في الساعة العاشرة من ليل الخميس كنا أنا و" قصي الخفاجي" نجلس في غرفتي، نأكل ونشرب وندخن ونتحدث عن الأدب. كان البيت بغرفتين وباب حديدي ذي مزلاج رديء يفتح دون ضجيج وحديقة مهجورة من الحياة باستثناء شجرة عنب تمتد على شكل أفعى إلى جانب الباب. اتكأ قصي على الوسادة بعد أن مدد جسمه على البساط وارتشف جرعات من مشروبه وأخذ يقرأ مقطعا من إحدى قصصه الأخيرة: " سأمزق أعراضهم بهذه القصة، سأمسحهم مسحاً، سأدمرهم تدميراً". قال مشيراً إلى بعض منافسيه من الكتّاب وإلى كل شخص لا يحبه".
وبينما أصغي وأضحك عالياً من أسلوب قصي الانفعالي ذي الصبغة المسرحية، فجأة أدركت إن رجلين دخلا الغرفة من الباب الذي يفتح بلا ضجيج معرفين أنفسهما بأنهما من رجال المخابرات. نهضنا مرتبكين. قال أحدهما:" قفا دون حركة إلى الجدار" وأخذا يفتشان في الكتب المتناثرة في المكان. بعثرا الأوراق والمجلات على الأرض وأخذا يتطلعان في دفتر يومياتي. كنت قد كتبت عن تجربتي الجنسية مع ثريا وشكوكي ومخاوفي من الإصابة بالإيدز. توجّه أحدهما لتفتيش حجرة قصي وبالمصادفة وجدا عددا من مجلة "الأقلام" العراقية- الله وحده يعلم كيف وصل إلى سوريا - كان مخصصا عن الأدب اليهودي اشتراه قصي من باعة الكتب القديمة في دمشق، ولاحا غير مستمتعين بأسماء الكتّاب اليهود ولا بالمواد المنشورة في المجلة ككتابات كافكا، عموس عوز وآخرين.
- هل أنتما صهاينة، هل تحبان اليهود، هل تريدان الهروب إلى إسرائيل؟ قالا وهما يصطحبانا إلى الخارج حيث وقفت سيارتهما البترول ليأخذانا إلى السجن.
قبل أسابيع قليلة كنت أقص شعر رجل في محل الحلاقة الخاص بي في منطقة "الحجيرة" بالسيدة زينب بينما زبون آخر ينتظر.. أثناء الحلاقة أخذت أدردش مع الزبون الذي كنت أقص شعره فاخبرني أنه في الأصل من منطقة القنيطرة على الحدود الإسرائيلية، لكن بعد أن دُمرت في القصف الإسرائيلي 1973 انتقل إلى حي السيدة زينب. في تلك الأيام استحوذت عليَّ الرغبة في السفر وكانت تخطر في ذهني شتّى الأفكار، لدرجة حتّى أنني فكرت في الهروب إلى إسرائيل كمحاولة يائسة في تجنب شبح التسفير إلى العراق إذا ما حدث شيء لي وسجنت في سوريا. أثناء دردشتنا، أخبرته عن خيبتي من الحياة في الشرق الأوسط ومرارة العيش التي أعانيها منذ سنوات، فأصغى إليّ باهتمام وبدا متعاطفا بينما أواصل الكلام. يتعين عليَّ أن أعترف في هذا المقام؛ كما شخّصت ذلك المرأة الأميركية "دايان" التي أقمت معها علاقة عاطفية في إندنوسيا حينما قرأت طالعي في جزيرة بالي بأن أحد العيوب الكبيرة في شخصيتي هو عدم حفاظي على أي سر وسرعة ثقتي بالآخرين وإفشاء حياتي الشخصية لهم، كل ما حدث أو يحدث في حياتي أنبأ الذين من حوالي به. أبلغت الزبون بزياراتي للقنطيرة- وقتذاك كان الحزب الشيوعي العراقي ينظم سفرتين في السنة واحدة في الربيع أي في عيد ميلاد الحزب والأخرى في الصيف- حيث وقفت على شبك الحدود مراقباً السيارات المتحركة على الهضاب الإسرائيلية. مواصلا حديثي أن من السهل على الواحد أن يهرب إلى إسرائيل، عليه فقط أن يختفي في أحد البيوت المدمرة المتروكة قبيل العودة من الرحلة وفي المساء بمقدوره أن يقفز من الشبك المنخفض الذي يفصل بين حدود البلدين أو يحفر تحته ويتسلل إلى الأراضي الإسرائيلية.
استغرق الزبون في الصمت متجنبا التطلع لي وجها بوجه، وبعد أن أكملت الحلاقة نقدني أجرتي وغادر. إنني لا أهتم بالسياسيين ولا برجال الدين أيضا، أشعر أن السياسيين يتسمون بالكذب والأنانية والنرجسية، وأن نصف كوارث البشرية هي بسبب وجهات النظر الدوغمائية للسياسيين، والنصف الآخر خلقها رجال الدين، كل صاحب دين يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة وأن صاحب الدين الآخر على خطأ، في كل يوم تقتل الناس وتشرّد وتنهب حقوقها بسبب السياسة والدين. ما يهمني من الحياة هو الاستمتاع بها بعيدا عن ذينك القطبين، أيّ حب النساء في الدرجة الأولى وتطوير ملكاتي العقلية وحيازة تجارب جديدة. الآن أتذكّر كيف كنت متوهما بشأن فكرة وخيالات الهروب واعتقادي الخاطئ بأنه يتوجب عليَّ الوصول فقط إلى إسرائيل، وما أن أصل هناك حتى يحققوا معي بضعة أيام ثم يطلقوا سراحي. إن أجساد الفتيات هناك بوسعها أن تهب السعادة والحنان وسأحقق متعة حسيّة بالغة، ولاح لي بأني سأتخلص من كل ألوان العذاب والحرمان على الرغم من مشاهدتي بالتلفاز الصور والأخبار والفيديوهات التي تظهر طرق التعذيب الوحشية التي تعامل بها السلطات الإسرائيلية الأسرى الفلسطينيين.
بعد أن غادر الرجل أخبرني الزبون بأن الرجل الذي كنت أقص شعره هو ضابط في الجيش السوري. عندئذ تملكني القلق العميق لكوني فقدت السيطرة على نفسي وأخذت أهذر بأشياء كان يمكن تجنبها ولكوني أيضا كنت صريحا معه أكثر مما ينبغي وربما سأواجه مشكلة عويصة مع الحكومة السورية. خطر كل ذلك في بالي عندما أجلسني أحد رجال المخابرات على كرسي ليبدأ التحقيق:
- لماذا تريدان (أنا وقصي) الهروب إلى إسرائيل؟"
أجبته:
- إني لم أرد الذهاب إلى إسرائيل إنما طرحت الفكرة بشكل عرضي. أخذ يشتم إسرائيل وهو يضربني بكيبل كهربائي على بطني. خطا نحو مكتبه وأخذ يتصفح المجلة التي جلبوها معهم، سألني فيما إذا ما كنت أحب الكتّاب الصهاينة، حاولت إبلاغه أن " الأقلام" هي مجلة أدبية فحسب، وأن وزارة الثقافة العراقية قد نشرتها عام 1979. ثم توجّه آخر إلى قصي وأمطره بفيض من الشتائم الشخصية:
- مأبون، قذر، تريد الهروب إلى إسرائيل، ألا تشبع مؤخرتك ذكور العرب؟
فرد قصي:
- بوسعي أن أوكّد لكم بحق الكعبة لا علاقة لنا بإسرائيل، إننا نحب الأدب فحسب. فزمجر أحدهم:
- تنابلة، منذ متى تؤمنان بالكعبة وأنتما تريدان الهرب إلى إسرائيل؟
هاجمت قصي الكثير من الأيدي مفرغة شحنات حاقدة على بطنه ووجهه. عندئذ تقهقر بفزع إلى زاوية الغرفة. وبينما هو يمسح الدم المختلط بالعرق عن جبينه. ركله أحدهم على جنبه قائلا:" انهض أمامي يا خنزير إلى تلك الغرفة". فقام يجر جسده بخطوات قصيرة متلاحقة إلى غرفة مجاورة. بعد ذلك توجه أحدهم اليّ:
- اخبرنا هل تراودك أفكار أو أحلام خبيثة ضد الحكومة السورية وحزب البعث؟
- إن أحلامي مستقيمة ولا علاقة لها بالسياسة.
- هل تحلم بأن تهجر البلد الذي آواك ومنحك اللجوء وحق العيش الكريم وتهرب إلى عدونا إسرائيل؟
كانوا يريدون مني أن أعترف إن كنا حقا نريد الهروب إلى إسرائيل أم لا؟. ولماذا أنا في نهاية الثلاثينات ولم أتزوج بعد؟ وما نوع العلاقة بيني وبين ثريا، وهل أنا مصاب بالإيدز؟
أخبرتهم أن حياة الترحال والمغامرة في الأسفار هي التي جعلتني عازبا كل هذه السنوات. وأن ما كتبته في يومياتي بشأن ثريا والإيدز هو مجرد تصورات روائية لا أكثر، مخاوف وشكوك واسقاطات، إنها قصة خيالية ولا وجود لثريا على أرض الواقع. أردت أن أقول لهم إن الحياة في إسرائيل ربما أفضل من الحياة هنا. أردت أن أقول ربما في إسرائيل لا يحاكمون الشخص على تفكيره وتخيلاته وأحلامه أو ما كتبه في يومياته. كما أردت أن أقول ليس لدي مشكلة مع الشعب اليهودي وليس لدي مشكلة مع كل الشعوب، إنما المشكلة في الحكومات والحكومات هي غير الشعوب، أردت أن أقول إن مشكلاتنا خلقها القادة السياسيون ورجال الدين الذين دمروا شعوبهم؛ هيمنوا على الثروات بشكل أناني، خنقوا مجتمعاتهم وأنهم يحاولون على الدوام لوم إسرائيل والاستعمار. أردت أن أخبره أن أي نقد للحكومة أو السياسة أو الاقتصاد أو أي تعبير عن الحرية سيدخل المواطن في السجون، لكني أمسكت لساني خائفا من أني قد لا أرى ضوء الشمس ثانية. تركوني في غرفة صغيرة مدة ثلاثة أسابيع في دائرة المخابرات( عرفت فيما بعد أن المكان الذي سجنوني فيه، هو فرغ مخابرات 279، القريب من جريدة الثورة في منطقة الكمارك بدمشق) ثم نقلوني إلى زنزانة انفرادية في أحد السجون القريبة من المكان، بقيت هناك عشرة أيام أو أسبوعين قبل أن يرحلونا- أنا وقصي- إلى معسكر الهول في الشمال السوري.
لقد استقصيت قدري متخيلا أني لو رحلت للعراق وأعدمت في أحد السجون سأواجه الموت عارفا أني بذلت أقصى جهودي محاولا الوصول إلى بلد أوروبي والعيش حرا لكني لم أفلح. في تلك اللحظة بدا القدر لا يدعني أن أحقق هذا الهدف.
***
عبر شق في جدار الزنزانة كنت أرى انسياب السواد قادما، فاعرف بأن نهارا يرتعش الآن لينطفئ بعد لحظات، الأشعة الأرجوانية لا تلبث سوى دقائق قليلة لتذوب في خطوط البياض المنهلة من النيونات المعلقة بالسقف. كان الضوء يتدفق على شكل أشعة حادة لها ثقل الرصاص على عينيّ، لم تكن مثلما كانت في زمن مضى، أمواج حليبية ناعمة تمرح في فضاء غرفتي ثم تتضام إلى فراشي على هيئة تنورات قصيرة، أو ألبسة داخلية من الساتان، استغرق بشمها فتبقى أصابع يدي متيبسة من فرط انسحاب اللذة وأنا أنهي تخيلاتي اليومية المتكررة.
كفت خواطري عن تخيل أشياء لها صلة بالعالم الخارجي، كل ما أتحسسه هو بحر من الظلام، تكسرت طبقة الجليد التي تغطيه فاندفعت عشرات الكائنات من الأعماق لتشاركني مساحة الزنزانة التي قذفوني فيها. عذبتني فكرة أنني سأموت في هذا المكان المعزول ولم يتمكن أحد من معرفة سر قلبي. الأحلام المتقطعة أخذت تطفو على سطح مخيلتي مختلطة بسلسة من التصورات الغريبة.
في اليوم الأول أو الثاني من انتقالي إلى الزنزانة القريبة من سجن المخابرات كنت قد شرحت لأحد الحراس أن لي أختا تقيم في الكويت ولها صديقة تسكن في حي "الحجيرة" وإذا ما استطعت أن تبلغها بشأن اعتقالي وتجعلها تزورني لكي أخبرها ما الذي تفعله بمتعلقاتي الشخصية ستحصل على هدية من أختي.
قلت ذلك وأنا أعرف مدى الفساد الإداري الشائع في دوائر الدولة السورية حتى أعلى هرمها، ذاكرا كلمة الكويت والتي تتسم بمدلول عن سعة اليد والثراء فرد عليّ بأنه سيحاول وأخذ عنوان بيت ياسمين.
بعد أيام قليلة من حديثي مع الشرطي، كما لو أني في حلم رأيت ياسمين وحيدة تمشي في الرواق أمام الزنزانات وأنها بالكاد عرفتني، قالت: " إنك تبدو فظيعا" نظرت إليها بدون أن انطق كلمة. أحد الحراس فتح الباب فدخلت لتجلس على الأرض قدامي. قالت: كدت أجن بسبب غيابك، إلا أن إرسالك للشرطي خفف عني كثيرا. ذهبت عدة مرات لمحل الحلاقة فوجدته مغلقا كما مررت بالبيت وطرقت الباب ولم يرد أحد فقلقت عليك كثيرا. أخبرتها قصة ما جرى وطلبت منها أن تذهب إلى البيت الذي أسكنه وتأخذ مفاتيح المحل وتعطيها للمالك وتبلغه بسجني كما أن تذهب لمكتب الأمم المتحدة وتطلب مقابلة مدير المكتب وتشرح له الأمر، وأن تخبر أختي في الكويت عن وضعي وتأخذ مفتاح صندوق البريد المربوط بمفاتيح المحل وتتفحص رسائلي وترد على أصدقائي وتشرح لهم ما حصل لعلهم يستطيعون إنقاذي. كذلك أن تضع نسخ مجموعتي القصصية -الصادرة توا- وبعض الكتب والأوراق في حقيبة وتأخذها معها إلى بيتها. ثم سألتني:
- هل رأيت ثريا؟
أجبتها أن ثريا سافرت إلى البحرين لبعض الوقت، أو ربما هربت من البلد بأكمله.
- هل أن رجال المخابرات أتوا بك إلى هنا؟ سألتْ ياسمين
- نعم. في البدء اعتقلوني في مكان آخر ثم أتوا بي إلى هنا.
بعد ذلك أخبرها أحدهم أن الزيارة انتهت. وطلبوا مني أن أذهب معهم إلى بناية مجاورة، فرأيتها تخطو مبتعدة بثوبها الطويل الأسود الموشى بخطوط ذهبية لتغادر بناية السجن.
بعد يومين أو ثلاثة من زيارة ياسمين أدخلوني غرفة تشع بضوء حاد، دهنت جدرانها بلون بنفسجي مزرق بينما انسدلت ستارة خضراء في نهايتها. كان هناك مجموعة من الأشخاص يرتدون ثيابا غامقة اللون، يقف إلى جوارهم رجل قصير بلحية حمراء خفيفة وجاكته طويلة، وبالرغم من قصر قامته يبدو أكثر ضخامة من الآخرين، اقترب الرجل ذو الجاكته الطويلة وسألني عن هويتي قائلا:
- إننا لا نريد أن نعذبك، إننا نعرف عنك أشياء كثيرة أنت نفسك لا تعرف عنها شيئا، لكننا نريدك أن تقول لنا شيئا عن حقيقة أفكارك ونواياك، ملامح الرجل وهيئته الواثقة من أنهم يعرفون أشياء كثيرة عني أنا نفسي لا أعرف عنها شيئا تشعرني بالقرف، قلت وقد التوى لساني خوفا:
- إن أفكاري مستقيمة وإن حدث شيء فيها فهو لا يسيء إلى أحد.
أخذ يتطلع إليّ بينما شفتاه ترتعشان كما لو كان يحاول أن يمسك فمه عن انفجار ضحكة. ليقول:
- دعك عن هذه التسميات، براءة، أخلاق، استقامة".
نظرات الرجل أكثر إلحاحا وهو يواصل الكلام:
- طيب دعنا عن أفكارك، نريدك الآن أن تخلع ثيابك، لا داع للخجل، إننا نريد تصويرك عاريا ثم سنرحلك إلى معسكر الهول في الشمال السوري ومنه إلى العراق.
- وما علاقة الترحيل بتصوير جسدي عاريا؟ اصطنع ابتسامة خفيفة ثم أردف:
- نريد استقصاء بعض الأمور المتعلقة بتاريخك الصحي لتسجيلها في ملفك، فلا تقلق بشأن ذلك.
أحسست برجفة بالغة تسري في عروقي، كان بعض الحراس يقفون عند الباب ويتطلعون لجسدي المرتجف، كان أمرا غير مريح بالمرة. ابتدأت بخلع قميصي، انتابني الشعور بالخجل وأنا أتطلع إلى ثيابي المنقوصة، لكني بمرور الوقت شعرت بالارتياح. في البدء كان المصاحبون للرجل يتطلعون إلى جسدي دون اهتمام، إلا أنني حين أكملت خلع جميع ثيابي بدا الشوق يرتسم بعيونهم وهم يتطلعون إلى التفاصيل. بدا المشهد كأنه لا علاقة لي بما يظهر من جسدي وما تستقبله عيونهم، حيث النظرات المسلطة على تعاستي تتوهج ببريق مشؤوم يتضاعف في كل لحظة. كانوا أكثر متعة بما يشعرون ويروون لأهمية التفاصيل، كان هناك مرآتان ضخمتان، ثبتت إحداهما إلى الجهة اليسرى من الستارة، بينما ثبتت الأخرى في زاوية موازية للأولى، وفي وسط المكان ثمة كاميرا ضخمة. شرعت لقطات الكاميرا تتوالى، بينما أنا اسمع أصوات المصاحبين للرجل ذي الجاكته تطلب مني أن أتحرك:- إلى اليمين/ إلى اليسار/ أجلس / قف / استدر. راح أحدهم ليجيء بأوراق وطاس فيه سائل أسود، محاولا استنساخ بصمات أصابعي..هات أصابع اليد اليمنى/ اليد اليسرى، الكف الأيمن / الأيسر. وقفت على قدم واحدة، ثم رفعت قدمي الأخرى بعد أن نزعت النعال محاولا أن أضعها في الطاس، ابتسم الرجل" هذا يكفي". ضحكتُ، ضحك الرجال الواقفون، أعادوني إلى الزنزانة ثم أغلقوا الباب.
حاولت التفكير في الزمن الضائع الذي قضيته في المكان، يبدو أنني فقدت القدرة على تسلسل الأيام، كانت بقعة من الظلام تسيطر على عينيّ بعض الوقت ثم تتبعها أخرى، أو بقعة من الضوء تلحقها أخرى. كنت أفكر هل بإمكاني أن أرى الشمس مرة أخرى؟ هل أرى النجوم؟ هل يمكنني الإحساس بدفء الماء وأنا أحلق لحيتي في الصباح؟ أخذت أفكر في حياتي قبل أن يأتوا بي إلى هنا، في جسد ثريا، في ثيابها الداخلية، في الأوقات التي كنت فيها مسرورا وسعيدا. في حلم أو رؤيا أو زمن آخر أراني في مدينتي البصرة، في أحد الأسواق لبيع السمك.. أرى ثريا تجلس على أرض السوق وإلى أمامها صندوق فيه سمك طازج أو مختلف الطزاجة، هناك أيضا أرى ياسمين تقف عارية، غير أنها تبدو أكثر وزنا مما كانت عليه، أتطلع مذهولا إلى عريها الجميل وهي تنحني محاولة الشراء، إلا أنها تبدو غير خبيرة.. أختار لها فتدفع هي الثمن ثم نذهب بعد ذلك إلى أحد زوايا السوق لشراء بعض الكتب، تختار مجموعة بعدد الأسماك، أرى واحدا منزوع الغلاف، غير أنه كامل وفيه رسوم تظهر بعض الطقوس البوذية: بضع أشخاص يجلسون بظهور مستقيمة بينما أشعة من الضياء الباهر تنبعث من جباههم/ واجهات معابد تنتشر قرب شاطئ بحري وإلى جوارها صواني بشموع مشتعلة وقطع حلوى تنتشر فوق أغصان ناعمة. تختفي ياسمين. أعود لغرفتي، لأجلس وحيدا، غير أنني ما زلت مركزا نظري على الباب. في هذه اللحظة أرى طائرا بألوان عديدة يتحرك باتجاهي.. تدرجات من اللون الأزرق، الأحمر، الأصفر، البني، كل جزء من جسده بلون مختلف. كان واقفا في الباب، ثم يبدأ بالتحرك، أسمع أحد السجناء يقول هذا الطائر كان يعيش في جنوب العراق وإن سرعته تتجاوز ال600 كم في الساعة. يأخذ الطائر بتحريك جناحيه، كأنه يتهيأ للطيران، أروح أتبعه- طبعا مهما حاولت أن أركّز وأحيط بتفاصيل جسده يصعب عليَّ ذلك- ثم نبدو كأننا في مكان قريب من البصرة، ألاحظ أن رجليه كأنهما ساقيّ امرأة غاية في التناسق. أقترب منه، أرى وجهه مزيجا من وجهين بشريين أنثويين، يطير الطائر ذو الريش الملون، نصل بعد ذلك إلى مكان تنبعث منه موسيقى.
نحن الآن في عتمة شفيفة، مكان معزول أشبه بمقبرة، انبثق في وسط قبورها قبر جديد تكوم تراب أحمر على جانبيه، أرى طائرا آخر يرقص ويبول على حافة القبر الجديد، كان وجهه يشبه وجهي، كما لو أن ملامحي انتقلت إليه بطريقة ما، أو لنقل إن ثمة تدرج خفي كان يشملني والطائر، كان بعضو جنسي ضخم كأنه ساق ثالثة امتدت إلى داخل القبر، المح أو أتطلع إلى الطائر ذي الريش الملون، أرى الوجهين الأنثويين استبدلا بعضو أنثوي مفتوح.. الموسيقى تنبعث والطائران يتحركان تجاه بعضهما ليغيبا في ظلام القبر.