يصور الكاتب المصري عالم القرية المصرية حياتها طقوسها متتبعا حياة «نواف» منذ نشأته طفلاً مقبلا علئ الحياة كاشفا عن عالم الكبار مبكرا وأنقسام ذلك العالم إلى نهار وليل فيها أختلاف في كل التفاصيل، بلغة سلسة محسوبة بدقة.

وشاية الروائح

السيد نجم

 

حكاية خروج "نواف العجرودي" ليلا
قبل الفجر انفلت "نواف العجرودي" من فرجة الباب الضيقة، قد تكفي لقط ليلي يتسلل.. نجح فى تجاوز كل العوائق، حتى عيني زوجته "أم عاصم" الساكته، فى صمتها قوة لا يعرفها غيره، حكمتها في الدنيا "خليها على الله"، ولا تترك الأمور على أعنتها أبدًا. بخفته ونحافته تجاوز صوت المفصلات الصدئة المتآكلة. منعته زوجته من استبدالها، فالغرباء لهم باب المضيفة.. صوت نعير المفصلات ينبهها. كان يلهث، ويتمتم بما يحفظ، الوِرد اليومي يردده قبل أن يرفع "الشيخ الجِعرً" أذان الفجر. اليوم إستيقظ مبكرًا، لعله لم ينم، فضل أن يقضي ليلته، مطمورًا بالعباءة الجوخ البنية. لا يكره شيئًا فى الدنيا، قدر كُرهِه الشُعور بالضعف مع البرد.

يراوده رفيق ععمره الشيخ "الجعرً"، وحده يلمح عليه ما لا يلاحظه غيره، كأن يرفع الشيخ الأذان ويؤم المصلين فى أيام الشتاء الباردة، من غير أن يتوضأ. منذ سنوات حذره ولعنه، لكن الملعون طويل القامة، فتح بابا لم ييخطر على ذهن "نواف"، شاء أن يقنعه بأنه يتيمم من شدة برودة المياه، وليس فى التيممحرج!

لا يجد فى نفسه العزم أن يصلي الفجر جماعة، وإن كان "الجعرً" على كامل طهارته، أم لم يكن. وهو فوق الدكة الخشبية الجرباء المنداة بقطرات الندى، يشعر وكأنه الهارب من معركة طاحنة، وكأنه حكاية من حكايات "السايح" صاحب "صندوق الدنيا"، الذي عشق أكاذيبه وحكاياته الغريبة التي ورثها عن أبيه "السايح الأب". ضبط "نواف" نفسه فى قلب الغمامة التي تكسو الغيطان من أمامه ومن خلفه. العتمة غلبت على ملامح القرية المشيدة بالدور الأسمنتية، تلك التي كانت بالطين. يشعر أنه وحيد̛مع داره، بينما الجميع داخل الدور من حوله، يلتحفون ببعضهم البعض، بالدفء. لم يشأ أن يُشيد داره ها هنا وبعدد وفير من الغرف، إلا لأن يعيش بين أولاده صغارًا، وحتى حين زواجهم وينجبون له البنين والبنات، لتصبح له عزوة تعوضه عن فقد عائلته التي انقصف عمر أفرادها مبكرًا.

*******

  • أنجب ابنه البكريْ "عاصم"، شاء له أن يتعلم ما لم يتعلمه أحد فى زِمام الكفر والمديرية كلها، أن يتعلم علوم الذرة، وليعمل فى مركز أبحاثها فى "أنشاص"، تحقق له ما تمنى. الآن، يقضي باحث الذرة أيامه وحيدًا، بينما زوجته فوق سرير طفلتيه بالغرفة المجاورة، وبقى "عاصم" مكتفياً برأسه داخل غرفته كما العاطلين أو المنبوذين؟!

ابنته "روح" اختارت أغرب دراسة يمكن أن تختارها أنثى، اختارت علوم الآثار. لم يعترض "نواف"، فقط هي أمنية تمناها، وكثيرًا ما كان يدعو الله أن تصبح طبيبة، حتى ينادونه ويشنفون أذنه بلقب "أبو الدكتورة".. لم يخب ظنه، حصلت "روح" على درجة الدكتوراه، وتزوجت من الدكتور "سمير" طبيب الوحدة الصحية، مع ذلك لم تبرح الهموم رأسه، بعدما تفرغت للتنقيب فى منطقة قلعة "قايتباي" بالإسكندرية، ودب الخلاف بينها وبين زوجها، فطلقها.

لم يكن مترددًا بشأن مستقبل ولده "مصيلحى"، ولم يتنازل عن أمنيته له، أن يصبح ولده وكيلا للنائب العام. ألحقه بكلية الحقوق، لكنه لم يصبح وكيلا للنيابة، أصبح ممن تطاردهم الحكومة والشرطة والنيابة معًا.

فيما تحطمت أحلامه مع أصغر أبنائه "حفيظة"، تمنى لها أن تتزوج بسرعة، لتنشغل بأولادها وزوجها، بدلا من انشغالها بجمالها، الذي قد يجر عليه العار. فلما تزوجت وهى إبنة الخامسة عشرة من "همام" الملعون فى كل كتاب، نال "نواف" كل العار. نجح زوجها الملعون مع أولاده كلهم ورفعوا قضية "حجر" عليه بعدم التصرف فى أملاكه.. منذ ساعات تسلم ورقة بحجم ورقة نبات الصبار لملاقاة القاضي غدًا!

********

أنِس "نواف" فى أنفه قدرة يعرفها عنه كل من تعامل معهم، هى كلمة السر وراء الخير الذي ينعم به، بات من ذوى الأملاك. هكذا عهد في أنفه أن يفرز الروائح كلها ويميز الغريب والعجيب فيها، والطيب والخبيث منها، بل ويرشده ويخبره عن دخائل المتحدثين إليه. أكثر ما يشغله الآن، كيف أن أنفه لم يخبره عن مؤامرة أنجاله الأربعة؟!

زاد وغطى أنه منذ فترة طويلة وعلى أوقات متباعدة بدأ الهمس، زاد الغمز واللمز.. العمدة ومن بعده زوجته "شجرة الدر" طالبته باسترداد أرضه، أو على الأصح، طالبته باسترداد الأرض التي باعها العمدة له منذ سنوات بعيدة، وأنف "نواف" رافض تسليم الأرض لها ولا حتى بيعها بمال قارون! انقلب الحال، بعد الكتمان إلى العلن في حديث المصاطب، وفي يوم السوق، وفى الأفراح والمآتم، حتى في تجمعاتهم بعد أن يفرغوا من صلواتهم الخمس، أمام مسجد الكفر.""نواف" استأجر أرض العمدة وادّعى ملكيتها"، "العمدة كبير القلب لا يريد فضح "نواف"، "نحن نعرف نواف ومن هو

أما فى جلسات المضيفة داخل دار نواف، وقد وفر فيها المأكل والمشرب لكل الغرباء والمقيمين فى القرية، يقسمون ويغلظون فى الأيمان: "العمدة نصاب ومنافق، وابن كلب.."

منذ أكثر من السنة اختفى العمدة، لم يتقدم الجنازات ولا يحضر الأفراح، فآنقسم أهل القرية، بين من يقول إنه طريح الفراش في إحدى مستشفيات الإسكندرية، ومن يجزم بأنه جُنَ وأرسلته زوجته إلى مستشفى الأمراض العقلية عنوة. وباتت زوجته "شجرة الدر" –هذا هو لقبها ولا يعرف لها اسمًا- تدير شئون الناس، بحنكة أفضل من زوجها.. ترد على تساؤلات المسئولين على خط التليفون، تبحث في أمور تجنيد الشباب وملاحقة الهاربين، إعداد التقارير الأمنية المطلوبة، وغيرها كثير، كثير. أصبح لها الكلمة الفصل، الأمر والنهي.

لحظة أن سمع "نواف" الشيخ "الجعر" يرفع أذان الفجر، كان منشغلا فى الورقة المطبوعة بكلمات وخطوط لا يفهمها، فقط يعلوها كلمة "إخطار"، بينما اسمه مسجل بخط كتب على عجل، يبدو كنبش الفراخ، وشخبطة أخرى أسفل الورقة تحت جملة "محرر الإخطار". لم تكن المرة الأولى التي يرى فيها الورقة ويقرأها، لعلها المرة الألف، وإن تسلمها بالأمس يدًا بيد من المُحضر، محضر محكمة "كفر الدوار"، للمثول أمام القاضي..

******

حكاية طفولة "نواف" الولد الجن
دار الجد الكبير "العجرودى"، كما دور قرية "كفر العوانس".. طينية، ضيقة، وتسع الجميع، الأبناء والأزواج والأحفاد. كلما ضاقت غرفة بقاطنيها، تلفظ أحدهم خارجها، وغالبًا تبدأ بالصبية ثم الرجال. فيرتمى إلى جوار الباب، ببقعة الحوش الضيقة، وإن ضم الحوش تلك النخلة الباسقة، التي ظلت تعلو وتعلو حتى رشقت سطح الدار وكسته. لا يشغل الزير فوق الصفيحة الصدئة حيزًا يذكر، يشارك الفرن فى الركن، ويبقى سعيد الحظ، من ينام فوقه شتاء ليلة الخبيز.. وأعلى سطح الدار صيفًا.

لم تخل دار الجد من بسمة خبيثة من إحداهن، أو حقودة من أخرى.. لحظة اقتحام أحد رجال الدار جلسة النسوة، ويسحب زوجته من بينهن سحباً، ثم يفرغ الغرفة من أبنائه العفاريت الصغار، ويدفع بابها بقوة، إعلانا مشفوعاً بالفخر والافتخار، بأنه يرغب زوجته.. حالا والآن. غالبا ما تعبر الجدة عن سعادتها، لو اختفت من بينهن إحدى ابنتيها، بينما يعلو صوت مصمصة شفتيها، إن اختفت زوجة ابنها الوحيد "أبو نواف"، فلا مبرر عندها لقلة الذوق وعدم الحياء الذي أصاب النسوة، ويطفح عليها حباً وفيرًا من زوجها.

وحده "عبدالقادر أو أبو نواف" خرج من حجرته برغبته، ليرقد بعيدًا فى حوش الدار، بسر الولد "نواف" المعجون بدقيق العكننة والشقاوة. منذ أن سقط من رحم أمه، لا يكف عن البكاء، جائعا أو شبعا، مبلولا ببوله أو غير مبلول، محمولا على صدر أمه أو فى حجرها. ابتسمت الجدة وطمأنته.. الطفل الباكي، هو طفل عفيّ وشديد، ومن جديد لاكت النسوة على زوجته، قهقهن فى شماتة، عايرنها بأن زوجها لا يرغبها، وحكاية بكاء العيل حجة ليهجرها.

على ضيق الدار، ضمت الجد والجدة، وابنتيه وأسرتهن، وأسرة "عبدالقادر". النسوة يتقاسمن العمل عن طيب خاطر أو بغيره، قد يتشاجرن بسبب أو بغير سبب. "دلال" أكثر مدعاة للمشاجرة، لأن زوجها هو الوحيد من بين الرجال، يعمل ساعي بريد فى كفر الدوار، لا هو يعمل فى الفلاحة، ولا هو مزارع أجير فى أرض العمدة "ريحان"، تبدو متعالية متمردة، يشغلها شعرها الأسود الطويل، ورسم العين بالكحل، أكثر من أعمال الدار.

الابنة "زكية" لها زوج أناني وماكر وشحيح، لا يقربها إلا إذا تحايلت بحيلة، فما كان منها إلا أن فضحته. يوم أن دخل الزريبة فى صباح يوم جمعة، كعادة الجميع للاستحمام، لكنه لم يقربها فى ليلتها. فلما صاح بصوته الجهوري، أن تحضر الغيار النظيف، ادعت عدم وجود غيارات نظيفة، كلها منقوعة فى الطست. غضب زوجها غضباً شديدًا، صرخ ولعنها على مسمع من الجميع، لم تعبأ، فقط اقترحت عليه أن يرتدي الغيار الذي خلعه لأنه طاهر!

نفد فإستقبلته فور خروجه وهو غاضب، وبهدوء قالت: "أنت طاهر يا "محرز، كل أيام الأسبوع طاهر!" فأسرع "محرز" الخطو وهي خلفه، وضجت النسوة بالضحك، وحدهن فهمن الحيلة. هدأ صوت شجار الزوجين، سرعان ما تحول إلى ضحكات الدلال، يعرفن ما بعدها.

*******

الغريب المُدهش، لم يعد الأطفال سببا للخلاف، إلا عندما شبً واستقام عود الولد "نواف". ما فتئ يعلن عن نفسه زعيما لعصابة، يشكلها ممن يكبرونه أو الأصغر منه.. له في كل يوم حكاية.. ينجح في التآمر على أحدهم، فى اليوم التالي له مع المضروب دعوة للتآمر على آخر تخليص حق، وهكذا أشعل الدار نارًا لا تنطفىء، فقرر الجد "العجرودى" إعادة تربية الشيطان. كان يوماً مشهودًا، يوم أن حبسه فى الزريبة مع الجاموسة، من يسمع صوت "نواف" يولول، يظن وكأن الجد وضع السيخ المتوهج فى عقر أذنه. ما أن يخرج الجد، يكف العفريت الصياح. مرة بعد مرة، ازداد الصغير شقاوة وعفرته، انتابت الجميع الحيرة، خصوصًا بعد أن تورد خد الولد وازدادت عيناه بريقا اقتحمه الجد، على حين غفلة، لم ينشغل الصغير إلا بحك فمه بكم جلبابه، لم ينجح فى مسح قطرات اللبن من فوق سحنته.. فعرف الجميع السر، ضبطه الجد يلقم فمه حلمة الضرع، يحلب الجاموسة بكفه المتسخة ويشرب لبنها كله.

تفتق ذهن الجد على فكرة أخرى.. ماذا لو حبسه فوق سطح الدار وحده، بجوار كومة "الجِلّة" أو روث البهائم المخلوط بالتبن، وقد جففوه، يشعلون به نار الفرن.. فكانت المنفذ الجديد للولد العفريت لأن يتقافز فوق الأسطح، يلتقط ما يجده عليها ثم يخفيه. أيام قليلة وزادت شكوى الجيران عن ذلك اللص المجهول.

بقي الجد لفترة مصرًا على عقاب الولد حتى يتعلم الأدب. فلما حان الحين، رق قلب الجد لرجاءات النسوة وعفى عن حفيده الجن.. بينما إعتاد "نواف" اعتلاء سطح الدار والأسطح المجاورة.. يحمل مسروقاته، يبيعها له صديقه "الجعر" في سوق الاثنين.. ثم يقتسمان قيمة ما تحصلا عليه من أموال.. حتى كانت المرة الملعونة.. ليلة أن ترصده جاره الصبي "عزازي"، ضبطه متلبساً، صرخ صرخة أيقظت الملائكة التي فى السماء من غفوتها. تجمع الجمع، عُرف اللص "نواف". فما كان من الجد إلا أن أصدر أمرًا بإبقاء الولد خارج الدار، منذ صلاة الفجر حتى ما بعد العشاء!

العقاب الجديد، أتاح لنواف ما لم يتح له من قبل. نجح في مصادقة الولد "الجعر" أكثر، إعتاد "نواف" العودة إلى الدار ليلا أو حتى بعد عدة ليال، وهو يحمل بين ذراعية لفافات الحلوى، من مدينة كفر الدوار القريبة. لم يسأله أحدهم من أين أتيت بالفلوس؟ ولا كيف؟ زادت مكانته بينهم!

*******

حكاية الصبي "نواف" مع أنفه
شاعت شهرة "أنف نواف" إلى درجة جعلته قبلة الغادي والداني، لم يسقطوا أنفه عن ر̛ءوسهم.. يطلبون مشورته، يرجون رأيه، أو تفسيرًا لحلم يزعجهم.. يسألونه حيلة يواجهون بها الحكومة كي تحقق رغباتهم.. أو حتى رأيا فى شاب تقدم للزواج من بناتهم.. الأدهى والأهم أن يسألوه حلا لمشكلة أحدهم أقسم بالطلاق ثلاثة على زوجته، وأين له من حيلة كي يردها إلى ذمته!

كان الإحتفال بشم النسيم.. يوماً مشهودا، قررت القبيلة شراء أكلة "فسيخ" من "كفر الدوار"، بعد أن شاع أكل الفسيخ بدلا عن "الملوحة" خلال السنوات الأخيرة، ربما بسبب كثرة من ينزح من الكفر إلى المدينة، بعد أن نشط خط قطار "القشاش". سافر "محرز" زوج "زكية"، وعاد من بالفسيخ المبطرخ، فخورًا بما أنجز. التهموا الفسيخ والبصل التهاما، احتسوا الشاي الأسود أو هو الشاي المغلي.. فلما تساءل أحدهم: "أين بقية الفلوس يا محرز؟"

بانفعال وغضب، أشعل سيجارة، وكشّر فى صمت.. بدورهم نظروا إلى بعضهم البعض، كانت نظراتهم معترضة ورافضة، مع ذلك لم يعقب أحدهم.. تكفل "نواف" الصبي اليافع الخبيث بكل المهمة: "الباقي في الصندوق الأسود، بجوار فرشة نوم "عم محرز"!

الجمتهم الدهشة، نهض الجد وإختفى، دقائق وعاد الرجل وبين أصابعه مبلغُ لافتُ من المال. لم يتفوه الجد، فقال محرز: "فلوسي يا حاج، أنا كنت مجهز فلوس الفسيخ وحدها" ثانية انبرى "نواف" الجن: "رائحتها فسيخ يا سيدي، لا تصدقه، الفلوس رائحتها فسيخ" تشممها الجد، تابعه كل الرجال بما فيهم "محرز" نفسه.. وبقيت حكاية أنف "نواف" تلك، سبباً للضحك كلما جمعهم مجلس. شاع الخبر، إنتشرت الحكاية، فتعلقوا بالولد، يسألونه ويجيب، يرجون حلا لمشكلة.. تتحقق النبوءة وتحل المشكلة.

تعلق "نواف" برفيقه "الجعر" أكثر كثيرًا عن ذي قبل.. يماثله فى العمر، ويفوقه طولا ونحافة أيضا، اكتشافا ما لم يكتشفه أحد. عرفا أن الطعام يؤكل وقت أن يتوفر أمامهما، من أحد الغيطان أو من السوق، يسرقانه.. أو بما معهما من أموال بيع ما يسرقانه، ولا يعتبرانها سرقة، هي شطارة وجدعنه وشقاوة. عرفا أن للكذب فوائد، حين يذهبان معا إلى أم أحدهما، ويبكيان من ظلم الكبار، ينالان من القبلات والأموال أكثر مما كانا ينالانه أثناء إقامتهما في داريهما.ضجرا من السوق ومن زحام "كفر الدوار" ومن الناس. صنعا خُصاً من عيدان البوص، فوق طرح النيل.. تلك الأرض التى ظهرت فجأة بعد انتهاء موسم الفيضان قبل الماضي، بدت للجميع ولا يحق لأحدهم ضمها إلى أرضه. فوقها عاش الولدان، أصبح لهما خصًٌ يأويهما من غير ضجر.

وكانت فرصتهما أن يكتشفا جسديهما. ليس لأنهما يجيدان السباحة عرايا، فالمياه ساتر شرعي، لأنهما لا يدريان سر ما بها تجعلهما يضحكان، ما أن تشتدً وطأة أشعة الشمس النافذة من بين رصات الخوص، فى سقف الخص وعلى جوانبه، لا يقدم أحدهما اقتراحاً، معا يتخلصان من أسمالهما، يلقيان بالجثة فى المياه، هكذا يلقبان جسديهما، ولا يبقى سوى أن يتذكرا ما يفعلانه.

خبرتهما الأيام.. الشارب الأخضر ينبت ببطء، ويمكن أن يصبح أسود كثا لو حكوه بالحجر الخشن، حتى تدوم الشفة أسفل منخاريهما.. وأن تفاحة آدم فى رقبة "الجعر" أبرز كثيرًا عنها عند صديقه.. كم من الليالي قضاها "الجعر" يسخر من "نواف" على طوله القصير، وشعره المكتكت وأنفه الكبير، بينما يبادله صديقه بالسخرية منها هي نفسها.. بعكس ما يسخر به صديقه، ثم ينامان كأن شيئاً لم يكن.

***********

حكاية من حكايات "نواف" وصاحبه
"نواف" و"الجعر" معا، عرفا أن ليل الكفر لا يعرفه أحد. كأن للكفر أناسا للنهار وأناسا لليل.. وأن الحياة تحت وطأة الشمس، غيرها تحت هالات القمر الفضية.. حتى اقترح "الجعر" على صديقه: "توافقني نقضي حياتنا كلها فى الليل، ونعيش فى الخص فوق طرح النيل، نصيد السمك ونسرق من الغيطان، ونأكل لما نشبع فى النهار".. "موافق.."

لاحقه "الجعر": "مقابل أن أعلمك الصيد، لي ثلاثة أرباع ما نصيده!"

بدأ "الجعر" المهمة، أخبره بأنهما من فقراء الصيادين، وأنهما يبدآن بأقل وأبسط الطرق. فلما دهش رفيقه.. فلا يعرف إلا طريقة الجلب، ولا تزيد عن خيط بدون العصا أو القصبة، ضحك صاحبه طويلا ساخرًا، ثم قال "الجعر": "اسمع، عندك طريقة الشبكة، أعلاها عوامات من الفلين، وأسفلها ثقالات من الرصاص.. وعندك طريقة لصيد السمك النائم أو بطيء الحركة، وهي عبارة عن حديدة عريضة، ينزل منها مسامير، ومثبتة فى العصا ويطعن بها السمك.. لكن الطريقة المناسبة هي أن نستخدم السلة".. وعلقا إحدى السلال على حافة النهر.

ليلة بعد ليلة، يعسعس فيها الولدان كل شبر فى الكفر.. ذات ليلة من غير قمر، عطس الولد "نواف" وسعل، فضحك صديقه وسخر منه، كلما أوغلا السير نحو الجهة القبلية، فقال نواف:

"أشم رائحة لم أعرفها من قبل، عطرها جميل يا "جعر"، يشبه.." حاول صديقه أن يساعده: "رائحة الريحان، جمار النخل، رائحة القسيس..؟ أم رائحة الدخان؟" وخلص صديقه إلى حل عملي: "ما يضرنا، تعال نسير ناحيتها"

ظل "نواف" يتصيد مصدر الرائحة، حتى صرخ "الجعر" فى صديقه: "شممتها أنا أيضا". أصبحا على مقربة من الغرزة. دهشا أن بان لهما "الخواجة ينى" الاجريجى، صاحب ماكينة الطحين الوحيدة فى الكفر. كان يقف خلف منضدة خشبية، يُعد كراسي مخدر الحشيش وكؤوس الخمر. تقدما بحجة مساعدته دون مقابل. وافق فورًا، ليس لاحتياجه إليهما، يخشى أن يفضحا ما يدار داخلها. بمضي الوقت، نال الولد "نواف" أكثر كثيرًا من رفيقه، لأنه يقدم خدمة جليلة للخواجة، كأن يتشمم مقطوعات الحشيش ويعلن قراره الذي أدهش الجميع: مرة يقرر أن الحناء المخلوطة بالحشيش كميتها كبيرة، ومرة الصنف مخزن منذ زمن طويل، ومرة ثالثة الفحم المشبع بالرطوبة لم يسو قطعة الحشيش جيدًا، فانقطع نفس الزبائن.

هناك قابلهما الخفير "عبد العال" بنظرات الهيبة والرهبة المعروفة عنه، حتى ترددا فى متابعة الاقتراب منه. بصوته الخشن والمكسو بالسباب، أمرهما بالاقتراب وتغيير حجر "الجوزة"، تنافسا فى تنفيذ الأمر، فاز "نواف". نجح فى دس قطع الفحم المتوهج بجدية وحرص، جعلت الخفير يفقد هيبته ويربت على رأس الولد المنهمك فى عمله.. بينما كان الخواجة يبدو متجهما جادا صباحا، وهو يدير عمله أمام ماكينة الطحين، بحرص ولطف مع الجميع. فلا يسمح لإحداهن أن تعتدي على دور أخرى، ولا هو يجامل إحداهن دون أخرى فى حسن طحن الحبوب، ومع ذلك يبقى صموتاً. المفاجأة أن وجده الصبيان خلف النصبة ثرثارًا ضحوكا، يقدم كيف "الحشيش"، وأيضا "المَيًه"، تلك الخمور الغامضة التي يصنعها، ويعبؤها فى زجاجات فارغة صغيرة للخمور التي يشتريها من سوق المنشية بالأسكندرية. ولا يعرف أحدهم لأي صنف من الخمور تلك؟ فالرجل قادر على تخمير التفاح والبلح والعنب وحتى البصل.

أكثر ما أدهش الصبيان، أن لمحا أحدهم لا يحضر بانتظام، الوحيد الذي يرتدي بزّة أفندية المدينة. فى صوته رخامة، وفي عينه نظرة ثاقبة فاحصة غريبة، وعلى جسده مهابة، تحيرا حتى عرفا أنه "حمزاوي بك" ضابط بندر كفر الدوار. حسمها الخواجة عندما لمحهما تكاسلا عن العمل، وإنزويا بعيدًا. طمأنهما، فعاودا القفز بين الزبائن، وتولى "نواف" مهمة خدمة "البك"، مثل العمدة الذي يحضر فى غير إنتظام. بدا "البيك حمزاوي" متخليًا عن تحفظاته، إلا من لقب "الباشا أو البيك"، لا مانع من أن يكون موضع نكته تعليقًا على كلمة تفوه بها، أو اجراء إتخذه فى البندر وانتشر بين أرجاء المديرية، كما فعل مع أحد المجرمين، ولفرحته فى القبض عليه، أمر بتقييد ذراعيه من الخلف، وركوب الحمار الحصاوي بالعكس، ثم أمر بالزفة.. تمامًا كما فعلوا مع "جحا" فعل الضابط، وكما ضحك كل من يعرف حكاية "جحا"، ضحك رواد الجلسة، بينما كان "حمزاوي" متابعًا مزهوًا بما فعل..

أن يوجد بينهم الضابط، هذا عجيب ومدهش، لكن المزعج، أن ينزرع بينهم فجأة العمدة "ريحان" بخطواته القصيرة المتعجلة، وبنفس عادته فى الخطو والحديث يأمر "ينى" بإحضار ما يلزم، يسحب أكثر من كرسي "حشيش" على عجل، ثم يأمر الخواجة بإحضار طلبه الخاص: "زجاجة من النيلة"، ويعنى زجاجة الخمر التي يخبؤها فى ملابسه، وأخرى يتجرعها على عجل، وعلى مرة واحدة أو على مرتين.. بعدها ينهض سريعا يقف وهو ما بين المنتبه والمخدر، يدس فى كف "يني" مبلغا من المال، وهو يبدو حريصا كل الحرص ألا يرى أحدهم المبلغ، مثلما يحرص الخواجة ألا يبوح بقيمتها، ثم يغرب. وفى كل مرة، فى كل مرة ينهض فيها، لا يلقى إلا تعليقا واحدًا من "يني":"ليلة سعيدة يا عمدة"، يشوح العمدة بيده، ولا يبتسم، ولا يفهم الحضور إن كان سعيدًا أم غضبًا.

أمر بسيط جدًا حيرهما: "هو البنى آدم في الليل غيره في النهار يا نواف؟" يرد "نواف" وقد أصبح في موضع صاحب المشورة والرأي، يقول: "طبعا.. يا عبيط، لأن الدنيا عتمة".. كل أهل الكفر يعرفون مكان "الغرزة"، وما يدور فيها، أو تخيل ما يمكن أن يكون فيها ليلا، ولا أحد يعقب أو يسعى للحديث عنها، وكأن الصمت أخفاها عن الوجود، أو يمكن أن يخفيها. لكل سببه، فضابط البندر يعلن صراحة أنه لم تصله بلاغات من أهل القرية، ولا حتى من العمدة نفسه، أن بالغرزة ما هو غير قانوني.. أو حتى توجد "غرزة" فى الكفر.

العمدة يرى في الاقتراب من مشاكلها مشغولية لا داعي لها.. أهل القرية يستحون من كشف أفاعيل ما يتردد عنها همسا بين النسوة، حين مجلس الخبيز أوالغسيل معا على حافة النهر، عند طرح النهر، بكلمات مقضومة باهته، ولا يمنع من كلمات مكشوفة و"أبيحة". لعل التلميح للغرزة هو رغبة من إحداهن إلى مشاركة الجميع في حديث عن ليلة جميلة وممتعة قضتها مع زوجها.

الصغيران لم يمهلا رجولتهما المبكرة الطافحة على وجهيهما، وقد اسودت شعيرات شاربيهما، وغلظ صوتاهما، ودخنا الحشيش، وشربا الخمر الغامض، لم يبق سوى ما أسر به أحدهما إلى الآخر، ولا يمكن التأكيد من منهما الذي بدأ.. "نواف" أم "الجعر"؟ تناقش كلاهما لفترة طويلة، ومعا انتهيا إلى قرار.. أن يكتشفا سيفي ذكورتهما!

 

فصل من"حكايات طرح النيل"