وانهمرَ البكاءُ على غيرِ عادته سخياً ، كمطرٍ هائمٍ فوقَ وجهِ أرضٍ عطش.
تخربشُ روحي في أطراف أناملي ، وقع حوافر الغربة ثقيلاً في جسدي ، والمطر ينهمر حنوناً -على غير عادته- حتى على شوارع الإسفلت فترتجف تحت أقدامه الهاربة من حافة الأرض إلى حافتها.
أنين المدفأة همسٌ بشريٌّ يجاورني، وصراخُ الريحِ في الخارجِ يشتدُّ، تقتربُ الجدران مني هرباً من البردِ ، والأنينُ أصبحَ حشرجةُ الموتِ لكائنٍ آخرَ يُشبهني، ويشاركني أنفاسي الاخيرة...
آخرُ أنفاسُ المدفأةِ تشبه أنفاسي الأخيرة إثر كل قضية. نحترق معاَ ، أخرجُ في جنازةِ المدفأةِ إلى آخرِ قطرةِ مازوتْ. أودَع الدفءَ عنْد النافذةِ الباردةِ، وأفتحها لتضربني أقدامٌ سريعةٌ للمطرِ كانتْ تتجهُ نحو أحدِ أقطابِ الأرضِ.
جنازةٌ صامتةٌ: لا عويل ولا مقبرة. الأجسادُ مُزقٌ بشريةٌ على شوارعِ الإسفلت. ،
يستبيحُ البردُ جسديَ المرتجف وجعاً.
وأَنا ظلَ إنسان، وحدي بينَ وجعي وثلوجي.
أهو قلبي المتعب؟ أم جسدي الذي فقدَ رأسي المثقلةِ هماً ووطناً.
" أنْ يتنفسً هذا الجسدُ القليلَ منَ الدِّفء يُشعرك بشدةِ البردِ خارجاً، لذلك كان عليك أن تعتادَ البرد"
همستُ لجسدي المرتجفِ، وراحتْ يداي تصافحانِ وجهيهما بحنو.
لكنَّ الرّيح ثارتْ بوجهي غاضبةً، فدفعني البابُ إلى الخلف.
عارٍّ إلاَّ من همس ِروحي، وجسدي يلتهم جسدي.
أصبحَ الآن خارجَ خارطةِ جسدي وداخلها واحدٌ.. لا فرقَ بينهما .. تماماً كداخل الغرفةِ وخارجها أو كداخل المدفأة وخارجها...
(أمُّ محمود): تجاورني بجسدٍ نحيلٍ، تجدّ السّير من حافةِ الرّوح إلى حافةِ النافذة، ولا تغلقها
تنتظر ولداً انتزعوه في غفلةٍ من روحها الهائمة.
(يا بنيَّ: أرجوك كلَّ ما تحتاجه اطلبْه منّي.. إنَّك كولدي، وأكادُ أحترقُ شوقاً لرؤيته...)
أمي ماتت في وجهي منذ زمنٍ بعيدٍ!
يا إلهي أينقصني عبءُ أمٍّ خائفةٌ عليَّ؟
تعدُّ خطواتي ذهاباً وإياباً، حضوراً وغياباً... تنتظرني بلهفةٍ:( أتبحثُ عن شيءٍ ما ؟)
أخافُ من حنين تلك المرأة، يُشعرني بلهيبِ نارٍ باردةٍ في روحي..
(انتظرْ سأُعدُّ لك الشاي. إنَّه يُدخل الدفءَ إلى جسدك الرقيق...ألا تأكلْ ؟ سأُحضرُ لكَ القليلَ من الطعامِ ..)
وبصمتٍ حزينٍ كنتُ أراقبُ تقاسيمَ وجهِهِا، وهي تغرفُ الحزنَ صباح َمساء. أخاديدُ وجهها تشبهُ الأرضِ العطشى للخصبِ والعطاء. لا تلبثْ أنْ تبتسمَ عندما ينهمرُ المطرُ، ويغوصُ في رحمها..
(يقولون أنَّهم قدْ يمسحونَ ذاكرةَ الإنسانِ هناك .. ربَّما هكذا فعلوا بولدي..)
ويرتجف قلبي: (وما أدراكِ يا أمي ماذا يفعلون بذاكرةِ الإنسان هناك؟)
(أَتدري أنّنا ننسى كيف كنّا؟ ... وماذا كنّا؟
أنا لم أعدْ أنا منذ خرجتُ من بيد أيديهم، أنا هو ذاكَ المدفونةِ بقاياه على جدرانِ سجنٍ صغيرٍ، ليتهم ما أخرجوني لجدران سجني الأكبر! فهو لا يتسعُ للوجعِ الساكنِ فينا!
هي لا تسمعُني.. فقط تتكلمْ تارةً، وتارةً تترنّم بأغنيةٍ عنْ قهوةٍ صباحيةٍ لم تعدّها بعدْ.
قهوة ٌمازالتْ تنتظرْ حضرةَ الغياب.
(قليلٌ من القهوة يا بُنيّ لقدْ كانَ محمود يحبُّ القهوةَ كثيراً. انتظرْ سأُعدّها لك )
في غمرةِ الحزنِ أتذكّرُ إحدى رسومِ الأولاد التي سقطتْ منّي عندما خرجتُ منَ المدرسة. كانَ في اللوحةِ مدفأةٌ تنفثُ سُحبَ دخانِها إلى السّماء المُشرقةِ بالشَمس..أصابعُ الصبي التي رسمتِ اللوحة صغيرة، وكانتْ تُعيد ترتيبَ الفوضى في الطبيعةِ بصورةٍ مدهشةٍ!
في غمرةِ المطرِ سقطتِ اللوحةُ عنْد بابِ المدرسةِ.
كنتُ مسرعاً ، خائفٌ من ماردٍ ينتظرني في إحدى الزوايا.
ويحَ قلبي: لقد تركتُ اللوحةِ في الوحل..
قهوةُ أمّ محمود تذكرني بالفيلسوف الذي قال :" الوطنُ أنْ أشربَ قهوة أمي"
محمود لم يعدْ يتذكر نكهة القهوة فوق وجه الصباح؟
عندما كنتُ في المدرسة أردتُ أنْ أشرحَ للأولادِ مزجَ الألوان. إلاَّ أنَّ عيونهم الصّغيرة كانتْ تحدّق فيَّ تارة، ثمَّ تسترقُ النّظر إلى النَّافذة تارة أخرى.
أيقنتُ أنَّ عيونهم الصّغيرة معلّقة بقطراتِ المطرِ المُنهمرِ، وصوتُ الرّيح قدْ أَثار هدوءَ عقولهم.
أخرجتُ بعضَ الطباشير، وبدأتُ أرسم مدفأةً. ألسنةُ اللهبِ فيها كانتْ تُشبه رؤوساً صغيرةٍ لمجموعةٍ منَ النّاس...
ضحكَ التّلاميذ ,و أشرقت عيونهم المضيئة دمعاً وعلتْ أصواتهم: ( هل توجدْ رؤوسٌ للبشرِ تحترق داخل المدفأة يا أستاذ؟)
ثارتْ روحي المُعلقة ، وهسيس النار في جسدي. وهتفتُ دون وعي " أنا الأخضرُ في النَار"
ضحك الأولاد وتهامسوا ..( مُعلمنا لا يحترق!)
قلتُ لهم: ارسموا شيئاً عن المطر أو الشّمس أو التراب.
وقفَ أحدهم: ماذا نرسمُ يا أستاذ ؟.. هل يمكن أنْ أرسمَ كلَّ هذه المواضيع دفعةً واحدة؟ هل ألونها كلها؟
فوجئتُ بالصبيّ الصغير، وكنت كمن يكتشفه لأولِّ مرّة " هل تستطيع يا جواد؟ "
أجلْ يا أستاذ سترى!
هجمتِ الرّيح التي دخلتْ منَ النافذةِ على رسومِ الصّغار، فشرّدتها..
كانتْ الرّسوم تبدو بقعَ ضوءٍ منتشرٍ هنا وهناك.
شيءٌ ما من الضّوء المُنتشر أضاءَ روحي الغارقةِ في الظلمة..
حزنتُ للرسم الذي تركته في الوحل. و تذكّرتُ أنَّ المطرَ سيغسله..
لملمتُ أطرافَ روحي المُنتشرة ِوجعاً وأشعلتُ المدفأة..
كانتْ آخر قطرات المازوت قد نفدتْ، وقد نسيتُ ذلك عندما شردـتُ في أمِّ محمود، والأولاد في المدرسة..
استجمعتُ شجاعتي مرّة أخرى، وقررّت أنْ يستمرَّ حريقُ المدفأة.
ألقيتُ برسومِ الأولادِ عن المطرِ والشّمسِ والتراب في قلب المدفأة البارد .
تحركتُ كآدميٍّ تملل من نوم أربعين سنةِ بلا توقف.
نظرتُ من النافذةِ فوجدتُ نفسي طيفَ حلمٍ خرجَ من رؤوسهم الصّغيرة واتسع ليصبحَ بحجم ِخارطةِ الوطن.
ريحُ الجنوبِ تهدرُ بصوتٍ يشبهُ هديرَ البحرِ، تدخلُ من النوافذِ المُغلقة متجهةً صوبَ كلّ الجهاتِ لونها كالشّمس وطعمها حار بطعم المقرة البيضاء.
حريقُ المدفأة برسومِ الأولادِ أكبرُ من الغرفة ومن الحيِّ أكبر من الجنوب ، ومن الشمال . أكبر من كل شيء
كانَ الحريق ضوءاً منتشراً بحجمِ الجهاتِ الأربعة.