لاحظ المفكر الجزائري، مالك بن نبي، وهو يشرع بإعادة نشر مجموعة كتبه في أواخر ستينات القرن الماضي، اشتداد حدة الصراع الفكري حدة لا مثيل لها في الماضي، ولفت نظر قارئه إلى أنه لا يتصور أن تشق أفكار كتبه طريقها بهدوء في هذه اللحظة الخطيرة، من دون أن تقف في وجهها أجهزة مختصة لتجري عليها عمليات مسح ومسخ، تعزل صاحبها أو تشوه صورته الشخصية، أو تبعدها على الأقل عن مدارها.
من هذه الكتب التي لفتت نظري يومذاك كان كتاب "مذكرات شاهد القرن". وبدا لي أن الشهادة على قرن كامل ربما تحمل في طياتها وعداً بثراء غير مسبوق. وبالفعل لم يكن توقعي بعيداً عن هذا؛ فقد وجهت زاوية الرؤيا النظر إلى مدارات متلاحقة تبدأ من دائرة محلية ثم تتصل بدائرة العالم الثالث الأوسع ثم بدائرة صراع القرن بين نظم الأيديولجيات الكبرى. وحدث ما لفت إليه المؤلف النظر، أعني أن شهادته وقعت بالفعل ضحية الإهمال في ساحة صراع فكري شديد من أهم سماتها كما قال في مكان آخر أنها ساحة تجري وراء الكواليس، أو على مسرح معتم لا يكاد يتبين فيه الجمهور ما يحدث على وجه الحقيقة. من الذي يصارع من؟ ولماذا؟ وما هو موضوع الصراع؟ تلك هي حالة المفكر في البلاد المستعمرة، والتعبير لمالك بن نبي أيضاً، وتلك هي مصائر الأفكار في عالم لم تكن فيه أجهزة الاتصال واسعة الانتشار كما هو حالها اليوم، ولا كانت ما تسمى ثورة المعلومات قد قامت بعد.
ولكن ماذا عن عالم اليوم؟
قبل أن يفتح القرن الحادي والعشرين أبوابه، بدأ الغرب، غرب العقب الحديدية، المنتشي بحصاد صراع أيديولوجي مرير مع الفكر الاشتراكي ولاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وحركات التحرير القومية في شتى أنحاء العالم، بما في ذلك الوطن العربي، بنشر أطروحات تلخصها مقولتان، الأولى تبشر "بنهاية التاريخ" لفوكوياما، والثانية تبشر "بصدام الحضارات" لهنتنغتون. مقولتان لا تناقض إحداهما الأخرى كما حسب بعض الناس. فالأولى تعني أن صراع النظم الاقتصادية-الاجتماعية قد وصل نهايته، أو فقد مبرراته بانتصار دولة السوق الحرة العالمية، والثانية تعني أن هذه السوق الحرة المنتصرة ستخوض حرب "أفكار" هذه المرة بعد أن فقد الصراع أسسه المادية، أي صراع الاقتصاد وتجارة السلاح والممرات البحرية.
وبالفعل بدأ الإعداد لصراع "فكري" مرير جديد كانت أبرز ابتكاراته إخفاء محركات الصراع؛ ممرات ومصادر الطاقة ومواجهة القوى الانتاجية المنافسة، ومد مناطق النفوذ واحتلال الأرض كلها نسخ طبق الأصل للصراع المتواصل منذ أقدم العصور، وتصوير هذا الصراع على أنه صراع بين عقائد ومذاهب دينية ورؤى متباينة حول صور العالم الآخر، أو بين أزياء نسائية إسلامية وأخرى غربية أو بين مئذنة وبرج كنيسة!
لم يتوقف الصراع الفكري الذي أشار إليه مالك بن نبي قبل ما يقارب الأربعين عاماً، ولكنه اتخذ منحى جديداً، وتغيرت أدواته، وأبرز علائم تغير المنحى هو التضليل والكذب الواسع النطاق الذي تفرضه آلات إعلامية ومراكز أبحاث تخفي بوقاحة محركات الصراع وغاياته. تخفي أنه صراع على الموارد والأرض والثروة لا على كيفية إقامة الصلاة في مسجد أو معبد أو كنيسة أو كنيس.
هل كان التضليل والكذب غائباً في الماضي؟ لا بالطبع، كان حاضراً، ولكن الفرق هو أن تطور تقانة نقل المعلومات وهيمنة شركات الأسلحة والطاقة على وسائل الاتصال (الصحف الكبرى والفضائيات المتنفذة ومراكز الأبحاث) بشكل غير مسبوق، أفرغ الساحة تقريباً من إمكانية أي مواجهة فعالة لأكاذيب رأسمالية العقب الحديدية، واستطاع تمرير خدعة أن الحضارات بطبيعة تكويناتها الفكرية لابد أن تتصادم كما تتصادم الكتل الأرضية، وأن الناس يتصارعون لأن ألوانهم مختلفة، ولأن أحدهم يفضل الشوسي على الهمبرغر، أو الفلافل على الجبنة السويسرية.
ما يحدث في عالم اليوم يذكر بقصة عملية بناء الغباء الجماعي في مختبر. تقول هذه القصة أن علماء نفس يؤمنون بنظريات بافلوف الشهيرة، وضعوا خمسة قرود في مختبر، وفتحوا طريقاً لأحدها ليتسلق إلى عذق موز معلق ويتناول منه ما يشاء. خلال ذلك كان العلماء يسلطون على بقية القردة خراطيم مياه بالغة البرودة، وتكرر إطلاق القرد المحظوظ نحو الموز وتعذيب البقية بالصقيع، إلى أن تلازم في ذهن المعذبين فعل آكل الموز بما ينالهم من تعذيب، فبدأت الجماعة بضرب القرد المحظوظ كلما تحرك لالتقاط الموز، ومنعه من الوصول إليه. وما أن نجحت ثورة القردة في إيقاف آكل الموز وإخضاعه وإيقاف عذابها، حتى أدخل قرد جديد على الجماعة وأخرج واحد من القدماء، وفتح الطريق لهذا الجديد نحو الموز، ومن دون أن يفهم السبب، انهال عليه رفاقه بالضرب إلى أن كف وامتنع عن القيام بالأمر الطبيعي، أي التقاط الموز، بل وبدأ يشارك في حفلة ضرب من يقترب من الموز، ومن دون أن يعرف لماذا أيضاً.
وواصل القائمون على التجربة استبدال القردة القديمة بقردة جديدة، إلى أن تم استبدال الجميع، ومع ذلك ظل القردة الجدد بسبب تكرار ضرب كل من يقترب من عذق الموز يقومون بالمهمة نفسها، منع أي قرد منهم من الاقتراب من الموز وضربه، من دون أن يعرفوا لماذا، فلا الضارب يعرف لماذا يشارك بالضرب ولا المضروب يعرف سر الضربات التي تنهال عليه كلما حاول الاقتراب من الفاكهة المحرمة.
ألا نجد الآن أناساً من مذهب ما يكرهون أناساً من مذهب آخر من دون أن يعرفوا السبب؟ ألا نجد الآن محاولات استثارة ثورة قردة بين الشعوب على من يرفع السلاح دفاعاً عن أرضه وعرضه؟ ألا نقرأ أطروحات مطولة تدور حول إشكالية أي جناح من أجنحة الذبابة الساقطة في كوب الحليب يحمل الشفاء وأيها يحمل الداء؟ وما إذا كان على المؤمن مص الذبابة بعد إخراجها من الكوب أم لا؟ في وقت يباد في الأطفال والنساء والرجال في غزة والعراق والصومال وأفغانستان واليمن بكل صنوف الأسلحة؟
إنه صراع على جبهة الفكر، ولكنه يدور بوسائل خفية، أطلق الروائي الأفريقي واثينغو على هدفه التسمية الصحيحة والدقيقة؛ استعمار العقل. لا يتضح هذا الاستعمار ولا يتجلى إلا في نتائجه، أما أدواته فتظل مجهولة من الغالبية العظمى من الناس، إلا من امتلك صبراً ودأباً على المتابعة، وربط هذا الحدث بذاك، وهذه الصورة بتلك، وقارن واستنتج، وتذكر، وهذا هو الأكثر أهمية. إن أخطر الأدوات المستخدمة في هذا الصراع هي تشتيت الانتباه، وتشظية المعلومات، وتعطيل أقدم ملكات الإنسان الفكرية، أعني المقارنة وربط النتائج بأسبابها، وأخيراً الرهان على أن قيمة الفكر لم تعد تحظى لدى إنساننا بما كانت تحظى به في تاريخه، وترسخ امتهان الذات والأمة حتى في لاوعيه. ومن يعتقد أن مئات القصائد والمقالات "العربية" التي كانت تظهر بين فترة وأخرى، فتشتم الكلمة والفكر والناس المساكين، ضحايا القمع والتعذيب والمطاردة، ذهبت أدراج الرياح فسيكون موهوماً ومخدوعاً. لقد كانت هذه وما تزال من وسائل تعذيب إنساننا العربي وتحويله إلى كائن عجيب، كائن هو الوحيد في العالم الذي يزدري نفسه وأمته، والوحيد الذي لا يقيم للفكر وزناً، ويخشى حتى من مقاربة الكتاب وإلا اتهم أنه يضيع وقته أو يعرض نفسه للوقوع في الإثم، هذا إذا لم يُنبذ ويحرم من قوت يومه.
يبدو أننا تعرضنا، مثلما تعرضت جماعة القردة، لتجربة أصبحنا فيها نكره تاريخنا ونخشاه، ونحاذر الاقتراب من كل كتاب لا يوصي به مأفون وجاهل وصحافي مرتزق، ومذيع نشرة أخبار أو برنامج رقيع ونمضي إلى الاستهانة بكل من يوقظنا على حالنا، بل وإلى ضربه ومطاردته من دون أن نعرف لماذا.