يرسم القاص المصري أجواء الحياة في قرية بعيدة تتحكم بها مفاهيم الخرافة والدين من خلال حدث الكسوف فيضطرب مجتمع القرية الذي تتحك به قوي دينية متطرفة تصطرع فيما بينها في الكلام والأيدي والعصي، بينما الأعمي الذي يفتتح السرد يظهر وكأنه المبصر الوحيد.

كسوف

أحمد محمد عبده

 

الضرير القابع في دهليز الدار شعر بظلام الدنيا في عز النهار, انكب وجهه على الأرض مسبحاً لرب الشمس .

قالوا له يا مولانا لا تخرج إلى الشارع حتى لا يصيبك أذىَّ . فقال لهم " ضربوا الأعور على عينه ... "

راح الشيخ يتهادى متحسساً بعصاه إلى المسجد المجاور .

كانت الخالة " بدوية " قد كشفت عن رأسها, وقفت في عرض الحارة رافعة ذراعيها, تبتهل إلى الله, كانت كأنها تلح وتتحايل على ربها أن يكشف غمة الشمس !

أما العيال فقد ضربوا بتحذيرات التليفزيون عرض الحائط, وانفلتوا يجَرْون في الشوارع والحارات . تساءلت الفتيات : نغنى للقمر ونقول :

اطلع يا قمر بنّور .

فرّح البنات الحور .

فماذا نغنى للشمس؟

الناس يفرون من بيوتهم إلى الشوارع والغيطان.

وفى آخر الحارة كانت امرأة تجرى كمن لدغتها حية, على كتفيها طفلين, لم يركنوا في منازلهم هذه المرة, مثلما فعلوا في يوم الكسوف الماضي .

من الراديو.. صوت " المنشاوى " يجلجل فى كل الأنحاء :

(إذا الشمس كورت ..)

قال لهم الضرير :

يا خلق : انظروا إذا كانت الشمس تشرق من الغرب ...؟

إذن ليست هي القيامة, إنه الكسوف الكلى, وستنكشف عنكم الغمة بفضله تعالى, أما أنا فشمسي في كسوف دائم !

كانت " دبكة " مولد العارف بالله, تتلاطم على الجدران وتتكسَّر على جريد النخيل وتتغلغل في ثنايا الدور .

ميكرفونات, صاجات, باعة عرقسوس, طلقات بنادق البمب, ابتهالات, حلقات ذكر .. الله .. الله .. حي .. حي .

أما هم فقد تغلغلوا في أنحاء المولد, بجلابيبهم البيضاء القصيرة , وذقونهم السوداء الشابة, وأجسادهم السمراء الجافة .

سياطهم كانت تشرخ الهواء, وجنازيرهم تصلصل في وجوه الخلق, كان الناس طوفانًا يتماوج عكس اتجاه موجة الخوف .

نحو الشمال يميلون, يطلبون الهروب, فيرتدون إلى اليمين, يطلبون النجاة ..

يصدمهم الخلف نحو الأمام, فيردهم الأمام في اتجاه الخلف .

دوائر الرعب تحيط بهم أينما مالوا .

اشتد عصف الكرابيج , كانوا يصبّون لعناتهم على المولد وصاحب المولد .

هيا .. هيا .. نصلى صلاة الكسوف .

الشمس انكسفت وأنتم لا " تنكسفون .. "

ثم قال واحد منهم . يقولون له يا أمير :

تضحكون ولا تبكون , تحششون ولا تجأرون .

وتريدون أن تدخلوا الجنة ...!!

قالها بوجه مخنوق وعينان تبرقان, كأنه ينظر في اللاشيء وهو لا يرى . رجلاً من ذوى العمائم الخُضر بدا كأنه يتقيأ مما انفلت من لسان " أميرهم "!

ثم واصل الأمير زعيقه قائلاً :

كل الناس .. كل الناس .. الكل يصلي صلاة الكسوف, صلاة الكسوف فرض عين على القاعد والماشي, على الآكل والشارب, على النائم فلابد أن يصحو .

صاح آخر : حتى المريض لا يعفيه مرضه من صلاة الكسوف, يصلي وهو قاعد, وهو مضطجع ..

ثم قال صبى منهم, كان يلبس ملابسهم : فإن الدين يسر !

رد واحدًا منهم كان يمشي في مقدمتهم :

يُعفى فقط من كان يواقع امرأته !

ثم أردف الأمير :

هيا . هيا يا كفرة, انقذوا أنفسكم, غارقون أنتم فاصنعوا لأنفسكم قشة.

ومن بعيد, من مدقات ومشايات قادمة من قرى مجاورة, لاحت البيارق الخضراء, ذات الحِراب والرءوس المدببة, يحملها رجال سمان ذوو عمائم خضراء وذقون بيضاء, طويلة وكثيفة مثل " لهطة القشطة ", كانوا يمشون صفًا واحدًا ــــــــ بالعرض ــــــــــ كأنهم هم الذين سدوا عين الشمس , يتطوحون يميناً وشمالاً, كأنهم يمشون على قشر بيض, يذكرون مولاهم , كان حاديهم ينادى :

يا عباد الله .. يا أهل الله .. يا هوووه ..

أقبلوا .. ادخلوا .. اصطفوا .. شمّروا . اذكروا .. اخلعوا .. مولاكم يناديكم .. لا تخيّبوا ظن صاحب المولد فيكم .

إذا كُسفت الشمس فسرّ مولانا باتع, وإذا غابت الشمس فنور الله ساطع, وصلاة الكسوف فرض كفاية, هيا فمن شاء صلاها خلفنا .

فقال الأمير :

الصلاة خلفنا نحن, فنحن أحق بها, وهى فرض عين, ومن لم يُصلّها خلفنا فقد حلَّ دمه !!

ومن جوار مقام "الولي " صرخ الضرير قائلاً :

يحق للشمس ألا تطلع علينا جميعًا .

- بل هى فرض كفاية .

- فرض عين .

- فرض كفاية

- فرض عين

- كفاية

- عين

- كفاية

- عين

- كفاية . كفاية . كفاية .

- من قال بأنها كفاية سنقلع له العينين !

وراح الضرير يضرب كفًا بكف, ثم انخرط في ترديد " اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا, اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا "

وتصطدم الكلمة بالكلمة, واللكمة باللكمة, وتشتجر النداءات والصراخات , تحتك الأجساد, تتناطح الرؤوس, تصلصل الجنازير, تصطك السيوف, تلسع السياط , تهشم النبابيت, تنغرس البيارق المدببة , تطرقع الأكف على الوجوه العريضة, تهشم القبضات عظام الوجوه النحيفة,

ترتطم الأجساد على الأرض, تتعرى, ويسيح الدم على الدم !!!

رمادية تكاد الرؤية تنعدم فيها .

مر الظهر مثل العصر مثل غبش المغارب, وعلى هامش هذا الهيجان, كان عمال البلدية .

قد وزعوا أنفسهم في ساحة المولد, وفى ضواحي البلد, وفي الشوارع والحارات , راحوا يُعلقون المصابيح الناقصة في أعمدة الإنارة, بعد أن قال لهم مشرف البلدية بأن القمر - هو الآخر - سوف يصيبه الخسوف !