جمل الناقد الفرنسي جاك كاتو الفروق بين عالمي أديبي روسيا الكبيرين تولستوي ودوستويفسكي، في أن تولستوي كان يصالح الإنسان والكون حتى في أحلك الظروف، إذ كان يميل إلى “بث أضواء التفاؤل من حين إلى آخر ولا يترك الإنسان وحيدا في مواجهة قدره ومصيره”، بينما دوستويفسكي كان يميل إلى تفكيك الإنسان وإعادة تركيبه على هواه، و”يتركه في أغلب الأحيان عرضة للرعب واليأس والمواقف الحدية المتطرفة”، ولذلك كثرت في رواياته الشخصيات الإشكالية كالمجانين، والمجرمين، والعدميين اليائسين.
وربما كان جاك كاتو في ذلك متأثرا بأندريه جيد حينما قال “ليس تولستوي من ينبغي ذكره إلى جانب إبسن ونيتشه، وقد لا يكون دوستويفسكي في مستواهما فحسب بل ربما كان أعظم شأنا منهما”، وذلك في مقدمة كتابه عن دوستويفسكي، والذي حاول في فصله الأول رسم صورة للأديب الروسي منطلقا من قراءة مراسلاته التي صدرت مترجمة في ذلك الحين.
رواية الرسائل
رغم وفرة رسائله فإن رأي دوستويفسكي متناقض فقد وصف الرسائل مرة بأنها ”من الأمور السخيفة، ولا يمكنها بأي حال أن تفي بالتعبير عن الذات” وفي أخرى قال ضمن رسالة لأخيه ”إنني لا أجيد كتابة الرسائل، ولا أحسن التعبير عن نفسي”، وفي رسالة غيرها قال ”ليس بوسعنا أن نودع الرسائل شيئا على الإطلاق”، بالرغم من ذلك لم يتوقف يوما عن كتابة الرسائل، حتى أنه سخر يوما من ذلك، وكتب أيضا في رسالة ”إذا ذهبت إلى الجحيم فسأدان لأنني كنت أكتب كل يوم عشرات الرسائل”
ومن بين ما بقي من أكوام الرسائل التي كتبها دوستويفسكي، اختار المترجم العراقي خيري الضامن مئتي وخمسين رسالة، وضمها معا في مجلدين اقترب عدد صفحاتهما من الألف، نشرهما مؤخرا عن “دار سؤال” اللبنانية للنشر، بدعم من معهد الترجمة في روسيا، لتكون أكبر مجموعة من رسائل دوستويفسكي تترجم إلى اللغة العربية. يقول المترجم “مهما كانت معرفة القارئ العربي كبيرة بحياة دوستويفسكي، الذي يتحدث العالم عنه من سنين وسنين، ففي رسائله معلومات أغنى وأعمق وأدق. إنها دائرة معارف شاملة عن حياة المجتمع والاتجاهات الفكرية في القرن التاسع عشر، وبخاصة عن الأدب الروسي في عصره الذهبي. وأراهن أن القارئ سيطالعها من ألفها إلى يائها خلافا لكل الإنسكلوبيديات التقليدية. كما تأتي أهمية الرسائل من كونها مختبرا أدبيا تجريبيا وظفه دوستويفسكي، وخصوصا في المراحل المبكرة من حياته، لشحذ موهبته وطاقاته الإبداعية وصقل أسلوبه الروائي الآسر”.
ويرى الضامن أن مجلدي الرسائل يمكن التعامل معهما باعتبارهما رواية، لذا رتب الرسائل زمنيا وبدأ برسائل قليلة موجهة إلى أمه وأبيه، وكأنه يمهد بهما لسرد الحكاية المتضمنة في الرسائل، وختمها بفصل ضم ما أسماه المترجم “رسائل الأيام الأخيرة” وتضم آخر ما خطه قلمه من رسائل، لذا يرى المترجم أن “رسائل دوستويفسكي عبارة عن رواية وثائقية ضخمة في مئتين وخمسين فصلا أو رسالة، وهي رواية لا تقل إثارة عن سائر إبداعاته الروائية. أبطالها الرئيسيون، وفي مقدمتهم دوستويفسكي نفسه وأخوه ميخائيل، والثانويون، صغارا وكبارا، يعيشون حياة قصيرة في الغالب، إلا أنهم يتطورون في إطارها من جميع الوجوه، يصنعون الأحداث الدرامية فتسحقهم وينصهرون في بوتقتها، ويموتون”.
خفايا الكاتب
معظم الرسائل التي كتبها دوستويفسكي كانت موجهة إلى زوجته آنا غريغوريفنا وإلى أخيه الأكبر ميخائيل، الرسائل إلى زوجته تختلف عن رسائله للآخرين بقدر ما تتشابه في بنيتها. ففي كل رسالة منها نجده سائلا عن وضع زوجته بعد أن يخبرها أنه استلم رسالتها السابقة، أو سائلا عن أسباب تأخير وصول رسائل منها، ثم يجيب عن بعض الأسئلة الموجهة إليه في رسائلها، وفي الختام يتحدث عن نفسه، معبرا عن عواطفه تجاهها هي وطفليهما.
أما الرسائل إلى ميخائيل فيتكرر فيها الحديث عن الفقر والقهر، وتمتلئ بالتفاصيل الحياتية الصغيرة، وربما أهم ما تخبرنا به عن كاتبها هو صبره الشديد وقدرته الفائقة على العمل الدؤوب، وشعوره بالمسؤولية تجاه قارئ أدبه، فمن المعروف عنه أنه كان يعمل قلمه سواء بالحذف أو بإعادة الكتابة دون كلل أو ملل لكل صفحة من صفحات كتبه، ففي رسالة إلى أخيه سأله ”كيف ترسم لوحة دفعة واحدة؟ متى تم لك الاقتناع بذلك؟ صدقني إن العمل الشاق المستمر هو وحده ما يعول عليه، وكل ما يأتي عفو الخاطر يفتقر إلى النضج”.
وعن نقده لشكسبير يكتب “يقال إننا لا نقع في مخطوطات شكسبير على أي أثر للحذف، وجوابي أن وجود الكثير من النواقص والثغرات لديه إنما يعود لذلك السبب. فلو أنه بذل فيها جهدا أكثر لجاءت أفضل مما هي عليه”، كذلك يقول عن بوشكين ”إن مقطوعة صغيرة من بضعة أسطر، رقيقة أنيقة من شعر بوشكين، لا تبدو وكأنها صيغت دفعة واحدة، إلا لأنها خضعت تحت قلمه لفترة طويلة من التعديل والتشذيب”.
وتنبئ الرسائل أيضا عن حبه للكتابة التي يراها مساوية لحياته، ففي رسالة كتبها من السجن القيصري كتب ”أخي يا صديقي العزيز. لقد حُسم مصيري، لقد أدانوني بأربع سنوات من الأشغال الشاقة في سجن سيبيريا. وبعد الخروج من السجن سوف أصبح مجندا محروما من الحقوق المدنية بما فيها حق الكتابة لمدة ست سنوات”.
وبعدما يسرد التفاصيل يبث شكواه قائلا ”هل من المعقول ألا أكتب شيئا بعد الآن؟ هل يمكن أن تنتهي حياتي الأدبية وأنا لا أزال في بداية البدايات؟ آه يا أخي! كم من الصور المعيشة والأفكار سوف تموت في
رأسي، سوف تتبخر إلى غير رجعة إذا ما حصل ذلك. نعم سوف أموت إذا ما مُنعت من الكتابة”.
وأخيرا فالرسائل لا تخلو من قيمة تاريخية خاصة بما تتيحه من معلومات عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي كانت تحيط بدوستويفسكي والمصاعب التي كان يكتب تحت ضغطها. كما أنها تلقي الضوء على جوانب من شخصيته التي جمعت بين الزهد والسخط. كما تظهر انشغاله الدائم بتفاصيل الحياة حتى تلك التي تبدو بلا أهمية، فتدلل على قدرته على التقاط وتسجيل ما هو عابر ويومي، و تلك التي وجدت لها في ما بعد مكانا في رواياته.
جريدة العرب