها، حتى اختنق!

 

أيادٍ بيضاء :

كنتُ أعلم أن طريقة السكين منتشرة و قديمة، لكني استمتع بها، فقلتُ :

- هبطتُ عليه في البيت، مسترخياً كان على السرير، مُغمضاً عينيه، لم أفعل شيئاً

فقط، نظرتُ إليه، فتح عينيه أبصرني، و بشعور غريزي مد يديه، كأنه يدفعني عنه، انتفض من السرير و قاتلني، سحبتً السكين من الجراب، كان يدفعني بيديه و يجري .

فألحقُ به و أطعن، لم أرض أن أطعنه طعنة قاتلة من أول مرة، يأخذ الطعنة و يجري، دمه يسيل على السجّاد، و في الأركان، طعنات متوالية، أخطأتُ فيها القلب عن عمدٍ، لكنه جرى للمكان الذي أريده بالضبط، فضيّقتُ عليه الخناق في الركن الصغير، بين البوفيه و الجدار، و بطعنة واحدة نافذة إلى القلب، أرحته .. نزعتُ السكين، شربتُ الدماء المتفجرة منه، شربتُ حتى ارتويتُ، ثم تركته يهوي، لعقت الدماء العالقة بيدي، فبان لونها الأبيض .

  • وجوههم، و ألبسوني التاج الذهبي، نفخنا في النار حتى اضطرمت، و خرجت ألسنتها إلى السماء، و علا صوت الموسيقى، تسيل الدماء من فمي، و تُغطي الجبل والوادي، دماء حمراء تُغرق ما حولنا، نغمسُ فيها أيادينا البيضاء .. و نرقص .

 

- 14 -

جاءني ( 115 ف ) في الليل، نزع عني جهاز ترددات النوم فاستيقظت، قال :

- إذا أردت أن تعرف .. قم .

تبعته داخل مسارات ( الهوانا )، حتى بلغنا القبو، و قبل أن أخطو داخله، استدار .

رأيت في نظرته كلمات لم تسعفه ( الفَصّلا ) لإتمام معناها، قال :

- ما ستعرفه سيُجبرك على السكوت، و لكنه سيشجع عقلك على الاختيار .

لم أفهم معنى ما قاله، و لكني الآن أعرف أنه أراد أن يقول :

- سيُجبرك على الكتمان، و سيجعل عقلك قادراً على التبصر و الإدراك .

فمنذ اختار الإنسان أن يقدّس نفسه و يؤمن بها، كطريق وحيد لبناء هذه الحضارة، قل بالتدريج استعمال كلمة ( اختيار )، كأن هذا الاختيار الأكبر للإنسانية محا ما عداه من اختيارات .

نزلنا القبو، كان الظلام دامساً، قال :

- لن نستطيع استخدام الإضاءة، فذلك يحفز أجهزة الإنذار .

أضاء كشّافاً صغيراً، فرأيت ما يشبه الثلاجات العملاقة .

قال :

- هذا لحفظ الكتب، داخل درجة حرارة معينة، كي لا تهترأ .

أوقفتني كلمة ( الكتب )، و كنتُ لم أسمعها من قبل، شعر بتوقفي، ففهم .. قال :

- ستراها الآن .

و شرح :

- كان الإنسان في الماضي يضع معارفه و علومه، آماله و طموحاته، جموع أفكاره، التي طوّرت الإنسانية، من عصر لآخر داخل دفتي كتاب،، و فتح الثلاجة العملاقة، فإذا بداخلها أرفف كالتي نرص عليها الحفريات المختلفة، من العصور الأولى، و أخرج كتاباً، و أخذ يفتحه، و يقلب ما به، و أشار :

- هذا ورق، كان الإنسان يستخدمه في الماضي للكتابة عليه، ربما آثرنا الاحتفاظ بهذا التراث الضخم للإنسان، في حالته الأولى كما تركه الآباء، و لكن لابد من وجود نسخة مُعَلّمة :

- هذا شعر .

قلتُ :

- درسنا نموذجاً منه .

قال :

- و لكنه كان نموذجاً مختاراً بعناية، إقرأ هذا إنه شيق .

أمسكت الكتاب بيدي، و سألت :

- و لكن لماذا يخبئون هذه الكتب ؟

قال :

- حتى لا نُصاب بالتشويش، فهي تحتوي شيئاً مختلفاً عمّا حُفظ داخل الشريحة المعلوماتية، الموضوعة في مخ كل واحد منا .

قلت :

- و ماذا تقول هذه الكتب ؟

قال :

- إقرأ لتعرف، إنها مُترجمة إلى ( الفَصّلا )، بطريقة ما، و إن كانت لغتها الأصلية ذات ألفاظ ثرية و منوعة .

لماذا أصدقه الآن، لقد كان أشد المعلمين إلتزاماً، كأنه هو ( الهوانا ) ذاتها، ألم يكن هو من وَقّع العقوبة عليّ، حين أردت الخروج عن الصف، لأمُسك الطائر، كيف له أن يُظهر عكس ما يُبطن، و نحن لم نُعد لذلك، أتكون مكيدة لإثبات الولاء، أما زالوا يتشككون !

قلت :

- و لِمَ أنا ؟!

قال :

- تم اختيارك عن طريق المراقبة، سنك، و معلوماتك تؤهلك لهذا، و الأهم أنك فيزيقي، إننا نؤمن بعودة الطبيعة، و الفيزيقيون هم أملنا الوحيد، فداخل أمخاخهم جزء لازال يحمل الكثير من الذاكرة الإنسانية الفطرية، بعيداً عن الشريحة المعلوماتية، التي وضعوها داخل المخ، فهم رغم هذا لم يستطيعوا أن يحذفوا الماضي .

قلت :

- و الآن ؟!

قال :

- بعد ست ساعات ستذهب، و من بلغ سنك، كي يحصلوا على حيواناتك المنوية، ستظل هناك لأشهر، كي يأخذوا أكبر عدد من الحيوانات، ثم سيجرون لك عملية التعقيم، فلن يُتاح لك بعدها أن تنجب طفلاً فيزيقياً، و سيأخذون حيواناتك المنوية، التي تحمل صفاتك و شخصك، لتعديلها وراثياً، و ذلك معناه أن تفنى فكرتنا، و لهذا تم اختيار بعضكم، سنسجل في الشرائح أنكم ولدتم بلا خصي، لا تخف .. سنحمي اختياراتنا .

قلت :

- هذا خطير .

قال :

- اختر الآن الأحمر الناري أو الأخضر تعلوه الزرقة، لقد مزجنا بين لوني الحياة، و هو لون في الوقت نفسه حيادي، بين لون جلود البشر، حتى يكون مُعبّراً عنهم جميعاً.

قلت :

- دعني أقرأ قليلاً .

( طفولة وئيدة من رحابها،

مثلما من النجيل المسترسل،

تنمو المدقات الزهرية، ممتدة العمر،

يتفرع جذع رجل .

من تراني كنت ؟

ماذا عساي كنت ؟

ما الذي كناه ؟

ليس ثمة رد،

فصدفة جئنا .

ما عرفنا الحضور،

واصلنا السير في درب الوجود،

أقداماً أخرى،

أيادٍ أخرى،

عيوناً أخرى،

واصل كل شيء التحول،

وريقة و أختها،

على غصن الشجرة .

و ماذا عنك ؟

تبدل جلدك، شعرك، ذاكرتك .

لم تكن ذلك الآخر .

ذلك الآخر كان طفلاً

مَرّ عَدْوَاً،

وراء نهار،

خلف درّاجة،

و في غمار الحراك،

انقضت حياتك،

مع تلك اللحظة،

هُوّية زائفة

خلّفت على الأرض

آثار خطاك ) * ( 1 )

رفعت عيني، و قلت :

- موافق .

و في اليوم الثاني، و بعد خروجنا من مركز الإخصاء، ذهبت إلى القائد، و أبلغت عنه، كنت أظن أنهم سيحكمون عليه بالانتهاء فوراً، و لكنهم حققوا معه فترة طويلة، ثم أودعوه في الحضّانة، و تم تغيير شريحته، و الغريب أنه أصابته حالة من الهياج الدائم، كانت تجعله يعوي كذئب، و انتهى الأمر بتجميده، مع الوصاية بنزع المخ من الرأس و دفنه .

 

- 15 -

كنت في منامي أرى ناراً عالية صاعدة إلى السماء، ناراً من شدتها أذابت السحاب و جعلته مطراً، كنت واقفاً و خلفي ملايين من البشر، و حسبنا أن المطر سيطفيء النار، و لكن كانت حبات المطر كاللهيب، تزيد النار اشتعالاً، الكل يجري يبحث عن مأمن له، جرى الكثير من الإنسان خوفاً من النار في كل اتجاه، و جرى الكثير من الإنسان إلى النار ذاتها، فاحتضنتهم، و كنت أراهم كراقصي الإيقاع داخلها، و حسبت أنهم يستمتعون بشكل ما، فقد تحرروا من خوفهم .

أحرقتهم النار، و لم يبق منهم سوى شجاعتهم و شرفهم، أما نحن من وجدنا كهفاً، و اختبأنا فيه عشنا، و لكن عيش المذلة و الجُبن، و كان علينا أن نُكفّر عن خطيئة حياتنا بإهمالها هذا الإهمال البشع، الذي جعلنا في النهاية، لا نعيش الحياة .

 

- 16 -

شعرت به يتلوى و يرتطم بالصخر، يخور كالثور، ثم يطن كالذبابة، يصرخ فيزلزل الصخور .

و عندما أضاءوا المكان، كان هامداً و رأسه و يده تتساقط منهما الدماء، فتح كفه، فوجدت الشريحة، قال :

- لقد نزعت سجني .

تحسست رأسي، و قد ملأها الشعر و طال، بحثت عن شريحتي، كانت في الخلف، قربت رأسي من يده، قلت :

- هَبْ لي الحياة .

قال :

- الحياة لا تُوهب، إنشبي أظافرك و خذيها .

شددت فروة رأسي، مرات و مرات حتى لانت، و ارتخى الجلد، و ترك العظام،

و حينها برزت الشريحة أكثر، نشبت أظافري حولها أشدها، لم أتوقع أن تقاوم هكذا، أربعة قرون جعلتها مطمئنة لمكانها، لم أستطع في البداية الحفاظ على توازني، صرتُ أقع، و أقاوم و أحاول الوقوف، و يدي بقوة القهر الذي عانيته منذ ولادتي تنتزعها، و الشريحة تأبى، و وجدت نفسي أخور كثور، و أطن كذبابة، و أصرخ فأزلزل الصخور، حتى انصاعت الشريحة، و فتحت رتقاً في الجلد و نزعتها، و يدي يتساقط منها الدم .

وقفت كي أعبّر عن انتصاري، و أخبره أنني نجحت، إذ كان الظلام دامساً، قلت :

- أنا ... أنا .

خرج صوتي شجياً رقيقاً، كأنه جموع لأصوات النساء، و شعرت به يقف، و سمعت صوته :

- أنا ... أنا .

خرج صوته قوياً رخيماً، كأنه جموع لأصوات الرجال، تغيّر صوتينا، علّهما لم يتغيرا، علّهما رجعا إلى أصليهما .

فرحين بما ارتد إلينا، أخذنا في الصراخ، و الكلام بأعلى صوتينا، كأننا جموع الأنثى، و جموع الذكر عبر التاريخ، فقط أصواتنا تخرج بكل قوتها، من نفوسنا

و تمر على حناجرنا، لم أسمعه، و لم يسمعني، إذ كان كل منا لا يستطيع إيقاف تدفق الكلمات، التي تداعت لتُعيد حياة كاملة، عاشها الإنسان عبر أزمنة مختلفة،

و حين هدأ إيقاع الكلمات، و بدأنا في السمع، توقفنا .. لقد أدركنا أننا كنا نتحدث بلغاتٍ كثيرة، مختلفة لم نعرفها من قبل .

 

- 17 -

فتحت عيني فإذا بفتياتٍ كالملائكة، يقلن :

- أقبلي أيتها العروس .

و وجدتهن يحملنني عارية، و يضعنني داخل جدول به ماء رائق و طيب، تجري مياهه بين صخور كستها أعشاب، قيل :

- إشعري بعذوبة الماء و نقائه .

و كان أمام الجدول جبل ما له نهاية، ارتفعت درجاته حتى بلغت السماء، و كان الماء ينزل من السماء إلى قمة الجبل، ينساب على درجاته في ليونة و قوة، حتى إذا ما صب في النهر، بدا الماء أبيضَ طاهراً، يسير على مهل حتى يعرج على الجدول الصغير، في طريق سريانه، جدول خرج من يمين النهر، ربما كي أستحم فيه وحدي.

قيل :

- خذي ليونة الماء، و عذوبة الماء، خذي طاعته، جريانه في القنوات المقدرة له، إنصياعه للصخور، حين تحدد مجراه .

قيل :

- كوني أُنساً و بهجةً، كوني الرواء للظمآن، كوني العشق للمريد، كوني القلب للجسد.

و تحممت بماء السماء، شعرتُ بدبيبٍ يسري في أعضائي، خدر يزحف يدغدغني من أخمص قدمي، يزحف و يعلو إلى الرجليْن، و الفخذيْن و ما بينهما، يعلو إلى البطن، و الصدر، و الرقبة، حتى الشفاة، يتأجج جسدي بالرغبة، كأنها الروح عادت من جديد .

أصرخ :

- إن كنتُ أُعطيت الشهوة فكيف اكتمالها ؟

أم كُتب عليّ ان أكون الرواء لكل مريد، و أنا العطشى .

قيل :

- من يمسه ماء السماء، لا يُعطي نفسه لأديم الأرض، إنتظري عطية السماء .

و قُدر لي أن ألمس كل بنتٍ، فأحوّلها إلى أنثى يافعة ساحرة، تثير الشهوة .

أهمسُ لها :

- أعطيتك شيئاً مني، و ما هذا إلا قليل .

و حسداً مني أحيطها بالخجل و التردد، و أطلقها في الطرقات، فإذا الأعين تنظر

و تشتهي، و إذا الأيادي تمتد، و الأجساد ترتج .

أدفعها ليدٍ تطمئن إليها، و أدعوها :

- أقبلي أيتها العروس .

ألبسها ثوباً أبيض طويلاً، يكسو اللؤلؤ صدره، تنورته واسعة، مصنوعة من الحرير اللامع، يغطيه الشيفون .

أهمس لها و أنا أعطيها باقة الورد :

- أنتِ امرأة جميلة .

أطير إلى جدولي الصغير، أتحمم بماء السماء، و ألمس بنتاً أخرى، و أخرى،

و أخرى .. حتى أملأ الأرض شهوةً و حباً، و مازلت أنتظر عطية السماء .

 

- 18 -

لماذا تخبأ احساسك به، وجوده أصبح يلح عليك أن تتذكر ما وضع فيك منذ الخلق الأول، تكللت بالرغبة بعد اكتمال الجسد و النفس، و صار من حقك أن تباشر رجولتك بفخر الفعل الانسانى الذى حفظ للبشرية وجودها و خلصها من مشاعر النقصان و التوحد، صرت الرجال مزهون بفعل التحقق، فلماذا تحولت الرغبة إلى عار و صاروا يعلموك أن تخبأها، تمحوها من نفسك قالوا لك إن الرغبة كانت مرحلة لانتاج الجنس البشرى وقت تأخر العلم، رانت على عينيك تلك الغمامة حتى إنك لم تلتفت من قبل إلى أن جمالاً مبهجاً لأنثى يتكون أمامك , كانت الأنوار التي تسطع فجأة و تختفي فجأة تجعلك تراها لومضة، إن الشعر المحلوق بدأ ينبت و يطول، و النهدين بدءا فى التكور، لم يحدث أن رأيت مخلوقاً بهذه الهيئة من قبل، تتحرك داخلك المشاعر، فهل اختلف جسدك أمامها، و أثار فيها المشاعر أيضاً، كل ما تعرفه الآن، أنك لا تشعر بالمذلة عند الحاجة لها، لا بل تشعر بالـ ......

وبحثت عن كلمة تعبّر بها عما تحسه، و لكن كانت ( الفَصّلا ) ضنينة .

و تعاطفت الكشّافات مع رغبتك في رؤيتها، فأضاءت فجأة، كانت نائمة مسندةً رأسها إلى الصخور، و ممدة جسدها الذي اكتنز من عدم الحركة، فصار محفزاً على الشهوة، انقطعت الأنوار، و لكن بقيت الصورة أمام عينيك، شَعْرٌ مُرسل غطى الكتفيْن، و جسد قمحي اللون، يلمع من كثرة العرق عليه، و نهديْن متلاصقيْن متكوريْن، و بطن مرتفعة قليلاً، و فخذيْن مكتنزتيْن .

لا تعرف كيف انساقت يدك إلى مشاعرك، و راحت تتحسس جسدها، و لا كيف تسربت موسيقى ساحرة إلى أذنيك، و أنت الذي لم تسمع موسيقى من قبل، و لا كيف سمعت هي نفس الموسيقى، و استعذبت مرور يدك على تفاصيل جسدها، و لكنها بقيت ساكنة .

كانت تعرف أن أي مشاعر ستظهرها الآن ستُنمي داخلك الرغبة لا الحب .

الحب، نعم .. تلك هي الكلمة، التي كنت تبحث عنها، و الغريب أن مرور يدك على جسدها لم يثر فيك الرغبة الجامحة كما توقعت، بل أثار فيك الميل إليها،

و الاستئناس بها، رأيتها حين لمستها كبدن لدنيا جديدة، تفتحت أمامك، و أردت أن تعيشها .

 

- 19 -

متوهجة بالحياة، أشعر أن الحفرة أصبحت بيتاً و وطناً، أنا التي لم أعرف معنى الانتماء، حتى أمي خنتها .

أريد الآن أن أعيد ترتيب الصخور من حولي، لأحوّلها إلى قطع أثاث، أفترشُ الصخور، بمفارش من الدانتيلا و الحرير، اللذيْن أحببت ملمسهما، منذ رؤيتي لهما في معرض للآثار القديمة، كان مسموحاً للإنسان ساعتها أن تتمتع عينه برؤية ألوان مختلفة متداخلة و مبهجة، و محفزة على النشاط، و أن يتمتع بملمسٍ ناعم مختلف عن ملمس ( النزيب )، هو القماش الوحيد المستخدم الآن من أليافٍ بلاستيكية .

أريد الآن أن أزرع شجرة تنمو من الحفرة إلى السماء، أن أحوّل الحفرة إلى بستان، أن أنعم بشعور الفرحة و الهناء .

و انسابت الموسيقى داخلي، و وجدتني أقف و أرقصُ، و أشعر أن الصخر ينصاعُ لي، و تتسعُ الحفرة فأرقصُ مُنتشية بالموسيقى و الحب .

تضاء الأنوار، فأراه يرقصُ بجواري، تلتقي أيدينا، و ترتفع حناجرنا بإيقاع الموسيقى الهادر، يحيطني .. تدخل روحه فيّ، و تدخل روحي فيه، أشعر أننا اكتملنا الآن، أنظر في عينيه، و ينظرُ في عينيّ، و يسكنني شعور الآمان للأنثى التي امتلكت حبيب .

 

- 20 -

في حديقة بيتنا الواسعة، كنتُ أحب الجلوس تحت الشجرة الضخمة، قال لي أبي إن عمرها مائة سنة، و لم تشخ، لا زالت قادرة على نثر أزهارها كل ربيع، لا زالت قادرة على إمداد جذورها في الأرض، لتمتص الحياة من الأرض، أما الشمس فإنها حنونة، لا تحتاج لمن يُذّكرها بالطلوع .

منذ بلغتُ العاشرة، وُليتُ أمر الشجرة، أنظفها، أرويها، أغسلها بالماء، أقصُ الفروع النافرة .

كان أبي مع بداية كل عام يلقي على كلٍ منا مهاماً جديدة، يقول :

- كبرت عاماً، صرت تعرفين أكثر، و جزاء المعرفة المسئولية .

في عامي السابع، كان عليّ أن أعد النجوم في الليل .. نعم، هكذا أجلسُ على كُرسي، في الحديقة، و أعد نجوم السماء، لم تكن النجوم تنتهي، في أيامٍ تخفتُ و تختفي، و في أيامٍ أخرى، تظهر و تلمع، و كنتُ أخطيء في العد و أعيد الكرة من جديد، أتململ في أحيان كثيرة، و أرفض هذا العمل، و لكنني في كل يوم كنت أتعلم عدداً جديداً .

و في عامي الثامن، كان عليّ أن أرسم أجمل زهرة في الحديقة، هكذا عرفتُ أنواع الأزهار و ألوانها، و جلست كل يوم أقارن بين الأزهار لأختار أجملهن، و لكني اكتشفتُ أن الجمال لا يكمن في الزهرة فقط، بل في قدرتي على التعبير عنها بالرسوم و الألوان، و وجدت أن أجمل زهرة رسمتها لم تكن أجملهن في الحقيقة .

و في عامي التاسع كان عليّ أن أعتني بالكلب ( توما )، و كان كلباً مزعجاً مغروراً، لم أحبه من قبل، و كنتُ أفضل القط ( سومو ) عليه، و لكنه أبي يختار لنا دائماً الأصعب .

صرنا نتبادل العقاب، أنا أعاقبه بشده إلى حبلٍ غليظ، و هو يعاقبني بالنُباح المتواصل الذي لا ينتهي، و بعد ثلاثة أشهر، أصبحنا صديقيْن، و اكتشفتُ أن به ميزات كانت مخبأة وراء نباحه، و لم يعد يمكنني الخروج إلا معه .

أما الشجرة، فقد كنت متعجبة من صمتها، إن اقتربت منها لانت و دلت فروعها،

و إن لم أقترب، ظلت واقفة في شموخ، كأنها لا تحتاج إلي .

و مرت أيام، و في كل يوم أشعر أنني كنت أحتاج إليها، أحتاج إلى ملمس أوراقها،

و أحتاج إلى ظلها، و أحتاج تلك السكينة التي تفرشها حولها، و أصبحت أذهب إليها كل يوم .

و جاء أبي برسّام مغمور كي يرسمنا، فأخذ يحدد المواقع، و يقارن بينها، و في النهاية، اختار لكل منا مكاناً، فأختي بجوار البيانو، و أخي مع حصانه، أما أنا فقال لي :

- أنتِ أيتها الآنسة الصغيرة ستقفين أمام النافذة، و بيدك باقة من الزهور .

و لكن بعد عدة أيام من مكوثه في المنزل، عاد و اختار لي موقعاً جديداً، قال :

- إن ملامحكِ تتبدل هناك، و نظرة عينيكِ تخاطب المستقبل، قفي بجوار الشجرة .

و هكذا تم تصويري في لوحة زيتية بجوار الشجرة، ظلت في حجرة الاستقبال سنوات، ثم حملتها معي عندما تزوجت، العجيب أن هذه اللوحة كانت سبباً في شهرة هذا الرسّام، و سطوع نجمه على مستوى العالم .

بعد وفاة زوجي بعدة سنوات، جاءني الرسّام و طلب مني اللوحة، كي يعرضها في أكبر متاحف العالم، لمدة شهر، فصممتُ أن أصطحب اللوحة إلى هناك .

و عرضت عليّ إدارة المعرض أن تشتري اللوحة، نظير مبلغٍ ضخم من المال،

لكنني رفضت، و عدتُ باللوحة إلى بيتي، لفد كنتُ أشعر أن هذه اللوحة هي أنا،

و أن فقدي لها معناه، فقدي لحياتي .

 

- 21 -

- أتعرفُ في معرض الآثار القديمة، رأيت لوحةً لفتاة تجلس تحت شجرةٍ كبيرة، تتأمل الطبيعة من حولها، لم تذهب نظرة عينيها من عيني، كم تمنيتُ أن أكون هي .

كانت تنظر في ثقة و رغبة، تنظر للأيام القادمة كأنها تتحداها، تنظر كمن عرف كُنه الزمن و سر الحياة .

هذه الفتاة تتردد عليّ في الأحلام الآن، و تهمسُ لي بكلام .

- زرت المعرض من قبل، و لكن لم أقف عند هذه اللوحة، كان تركيزي، مُنصباً على الآلات .

كنا نجلسُ متعانقيْن، و رأسي على كتفه أتحسسُ شعر صدره، و أشم رائحة عرقه المميزة، و كان هو يداعب شعري بأصابعه، و قد أخذتنا سنة من نوم، رأيت إيزيس تجري في الطرقات، تلملم أشلاء أوزوريس، و كلما وجدت عضواً، وضعته بجوار الآخر، حتى اكتملت الأعضاء، ثم أنزلت عليهم ماءها، فاتحدت الأعضاء، ثم أفاضت عليهم حبها، فَهَبَّ أوزوريس واقفاً .

حينها سمعنا صافرات الإنذار تعلو في كل مكان، فتحنا عيوننا، و لكننا لم نهتم بمعرفة اللون و لا نوع الهجوم، و عدنا إلى النوم، و لكنها كانت فرصة أن نحتضن بعض أكثر، و أن تلتصق أعضاؤنا التناسلية .

 

- 22 -

إيزيس و أوزوريس يجريان في البرية، تنمو سنابل القمح، و تسمقُ الأشجار، يشربان من النيل فيفيض، أوزوريس يعلم الناس الزراعة، و تعلم إيزيس النساء الحب .

يرحل أوزوريس و معه الرجال إلى الشمال، مكملاً ما بدأه في أرض جديدة، إذ جدبت الأرض في الجنوب، و تبقى إيزيس، تعلم الصبايا الحب، انتظاراً لعودة أوزوريس و الرجال .

تصحو إيزيس من نموها، فإذا الأرض تشق، و يخرج منها الماء، تجري لتحتمي بالجبل، يعلو الماء و يفور، حتى تختفي اليابسة، و يضرب بينها و بين أوزوريس بحر، لا ترى نهاية له، تنادي :

- أوزوريس .

فيتردد صوتها في الأرجاء .

تصرخ :

- أوزوريس .

فيسكن صوتها رمال البحر، و نجوم السماء .

و على الجانب الآخر من الشط يصرخ أوزوريس :

- إيزيس .

فيقلب صوته موج البحر، هكذا في موجات أبدية لا تنتهي، تحمل مياه البحر صوتيهما .

 

- 23 -

على جانبٍ من شط، كانت كمن أراد رؤية الروح تتسربُ إلى عروق الحياة، عاشت تراهن مراهنةً تلو مراهنة كي يشبعَ القلب من شعور الفرحة أو الإحباط، أن تراهن معناه أن تخسر كل شيء أو تأخذ كل شيء، و الآن على جانب من شط تنتظر نتاج ذلك الرهان الأخير، فما عاد في العمر بقية للخسارة، قالت :

- أريدُ أن أرى وجه الحياة مكتملاً مرة واحدة .

وقفت تنتظر على الشط، ترسل الرسالة تلو الرسالة عَلَّه يجيبُ من الشاطئ الآخر، كانت تريد للرسالة أن ترسم مـلامح نفـسها، كي يراها في كلماتها و تراه في كلماته، و لكن كيف ؟ و الشمسُ لا تشرقُ عليهما في نفس اللحظة .

و على الشط، أفلتت زجاجتها للماء، تركتها تتهادى بين أمواجٍ بيضاء، قالت لها :

- طاوعي البحر، حتى تصلي فلا شيء غير مُجدٍ مثل معاندة البحر .

***

على جانبٍ من شط، وقف مـتدثراً بكُوفيةٍ و معـطف، متأملاً تلاطم الأمـواج،

و انعكاس ضوء القمر عليها، يهمسُ لليل :

- أنا ابن النهار، قضيتُ عمري في شق الأرض، و رسم الخرائط، و تحفيز الأرض على إنجاب الحبوب، أخاف الآن أن يخذلني البحر .

بعد رحلةٍ من العمل الجيد و الوصول إلى قدرٍ مُرْضٍ من المعرفة، أقلقته وحـدته، أنه لا يرى في المرآة غـير وجهه المبتسم تارة و المسـتهتر تارة، و الجدي إلى أقصى درجات الجد تارة، أقلقه أنه جرَّب المشاعر كلها و لكن أيّاً منها لم يسكن فؤاده، و ارتد للبـحرِ يبثه رؤاه و أحلامه، مشـاعره و ذكرياته و أمنياته .

و رآها زجاجةً صغيرة تلطـمها الأمواج فتطيعها، تعلو معها و تنخفضُ، يجذبها القمرُ و يسحبها الماءُ، و هي ليّنة مستجيبة، حتى قذفها الموج فـجأةً بين يديه، أراد الفـرح، و لكن كانت المعرفة أولى من الفرح داخله الآن و أكبر، نظـَّفَ الزجـاجة و فتحها، كانت الورقة البيضاء مطويّة بعناية، جرت عينه على الحروف الصغيرة المتشابكة :

- ( أنا من الشاطئ الآخر، أرسل ما تبوحُ به النفس لك يا من تسكنُ الشاطئ

المقابل، فربما تراني في كلماتي، فأجبْ رسالتي، فإني أريدُ أن أراك )

 

إذاً صرخَت نفس الصرخة منذ زمن، و ابتلعها البحر كأنه لم يأذن بالتلاقي غير الآن، و فكّر ثم أعاد قراءة الورقة مرة و مرات، و أخيراً شرع في الإجابة .

***

على جانبٍ من شط، وقفت و رأت زجاجةً تلمعُ فوق الأمواج، و كأنها تناطح الموج تعلو فوقه، و تهبطُ، تقاتلُ كي تنتصر عليه، و تفرضُ إرادتها، كأنه همس لها :

- قاومي عنفوان البحر .

و أخيراً، و على غير توقعٍ، أسلمت الزجاجة نفسها للموج، أرخت يدها حتى لامست الماء، فدخلت الزجاجة إلى حضن يدها الدافئ، رفعتها إلى السماء، فتهدج قلبها بالفرح حين لمحت الورقة البيضاء بداخلها، و بدأت موسيقى البحر تتسربُ إلى روحها، فانتشت و رقصت، صنعت قدماها دوائر على الرمال، دوائر تلتقي و تتداخل، تتماس و تتنافر، و أخيراً شعرت بدوار، فارتمت على الرمال الناعمة، مدت جسدها عليها، و قالت :

- ما أبهجها من لحظة .

جلست و فضت الورقة و قرأت :

- أنا أوزوريس .

هكذا باختصارٍ مقلق، فأرادت أن تفتـح نفسـه و قلبه، أمسـكت ورقتها البيضاء،

و كتبت :

- ( نعم، أنا .. أنا نصفُ وجهك في مرآة الشاطئ، أنا امتدادُ ذراعك عبر البحرِ،

أنا انتقالُ قدميك من أرضٍ لأرض، أنا نصفُ قلبك، أنا إيزيس ) .

و تمايلت الورقة في يدها، حتى خالتها ستستجيب لنداء الريح التي هبّت مع الغروب،

طوت الورقة بعناية و وضعتها في الزجاجة، أحكمت غلقها و أسلمتها للأمواج، قامت تنظر لامتداد الشاطئ من حولها، حيث مُحيت آثار أقدامها، و بقيت الرمال ساكنة تلمع - كأنها لم تمحُ آلاف الآثار من قبل - في انتظار رقصةٍ جديدة، و آثارٍ لأقدام ستُمحى من جديد .

***

تمسك بيده و يمسك بيدها، يسيران على الشاطئ، تستـطع عليهما شمس واحدة،

و تظللهما سماء واحدة، تتأمل عيون كلٍ منهما ملامح الآخر، تقول :

- تغيّرت ملامحك، أخذت شيئاً من وضوح الشمال و صلابته .

يقول :

- و أنتِ أيضاً، أخذتْ ملامحكِ شيئاً من سحر الجنوب و وحشته .

تقول :

- كنا دائماً نتبادل الاحتياج لبعضنا، و الآن صرنا نستحق هذا اللقاء الكريم .

ثم سألها ذلك السؤال المؤجل، منذ قرون :

- و الآن من أين نبدأ ؟!

 

- 24 -

أفقتُ على صوت الصافرات تعلن نهاية الهجوم، و وجدته يداعبُ شعري، و يتأمل، اعتدلتُ، و شربتُ جرعة ماء، و قلتُ :

- فِيمَ تفكر يا آدم ؟

إنتبه للاسم، فسأل :

- آدم ؟!

- نعم، منذ فترةٍ، و أنا أفكر في اسمٍ لك، هنا في عالمنا الصغير، يجب أن نكسر تلك الآوامر الجافة، الرقم يبعدنا عن المشاعر، كانت أمي تُصر على تسميتي، فتناديني ( إيزيس )، و كنت أشعر به اسماً جميلاً، و له وقع، و لم أعرف

( إيزيس )، إلا عندما عملت حضّانة، حيث سُمح لي بتخزين بعض المعلومات الإضافية عن النساء الآوائل .

أحببتُ الاسم :

- إيزيس .

و أحببتُ أيضاً صاحبته الأولى، و لكنني أبداً لم أحاول المقارنة بيننا، فلم أكن أريد أن أُحمّل نفسي تقصيراً لا تتحمّله .

- إيزيس .

نطقها و كأنه يسترجع ( إيزيس ) الأولى، ثم أكمل .. بل أنتِ مثلها، هي أحيتْ أوزوريس، و أنتِ أحييتني، فلأكن أوزوريس إذاً ؟

نفيتُ بسرعة :

- لا .. بل أنت آدم، أول الرجال، من تجسّدت فيه الإنسانية، و شمل حواء برعايته.

قال :

- فلتكوني إذاً حواء .

- لا، بل ( إيزيس ) أو أفروديت، أو بلقيس .

- و لأكن أوزوريس أو الأسكندر أو هانيبال .

فكرت، و قلت :

- لماذا لا نخترع أسماءً جديدة تُعبّر عنا الآن ؟

رد بسرعة :

- دعيني أتخيّرُ لكِ اسماً كما أشعر بك .

أكلني القلق، و لم أكن أفكر في موسيقى الاسم أو معناه، و إنما فكرّتُ في كونه إنعكاس لصورتي داخله .

و أخيراً نطق :

- ديما .. أنتِ ديما .

- و أنتَ .. جبل .

إستأنسنا الاسميْن، و اتفقنا أن نُغيّرهما كلما احتجنا ذلك، و شعرنا أنهما لم يعدا يعبران عنا .

 

- 25 -

سمعتُ غناء الطائر، فأدركتُ أن الصباح قد جاء، فتحتُ عيني، هكذا كنتُ أعرف كل يوم بمجيئ النهار، و طلوع الشمس، قمتُ و فتحت الشباك، و قلتُ :

- صباح الخير .

فَغَرّدَ صديقي الطائر، فهمتُ أنه يقول :

- صباح النور .

منذ مدة تصادقتُ أنا و ( المُغني )، و اخترتُ له هذا الاسم، لأنه دائماً يُغني، في فرحه يُغني، بزقزقاتٍ سريعة عالية، و في حزنه يغني بصوتٍ خفيض، و زقزقاتٍ منتظمة .

و تعلمتُ من طول صداقتنا، أن أفهم لغته و زقزقاته، في الحقيقة ما أفعله هو تخمين يدفعني له، قوة إحساسي به .

جاء أول يومٍ، و نقر الشباك، فتحت فوجدته طائراً صغيراً و جميلاً، لكنه قوي، يحوّم في السماء، و يضربُ بجناحيه، كأنه يبحثُ عن شيء لا نعرفه، أو كأن الطيران متعة في ذاته، لا يحتاج إلى غاية من ورائها .

كت أراقبه بالساعات، و أسأل نفسي :

- هل يمكن أن أطير، أصادق الريح، و أمر على البحار، و أسكن الأشجار،

و أعلو إلى السماء، و لكن كيف ؟!

و حَطً المغني أمامي، و غرّدَ .. كأنه يريد أن يعلمني الطيران .

و قلت :

- هيّا يا أستاذ علّمني .

فقال المغني :

- إنني دليل لا أستاذ، فالطيران ليس علماً مخترعاً، يعلمه المدرس، بل هو شيء ينبع من داخلك، و لعلني أستطيع أن أدلك على الجزء الذي يُساعدك على الطيران .

قلتُ :

- يبدو أنك حكيم فزدني، إن بداخلي شيئاً يدفعني للحرية .. للطيران .. للمعرفة .

قال :

- إنها رحلة طويلة، لا بد أن تخوضها، كي تدرك و تشعر و تبصر، و حينها ستجد نفسك مرتفعاً دون جناح .

قلت :

- أريد أن أبدأ الرحلة الآن، فهيّا يا دليلي إبدأ .

قال :

- لا تنظر حولك، بل انظر داخلك، إغمض عينيك، ماذا ترى ؟

قلتُ :

- ظلام .

قال :

- انتظر .. هل أتتْ بقعة الضوء من قلب الظلام .

قلت :

- نعم .

قال :

- إذاً .. إفرد جناحيك، و طر إليها .

قلت :

- ليس لي جناحان .

قال :

- سينبتان، إطلق لخيالك العنان، طَهّر قلبك، إسمو بروحك، إرتفع .. إرتفع .

صرختُ :

- أنا أطير .. أنا أطير .

و شعرت أن يديّ تتحولان إلى جناحيْن، و أنني أرتفع، و أعلو، و حينها بدأ الضوء ينتشر، و رأيت ما حولي، و كأنني دخلتُ في دنيا جديدة، تضاءلت فيها البيوت و الأشجار.

أبصرتُ طيوراً في كل اتجاه، من له وجه رجل، و من له وجه امرأة، و من له وجه طفل، الكل يطير في سماء صافية، مَسَ جناحي طائر، فوجدته المغني .

قلت :

- ما أحلى ريشك في هذا الضوء، إنه لامع مذهب، و لم يكن هكذا من قبل .

قال :

- إن الضوء لم يتغير، بل العين التي ترى، ريشي لامع دائماً، و لكنكم ترونه بعيون غطاها السواد .

قلت :

- أشعر أنني خفيفٌ و سعيد، ما أحلى الطيران، هل يمكن أن أرتفع إلى أعلى أكثر؟!

قال :

- هيّا نذهب لمن بيده الأمر .

حلّقَ المغني، ثم شق الصفوف، و أنا وراءه، حتى وصلنا إلى مكان كأنه استراحة بين عالمين، و وجدنا الهدهد يقفُ في إعتزاز، يحدّثُ طائريْن صغيريْن .

مالَ المغني عليّ، و قال :

- إنهما من نوع الزرزور .

كان الهدهد حاداً معهما، و سمعته يقول :

- أنتما لم تفهما معني الطيران و حكمته حتى الآن، و يجب أن تعودا من البداية علكما تعرفان في نهاية الرحلة مرة أخرى إلى هنا، إن جسد الطائر من الحب،

و جناحيه من الحرية، و بينهما وشائج من الصدق، فإذا ذاب الصدق، وقع الطائر، و وقع معه الحب و الحرية .

طار الزرزوران بأجنحة منكمشة، و اختفيا سريعاً، تنهد الهدهد :

- سيعودان، في المرة القادمة سيكونان أرقى و أنضج .

ثم نظر لنا :

- ضيف من خارج جماعة الطيور .

قلتُ :

- و لكني أصبحتُ منكم، أطيرُ كما تطيرون .

قال :

- الطيران ليس جناحان و كفى، بل إنه تدريب للنفس و محاولة اكتشافها، و كلما

و جدت داخلك شيئاً جديداً جميلاً، علوتَ و سموتَ، و ربما ننصبك في النهاية ملكاً للطيور .

ضحكت، و قلت :

- أنا ملكاً للطيور، كيف ؟ .. و أنتم أهل السماء، و نحن البشر أهل الأرض .

قال :

- إنما هي القلوب يا ولدي، ترفرف أينما تشاء، لا جاذبية تسقطها، و لا سماء ترفعها، و إنما هو اختيار قلبك .

فهمت أنني في امتحان، و يجب أن اجتازه حتى أصل إلى مرتبة أعلى، و دنيا جديدة

قلت :

- قلبي متشوق للاختيار .

برزَ أمامي درج عليه أغصان زيتون، يحيط بها الشوك من كل اتجاه، قال الهدهد :

- هيّا .. أنت تعرف ما يجب فعله .

طرت أحاول بمنقاري أن أنزع أغصان الزيتون من بين الأشواك، و الأشواك تؤلمني، تدخل في أنفي و فمي، و تجرح جناحيّ، ينزف مني الدم، و رغم هذا أحاول حتى أنتزع أول غصن، فأطير به إلى الهدهد، و أعود مرة أخرى حتى أخرج الغصن الثاني و الثالث، و أجرح أكثر، و أتألم أكثر، و أعود كل مرة، بغصن حتى أحرر كل أغصان الزيتون .

ينظر لي الهدهد بافتخار، يعطيني حبة قمحٍ، و يقول :

- هذا دواؤك، كُلها و سيذهب ألمك، و تبرأ جروحك، يا ولدي أنت صادق، اعبر إلى عالم أكثر رحابةٍ و طهر .

و نفذتُ من فوّهةٍ بيضاء لامعة، و نفذ معي المغني، كأنني صعدتُ إلى بلادٍ تنيرها شمس بيضاء، كل شيء حولي منير، كل شيء هادئ هدوء المعرفة، لامع لمعة الحق، متسق إتساق النفس السوية .

قلتُ للمغني، الذي بدا أجمل من ذي قبل :

- ما أجمل عالمكم !

قال :

- إنما هي درجات لمن أراد أن يرتقي .

و فجأة، سألني المغني :

- إذا خُيّرت الآن، هل تعود بشراً ؟!

أجبتُ :

- و لِمَ لا ؟ .. و في كل الأحوال قلبي يحملني .

 

- 26 -

ذات يوم رأيت طائراً صغيراً على شجرة في ( الهوانا )، كان يغني كأنه يغني لي، لقد حرّك داخلي المشاعر، و جعل نفسي المطمورة تصحو، لكني عندما أردت إمساكه عوقبتُ و عاقبتُ نفسي، منذ قليلٍ زارني، كأنه رسول يبعث لي برسالةٍ .

اعتدلتْ بعد أن دفنتْ نواة تمر بين صخرتيْن، و سقتها بالماء، ثم قالت :

- ربما .. فدائماً ما تحمل الأحلام رسائل، و لكن هل أخبرك كيف سننجو ؟

قلتُ :

- بالطيران .. أخبريني ما الذي تفعلينه ؟

قالت :

- لقد زرعت النواة بين الصخور، صدقني الحياة قوية، تستطيع أن تصارع الموت

و تنجو، و عندما تنبت، سننجو معها .

و أضاءت الكشّافات، فرأيتُ وجهها يتلألأ، و في عينيها الدموع، فاحتضنتها، شعرتُ أن اكتمالاً داخلي يتحقق، و رغبة تستعر، لا من جمال جسدها و لينه، بل من حبٍ يعلو بي إلى دنيا طاهرة .

هتفتُ و هي بين يدي :

- ديما .. إيزيس .. أفروديت .

و التقت شفتانا، و رحنا في نشوةٍ، انتفض على أثرها ذكري، و سكن داخلها .

و هي بين صحو و نوم، تهمس :

- جبل .. آدم .. هانيبال .. إني لك .

و صحونا بعد غفلة طويلة، كنا كجسد واحد، يخاف أن ينشق، و صوت أنفاسنا يتراتب، و رغبة عارمة في استعادة تلك اللحظة الجليلة تغمرنا .

صرنا نُحيي أنفسنا بتلك اللقاءات المتتالية، فهي لا تؤجج داخلي الرغبة ثم تشبعها فحسب، بل إن شيئاً من الفردية، و تقدير الذات نشأ داخلي، و لم أعد أسأل نفسي :

- لماذا منعونا تلك المتعة، التي لم أعرف لها نظير حتى الآن ؟!

فقد استقرت داخلي الإجابة، هم لا يريدون إنساناً مكتملاً، يعزز قدراته، و يثقُ بنفسه و من ثم يحبها، و يصبح من الصعب عليه فقدانها، لقد كنت دائماً أسأل، لماذا لا يقاوم أحدهم، بل يسير بقدميه إلى جهاز التجميد، أو الغاز .

كانت قد انتهت من تفقد نبتتها، و استدارت لي، قالت :

- موعد الطعام .

كان التمر مكدساً في ركن من الحفرة، التقطت كيسيْن و فتحتهما، صرنا نمصُ التمر لنشعر بحلاوته .

قالت :

- طعم التمر مختلف اليوم .

قلت :

- نعم، و لكن هل رأيت نخلا فوق من قبل ؟

لم انتظر الإجابة فقد كنت أعرف أن أشجاراً معينة محظور زراعتها إلا فى أماكن معينة و بكميات محدودة، و منها النخيل الذى صار نادراً على الأرض، و عرفت أن قوة ما تريد لنا الحياة .

مددتُ يدي إلى خصرها، و قرّبتها مني، كنتُ أريد أن ألمس كل جزء في جسدها، الذي لم يعد بالنسبة لي فقط الجمال المطلق، بل أصبح أيضاً، جزءاً من جسدي .

و شرعنا في لقاءٍ جديد ...

 

- 27 -

زارتني المرأة العجوز في الحلم، قالت إنها وحدها تعرف أين خبأت الأرض سر الحياة، ثم اشارت إليّ :

- إتبعيني .

ذهبنا إلى بناء بديع، لم تشهد عيناي مثالاً له من قبل، قالت إنه رمز الحب، يتحدى الزمن، و يعلم الإنسان ألا شيء باقٍ غير قلبه، فهو الكنز المُخبأ داخله مثلما تخبئ الحياة سرها .

قلت :

- ما اسمه ؟

أجابت :

- تاج محل .

و دون انتظار لسؤال جديد، طارت بي إلى البعيد، هتفتُ و الأرض منبسطة تحتي :

- هل فيه سر الحياة ؟

حطت على الأرض، و قالت :

- إنتظري .. لترين .

كانت جموع من الناس، تملأ الشوارع و الميادين، تهتف بسقوط النظام، كانت الأرض من حولي ندية خضراء، تحتضن البحر و أشجار الزيتون، تطلعت للوجوه، فإذا بها تحمل طيبة الأرض، و عندها خطر لي أن هنا قد خبأت الأرض سر الحياة .

و كأنها عرفت بتساؤلي، فأجابت :

- للحرية جناحان، تطير بهما من أرضٍ إلى أرض .

حوّمت بي فوق الأهرامات، و استقرت بالميدان، جموع الناس تتوحد ككتلة بشرية واحدة، تهتف للكرامة و العدل، كانت ذبذبات الأصوات التي تخترق أذني تحيي داخلي أصواتاً سمعتها من قبل، أما الوجوه فكأني كنت أعيش معها حياة كاملة، نظرت لي بعينيْن لامعتيْن، و قالت :

- جربي .

همست :

- كيف ؟!

و هكذا رأيتني داخل الميدان، أهتف :

- تقدمي مني أيتها المشاعر، إنفذي داخل مسامي، إنفضي قلبي من سكونه، أيقظي روحي التي خبت، و أحيي داخلي عالماً من الصور و الأحلام .

هكذا كنت أصرخ في نفسي، و أنا أنتقل من خيمة إلى أخرى داخل الميدان، خلال ثمانية عشر يوماً، أيقنت أن هذا المكان جمع آلام و أحلام من قبلنا، و سيحمل آلام و أحلام من بعدنا .

تزورني إيزيس في الحلم، تهمس لي :

- أحيي الوطن .

تحيطني الملكة تي، يجلجل صوتها داخل أعماقي :

- انظري إلى عينيّ، خذي مني الإصرار و الشموخ .

تتراءى لي كيلوباترا بتاجها، تجلس على العرش، و تشير لي و أنا واقفة في بلاطها منتظرة، أتقدم منها فإذا بها تصفق للكاهن، الذي يحمل سلة مليئة بالأفاعي، تدس يدها في السلة، و تقول :

- ها أنتِ ترين، أنني أدفع حياتي ثمناً لكرامتي .

و تتوالى الصور في أحلامي، و لا أستطيع الفكاك منها، حتى أرى أزمنة لم تمر على البشرية من قبل، و أشعر أن في باطن هذه الأرض قلباً ينبض .

هنا في ميدان التحرير، أشعر أنني أغوص في أعماق الأرض، حتى أصل إلى حفرة تضمني، و أراني احتضنه، هذا الرجل ظل يطاردني في الميدان، يوّزع الماء و التمر، يُطمئن الفتيات الفزعات، و يزود عنهن حين تهجم الشرطة أو البلطجية، رأيته يوقع حصاناً في موقعة الجمل، و يرد للشرطة قنابل الغاز، فيختنقون بها، خمنت أنه في نهاية الثلاثينيات، و لكنه يبدو أكبر من هذا، يبدو أن اليأس أخذ منه الكثير، كانت عيونه تلاحق عيوني، في كل مكان بالميدان، لكننا لم نتحدث من قبل .

الآن أراه معي في الحفرة يحتضنني و أنا أحتضنه، فتحت عينيّ من الحلم،

و خرجت من الخيمة أستقبل نسمات الصباح، فوجدته أمامي .

قال :

- أنتِ تطاردينني في أحلامي .

قلت :

- و أنتَ أيضاً .

و امتدت يده لتحتضن يدي .

 

- 28 -

كنت أبحث بقلبي عنك، كانت عيونه تتلصص حولي، لم يكن ضياؤك هو الذي جذبني إليك، و لا رقتك، ربما ابتسامتك واطمئنان قلبك، الذي سرى إلى قلبي .

رأيتك مثلما كنت أغمض عيني من قبل، و أراك خيالاً، فأشم عبيراً، و تسري على خدي نسمة، عندما تُغني فيروز :

- ( خايف أقول اللي في قلبي ) .

قلبي كان واجفاً حين امتدت يدي، لكنك بحنان أودعتها عُشاً طيباً بين يديك،

و احتوتني عينيك، فوجدتني كمهرة تعلمت الصهيل لتوها، تصهل و كأنها تشدو، تندفع في المضمار ثم تحمحم، تداري فرحتها بك، أو تحاول، لكن اللسان الذي لم يعتد الخروج من مكمنه، قال كلمة واحدة، كلمة خرجت مرتعشة كأنها ترجو اكتمالها :

- صباح الخير .

ضحكت، و من بين البدائل الكثيرة اخترت أن تحدثني الساعات الطوال عنك، كنت أراني في كل كلمة تقولها، و لم أنتبه أن مشاعراً من اليأس انتابتني عبر مراحل عمري، حتى تحوّلت إلى يقين إلا عندما بُحت بها أمامي، ذلك الاهمال المتعمد من كل من حولك، و كأنك شخص غير مرئي، اجتهادك الدائم لإثبات ذاتك، ثم خيبات تتلوها خيبات، حتى اعتدت اليأس، و أخيراً نظرت إلى وجهى و قلت :

- ثم طلع النهار .

أحضن جبالاً من الحب تتمايل أمام عينيّ، و صوتي ينجلي و يرتفع مع صوت فيروز، تدفعه إرادة و احتياج :

- ( خايف أقول اللي في قلبي ) .

و أستسلم لهذا الخوف، الوجل كأنه موج يأرجحني حتى أصل إلى الشاطيء .

 

- 29 -

علمتني الحروب أن المتعة ليست في الانتصار بل في كل خطوة تقربك منه، عشقت المقاومة و التخطيط للحرب .

ركبت الخيل و الفيلة، و بارزت خوفي، حتى تضاءل، فتحتُ بلاداً و ممالك،

و أقمت عروشاً من مجد، أنا هانيبال أورثت ذريتى العزة، و حرستهم عبر الزمن، علمتهم فن الاختيار، و وقفت فى أحلك اللحظات أقول سنجد حلاً أو سنصنع واحداً، الآن أتطلع إلى أرضي، و أبارك أولادي الذين بقيت عزتي في أصلابهم، أنثر عليهم بعضاً من كبريائي، و هم فى الشوارع و الميادين، أهتف فيردد الصدى صوتي :

- أحبوا أنفسكم، و اثبتوا فالنصر قريب .

 

- 30 -

و رحت أبحث عن سر الحياة، إذ همست لي الأرض أنها أعادته إلى سطحها،

و غرسته بذوراً تنادي الأحبة، و هكذا حملتني الطائرة بجوار جناحها كطائر عملاق، و ارتفعت إلى عنان السماء .

هكذا بسطت الأرض تحتنا بآلاف الأقدام، و اختفت الشوارع و الناس، ثم تلاشت المحددات، و تماهت الأرض، صارت كتلة واحدة، و حلمت أن أبقى إلى نهاية العمر، معلّقة بين السماء و الأرض، بعيدة عن صراعات الأرض، و هزائمها المتوالية، و قريبة من رائحة البحر، و السماء الواسعة، كدتُ أُخرج يديّ من شبّاك الطائرة، كي ألمس السحاب .

نقية هي السماء، متبخترة في ردائها، مطمئنة أن كل شيء سيمر، و تبقى هي .

بفرحة الأطفال كنت أنظر من الشبّاك، لأرى عالماً من الجمال و السكينة، بساط من الخضار يمتد أمامي ..

إنها تونس، تحتضن البحر، و تأخذ منه عنفوانه و إصراره، قادمة من القاهرة إلى تونس وحدي مستبشرة بالثورة التونسية، و مهتدية بها .

و هبطت الطائرة، الهدوء و البساطة يغمران كل شيء حولي، عيناي لا تفرّقان بين غني و فقير، الأبنية متشابهة، كلها مكسوة باللون الأبيض، الشوارع متشابهة، الناس هنا عمليون، لكنهم يجيدون الاستمتاع بأوقاتهم، حتى السيارات متشابهة، أما جفاف الجو و اعتداله يحفزاني على النشاط .

نزلت إلى تونس غريبة و وحيدة، لكنني أبداً لم أشعر بالوحشة، فربما أكون الكائن الوحيد الذي يستمتع بوحدته، إنه ذلك الوقت الضئيل المتاح لمعرفة النفس

و محاورتها.

آه .. كم أنتِ يا تونس مؤنسة، يكفي أن تقول :

- صباح الخير .

حتى تجد من يرشدك، و يقلك بسيارته، و يدعوك لأكلة سمك لن تجوع بعدها أبداً، لماذا لا يخافون من الغرباء ؟

و لماذا يبتسمون، رغم كل ما مر بهم من قهر ؟!

و لكن تونس العاصمة، تحمل كل أوجاع العواصم، و يتكشف بها الداء أكثر من غيرها .

يحكي لي سي حميد، بصوته الرخيم و عربيته الفصيحة، عن ثورة الياسمين،

و التفافهم حول كلمة واحدة، يقول :

- لولا وحدتنا لضعنا، قضينا الليالي و الأيام، في شارع ( بورقيبة )، نقاوم الشرطة، و ( بن علي ) في قصره يرتجف، لم يكن ( بو عزيزي ) مُفجّر الثورة وحده، بل سبعة عشر عاماً من الخوف و الترقب .

و في اليوم الثاني، اصطحبني هو و زوجته سجيعة إلى صفاقس، قالوا لي إذا أردتِ أن تغسلي روحك، فإذهبي إلى صفاقس، أربع ساعاتٍ في قطار يمر بين أشجار الزيتون، و وسط جبال خضراء، و قرى فقيرة متناثرة، ذكرتني بقرى مصر، و سألت عن معنى صفاقس .

فأجابتني سجيعة :

  • إن هناك رواياتٍ متعددة لأصل هذا الاسم، فمن يقول إنه إله من آلهة الفينيقيين، أو سُميت نسبة إلى القائد الأمازيغي سيفاكس، أو صفاقس، و هو بطل من الميثولوجيا الأمازيغية، و هو ابن للربة تينجا، و من يقول إن قائداً اسمه صفا فتح هذا المكان، فيقال له : يا صفا، قص علينا، أي احك لنا، و مع الوقت خففت ( قص ) إلى ( قس ) .. و غيرها من الروايات .

شرحت لي سجيعة بعدها عن طموحها، الذي امتد لابنتها، و جعلها ترسلها للدراسة في فرنسا، و أن كل ما تفكر فيه، أن تحصل ابنتها على قسطٍ راقٍ من التعليم،

و تحتك بالحضارة الأوروبية .

كنت أرى فيها امرأة قوية، قادرة على إدارة دفة حياتها كما تريد، أما سي حميد فقد كان يجلس على الناحية الأخرى، يتطلع لأشجار الزيتون، و فجأة استدار، فلمحت في عينيه دمعة حائرة، ثم زفر :

- و لكنني أفتقدها بشدة يا سجيعة .

***

وصلنا صفاقس، و مشينا على الأقدام إلى فندق صغير، كل شيء به نظيف و مُرتب و لكنه بسيط، لا مغالاة في شيء، فالحجرة بها كل المستلزمات الضرورية، أما المطعم الملحق بالفندق، فإنه يقدم وجبة واحدة لكل النزلاء، حيث لا طعام في الحجرات .

و هكذا كان عليّ أن أحتسي شوربة الطماطم بزيت الزيتون، و آكل الحوت ؛ فهم يسمون السمك مهما كان صغيراً بالحوت، و ملعقتيْن من الأرز لا ثالث لهما،

و سلطة خضراء، و طبق من صلصة حمراء مُركزة و سمـيكة، قدمتها لي سجيعة و قالت :

  • هذه ( هريسة ) .

قلت :

- عندنا ( الهريسة ) نوع من الحلويات .

قالت :

- إذاً .. تذوقيها !

قربت ملعقة صغيرة من فمي، و بطرف لساني تذوّقت .. فاندلعت النيران داخل فمي، فشربت كوبيْن من الماء، و الشطة ماتزال تلسع فمي، و تدمع عيني .

ضحكت سجيعة، و دفست ملعقتها في الطبق، و أكلتها، ثم قالت :

- ( هريسة ) باردة، ما فيها رائحة الشطة !

ثم حكت لي أن ( الهريسة ) عندهم تُصنع من قرون الفلفل الأحمر الحار، و يتم مزجها مع كثير من زيت الزيتون، و القليل من الطماطم، ثم يُخلط هذا المزيج،

و يُضرب في الخلاط، و يُقدم كطبق مُشهي بجوار الطعام .

في اليوم الثاني، قلت سأتجوّل في المدينة وحدي، كي أكتشفها، بينما ذهبت سجيعة و سي حميد لزيارة أهلها في أطراف المدينة .

هنا يطلقون على الشوارع كلمة ( طريق )، أشرت لتاكسي، و كنت أريد الذهاب إلى السوق القديم، فإذا بالسائق ينظر لي في استغراب، و يتركني و يسير، و هكذا فعل غيره و غيره، و أخيراً صرخ أحدهم :

- ما عندك رجلين .. سيري .

فضحكت :

- باعطيك دينار .

فإذا به أيضاً يتركني و يذهب، و تعجبت من شأن هؤلاء الناس، و اقترب مني رجل كبير، و قال :

- شابة و تركبي .. السوق على بعد نصف ساعة مَشي .

و تعجبت أكثر من هذا الشعب النشيط، الذي يعد نصف ساعة من المشي، شيئاً يسيراً .

و لكنه كان بالفعل كذلك، فالشوارع خالية تقريباً، رغم روعة الجو و نسمة الصباح، تقاطع الشوارع و تنظيمها مع وجود رصيف عريض مزروع بالأشجار، كما توجد في الساحات أماكن للراحة و الجلوس .

كل هذا يشعرك أن النصف ساعة ( مَشي )، هي عشر دقائق لا أكثر، و أخيراً وصلت إلى ساحة السوق القديم، حيث يحيط بالسوق سور عتيق، الفاكهة تستقبلك، لا في السوق فحسب، بل في أيدي المتسوقين، خاصة البرتقال صغير الحجم، طيب المذاق، و الذي يشترونه بالواحدة .

أتجول في سوق مليء بالسجاد و الأقمشة و الأزياء الشعبية التونسية، و المنتجات الجلدية و العطور .

و عندما انتهيت من الشراء، كان عليّ الجلوس في الساحة لإراحة قدمي قبل المشي إلى الفندق .

***

في اليوم الثالث، سلكت طريق ( فرحات حشّاد )، كان كل من يقابلني يتحدث عنه بفخار و عزة، قالوا لي إنه مناضل ضد الاحتلال الفرنسي، و قد فر إلى مصر فترة ثم عاد لتحرير أرضه .

( فرحات حشّاد ) لم يبق منه سوى منزلٍ متواضع في جزيرة ( قرقنة )، و طريق بصفاقس، و لكنه طريق رئيسي و طويل، و مليء بالكتابات المعبّرة عن الثورة التونسية .

***

في اليوم الرابع، اتصلت بي سجيعة في السابعة صباحاً، و قالت :

- لسه نايمة .. قاربنا الضحى .

غسلت وجهي، و ارتديتُ ثيابي على عجلٍ، قالوا :

- سي حميد يدعونا إلى جزيرة ( قرقنة ) .

و عندما وصلت السيارة، وجدتها ممتلئة بالبشر، عرفتني سجيعة على أمينة من تونس، و روز من فلسطين، و خالد من المغرب،

و باهي من اليمن، و أنا من مصر .

فكانت السيارة تسير كجامعة عربية متحركة، و الغريب أننا لم نعدم البحث عن أغنية مشتركة نغنيها، فانطلقت حناجرنا بأغاني فيروز، و سيد درويش، و الشيخ إمام،

و عبد الحليم، و أم كلثوم .

و وصلنا إلى البحر، فأخبرنا سي حميد، أننا لابد أن نركب المعديّة التي توصلنا إلى الجزيرة، و عندما رأيت المعديّة وجدتها، سفينة عملاقة كجبل يسير في الماء،

و تذكرت المعديّة عندنا، و التي لا تعدو أن تكون مركباً صغيراً، أو ( فلوكة ) يسحبها المراكبي بالحبال .

و أخذت المعديّة تمخر عباب البحر، حتى ابتعدت الأرض، و بدا البحر المتوسط رائقاً و سعيداً بنا، حتى وصلنا إلى ( قرقنة )، و هي جزيرة تقوم على الزراعة

و الصيد و الذاكرة، فكل شيء من حضارتهم قد حفظوه في المتاحف، تحكي عاداتهم، و طرق معيشتهم، و طعامهم و سبل الصيد لديهم و الزراعة .

كل تفصيلة مهما كانت بسيطة، يعرضونها عليك و هم بها مفتخرون، أبداً لا يمرون على الماضي قَطّ، و يتملصون منه، بل يعتزون به، مهما كان به من أخطاء، فهو جزء من تاريخهم، و ركن من أركان ذاكرتهم .

و في بيتٍ ريفي مرتب و نظيف، نزلنا ضيوفاً على والدة سي حميد، التي كانت ترتدي الملابس التونسية الريفية القديمة، و تحيط خصرها بحزام موشى بالمشغولات اليدوية، وتعقد شعرها فى ضفيرتين صغيرتين، وتحبكهما بإيشارب اخضر اللون مُطرّز بورود صفراء، أخذت تتحدث معنا بلهجة تونسية أصلية، و أعترف أن فهم ألفاظها عسير، إنها تُشبه اللهجة الصعيدية الخالصة، التي ينطقها أهلنا في الصعيد الجوّاني، بخطف الحرف، و ملاحقة الكلمات حتى لا نكاد - نحن أهل المدينة - نفهم منهم شيئاً .

و لكن هذه اللهجة لم تكن عائقاً للتواصل، فهي تُعبّر بعينيها الجميلتيْن عما تريد أن تقوله، أما جيرانها فقد أمطرونا بالحلويات الشعبية، و صار كل منا يتحدث بلهجته، المغربي منفعلاً، يحاول إبراز كل حرف ينطقه، و يؤكد الكلمات بتكرارها، و اليمني يخطف الحروف، و يتحدث بسرعة، و الفلسطينية تتكلم بهدوء و ثقة، و تُطعّم لهجتها القريبة من المصرية، بكلماتٍ شامية و خليجية و مصرية، تقول :

- سامحوني، لهجتي خليط من كثرة الترحال بين البلاد .

كان الشغل الشاغل لنا، و نحن ننتظر أكلة السمك أو الحوت كما يسمونه، و التي أتحفنا بها سي حميد في مطعم على البحر مباشرة، حيث نختار الأسماك حية،

و ننتقي طريقة طهيها .

هو ذلك الربيع العربي، الذي هبط على كل دار في الدول العربية، كانت تونس قد طردت عليّ زين العابدين، و مصر قد ( خلعت ) مبارك، و اليمن تستعد و تحتشد ضد عليّ عبد الله صالح، و ليبيا تقاتل من أجل حريتها، و تحاول حصار القذافي، و سوريا تضج بالمظاهرات .

ثم انتقلت رياح التغيير إلى الدول الأكثر غنى، فبدأت التظاهرات في سلطنة عمان،

و البحرين، و السعودية .

كان نداء الحرية يطير من بلد إلى أخرى، يكفي أن ترتفع حنجرة به، إلا و تبعتها ملايين الحناجر، التي انطلقت أخيراً تعزف لحن الإرادة .

أبدت روز تخوّفها من حركات الإسلام السياسي في مصر، و قالت إن مد تلك الجماعات سيحصر الثورة في اتجاه واحد، و شاركتها سجيعة الرأي، خاصة أنها عضوة في جمعية نسائية، تناهض من أجل الحفاظ على المكاسب التي حصلت عليها المرأة في تونس منذ سنوات .

قلت :

- هذا الأمر لا يقلقني كثيراً، خاصة أنني أعوّل على طبيعة الإنسان المصري المنبسطة، و التي تنفر من القيود و المغالاة، هذه الطبيعة هي التي أجبرت الإمام الشافعي على تغيير بعض من مذهبه، ليتواءم مع طبيعة المصريين، عندما نزل إلى مصر، و لابد أن تنتصر هذه الطبيعة في النهاية، حيث هضمت كل الحضارات التي مرت بها من قبل، دون أن تتخلى عن سمتها .

بينما أكد خالد أن المغرب تمر بمرحلة حراك سياسي و اجتماعي و اقتصادي،

و الاصلاحات متوالية، و هم ينتظرون المزيد .

و هنا تدخل باهي ليشرح الوضع في اليمن، و أنه على يقين أن الاستقرار سيأخذ وقتاً طويلاً، إلا أنهم مصرون على رحيل عليّ عبد الله صالح .

***

يومها نمت، و حلمت أنني وردة تخرج من قلب ميدان التحرير، لم أحكِ لأحد حتى الآن المشاعر التي انتابتني طوال الثمانية عشر يوماً في الميدان، ربما ضننتُ بها حتى على نفسي، و كأنني كنت مسجونة في حفرة بقلب الأرض، ثم خرجت إلى النهار، أية مشاعر أنقى من تلك المشاعر، التي نبهتني إلى إنسانيتي .

كان كل شيء من حولي، منذ ولادتي، يبعدني عن كوني إنسانة، أنا دائماً بين العطش إلى حد الجفاف، و بين الرواء إلى حد السعادة، حالة البين بين، بين كوني أنثى يريد لها المجتمع أن تمشي كرجل، و تتحدث كرجل، و يرمون على كاهلي، كل يوم بعبء أكبر، حتى صارت المتع أعباء، فالتعليم يحوّلني إلى آلة للحفظ،

و الشهادة العليا، تسلمني إلى عمل غبي، و أنوثتي يُنظر إليها على أنها الفجور، فأخبأها و أمحوها، أقص شعري باستمرار، و أرتدي البنطال، أخبيء ثدييّ تحت البلوزات الفضفاضة، أحفزّ نفسي على خوض المعارك كنمرة، و أدفن قلبي تحت رماد الكبرياء .

مرت سنوات و أنا أبحث لي عن مكان، في البيت، في العمل، في الشارع، الشعور بالغربة هو المسيطر عليّ، لم أكن أنتمي إلى حزب، أو فصيل سياسي، و كنت أرى مصر، و كأنها تنازع في لحظاتها الأخيرة، ثم حدث الزلزال، و جاءت الولادة الجديدة، و وجدتني لأول مرة أختار دون حسابات مسبقة، دون خوف من العواقب، دون أوامر اعتدتُ على تلقيها، و نزلت الميدان .

و انتابني شعور بالرجفة، كأن دماء جديدة طاهرة تدخل إلى قلبي، و تروي أعضاء جسدي، تماماً مثلما أحس الآن، و أنا أقف في شارع بورقيبة في العاصمة تونس، بصحبة سي حميد و سجيعة، كانت الجدران مزينة برسومات الشباب، و عبارة :

- ( تونس حرة ) .

ممتدة أمام كل عين .

احتضنتني سجيعة، عندما وجدتني أرتجف و أبكي، قلت لها :

  • كأنه التحرير .

قالت : لا تسكبي مشاعرك الآن، انتظري حتى تري ( سيدي بو زيد ) .

و هكذا ركبنا السيارة و انطلقنا، وجدت على الطريق سرباً من العربات متجهة إليها، و فهمت أنها أصبحت مزاراً سياحياً، و عندما واجهتني اليافطة الصغيرة على جانب الطريق تعلن قرب وصولنا، شعرت أن في هذه الأرض الخصبة قد انتثر جزءاً من سر الحياة، مدينة بسيطة ريفية المظهر، تعتمد على الزراعة فمن الصعب أن تنظر حولك ولا تجد شجرة مثمرة، هذه الأرض التي لم تعرف معنى الخمول لابد أنها أنتجت بوعزيزي، ذلك الثائر الذي رَسّخَ في الأذهان أن الكرامة أهم من الحياة .

وقفت بجوار سجيعة و روز أتأمل ذلك البيت الريفي، و تلك العربة الخشبية الصغيرة التي تحمل سراً من أسرار الحياة .

كنا قد اتفقنا أن نعيد اللقاء في كل عام في بلد عربي جديد، و شدد خالد أن يكون اللقاء القادم في المغرب، ليعرض علينا صنوف الطعام المغربي، و نرى طنجة الساحرة، كما يسميها، بينما أكدتُ أن اللقاء يجب أن يكون في القاهرة، و أن الكشري، و البط، و الملوخية، سيكونون في انتظارهم، و الأحداث المتلاحقة أيضاً .

ركبت الطائرة، و أنا أرى سجيعة، و أمينة يشيران لي بعلامة النصر .

و مثلما ذهبت بأمل، يتحرك داخل صدري، عدت و أنا موقنة أننا فقط لا نحتاج حرية و كرامة و رفاهية، بل أيضاً نستحقها .

 

- 31 -

ثمار طيبة تتدلى من الأشجار، و حديقة واسعة بها ورود مختلف ألوانها، أسير وسطها فرحة، و أرى وجهي على صفحة البحيرة، فأندهش لملاحتي، ألاحظ وردتيْن متشابكتيْن تبحران في الماء، أمد يدي و ألتقطهما، وردتان تخرجان من عنقود واحد، أقربهما من أنفي، فأشمُ عبيرهما، أنديهما بالماء، و أغرسهما في الأرض الرطبة حول البحيرة .

أفتح عينيّ و أنا ألهث، و عرق غزير يتصببُ مني، يدي مكورة حول بطني، كأنها تحميها، أتألم لوقع الخبط في ظهري و بطني، كأن شيئاً يحفر داخلي، و على قدر ما يصيب من الألم يعطي من اللذة .

أنتبه لوقع أنفاسي اللاهثة، و شعرت بيده تربت على كتفي، فأمسكت بها، و وضعتها على بطني، سألته :

- هل تشعر ؟

قال :

- كأنه نبض !

قلت :

- إنه نبض جنينك .

تحسس بطني و هو يهذي :

- جنين، طفل يشبهك، يعيد للبشرية ما اقتص منها، يلعق جراحك، و يشعرك بالاكتمال، طفل يشعرك بالوجود، أحد تحن إليه و ترجوه، طفل فيزيقي سيفخر بنفسه، و يحب الحياة .

كان قلقي يشتد كلما تمددت بطني، إن خمس مرات من الفشل في إنجاب طفل مكتمل، أورثني القلق، و لكنه الأمل .. آه من الأمل، يحيل كل لؤلؤة مكنونة في أعماق البحر إلى خاتم في اليد، كل معجزة إلى ممكن .

و أسلمت نفسي للأمل، الذي راح يشعرني بالآمان، و يزرع في مشاعر لم أعرفها من قبل، و يُنزل في قلبي يقيناً أن قوة أعلى من إرادتنا، تريد للإنسان أن يستمر .

أما هو، فصار يدللني، يرعى نبتتي و يرويها، يتخيّر أسماءً للمولود القادم، ثم يعود و يبحث عن غيرها، كان ينام جالساً حتى يتيح لي فرصة، كي أتمدد بكامل جسدي، و شعرت للمرة الأولى، و يده تمر عليّ، إنها تحمل حناناً و عطفاً كأنها يد أب .

 

- 32 -

وسط الصحراء يقف يُعبئ صدره بالهواء، و يتفحص سفينته، اكتمل البناء و سعى كل زوج إلى مكانه، هذا فرخ حمام و وليفته، و هذا مهر و مهرة يتناجيان .

الكل يُسبّح و ينتظر، صعد إلى أعلى السفينة يتطلع، فإذا بالماء يأتي من كل فَج، شقت الأرض، و خرج الماء، فحمل السفينة بمن فيها .

معجزة الحياة للمرة الثانية، و الفرصة الثانية التي ربما تكون الأخيرة، تشهدها كل عين على السفينة .

و رست فوق الجبل، فوقف ليرى الأرض من جديد بعد انحسار الماء، من فوق الجودي يلمح أنهاراً تجري، و أشجاراً تعلو، و بحاراً تهدر، و أرضاً استوت لساكنيها، يهتف :

- هذا هواء مخلوق الآن، لم يتنفسه أحد من قبل، يا بني اثبتوا أنكم تستحقون هذه الفرصة .

ثم نزلوا من السفينة يسعون في كل اتجاه ..

 

- 33 -

في الخامس و العشرين من يناير صحوت مبكراً ككل يوم، و ارتديت ملابسي على عجل ككل يوم، و لملمتُ شعري بشريط صغير ككل يوم، وتعطل الأتوبيس ككل يوم، و لكنني لم أكمل مشواري إلى العمل مشياً على الأقدام ككل يوم، لقد تذكرت أن اليوم إجازة رسمية، لم أعرف ماذا أفعل، العودة للمنزل معناها اجترار المسلسلات المعادة، و الخناقات المعتادة حول شغل البيت، و الجلوس إلى الأصدقاء الافتراضيين أمام الـ face، لم يعد يشبع رغبتي في التحدث مع الناس، لم أعرف ماذا أفعل هل أصبح الوقت عبئاً إلى هذه الدرجة، بل هل أصبح العمر نفسه عبئاً، و أردت التحدث إلى الكائن الوحيد الذي يمكنه أن يسمعني، و اتجهت إلى النيل .

على كوبري قصر النيل، كان الهواء البارد يلفح وجهي، و ينعش داخلي الذكريات، و لكن هل أحتاجها الآن، أم أنني أحتاج إلى الحديث عن القادم، وماذا يعني القادم لامرأة تخطت الثلاثين - و هي وحيدة - سوى الخوف، كنت قد وصلت إلى ميدان التحرير، و قررت الجلوس للاستمتاع بشمس حنونة بدأت تظهر، و رأيتهم يأتون من كل اتجاه، لم أساوم نفسي في البقاء معهم، فخروجي من الميدان كان معناه ألا أنظر في المرآة بعد اليوم .

أحببت حماسهم، قدرتهم الطاغية على اتخاذ القرارات، تشريحهم لداء المجتمع، أن تشعر فجأة أنك إنسان مُقدر، و وجودك يشعر به الآخرون، أن شعوراً بالعزة يتسرب إلى روحك وجسدك ويدفعك لحب الحياة .

أحد عشر يوماً ألاحظ عينيه، صمته، تعبيرات وجهه، حركات يديه، و كما ألاحظه، ألاحظ نفسي و الآخرين، الكل في الميدان كأنه خرج من نفس واحدة، خلال السبعة أيام المتبقية، صار التلاحم أكبر و التصميم أعلى، و انطلقت الأحلام، يدي في يده كأنما أخاف أن أفقده .

هل للسعادة أعراض جانبية، تصيبك بذلك القلق الهامس، و تجعلك تخاف من فقدها، مرت الأيام سريعاً، و اكتملت السعادة و جاء الانتصار سريعاً مدوياً،

  • كبر الخوف .

 

- 34 -

ضربت صفّارات الإنذار في كل مكان، و أضيئت الكشّافات، كانت يده على بطني ما تزال، و شعور أقوى من الفرحة يلفنا، الهجوم كان عنيفاً، خمنّا أنه ليس هجوماً للون واحد، و كأن كل الألوان اتحدت على الأحمر الناري .

الغازات تعبئ المكان، و القنابل المتطورة، تشقُ الأرض، و هكذا صارت الحفرة تتسع و تكبر، و النبتة تشتد و تصير شجرة قوية جذورها ممتدة أفرعها، كأنها هنا منذ مئات السنين، و الطائر يحوّم حولنا، ينادينا :

- أغلقا عيونكما حتى تريا النور، افردا أجنحتكما .. و اصعدا .

 

صرنا نطير من غصن إلى غصن أعلى، حتى انتهت الشجرة، و وجدنا فوّهة في نهايتها نور .

و قيل :

- اعبرا .

 

إلى صباح جديد عبرنا، تزينه شمس دافئة و سماء محبة، كنا نقف على عشب اخضر في وسط ميدان، و كانت أنفاس الجموع المحيطة بنا تدفئنا، و تنزع عنا شعور الغربة، و كأننا كنا لهم البشارة، إذ انطلقت الاحتفالات في كل مكان في الميدان .

و كأنهم كانوا لنا البشارة، إذ جاء المخاض، و صرخت ديما / إيزيس / كليوباترا / تتي شيري، صرخة الحياة، فتجمعت النساء من حولها، و حملوها إلى خيمة بيضاء .

و خرجت واحدة منهن تشبهها، كأنها هي، تحمل في كل يد مولود، كانا صغيريْن إلى حد لم أتصوّره، رائعيْن، قالت :

- سمهما .

قلت :

- هذا آدم، و هذه حواء .

 

و تقدم رجل يشبهني، كأنه أنا، و حمل الطفليْن، لمعت عيناه بفرحة لم أعرفها من قبل، قال :

- في عيونهما سر الحياة .

قلت :

  • كنا نرغب في ميلاد جديد، و قد جاء ...

لففنا أدم وحواء بقماشٍ أبيض يكسوه العلم، صعدنا تحت إلحاح الجموع إلى أعلى منصة في الميدان، قالوا إنهما التجسيد الحي للانتصار، و يجب أن تراهما الأرض كلها، و عندما وصلنا رفعناهما وسط هدير البشر، و انطلقت الاحتفالات، و لكن كان هناك غراباً أسطورياً يُحلّق فى السماء .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إشارة :

( 1 ) بابلو نيرودا: ايسلانيجرا، ترجمة كامل يوسف حسين، قصيدة (الطفل الضال)، ص 46، مطبوعات اتحاد كُتاّب و أدباء الإمارات .

 

* صدر للمؤلفة

* أفيال صغيرة لم تمت بعد ! مجموعة قصصية، الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1996

* نصف عين رواية - الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2000

* تطور مجلات الأطفال في مصر والعالم العربي الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2004

* تطور مجلات الأطفال في مصر والعالم العربي الجزء الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2006

* رٌوْحٌ تُحَوّمُ آتية مجموعة قصصية، الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2004

* أمير الحواديت قصص للأطفال، الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن مشروع القراءة للجميع طبعة أولى عام 2007 .

* عيون جميلة قصة للأطفال، الدار المصرية اللبنانية، 2012 .

* لمسة الأم قصة للأطفال، مكتبة الدار العربية للكتاب، 2012 .

* تحت الطبع :

* مجموعة قصصية بعنوان : سماء واسعة .

* مجموعة قصصية للأطفال بعنوان : الأمنيات المضيئة .

* البريد الإلكتروني : Email: naglaaallam 2002@yahoo.com