-1-
في عام 1970 أنتشر "يحيى السماوي" في مدينة الديوانية مثل بركان. وقتها كان طالبا يدرس في أعدادية الديوانية المركزية وأصدر ديوانه الغزلي الأول "عيناك دنيا" غزل بالأنثى شديد العذوبة سيمّيز شعره حتى الآن. كان يكبرني بعدة سنوات، يسكن بيتاً مستأجرا فهو قادم من السماوة لغرض الدراسة وكانت قضاء صغيراً تابعاً إداريا للديوانية. وكنت وقتها دخلت الوسط الأدبي لتوي، أحببت أشعاره بالرغم من ترّفع أصدقائي الشعراء عن مثل هذه الأشعار وكانوا لتوهم قد أطلق سراحهم من السجون وكتبوا أشعاراً عامية جددت بالقصيدة العراقية، حينما أبدت أعجابي بها أمامهم وكنت طيرا في الأدب لم ينبت جناحه بعد، لخصّوه بأنه يقلد "نزار قباني". أنتقلت بعدها بسنتين إلى بغداد لأكمال دراستي الجامعية، وكان يحيى أيضاً هناك. وكنا من وسط واحد اليسار الإشتراكي، لمست من خلال أشعاره التي أستنكرها أصدقائي رقة فتصورته شخصاً عاطفياً رقيقاً، يبكي لأبسط الأسباب، لم يخب ظني فحينما التقيت به في بغداد في جلسات معدودة كان مندفعا متحمساً ودودا، يشعرك بالألفة منذ اللحظة الأولى فتحس بأن لاحاجز مع هذا الكائن الذي لا يكف عن الكلام وإبداء الرأي بتفاصيل الحياة السياسية، ثم يبدأ بأنشاد أشعاره بعد عدة كؤوس غزلاً بالمرأة ودفاعاً عن الفقراء والكادحين، وكان طويل القامة رشيق جدا بشعره الطويل المنسدل على كتفيه وقميصه الأبيض الضيق. وبأختصار كان شديد الأناقة والوسامة. عرفت من خلال تلك الجلسات أنه يعمل متطوعاً في جريدة الحزب الشيوعي العراقي العلنية "طريق الشعب" وكان لي أصدقاء يعملون في الصحيفة علاقتي بهم حميمة وقوية الأول "عامر خليل" وهو خريج معهد الفنون الجميلة قسم المسرح ويعمل محررا بالجريدة، و "حسين السلمان" أيضاً خريج معهد الفنون قسم السينما ويعمل مصوراً للصحيفة.
-2-
قبل أن تعصف بنا عواصف العراق المدمرة في 1979 عقب تمرّكز السلطة بيد الدكتاتور - صدام حسين - فيقوم بتصفية نصف قيادة حزبه ويشن حملته على القوى الديمقراطية والحزب الشيوعي ويشعل الحرب تلو الحرب ليصل بالعراق إلى الأحتلال وسلطة طوائف هي بالحقيقة مجموعة من السراق والقتلة ليس لديهم أي ضمير أو شعور وطني أو إنساني. قبل عصف الخراب كنا قد أكملنا دراستنا الجامعية وخدمنا العسكرية الإلزامية. فعدتُ إلى مدينتي الديوانية نهاية عام 1977 وعملت موظفاً في دائرة زراعية، فتفرقنا. في يومٍ أتصل بيّ "عامر خليل" تلفونياً وأبدى رغبته بزيارتي مع "حسين السلمان" ففرحتُ جداً ورتبت لهما برنامجاً جميلاً؛ لقاءات مع الوسط الأدبي في المدينة وجلسات شرب ومرح، وكانوا يباتون في بيت طفولتي في الحي العصري، وكان "حسين" يحمل كامرة الجريدة فصور كل شيء، ما زلت أحتفظ ببعض تلك الصور، نشرت واحدة منها في صفحتي. وكنت أعرف "حسين السلمان" بوقتٍ أبكر فهو أصلا من الناصرية وكتب القصة القصيرة بشكلٍ مبكر، ومن الصدف أنه كان يخدم العسكرية في مقر الفرقة الأولى بالديوانية، فكان يسهر معنا تقريبا كل يوم، وكنا نخاف عليه من رجال الأمن فوقتها كان اليساري مراقباً. قضينا أياماً لا تنسى وأقترح "عامر" أن نسافر إلى السماوة لنلتقي " بـ "يحيى السماوي" فبكرنا في اليوم التالي وسافرنا إلى السماوة دون موعدٍ مسبقٍ، ودون أتصال تلفوني، من محطة السماوة إلى سوقها المسقفوف وهناك رحنا نسأل عنه، وعامر يضحك ويقول:
- هو في بغداد أنشهر بهذي القرية يقصد السماوة ما ينتشر راح نلكيه بالسوق!.
وفعلا أول محل عطارة كبير سألنا صاحبه عن يحيى السماوي، وما أن عرف أننا غرباء حتى أجلسنا في الدكان وقدم لنا الشاي وبعد نصف ساعة أقبل يحيى بشعره الطويل وقامته الفارعة صارخاً مثل مجنونٍ:
- معقولة عامر وحسين وسلام بالسماوة معقولة لو حلم!.
وكان اللقاء حافلاً، ضحك وصخب وكلام عن الثورة والأفق المسدود في العلاقة مع البعث. كان "يحيى" كما ذكرت عاطفياً متحمساً ثورياً يشبه شعره المتطرف في غزله، لكن هنا ثورياً يكاد يتفجر حماسةً، وعند السكر تسيل العواطف فيبكي لغزلٍ ولفكرة عن الثورة، أو لحديث عن أوضاع الفقراء. لا أدري كيف أنقضى الوقت، لكن كان ليل السماوة الصحراوي وحكايا النضال فيها، فقطار الموت في 1963 الذي أعده البعثيين لقتل أكبر عدد ممكن من الشيوعيين توقف فيها لينقذ أهلها من بقى حيا، وسجن نقرة السلمان البعيد في عمق الصحراء وقصصه كلها فيها، و "حسن سريع" الذي قاد أنتفاضة معسكر الرشيد على أنقلابيي 8 شباط 1963 من أهلها، كنا نطوف ليلتها في التاريخ، في الحماسة، في الرغبة بتغيير العالم وخلق مجتمعٍ حرٍ سعيد، ليلتها بكينا أنا ويحيى بحرقة، جعلت من عامر وحسين يسخرون من عواطفنا وهشاشتنا كما وصفونا ضاحكين.
لا أتذكر ما جرى بعد السهرة وحفلة النحيب والضحك، أين بتنا ليلتنا، كنت أظن أننا بتنا في شقة وسط السوق تعود لأهله، وتصورت أن والد "يحيى" من أثرياء السماوة وعلى خلاف مع يحيى لتوجهه اليساري، وهذا ما بقى في ذاكرتي من تلك الزيارة الشببه بالحلم، لكن "يحيى" في اللقاء قبل يومين حكى لي قصة أخرى، ومن خلال الأمسية حكى عن فقر أهله المدقع، وتنقلهم في بيوت مستأجرة حتى أنه شهّد تلاميذ كان يدرسهم في السماوة حضروا أمسيته.
-3-
بعد هذه الزيارة بأشهر سافر "حسين السلمان" إلى بلغاريا ليكمل دراسته في زمالة قدمها له الحزب الشيوعي العراقي، بينما أنغمرت أنا بعالم العمل ثم بمحنة الأعتقال بالرغم من أعتزالي العمل السياسي، بينما تفرق الأصدقاء من اليسار فهرب من هرب خارج العراق، وأعتزل من أعتزل العمل، ومات من مات في المعتقلات والسجون، التقيت "بعامر خليل" مرة واحدة حينما سافرت إلى بيروت فوجدته في الفاكهاني يستعد للسفر إلى الأتحاد السوفيتي المرحوم في زمالة حزبية وأخبرني أنه سوف يلتحق بالأنصار الشيوعيين حال أكمال دراسته كان ذلك في الشهر العاشر من 1979، وحينما أخبرته بأن الأوضاع في بيروت لم تعجبني وبأني سأعود إلى العراق لأتزوج من حبيبة تنتظرني لامني بشدة ودعاني للإلتحاق بمعسكرات الجنوب اللبناني كي اتدرب على السلاح وأتسلل لاحقا عبر الحدود السورية التركية إلى العراق لأناضل فقلت له:
- شني هالشدة أنا لست مطارد أولا، وثانيا متدرب على السلاح في العسكرية وثالثا إذا فعلا صارت حركة في كردستان فالوصول إليها أسهل من مدن العراق، لا مشى ولا مشكلة؛ سيارة توصلني.
وفعلا جرت القصة هكذا.
-4-
رسى بي المخاض الأهوج هنا في الدنمارك، ومن هنا تابعت أخبار الأصدقاء والأحبة، فعرفت أن يحيى السماوي أشترك في انتفاضة أذار 1991 ولجأ إلى السعودية مع الجموع التي نزحت من مدن الجنوب هرباً من أجتياح قوات الحرس الجمهوري لتلك المدن، وتابعت اخباره ونشاطه من خلال الصحافة وكان نشطا عمل في أذاعات تحرض على الثورة ضد الدكتاتور وبقى نقياً في أنتمائه لليسار الأشتراكي، لا بل توطد هذا الأيمان بقيمة الإنسان ذلك الأيمان المتخلص من جمود الحزبي القاسي، ولم يكف عن الكتابة وتحقيق مشروعه الإبداعي وكان حظه أن يقبل لاجئاً في أستراليا ليكون في طرف الكرة الأرضية البعيد. وتواصلنا من خلال النيت ومواقع التواصل الأجتماعي إلى ما قبل يومين علمت أنه سيحل ضيفاً على التيار الديمقراطي العراقي في الدنمارك في أمسية فالتقينا.
-5-
تكاتبنا قبل اللقاء، وألح طالبا أرقام تلفون "حسين" و "عامر" فيما لو كانا حيين،
وتمنى عليّ توفر فرصة نادرة كي يلتقي بهما. تحرّجت كثيرا قبل أن أقرر أخباره بقصتهما، قلت له "عامر خليل" في السويد حيث كنت، فيحيى قدم بدعوة من مؤسسة "النور" إلى مالمو، ومن المؤكد أنه عرف بوجوده من خلال الإعلان في مواقع التواصل الأجتماعي عن ذلك، لكن الذي لم يعرفه "يحيى" أن عامر تحول وأصبح إنسانا أخر، لم يلتحق بالثوار، تزوج من روسية، قطع كل علاقاته القديمة، ولدي تجربة مخيبة معه حينما حاولت وصل الصلة به عام 1989 لم أشأ سردها ليحيى، أما حينما أخبرته أن "حسين السلمان" في بغداد منذ وقت بعيد، أنفعل كشأنه القديم قائلاً:
- معقولة سلام أني كل سنة أزور العراق، شلون ما عرفت وما حاول يتصل بي والصحافة والقنوات الفضائية كلها تخبر عن وجودي بلقاءات!.
قلت له:
- أنا أيضا يحيى مثل وضعك لكنه توارى ولم يحضر أية ندوة أقمتها في بغداد!.
سألني:
- ليش هذا شيء مو معقول، خبرني أظن أنك تعرف القصة!.
- صحيح "يحيى" حسين طلع زمالة في بلغاريا، وهناك عام تعرف على شابة شيوعية أسمها "منى" من مدينة "الحلة" هربت في الحملة، لكن زوجها أعتقل وإعدم وكانت حامل، فأنجبت في بلغاريا ونشأت مع "حسين" علاقة حب، فتزوجا، ويبدو أن العلاقة دخلت في مآزق لا أعرف أسبابها؛ البعض يقول غيرة والبعض يقول خلاف، لكن ما قام به "حسين السلمان" شي فظيع، إذ قام بقتلها وتقطيعها ووضعها في بانيو الشقة التي كانا يسكنانها، ويبدو أنه كان متفقا مع السفارة العراقية، إذ وفرّت له جواز سفر، فأخذ أبنتها وسافر، ومنذ ذلك الوقت هو أستاذ في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد ويدرس فيها.
كتب كلماتٍ مبعثرة، ضاع منه التعبير هو مهندس الكلمات وصوغها،
- ما هذا الذي تكتبه يا سلام معقول!.
- يحيى هذا ما قصته علي رفيقة من "الحلة" أسمها "أم نصار" تعيش في السويد، كانت صديقة للرفيقة المغدورة، في إلتحاقي الثاني 1985 مع زوجتي ومثلك وقتها صُدمتُ لكنني تأكدت من ذلك، وأنت تعرف كل شيء عن فوضى الوضع في العراق، لم يقم الحزب الشيوعي العراقي دعوة ضده بالرغم من أن الجريمة مسجلة في دوائر الشرطة البلغارية، وتابعت أخبار أبنة القتيلة من خلال حملات جرت من أجل تجريمه في الفيس بوك لم تنجح فعلمت أنها متزوجة في الناصرية ولا تعلم شيئا عن حقيقة قصتها. وهو الآن يظهر في التلفزيون ويقيم الندوات كمثقف ودكتور مختص في السينما، تخيل يا يحيى قاتل يدرّس السينما والفن ويصدر كتبا أيضا.
فكتب يحيى كلاماً مرتبكاً ختمه:
- سلام أحس بالعار من علاقتي القديمة بهذا الشخص، وأكاد أتقيء.
لكن أرجوك تعال غدا خليني أشوفك!.
-6-
وصلت إلى مكان الأمسية قبيل بدأها، سلمت على المقدم الشاعر هاتف بشبوش فالتفت نحو "يحيى" الذي كان منشغلاً في أخراج أوراق أشعاره قائلا:
- سلام إبراهيم!.
وهو لا يعرف علاقتنا وجذورها، ترك اوراقه وعانقني بشدة طويلاً وكأنه ذلك الشاب المتحمس الثوري بشعره الطويل المتدلى حتى كتفه والمتهدج الصوت حينما يمس الحديث فكرة الظلم والفقر، وجدته هو.. هو.. عانقني وألتفت إلى الحضور قائلا:
- واحد وأربعين عاما من السماوة حتى كوبنهاكن!.
ومن عشرينات عمرنا وحتى ستيناتها.
كانت أمسية ممتعة
وهو هو كما وصفته
لم يخفت العمر من شبوب عاطفته
فبكى حينما ذكره أحد الحضور بقصيدة كتبها عن أمه، وطلب منه سماعها، تحدث عنها وخنقته العبرة، ولم يتمكن من أنشادها، ودموعه تصببت صبا.
بكى وكأنه ذاك الشاب المتحمس
بكى ظانا أنه سبب لأمه عذابا
بكى فرط شعوره بالذنب
وقرأ لنا قصيدة عمودية من أجمل قصائد الغزل
عن امرأة سعودية منقبة تجلس جواره في طائرة
وكانت القصيدة عذبة منسابة متماسكة تتناص مع قصة قصيرة لماركيز عن نفس التجربة، لكن التى جوار ماركيز كانت غير محجبة وتنام فيرحل بخيال تأملات روائي.
وكان "يحيى" مثل طفل، مثل ديوانه الأول "عيناك دنيا" يتوقف ليؤكد واقعية تلك المنقبة التي جننت مشاعره وهو في منفاه السعودي.
يحيى أصدر 25 ديوانا وكتب أخرى، والسماوة في التفاته كريمة سمت شارعاً باسمه.
محبتي صديقي "يحيى السماوي" والآن فقط تفسر لي ولك لم بكينا على ما يجري في وطننا في ليلة السماوة، وسر لوم وضحك " عامر خليل" و "حسين السلمان" من أحتراقنا.