من المُلفت، أن تعترض المرأة المبدعة قبل الرجل، وجود ما يسمي بالأدب النسوي، رافضات تقسيم الأدب إلي أدب نسوي وأدب رجالي، في ذات الوقت الذي لا يتردد أحد في الحديث صباح مساء عن أدب أمريكا اللاتينية، والأدب الروسي وخلافه، وفي الداخل لا يتردد أحد عن القول بوجود الأدب النوبي، وأدب الريف وما إلي ذلك من التقسيمات. إلا أنه في النهاية، ما الكتابة أيا كان مصدرها أو مبدعها، إما أدب أو أنها تخرج عن النطاق. غير أن هذه التقسيمات، التي أراها ضرورية في عملية دراسة الإبداع من خلال المبدع ذاته، النابعة والعائشة في بيئة محددة لها ظروفها العامة، والخاصة، وما ينعكس بالضرورة علي الإبداع ذاته، ويساهم في فهم الرسالة المنوط بالإبداع إرسالها لذات المجتمع، فَتُساهم في الفهم الحقيقي له، وبالتالي تغييره أو تحسينه، وهو ما يمكن بإختصار أن نقوله من أن الإبداع هو من المجتمع وإليه، عبر المُبدِع ذاته. وما التقسيمات هذه إلا تحديد خصائص معينة لنوعية معينة من البشر، أو لمنطقة جغرافية معينة.
ولذلك أري ألا تجاوز في استخدام إصطلاح الأدب النسوي، الذي تعبر عنه بكل صدق وإبداع الكاتبة المُقِلة "أمل رضوان" – مجموعاتان قصصيتان - في مجموعتها الأولي "البيت الأولاني"[1]، التي تقمصت فيها الكاتبة صورة الطفلة، لتسير بها من البداية، وحتي النهاية، متناولة معاناة المرأة في المجتمع الشرقي، في أخص خصائصها، مكتفية بالتعبير الهامس، دون التصريح الصارخ، ودون الانزلاق إلي استغلال التناول حول أدق خصائص المرأة في عملية إثارة، قد تجذب القارئ الشرقي، وإنما إكتفت بالتعبير عن المشاعر، التي قد لا يستطيع الرجل الوصول إليها، ، فالمهم هو المضمون، أو التناول والكيفية. إضافة إلي أن المجموعة كلها، دون تجاوز، تدور في ذلك الفلك.
سارت المجموعة بإسلوب القصة التقليدية، أي القصة التي تتضمن حدثا محددا، متصاعدا، يبدو سهل الوصل، دون الحاجة للتأويل، باستثناء ربما قصة واحدة، مكتفية بالرؤية الكلية التي يمكن الخروج بها، ودائما هناك ما تعبر عنه القصة، دون تفاصح، أو تعنت. فبدت القراءة سلسة جاذبة من خلال لغة بيسطة، تبلسب فيها الكاتبة روح الطفلة ولغتها، وهو ما صنع الكثير من الألفة، خاصة في بعض التعبيرات الحاملة لرؤية الطفلة الساردة، حيث جاء السرد في كل القصص – تقريبا – بضمير المتكلم، فنقرأ مثلا من تلك التعبيرات في قصة "النمل الفارسي" تتكلم الساردة عن الطفلة ذات الأربع سنوات، تصف ما تفعله الأم تجهيزا لزيارة القبقبور:{الزيتون الأسودالذي تجتهد في تخليله بعد رشه بالملح ولفه في الخيش ووضعه في البلكونة عدة أيام إلي أن ينضج ويفقد عصارته ويصبح جلده "مكشكشا" تماما مثل تجاعيد وجه جدتها، لكنه طيب المذاق وليس لاذعا كلسانها}. كما تسري روح الطفولة وفكرها، في بعض التصويرات، مثل أن تعد الأم الفطير والشُريك والجبن والزيتون والخيار والمخلل، وتقضي مساء كل يوم خميس في حالة استنفار قصوي للزيارة الإسبوعية للمدافن لزيارة الوالد، ولتصف الطفلة المشهد { ثم يأتي الصباح ويبدأ المدعوون وأصحاب البيت في الانتقال لموقع الحفل}.
وعندما تتحدث عن الجد في قصة السقاطة، تفوح التشبيهات الطفولية { جدي حسن شعره أبيض مثل قماش البافتا البيضا التي يبيعها في محله في مدينة الفيوم، قصير مدبب كـأشواك السمك الطازج الذي يحضره لنا من بحيرة قارون، وحواجبه سوداء كالبذور الزيتية التي ينفضها عم صبحي المنجد من القطن بالقوس والعصا}.
وتتحدد معالم المجموعة وتنحصر غالبا داخل الأسرة: الطفلة، والأم ثم الأب الذي غالبا ما تعتريه العلة، أو الوفاة، لتظل الأم هي الفاعلة في حياة الطفلة. كما تنحصر العوالم –غالبا - بين القاهرة والفيوم، وغالبا ما تكون "أم فاطمة"، الشغالة ، وأم أحمد وعم مرسي حاضرين في الكثير من قصص المجموعة. وهو ما يوحد جو المجموعة، ويجعلها نسيجا واحدا، أو متتالية قصصية متصاعدة مع عمر المرأة، منظورة بعيون الطفلة، والتي غالبا ما تكون عفوية، لتمنح المجموعة صبغة الصدق والجذب إلي جانب المتعة.
ولكي نستطيع رؤية ذلك، كان علينا أن نعيد – فقط – ترتيب تسلسل القصص داخل المجموعة، غير متلزمين بما جاءت عليه داخل دفتي الغلاف، لنري كيف أن المجموعة تناولت هموم المرأة –الشرقية – منذ طفولتها الباكرة، وحتي مماتها. وحيث نلاحظ أن قصصها جميعا –تقريبا – تتحدث بلسان الطفلة دون العاشرة، وبرؤيتها للحياة من حولها. ولنبدأ الرحلة، أو نبدأ معها منذ تجربة الختان في قصة "الليلة عيد". حيث يتحول ما يراه الأهل، والأم بصفة خاصة، عيدا، تتزين فيه العروسة، ما هو إلا كابوس، وقلق للطفلة التي يسوقونها للذبح. فنستعرض تلك اللحظات علي الطفلة اللاهية في لعبها، وتعيش في ترقب، يتحول للخوف من المجهول الآتي، منذ أن يبدأوا في تجهيزها، وهي لا تعلم ما يُدبر لها فيما بينهم، ليأتي رجلان تبدو الغلظة علي أجسامهم المُخيفة، يكتف أحدهم الطفلة، ويحمل الآخر السلاح الذي سيدبح به طفولتها، وبراءتها.
وتجربة أخري في قصة "قص ولزق" حيث إزدواجية المعايير، وتحكم النظرة الطبقية، وما قد يدفع الكثيرات إلي النقمة، والانحراف النفسي، وغير النفسي.
فقد أقنعت الأم بواب العمارة أن يدخل ابنته، نجاة التي ينادونها رُزة، أن يخلها المدرسة، وبعد جهد وافق، علي أن الأم ستتولي كل شئ. وبالفعل تبنتها مع ابنها –أخو الساردة – الذي راح يرافقها ذهابا وإيابا إلي المدرسة بمباركة الأم، التي منعت تماما أن يناديهاأحد باسم رُزة. وعندما دخلا المدرسة الإعدادي، يفاجئ الطفل أمه، بطريقة طفولية، أنه عندما يكبر، سيتزوج نجاة. تصمت الأم وتفكر.. وفي أول رؤية لها نجاة بعدها، تناديها الأم " سيبي اللي في إيدك يا رُزة، ويلا هاتي الجردل والخيشة وامسحي السلم اللي بقي زي الزفت}.
ثم تريد الكاتبة أن تؤكد بأن ليس الرجل والمراة فقط هم الذين في احتياج لتلك العملية، بقدر ما أنها حاجة إنسانية، قد تصيب حتي الأطفال، دون أن يعوا معناها، أو كنهها. ففي قصة "أحسنت يا عم الشيخ"، تعيش الطفلة تجربة غريبة عليها. حيث تري الطفلة الشيخ الضرير، الذي جاءت به أمها لقراءة القرآن صباح كل يوم جمعة. تشعر بحلاوة صوته حد الإعجاب، لتبدأ في التمايل مع نغمات صوته، كما يفعل هو. وباستمرار الاحتزاز تشعر {بتقلصات غريبة في النصف الأسفل من جسدها. أطبقت فخذيها بشدة واحدا علي الآخر وهي لا تزال تتمايل، وظلت كذلك حتي هدأت تماما}- وهي ذات التجربة التي سنراها في قصة "ترتيلة الكاف" - فما أن اتنهي الشيخ طه من القراءة حتي قالت له {أحسنت يا عم الشيخ، بأنفاس متسارعة وارتباك لا تفهم سببه}.. ونكست رأسها ودخلت صامتة إلي حجرتها.
ويقترب منها كثيرا قصة "السالوبيت" حيث يصنع العم مختار للطفلة، ذات الأعوام العشرة، "سالوبيت" بدلا من البيجاما، بدون أذرع. وما أن رآها العم مختار حتي نظر لها طويلا ثم طلب الذهاب للحمام، ولتنهرها الأم عن الخروج لتقع الطفلة في حيرة، هل تنهاها الأم عن الخروج بالسالوبت أمام العم مختار وحده أم أمام أي أحد. كإشارة، كانت قد مهدت لها بموت الأب، والد الطفلة، وزوجة العم مختار. لتخلق مساحة للجوع يمرح فيها، في عيون العم مختار.
وهو نفس الجوع الذي يعانيه "عمو عبده" المحجوز بالمستشفي لعمل الغسيل الكلوي، الذي ينتهز فرصة خروج الأب لإجراء الغسيل في قصة "كبده ومخ"، وينتظر "عم عبده" دوره بعده، فيطلب من الأم أن تُحضر لزوجها ما يشتهيه، فتخرج الأم أيضا لشراء سنادوتش الكبده، ولينفرد "عم عبده" بالساردة، الطفلة"، ويحاول أن يطفئ جوعه معها، رغم رائحة المحاليل المعلقة بجسده، ورائحته المنفرة.
ونستمر مع صورة الطفلة، التي أحتلت الجزء الأكبر من المجموعة، لما لابد تعنيه الكاتبة من خطورة تلك المرحلة، واثرها علي الصحة النفسية. فضلا عما تتعرض له الطفولة من مآس ، علي أيدي الصقور. تنتقل المجموعة إلي رؤية أخري في حياة الطفلة، أن تُزرع في غير بيئتها، كما تكشف قصة "رابعة تاني" تلك الطفلة التي استقرت في فصل رابعة تاني، إلا أن اختها الأكبر، والتي كانت متفوقة، ترجت أبلة "إصلاح"- وللإسم هنا دلالته – أن تنقل أختها إلي رابعة أول، فنفذت أبلة إصلاح رجاء الأخت الكبيرة لتفوقها، أملا في أن تكون هي مثلها، غير أنها قابلتها بالتعنيف، والتهديد بأنها إن لم تكن مثل أختها فستعيدها إلي رابعة تاني مرة أخري. وتتعمد أن تكون هي أول من يقوم بتسميع الآيات، فتضطرب، ولا تستطيع، لأن أبلة نعمات في رابعة تاني لم تكن قد طلبت منهم حفظ الآيات. لتعود إلي البيت غاضبة، ةتنذر أختها { بكرة هارجع "رابعة تاني" ولو مش عاجبك ما تقوليش لحد إن انا أختك}.
وفي قصة "شوكة ومعلقة" تعودت أمها علي زيارة أعمامها في البلد محملة بالهدايا والمال، لتعود بإحدي بنات أعمامها للعمل في البيت، إلي أن اتت أخر زيارة باثنتين منهن، واحدة للعمل والصغري "سيادة" للعب معها. تعودت الأم كما تعلمت في بيت أهلها قبل الزواج علي أكل الأرز بالشوكة، فكانت الطفلة الساردة تذهب في أثناء اللعب مع "سيادة" تعلمها ما تصر عليه الأم، أن تأكل الأرز بالشوكة. إلي أن طلب الأعمام ضرورة عودة "سيادة" للبلد للزواج {تركت منزلنا بفستان أنيق وحذاء لامع وحقيبة يد بها أُصبع روج وأحمر خدود ولهجة قاهرية وخصال أولاد الأكابر}. ولما مات أحد العمام، ذهبت الطفلة للعزاء مع والدتها لتجد صورة مختلفة {قابلتني سيادة بجلباب وطرحة سودة، تحمل علي ساعدها طفلا عاري المؤخرة مبتل الأنف، جريت نحوها كي أحتضنها، مدت يدها بتردد، وقالت لي بلهجة ريفية كانت قد نسيتها عندنا: ست ندي. جوزي طلقني لما شافني بأكل الرز بالشوكة}.
وفي قصة "عوامة زكي" نجد نفس الخلفية التي طالعتنا كثيرا في المجموعة، الأم المنحدرة من عائلة، والصغر في العمر عن زوجها. يصاب الزوج بالفشل الكلوي، ما أدي لخفض الدخل، فلم يعد بتقاضي سوي الأجر الأساسي، وهو ما لم تستطع معه الأسرة البقاء في فيلا أم شكري في الحلمية الجديدة التي يسكنونها، لتنتقل إلي حي "درب الميضة". وتمنعها الأم من اللعب مع أولاد الشارع، وترسلها لتعلم العزف علي الجيتار. وفي الذهاب والعودة، تشاهد الأولاد يلعبون بالعوامة، إلي أن يأتي يوم تلقي بالجيتار، وتركب العوامة، مثلما تري الأولاد لتجد نفسها بهذه التجربة، تعيش معالم الحي الذي اصبحوا من سكانه، غير أن العوامة تخرج بها عن النطاق المحدد، لتجد نفسها في المستشفي، وأمها بجوارها {تصرخ في وجه عمي لأن قرار أخيه المرحوم كان السبب في انتقالنا إلي مكان لا ننتمي إليه، وفي كسر البنت}.
وفي قصة " النمل الفارسي" تستعد الأم بإعدادات الزيارة الإسبوعية صباح كل يوم جمعة، لزيارة قبر الوالد، وفي صباح الجمعة، تُصر الأم علي أن تجمع لها شعرها الطويل في ضفيرة محكمة، تضايقها، فضلا عن حبها لشعرها الحر. يذهب الجميع صباح الجمعة، إلي الزيارة وكأنهم في رحلة، يجلس النساء في حجرة، والرجال في حجرة. وبعد الأكل يبدأ الرجال في متابعة المقرئين، وتتلهي النساء في الأحاديث بينهن، ولا أحد يشعر بها. تسير بعيدا ليهاجمها طابور النمل الفارسي، بينما تري جنازة قادمة لطفل، ليدفن في مقبرة الصدقة، المجاورة لمدفن أبيها، يأخذها حب الفضول، فتنزل مع الطفل إلي المقبرة، دون أن يشعر بها أحد، ويُقفل عليها المقبرة. ولا يسمعها أحد، لتنام بجوار الطفل الصغير قابضة علي قطعة فطير عليها جبن أبيض شهي. وإذا كانت الكاتبة قد اعتمدت علي الإيحاء في توصيل رسالتها، فإنهاهذه القصة، كانت أكثر وضوحا في استخدام الرمز الإيحائي، حيث تشير حركة الشعر وإصرار الأم علي عقصه في ضفيرة واحدة مُحكمة، حتي أنها تشعر بأنها تخنقها، بينما الطفلة – ككل الأطفال - تُحب وتُفضل شعرها حرا سائبا، إشارة إلي الكبت الممارس علي الطفلة، كما يشير النمل الفارسي الذي إحتل جسدها ورأسها، إلي ما يمكن أن يحتل رأسها، وربما جسدها، ذئب أو صقر"، وربما تكون الأفكار غير السوية. الأمر الذي يقودها في النهاية إلي دخول القبر، وكأنها تشير إلي أن كل هذه القيود تقتل وتميت طفولة الأنثي منذ طفولتها، ليظل دخول القبر والنوم فيه، دخولا معنويا.
ونتخطي مرحلة الطفولة ، لنصل إلي مرحلة النضج، ترافقنا إحتياجاتنا، التي يتسبب غيابها، أو عدم تحققها في الاضطراب النفسي، وفق ما يؤكده علماء النفس.وهو ما نستطيع تأمله في قصة "الحي أبقي" دون أن يكمل العنوان المثل المعروف، والذي تكمله القصة، حيث تأتي الجدة، والدة الأب، لتعيش مع ابنها، وتطرده من حجرته مع زوجته لينام معها هي في حجرتها، ليصيب الأم ذلك الإحساس بالاحتياج إليه، فتظل تلبس قميص نومها، وتجلس أمام الشباك، وكأنها تعاني الفراغ. إلي أن تموت الجدة، وبينما هما ذاهبان لوداعها بالفيوم بالملابس السوداء، يلمح الأب قميص نومها، فيدسه في ملابس الطفل، وكأنه يقول " الحي أبقي من الميت" بما يشير إلي أن هذه العملية هي الحياة، ليس للمرأة فقط، ولكن لكليهما.
وهو ما يقترب من الرؤية التي نخرج بها، مع تجربة قصصية ممتعة جديدة في قصة "ترتيلة الكاف" حيث تبدأ القصة بداية غير تقليدية، تبعد بنا بها عن المباشرة، حيث الموضع يدخل ضمن قائمة الممنوعات في الموروث العربي، ذلك الثلاثي المحرم، (الجنس – السياسة – الدين)، حيث تبدأ القصة ب:
{باسم الكاف والنون، والسر المكنون
باسم الكاف والميم، والسر المبين
باسم الكاف والضاد، مولف الأضاد}
في إشارة إلي بداية سورة مريم التي تبدأ ب (كَهَيَعِصْ) حيث أن معجزة مريم هي أنها جاءت بالسيد المسيح دون أب، بمعني أنه جاء دون إتصال بالرجل. لتضعنا القصة منذ البداية في هذه المنطقة. خاصة أن الأم التي ترتل هذه المتتالية، مات عنها زوجها، وهجرت سريره، الأمر الذي يوحي بالجوع العاطفي (المادي). ثم تمر بنا القصة عبر سرد يحمل من التشويق والحركة، إلي أن تصل بنا إلي حفلة الزار، التي نكتشف فيها الانقطاع التام، المتعمد، للنور، ويتم ذبح الديك الرومي، برمزيته المشيرة إلي الفحولة الذكورية، وما يتم من رش دمه علي الأم، كإشارة إلي رش شئ الرجل في العملية، وكأنه تحول إلي ماء الحياة بالنسبة للمرأة ، كما لا تخفي رمزية فرفرته العنيفة، ثم الهدوء التام له، والمتوافق مع هدوء الأم بعد رقصتها في حضن أحد رجال الزار، بما يفيد إتمام العملية، وما تشير إليه من إحتياج الأنثي لتلك العملية، وأثرها النفسي عليها.
وقد يقترب من تلك الرؤية ما نراه أيضا في قصة ""صُرة المكوي"، حيث تواصل الكاتبة التعبير عن قهر المرأة وعدم قدرتها علي الحياة بدونها، في الوقت الذي لا تستطيع فيه الإشباع، ويظل الرجل هو المتحكم، في الوقت الذي يمكن فيه ألا يكون ( ). فترسم لنا الكاتبة صورة المكوجي "عوض" وكيف أنه ألثغ في نطق الميم، طويل جدا ورفيع جدا. يأتي ب"فتحية" زوجة من البلد، هي أيضا طويلة ورفيعة، إلا أنها تحمل بعض صفات الجمال. تمكث معه بضع شهور. وبينما هي في بيت الساردة، للعمل، وكانت الأم بين بعض جاراتها، تخرج "فتحية" من الحجرة باكية، وتكاد تصرخ بصوت عال، وبدأت في لطم خديها، تتعجب النسوة ويسألنها عما بها، لتجيبهم: {ما بيعرفش المدهول، ولا حتي بلدي}. ويعلو صوتها بالرجاء { طلقوني منه وإلا هأرمي نفسي من البلكونة. واتجهت تجاه البلكونة، لتلحق بها النسوة، ويمنعنها{ جثت علي ركبتيها وحاولت تقبيل قدم أمي. اهتز صوتها وقالت: ينوبكم معروف. وكتاب الله لو ما طلقنيش لكون ماشية علي حل شعري}. فترفع الأم يدها وتضربها علي وجهها صارخة { يا فاجرة! إبقي اعمليها كده وأنا أجيب له سكينة بنفسي وأخليه بدبحك قدام عنينا}. ولتصل المأساة ذروتها، ويتحكم اليأس في "فتحية"، وتفقد الأمل حتي في هذا { مش هيعرف يدبحني الدُهُول، دا كله بيترعش}.
وتصعد بنا الكاتبة مرحلة أخري في عمر، لا المرأة فقط، وإنما في عمر الإنسان، من خلال تجربتها في قصة "البيت الأولاني" التي منحت المجموعة عنوانها، في منتصف رحلة العمر، وكأنها تعمدتها، لتفرش تحت أجنحتها باقي قصص المجموعة، بمراحلها العمرية المتصاعدة. حيث لم تخرج عن السياق. فإذا كنا قد تتاولنا تاريخ البنت وعلاقتها بأنوثتها منذ الطفولة، فها نحن نصل إلي ما يمكن أن يكون منتصف العمر، فقد كبرت الطفلة حد الذهاب – وحدها – إلي البيت القديم، بما يمكن أن يحويه.
تطلب الأم – الحاضرة دوما – من الإبنة، ان تأتي بشنطة كتبها من البيت الأولاني الذي كانوا يسكنونه عندما كانت طفلة، قبل أن يتم تسليم البيت لصاحبه. وهناك تجد كل شئ قد شاخ وترك الزمن عليه بصماته. تجد في شنطتها، التي كانت حمراء يوما ما، وبهاعطيل وماكبث وتاجر البندقية لشكسبير، و الأرض الخراب ل تي إس إليوت، و الناس في بلادي لصلاح عبد الصبور{ وجدت صفحة مطوية داخل الديوان الأخير، فتحتها وقرأت: "الناس في بلادي جارحون كالصقور" لماذا وضعت خطا تحت هذا البيت دون غيره؟ لم تسعفني الذاكرة}. غير أن ذاكرتنا نحن تعود لقصص "كبده ومخ" و "سالوبيت" وأولي قصص المجموعة " مسحوق الزهرة الزرقاء لايمحو كل البقع" – حيث لاتمحو الزهرة التي تستعملها الخامة في تنظيف الثياب، لن تمحو إعتداء الأب علي ابنتها، ولا تزيل ما تعانيه من قهر الفقر والحاجة - لنجد مثيلها في "عم مرسي" في "البيت الأولاني" ذلك الجار العجوز، الذي تصورت الساردة أنه أكبر مسن في العالم، وقد ضبطته الأم ، بعد وفاة نينة أم أحمد زوجته، والذي تعود علي وضع يديه في جيبيه المفتوحين كلما جاءت الخادمة لمسح الأرض وتنظيف الشقة، وجدته عندما دخلت عليه فجأة، وقد أجلس الخادمة علي حجره. لنعرف لماذا "الناس في بلادي جارحون كالصقور".
فتحاول الساردة، داخل هذا البيت (المهجور، والحامل لذكريات الطفولة) أن تستعيد الزمن، عندما كانت الأم تُجلسهم علي الكرسي الخشب القريب من الأرض تحت الصنبور، بعيدا عن وابور الجاز، وهي تلقي تعليماتها { ادعكي جسمك بالليفة بسرعة من غير ما تبصي ولا تضغطي جامد}. فتستعيد المشهد بحذافيره، غير أنها الآن تتمرد علي تلك التعليمات، فتفتح ركبتيها، وهي تمعن النظر { تسارعت أنفاسي، ثم حبستها. وجدت لأول مرة شعرة بيضاء وحيدة علي أعضائي الحميمة. لم أكن أعرف أن شعر العانة – أيضا – يشيب}. الزمن إذا يمر، وتتغير معالمنا، غير أن حاجتنا البيولوجية تظل تطلب الإشباع. وكأنها خلاصة التجربة.
واستمرارا لسير الزمن، وتأثيره علي المرأة، ونسارع بالقول بأن للزمن تأثير علي الإنسان، أو الكائنات جميعا، غير أن ما يعني مجموعتنا هنا، هو ماتتعرض له المرأة من القهر، فرغم أن ما حدث ل"نينة أم ألفت" في قصة "حج مبرور" يمكن أن يحدث للرجل، غير أن البداية المتعمدة، والفنية من الكاتبة لبدايات قصتها، هو ما يجبرنا علي الاستمرار مع رحلة المرأة داخل المجموعة. حيث تبدأ قصة "حج مبرور" بوصف جلسة العم " عبد العزيز" والتي تضعه في صورة "سي السيد" الشهيرة، بينما "نينة أم ألفت" في وضع أقرب ل"الست أمينة" وهي جالسة بين يديه، تترجاه { سايقة عليك النبي أروح أحج! أحج وأسقط الفريضة، العمر قصير يا حاج} فنلاحظ الكلمة الأخيرة من الرجاء {يا حاج}، لتشير الكاتبة لنا ، عرضا، مثلما تفعل كثيرا، دون تصريح مباشر، بأنه هو قد أسقط الفريضة، لتتجلي لنا صورة التفرقة، أو ما يتمتع به الرجل من قوة وجبروت، وما تعيشه المرأة من قهر، وإنكسار، حد توسل أداء فرض ربها.
تمر الأيام ب"نينة أم ألفت" ولنعرف بوفاة العم "عبد العزيز، دون أيضا أن تصرح لنا بذلك، وإنما توحي به، فينشغل الأبناء والأحفاد عن خدمتها، فيقررون إيداعها إحدي دور المسنين، ونظرا لتدهور حالتها، لم يجدوا إلا إحدي الدور التابعة للكنيسة، ونظرا لعدم وجود حجرة خالية، يضعونها في إحدي الغرف مرافقة لسيدة مسيحية. تذهب إحدي حفيداتها، "وفاء"، لزيارتها، حاملة معها البسبوسة التي تحبها، وقبل أن تمد يدها نحو البسبوسة { رفعت "نينة أم ألفت" رأسها ناحية صورة مريم العذراء المعلقة فوق السرير المجاور، رسمت علامة الصليب علي صدرها، رددت بصوت هامس "باسم الآب والإبن والروح القدس}. وكأنها قد وصلت حد الخروج من الملة، ووصلت قمة اليأس.
ورغم أن الزمن قد مر بهما معا، إلآ انه التجربة الشرقية والنظر لأن يكون الرجل أكبر من المرأة عند الزواج، فهو ما يؤدي إلي وصول الرجل مرحلة أكبر قبل أن تصل هي. لذا، أصبحت المرأ هي المتحكمة في قصة " السقاطة". التي تستدعي فيها الأم ابنتها لزيارة جدها الذي يحتضر فيي الفيوم. فتعود بها الذاكرة إلي حيث كانت زياراتهما وهي طفلة، والجد يجلس علي باب دكانه بالحيوية التي تجعله ما أن يراهم، ينهض بالبشاشة، وبينما يتجه بهم إلي البيت الكبير، المحاط بالخضرة والزروع، يطلب سمك موسي، للغداء، ويحكي لها قصة سمك موسي. وحينها رأت حبلا مدلي من الدور الأعلي، سألت الجد عنه، فأخبرها بأنه متصل بسقاطة باب البيت، بحيث لا يفتحه إلا هو. حتي أنه لما حاولت إمساك الحبل وفتح الباب، غضب غضبا شديدا وعنفها. بينما في هذه الزيارة، الآن، لم يكن الجد في مكانه، فُتح الباب، وصعدتا للجد الذي وجدتاه قد صغر حجمه، وانكمش وأصبح قابعا في ركن من السرير، لا يقوي علي الحركة، حانت منها إلتفاته لتجد الحبل في طرف إصبع الجدة. وكأنها من تولي القيادة بعد الجد.
كما تصبح المرأة هي طوق النجاة ، أو من بيدها الأمر في قصة "أمنا الغولة"، حيث تبدع الكاتبة في تصوير "فاطمة عمر" والتي لا يعرف أحد من أبوها، اما عمر هذا فهو أخوها، الذي دائما ما يتشاجر معها، دون تشابك بالأيدي، حين تنزع فاطمة جلابيتها السودة، وتطيح بطرحتها، ويهتز جسدها المترهل، كاشفا عن غابات بين ثنايا دواخلها، والتي لم تكن الطفلة الساردة، حين حكايات جدتها عن الجن والعفاريت، لم تكن تتصورهم إلا صورة من "فاطمة عمر". ترجع الطفلة من الدرس مساء، في ظلام الليل الشتوي الذي يأتي مبكرا، تشعر أن هناك من يتبعها، ولا أحد بالطريق، ترتعب وتسرع الخطي، والصوت يطاردها بألفاظ خارجة، تتعثر الطفلة، فتقع علي الأرض، وما كاد المطارد أن يلمسها من الخلف، حتي انشقت الأرض عن جبل أسمر، يمسك بالولد ويرفعه، ولأول مرة تري الساردة "فاطمة عمر" تشتبك بالأيدي لتشبع الولد ضربا قبل أن تُفلته، وترفع الساردة من علي الأرض نافضة عنها ما علق بها، مطمئنة إياها { ما تخافيش يا ضنايا. هامشي معاكي لحد باب البيت}.
ونصل إلي ختام الرحلة، رحلة الحياة مع قصة "دنيا وآخرة" وكأننا وصلنا محطة النهاية، حيث يشعر والد الساردة، بأن أمه (الجدة) في ساعاتها الأخيرة، ويطلب الطبيب منهم أن يذهبوا بها إلي البيت. فيسارع إبنها (الأب) في بناء المقبرة، ويتعجل بناء القبر ليقيم هناك حتي يكتمل البناء، ثم يقيم فيها إقامة دائمة، وكأنما كان يتعجل بناء القبر لنفسه. بعد أن كانت الأم (الجدة) قد شُفيت. لتظل الزوجة (أم الساردة) حريصة علي زيارة زوجها، ثم تتباعد الزيارة لتتوقف عنها ، بعد فترة. ويلفت انتباه الساردة أن أمها كانت {أقل النساء بكاء علي والدي، الأمر الذي حيرني كثيرا، كنت أري إخوتي اللائي يكبرنني سنا وجدتي وعماتي وأقارب أمي وأقارب أبي وهم يبكون أكثر منها، ولم أدر السبب..... كانت فقط تؤكد علينا ألا ندفنها بجوار والدي عندما يحين الأجل... عندما كبرت أردت دوما أن أسألها عن السبب، ولم أجرؤ}. وكانت الزوجة بعد الوفاة ( وفاة الزوج) بعدة شهور قد رفعت صورة الأب من الصالون، ووضعت مكانها صورة الأخ. كل تلك الأشياء وضعت الساردة في حيرة لم تصل لها إلي إجابة أو يقين. وتمرض الأم، وفي ساعاتها الأخيرة، يكون علي الإبنة (الساردة) أن تذهب لإعداد المدفن، لنتعرف علي ذات المدفن الذي دُفِنَ فيه الأب، لتتحسر الساردة علي أمها {مسكينة أمي، لن نستطيع تنفيذ وصيتها}. لنخرج من القصة بالتساؤل مع الساردة: ماسر تصرفات الأم هذه بعد موت الزوج؟ إلا اننا لا نجد إلا أن إختلافا ما حدث، ويحدث دائما بين الزوج والزوجة، وفي الكثير لا يعلم أحد عن الأسباب شيئا، فتظل محفوظة في الداخل، داخل كل من الرجل والمرأة، ولتظل العلاقة بينهما لغزا أبديا. ولتظل المرأة مقهورة، عاجزة عن تحقيق رغباتها منذ طفولتها وحتي مماتها، حتي أمنيتها في إختيار المدفن الذي ترقد فيه رقدتها الأبدية، ولتظل قرينة للرجل، ورفيقته، حتي في المدفن. فلا فرار، في الحياة ولا في الممات.
رحلة من المتعة، قادتنا إليها أمل رضوان، لتقتحم أحد معاقل الممنوعات، بجرأة ملتزمة، ووعي بدور الإبداع، وأثره ووظيفته، متسلحة بعناصره، لندخل معها، ليس البيت الأولاني فقط، وإنما كل بيوتنا، في شرقنا المحروم.
Em:shyehia48@gmail.com
[1] - أمل رضوان – البيت الأولاني – مجموعة قصصية – دار العين للنشر – ط1 2014.