بغض النظر عن تاريح ونشأة المسرحية، والبحث في أسباب تأخر ظهور المسرح عند العرب، يتناول الباحث التراث الشعبي الجزائري، ويتتبع الظواهر شبه المسرحية فيه، مثل تلك التي تتميز بسمات حكائية كالقوال والمداح، أو عروض الأداء التمثيلي مثل الحلقة والأرجوز والفارس الشعبي.

الأصول التاريخية لنشأة المسرح الجزائري

دراسة في الأشكال التراثية

العـيد ميـرات

 

تمهيد
يتفق جل الباحثين على أن المسرح بالمفهوم الحديث، أي باعتباره نوعا أدبيا، وفنا له أصوله وقواعده المتعارف عليها، ظهر في الأدب العربي حديثا، وذلك بعد اتصال العالم العربي بالحضارة الغربية. وبغض النظر عن الحديث عن نشأة المسرحية والبحث في أسباب تأخرها عند العرب، فإن تراثهم لم يخل من ألوان قصصية وتمثيلية تكاد تكون صورا مسرحية، نابعة من تصورات فكرية ارتبطت بمراحل تاريخية وبظروف اجتماعية وسياسية معينة. ويبدو ذلك من خلال الإنتاج المسرحي عند الرواد الأوائل الذين تأثروا إلى حد بعيد بالتراث الشعبي(1).

وإذا كان اتصال الجزائر بالحضارة الأوروبية من خلال الاستعمار الفرنسي قد جاء مبكرا، فإن المسرح في هذه البلاد لم يظهر للوجود إلا بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، أي بعد مضي قرن من الزمن على الاحتلال. على أن هذه الظاهرة كان لها ما يفسرها ويبرر وجودها من أسباب مادية ومعنوية، ساهمت بصورة أو بأخرى في تأخير نشأة المسرح في هذا القطر العربي.

لقد كانت عملية الاستعمار ظاهرة صراع فكري وحضاري، فضلا عن كونها ظاهرة صراع اقتصادي وسياسي، استهدفت منذ البداية القضاء على الثقافة العربية في الجزائر، وطمس معالم الشخصية الوطنية. وقد ترتب على ذلك كله جمود فكري عاق تطور الثقافة العربـية بشكل عام والحركة الأدبية بشكل خاص، وكان الواقع الحضاري ينطوي على ألوان من الثقافة التقليدية. فظل الشعر هو الفن الأدبي السائد إلى جانب علوم الدين وعلوم اللغة وشروح المصنفات.

كذلك ازدهر الأدب الشعبي على اختلاف أشكاله التعبيرية، حيث أصبح يمثل مصدر التسلية الأساسي لكثير من الطبقات التي قل حظها من الثروة، خاصة البورجوازية الصغيرة والمتوسطة.

على أن ما يميز هذه الثقافة بشكل عام، وبغض النظر عن قلتها من حيث المؤلفات المبتكرة "أنها كانت ثقافة وطنية، أصيلة تستمد قوتها من التراث القومي وتستخدم اللغة القومية للتعبير عن ذاتها"(2).

ولعل ما تنبغي الإشارة إليه هنا، أن الواقع الثقافي المتردي، مرجعه الحصار الثقافي المضروب على الشعب من قبل الاستعمار، الذي استهدف قطع الصلات الحضارية بينه وبين أشقائه المغاربة والمشارقة. وذلك بعزله عن كل الروافد التي كانت تغذيه وتنميه، وعن التفاعلات الثقافية التي شهدها العالم العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر.

ولما كان الفن وبضمنه الأدب يتأثر بكل ما يحدث من تحولات اجتماعية وسياسية في المجتـمع فإنـه ظل خاضعا للأشكال والمضامين التقليدية كالشعر، والمأثورات الشعبية مـتمثلة في الألوان القصصية والتمثيلية، ولازمت هذه الظاهرة الثقافة العربية في الجزائر حتى ظهور الحركات الوطنية وبداية النهضة.

وإذا كان الجزائريون لم يعرفوا المسرح بالمفهوم الحديث إلا في مطلع القرن العشرين، فإن تراثهم لم يخل من الفنون القصصية والتمثيلية الشعبية التي أفرزتها ظروف تاريخية معينة كالـرواية الشعبية، والحلقة، والمداح، والأراجوز، وهذا الموروث الشعبي على بساطته كان يشكل جزءا هاما من مكونات الشعب الثقافية والفكرية، وتجسد ذلك في الإنتاج المسرحي الشعبي الذي انطلق في سنة 1926 على يد كل من علالو ورشيد القسنطيني وباش طارزي. فكان هؤلاء يستمدون موضوعاتهم من التراث الشعبي، كالسير الشعبية وحكايات ألف ليلة وليلة… فضلا على أنهم كانوا يخاطبون الجمهور بلغته العامية لأنه لم يكن على مستوى عال من الثقافة المسرحية وعلى دراية بهذا الفن بحكم ظروف الاستعمار، ورغم ذلك كان يتفاعل مع العروض المسرحية ويتجاوب معها لأنها كانت تمثل الواقع الاجتماعي وتصور الحياة اليومية المضنية للفرد الكادح.

عرفت الجزائر في القرن التاسع عشر، وقبل النهضة المسرحية، فنونا شعبية مختلفة، لقيت رواجا كبيرا وكان لها جمهور لا يستهان به ؛ لكن لم يصلنا منها شيئا بالإضافة إلى أننا لا نجد لنصوصها أثرا في الكتب التي أرخت للمسرح الجزائري باستثناء بعض الإشارات والأوصاف البسيطة التي تؤكد على وجودها وانتشارها.

1- الألوان القصصية الشعبية

كان المجتمع الجزائري في ظل الحكم التركي مجتمعا طبقيا، يحكمه نظام إقطاعي، تديره طبقة إقطاعية تركية مترفة، إلى جانب فئة من الأعيان الجزائريين. وكان هؤلاء الذين يمثلون السلطة الحاكمة في البلاد يعيشون في ترف وبذخ ويزدادون غنى يوما بعد يوم، فيما كانت غالبية المجتمع وهم من الفلاحين يعانون من الجوع والفقر المدقع.

وفي غياب الوعي السياسي والاجتماعي وتفشي الجهل من جهة، وتسلط الطبقة الحاكمة - لما أوتيت من سند الحاكم ووسائل القهر والقمع - من جهة أخرى، استطاعت هذه الطبقة أن تمارس نشاطها السياسي والفكري وما إلى ذلك من النشاط الإنساني، كما أنها أمنت وجودها وسيادتها ودخلها.

ثم ازدادت الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الجزائر تدهورا أثناء الاحتلال الفرنسي نـتيجة السياسة الاستيطانية التي كان يمارسها إزاء الأهالي، أرادت من خلاله تحويل الجزائر إلى مقاطعة فرنسية تقع وراء البحر الأبيض المتوسط. ولذلك تم اللجؤ إلى غزو الجزائر إيديولوجيا وثقافيا. وتجسدت نوايا فرنسا الاستعمارية في الاستراتيجية التي اتبعتها في تثبيت وجودها في المنطقة. ويبدو ذلك في التغـير الجذري الذي حدث على الصعيد الاجتماعي حيث فجرت البنية الاجتماعية الأصلية، فظهرت إثر ذلك طبقات اجتماعية جديدة أخذت في التنامي، واحتدم الصراع الطبقي نتيجة تطور عملية الاستعمار والممارسات الاستعمارية المضاعفة الآتية من المعمرين.

وترتب على تلك الأوضاع الاجتماعية والسياسية المتردية التي آل إليها المجتمع، علاوة على الفشل في الحياة السياسية، خيبة أمل كبرى أدت إلى اليأس والتذمر الشامل لدى أوساط الشعب. ولم تجد فئات الشعب المقهورة سبيلا إلى التغيير فلجأت إلى الانطواء على نفسها والاستكانة للهروب من هذا الواقع المر الذي فرضه الاستعمار.

واتخذ هذا الهروب من الواقع مظهرين سادا طيلة الفترة الاستعمارية وحتى تاريخ اندلاع الثورة المسلحة. ويتمثل المظهر الأول في الحركة الزهدية التي ساعد على ازدهارها الاتجاه الصوفـي، وانتشار الصوفية التي اتخذت من الزوايا منابر لها تدعو لأفكارها، فاستقطبت فئات عريضة من الشعب وجعلتها تعتزل الحياة السياسية وترغب عنها، وانعكست آثار ذلك على أفعالهم وسلوكهم في المجتمع(3).

أما المظهر الثاني فيتجلى في إقبال الناس على التراث الشعبي من قصص وحكايات شعبية، والاهـتمام بها لما كانت توفره لهم من عالم وهمي، فضلا على ما كانت "تنطوي عليه من أعلام مهدئة مخدرة تمنح العزاء للبأس والرجاء لليأس والسلوى للمحروم والعدل للمظلوم"(4).

وتأتي أهمية التراث الشعبي من حيث أنه كان البديل الخيالي للواقع كما كان " تعبيرا رومانسيا عن آمال الشعب الذي كان يرتاح إلى هذا التعبير لأنه يصور له العالم الجميل الذي يصبو إليه"(5) لاسيما بعد التغيير الذي طرأ على الصعيد الاجتماعي والسياسي إثر عملية الاستـعمار، حيث أصبح الفرد يعيش صراعا مع واقع يرفضه من جهة وهو عاجز عن إحداث أي تغيير فعلي فيه، كما أنه يعيش في الوقت ذاته صراعا مع بقية الفئات الاجتماعية من جهة أخرى مما أدى إلى تعاظم مأساته وتضاعف معاناته.

من ثم لجأ الإنسان الجزائري إلى الأدب الشعبي -بغض النظر عن أشكاله التعبيرية المختلفة- لأنها تحقق له "حياة العدالة والحب التي يحلم بها… وتقدم بوسائلها الخاصة جوابا شافيا عن السؤال الذي يدور بخلد الشعب عن مصيره وكأنما تود أن تقول له هكذا ينبغي أن تعيش خفيفا متفائلا متحركا مغامرا مؤمنا بـالقوى السحرية في عالم الغموض الذي تعيشه"(6).

وتظل أحلام الشعب وأمنياته معلقة ومصيره مبهما طالما لم يظهر البطل المخلص للأمة. ولهذا نلقى فكرة البطل المخلص واردة في الأدب الشعبي، وتعتبر خاصية أساسية من خصائصه بشكل عام. على أنها تتجلى بوضوح في السير والملاحم الشعبية. وقد استطاع الخيال الشعبي بما أوتي من إمكانات إبداعية وخيالية أن يقدم صورة البطل الذي يأتي على يده خلاص الأمة العربية وتغيير قيمها الأخلاقية ونظمها الاجتماعية والسياسية، وذلك بهدف خلق مجتمع جديد ونصرة شعب عاش طويلا في ظل الفوضى والعبودية(7).

والبطل في المأثورات الشعبية يمثل المثل الأعلى للبطولة لاسيما لأنه يعبر عن الصراع بين الشعب وبين أعدائه، ولابد أن ينتصر عليهم في آخر الأمر، وكي يصل إلى هدفه النهائي نجد الخيال الشعبي يسبغ عليه المبالغة في القوة، فيبدو ذا قوة خارقة بدنية وعقلية تجعل منه بطلا فذا، وهو إلى ذلك يستعين بعناصر أسطورية، كالسحر والجن وأمور أخرى غيبية. وبهذه الصورة يبدو قادرا على كل شيء "لا يعرف الهزيمة أبدا ولا يحدث نصر إلا على يديه، وحياته سلسلة من الأعمال العظيمة والمغامرات العجيبة التي تروع المستمعين… وهـكذا يصير فارس القوم وأحد الشجعان في زمانه، لا يتحقق نصر إلا به ولا تصدر فضيلة إلا عنه"(8).

وقد استطاع البطل في الأدب الشعبي وخاصة في السير والملاحم الشعبية أن يقدم الكثير مـن الحلول الطوباوية لمسائل عديدة ظلت تؤرق الطبقات الشعبية الفقيرة لفترة تاريخية طويلة، على أن هذا البطل الذي عاش ولازال يعيش في وجدان الشعب استطاع أن يسد حاجة الـمبدع العربي لتغطية المراحل التاريخية المختلفة للوطن العربي ككل في مواجهاته لأعداء حدوده التقليديين. فعن طريق الأحداث الملحمية التي تثبت في السير الشعبية حول البطل الشعبي أمكن إعطاء البعد الاجتماعي والإنساني والفني لأشهر الأحداث التاريخية في المنطقة العربية قبل وبعد الإسلام. والواقع أن السير الشعبية يمكن أن تمثل الكتابة الشعبية للتاريخ العربي. أو يمـكن أن تمثل الرؤية الاجتماعية لواقع المكونات الرئيسية في المجتمع العربي، أثناء لـحظات التمزق الذي عاناه هذا المجتمع في لحظات تكونه… ولحظات التدمير… وكذلك التفسخ الذي أدى إلى ظهور طبقات غنية متحكمة جامعة بموروث الشعب وآماله وأحلامه(9).

وإذا كانت أشكال التراث الشعبي على اختلافها تغلب عليها الصبغة الاجتماعية في تناولها لأحداث القصة، فإنها لا تخلو من البعد السياسي، ويبدو ذلك -وعلى وجه الخصوص- من السير والملاحم الشعبية، إذ الأحداث فيها تعكس لنا واقعا تاريخيا بكل صراعاته وتـطلعاته في ظل ظروف تاريخية بعينها عاشها المجتمع العربي، وقد يكون هذا الصراع داخـليا وخارجيا. ويتمثل الوجه الأول منه في الصراع الطبقي القائم على أساس إيـديولوجي بالإضافة إلى تجسيد علاقة الحاكم بالمحكوم. أما الوجه الثاني للصراع فهو ما كانت تصوره السير من اضطرابات وحروب كان يخوضها المجتمع العربي ضد مجتمعات أخرى نتيجة مشكلات سياسية.

ولاشك أن القصص الشعبي قد لعب دورا خطيرا في حياة المجتمع العربي خلال مراحل تكونه الطويلة. ولعل ما قدمه لتاريخ الحضارة العربية جدير بالاهتمام والدراسة، إذ كان بمثابة ذاكرة الشعب حيث حافظ للأجيال عبر مراحل تاريخه طويلة بمعلومات ثمينة عن تاريخ أسلافهم وصور لهم مجتمعاتهم بمتناقضاتها وعاداتها وأفكارها ظلت تتناقل شفهيا جيلا بعد جيل.

وفي ضوء ما سلف يمكننا ذكر مسألة كثيرا ما تثار بصدد الحديث عن الغرض من رواية القصص الشعبي. على أن التمييز بين أنواع الأدب الشعبي لا يتأتى بشكل دقيق إلا بالاعتماد على الوظيفة التي يؤديها كل نوع دون غيره. ولذا من الضروري أن نميز بين هذه الأنواع على أساس من الوظائف والحوافز، فهي تغلب بعض الأشكال والمضامين عل غيرها. غير أنه يبدو أن الأدب الشعبي بصورة عامة قد أدى وظيفتين أساسيتين هما التعليم والإرشاد ثم الترفيه والاستمتاع بتلك الحكايات الخرافية التي كانت تجد فيها فئات الشعب المغلوبة على أمرها سلواها الوحيد. ولذلك حاول -الأدب الشعبي- في مجمله لاسيما ألف ليلة وليلة "أن يخلق عالما وهميا جماليا تعويضيا يستطيع أن يطرح حلولا مثالية طوباوية، ولكنها غير واقعية أو عملية للمشكلتين الإجتماعية والسياسية"(10).

- المداح والقوال

ولقد حظي الأدب الشعبي في الجزائر باهتمام كبير من قبل فئة الشعب فكان الأدب الفكاهي لا سيما الحكاية الشعبية التظاهرة الفنية الأولى التي عرفها المجتمع حيث ازدهرت على يد شعراء ورواة شعبيين متجولين يشبهون إلى حد ما شعراء التروبادور(11) "وكان هؤلاء الفـنانون الشعبيون في الغالب من المغاربة يجوبون المدن والقرى الجزائرية كي يقدموا عروضهم التي كانت تروي حكايات خرافية وأساطير عجيبة يستعين فيها الراوي بالحركة"(12) للتعبير عن المواقف الحادة ولشد انتباه المتفرج.

وكانت هذه العروض تلقى صدى عميقا لدى الجمهور، وكثيرا ما كانت تنال إعجاب ورضا شيوخ القرى فيكرمونهم ويستضيفونهم أياما للاستمتاع بفنهم.

ثم ظهرت في مرحلة من مراحل تطور المجتمع أشكال جديدة يذكر بعض الباحثين منها "الحلقة" و"المداح". والحلقة هي شكل من أشكال الفرجة المسرحية التي كانت معروضة في بلاد المشرق العربي كمصر وسوريا، أما المداح فهو الحكواتي، وكان هؤلاء المداحون محبوبين جدا في الجزائر كما كان لهم جمهورهم العريض الذي يرتاد مجالسهم(13).

لقد كان المداحون أو الرواة يقدمون عروضهم في الأسواق الشعبية والساحات العامة حيث تلتف حولهم حشود من المتفرجين، يستمعون بشغف لأحداث القصة، ويراقبون باهتمام حركات الراوي فيبدو الواحد منهم وكأنه طرف في القصة، "فمن هنا جاءت فعالية المتفرجين القصوى حيث لا يحسب الواحد منهم أنه مجرد مراقب بل هو مشترك ضروري في كل ما يحدث أمامه"(14).

ولعل سبب نجاح تلك العروض، يرجع إلى ما تتوفر عليه الرواية الشعبية من عناصر درامية من ناحية، وما كان يبديه الراوي الشعبي من براعة وموهبة فنية أثناء عملية الحكي. وبالرغم من خلو المأثورات الشعبية من الجمالية المسرحية وتقنيات الفن المسرحي الحديث، فإن الراوي استطاع من خلال وسائله الخاصة وما أوتي من إمكانات خياله الإبداعية، وقدراته في الأداء الدرامي أن يتقمص شخوص القصة ليخلق مشاهد مسرحية منسجمة، مـستعينا في ذلك بالحركة والكلمة. وهو فضلا عن ذلك كان معلقا على أحداث القصة عن طريق السرد(15).

وقد أفلح الراوي من خلال أدواته الفنية المتاحة له والمتمثلة في الكلمة المنطوقة والحركة أن يؤثر في جمهوره ويشد انتباهه إليه، وقد توصل من خلال ذلك إلى خلق رباط خفي بينه وبين الجمهور يكاد يكون هذا الرباط الخفي بمثابة الإيهام المعروف في المسرح الحديث، كذلك كان يلجأ في كثير من الأحيان إلى الغناء والرقص وعزف الموسيقى بهدف بعث الحياة في القصة وإبعاد الملل عن المتفرجين(16).

ومن هنا يتسنى لنا ملاحظة الفروق القائمة بين الراوي والممثل المسرحي، "فإذا كان الـممثل يجسد النص المسرحي فعلا وحركة فإن الراوي كان يجهد نفسه في تجسيد نص الحكاية وتقريبه إلى إفهام العامة وتصوراتهم"(17) معتمدا في ذلك على الكلمة والأداء الحركي وتقنيات أخرى. غير أن تكوين الراوي لم يتكامل بصورة إيجابية ليتطور إلى ممثل بالمفهوم الحديث.

وإذا كان بعض الدارسين يرجعون نشأة هذه الألوان القصصية في كثير من البلاد العربية إلى الطقوس الدينية مثل "التعزية"، ثم تفرعت عن هذه الفنون الطقسية ألوان أخرى من العروض عنيت بالناحية الدنيوية، فإننا في الجزائر نجد الأمر يختلف، إذ أن ما كان معروفا هناك، كان يخضع للفرجة المسرحية وينـزع نحو الانسلاخ عن العروض الطقسية، هذا بخلاف باقي بلدان المغرب العربي التي ظهرت فيها عروض التعزية كمراكش وتونس(18).

والجدير بالذكر أن ما كانت تقدمه هذه الأشكال الشعبية، "كالمداح" و"الحلقة"، على بساطته، كان ينطوي على مضامين حية تصور الواقع الاجتماعي والحضاري المتردي للمـرحلة التاريخية السائدة، ولذا فطن الاستعمار للدور الذي يمكن أن يلعبه الراوي في التأثير على جمهوره وبالتالي بعث الوعي الاجتماعي والسياسي لدى أوساط الشعب الفقير والمقهور. وعلى هذا الأساس لجأت السلطة الاستعمارية إلى محاربة المداحين والرواة الشعبيين وفض مجالسهم(19).

ولا ريب في أن موقف الاستعمار العدائي من هذه الفنون الشعبية وممارسيها، كان عاملا أساسيا، قد أثر تأثيرا سلبيا على تطور هذا الفن من حيث الشكل من ناحية، كما أنه حال دون تطور الراوي الذي لم يجد المناخ المناسب ليطور أدوات فنه كي يتحول إلى ممثل خالص.

2- الألوان الشعبية التمثيلية

لقد شهدت الجزائر في القرن التاسع عشر أشكالا تمثيلية محلية، إلى جانب القصص الشعبي الذي كان يتم عن طريق الحلقة والشعراء المداحين في الأسواق. وكان لهذه الأشكال التمثيلية تقنياتها وقواعدها الخاصة التي أخذت تتكامل عبر التطور التاريخي، ويـذكر يعقوب لانداو، أن هذه التمثيليات كان لها مظهران: الأراجوز والفارس الشعبي، ويصفها بأنها كانت تشبه مظاهر المسرح المصري قبل عهد الخديوي إسـماعيـل(20).

- الأراجوز

يعد الأراجوز من الألوان التمثيلية –إلى جانب خيال الظل– التي عرفها العالم العربي بشكل عام. وإذا كان هذا النوع من المسرح الشعبي قد عرفته بعض أقاليم المشرق العربي كمصر والشام في وقت مبكر يرجع إلى القرن العاشر الميلادي، حيث تطور وازدهر، وأصبحت له نصوصا مدونة، باستثناء بعض الأخبار الـتي تؤكد انتشاره، وتـذكر لـنا ذلك شهادات بعض الرحالة الأوروبيين الذين رأوا عروضا للأراجوز في المغرب العربي بشكل عام والجزائر بشكل خاص.

وإذا كانت هذه الأخبار التي وصلتنا، تختلف في تحديد الفترة التي دخل فيها هذا الفن إلى الجزائر بدقة، والظروف التي أحاطت بنشوئه، فإن وجوده قد ثبت في تلك البيئة حيث كان مصدر تسلية وترفيه لدى فئات الشعب والحكام الأتراك. على أن بعض الدارسين، يذهب إلى أن الأراجوز قد دخل الجزائر في القرن السابع عشر على يد الأتراك الذين جلبوه معهم للتسلية وقت الفراغ خاصة في شهر رمضان. وأول ما ظهر كان في المدن والمناطق حيث يتجمع الأتراك، ثم انتشر بعد ذلك عبر كل البلاد(21).

- الفَارْسْ الشعبي

وإلى جانب الأراجوز الذي ظل حيا رغم مضايقات الاستعمار، ازدهرت بعض التمثيليات القصيرة، لاسيما في نهاية القرن الماضي. وقد عنيت تلك التمثيليات بمضامين مختلفة دينية ودنيوية، كانت تمثل في الغالب في المناسبات كالمولد النبوي ومواسم الحج والأعراس. ويذكر محي الدين باش طارزي أن بعض الحجاج كانت تمثل رحلاتهم بهذه المناسبة أمام الجمهور في الساحات العامة. ومن هؤلاء الحجاج سيدي محي الدين الطيار، وسيد ابراهيم الغبريني وسيدي أحمد بن يوسف(22).

وكان هذا الشكل التمثيلي الجديد عبارة عن فصل أو مشهد كوميدي قصير يقدم في مناسبة معينة، ويعرض قصة هي في الغالب مستوحاة من واقع الطبقات الشعبية(23). ولذا ظهر في البداية في المناطق الريفية ثم انتقل بعد ذلك إلى المقاهي والساحات العامة بالمدن.

وإذا كانت معالم هذا اللون التمثيلي في الجزائر، تبدو باهتة، إذ يصعب على الباحث دراسته وتحديد أبعاده نظرا لانعدام الدراسات فإنه قد ثبت وجوده وازدهاره في بعض البلدان العربية، لاسيما مصر والعراق حيث كان "يسمى بـ"الإخبار" وهو عبارة عن ديالوجات تتضمن الطرائف والعراك ". وقد أطلق عليه أيضا اسم "الفصل المضحك"(24) هذا، بينما تؤكد الباحثة تمارا أنه نوع من الفارس الشعبي على أساس أن الفصل المضحك ذو مفهوم أوسع يخضع لعناصر الكوميديا وعناصر الفارس الأوربية، فضلا على أنه كوميديا مرتـجلة. وهـذا ما لم يتوفر في الفارس الشعبي العربي، وبالتالي فإن هذه التمثيليات الهـزلية –في نظر الباحثة– تشبه إلى حد بعيد "الفابل" الفرنسية وكوميديا "ديل آرتي" الإيطالية(25).

لقد كان للفارس الشعبي ممثلوه المختصون وجمهوره، وقواعده، وكانت أحداث القصة التي يقدمها بسيطة تقوم في الغالب على تصوير سلوك الناس في المجتمع وما يتخلله من متناقضات مثيرة للضحك والتهكم، يؤديها أشخاص عددهم غير محدود، عن طريق الحوار والحركة. أما الغاية منه فهي التسلية والترفيه. وهو إلى ذلك لم يكن يخلو من أشكال النقد الاجـتماعي وتعرية المجتمع العربي بشكل عام، بما كان يسود فيه من فساد، ووضعت الخطيئة بشكل مكشوف مقابل البراءة والجنة مقابل جهنم، والحيل الذكية مقابل المراءاة وجرى فضح الآفات الاجتماعية كالمراهنة والظلم والرشوة وتواطؤ القضاء"(26). واخـتلفت المواضيع باختلاف البيئات الاجتماعية العربية، فلذا اكتسى الفارس الشعبي العربي طابعا محليا.

وبالرغم من التشابه بين الأراجوز والفارس الشعبي من حيث الطابع الكوميدي الذي يسودهما والغاية التي يهدفان إليها، فإن ثمة فروق جوهرية بينهما، فالفارس يعتمد كليا على الأداء البشري ولا يلجأ إلى الدمى كما هو الحال في الأراجوز، والشخصية في الفارس تندمج مـع الشخصية التي تتقمصها أو تلعب بدورها، وهي إما شخصية واقعية مستوحاة من المـجتمع، أو خيالية. ثم يترتب عن ذلك مسألة أخرى هي الحوار، فعندما كان الحوار في الـرواية الشعبية والأراجوز حوارا مباشرا مع الجمهور المتفرج، تحول في الفارس إلى حوار غير مباشر يتم بين الممثلين الذين يعرضون أحداث القصة دون التخاطب مع المتفرجين.

ولعل ما يمكن استخلاصه من هذا كله، هو مراحل تطور شخصية الراوي الشعبي، حيث أنها اتخذت عدة أشكال وأبعاد جديدة عبر تطورها التاريخي، وتجسدت تلك التطورات في الأراجوز والفارس الشعبي. وقد مهدت هذه الأشكال التمثيلية الشعبية كلها لظهور الممثل وولادة المسرح الحقيقي.

على أن ما كان يميز تلك الأشكال -بالرغم من خلوها من الجمالية المسرحية وتقنيات الفن المسرحي الحديث- أنها كانت تنطوي على مضامين حية تصور الواقع الاجتماعي والحـضاري للمرحلة التاريخية التي ولدت فيها، وهي مرحلة تاريخية حاسمة اتصفت بخصوصية العمل في سبيلين متلازمين هما مكافحة الاستعمار ووجوده وثقافته، واستنباط الماضي بعطاءاته الفكرية ليوجهه ويؤهله للمعركة الفاصلة. ومن ثم شهدت هذه الأشكال نوعا من التطور النسبي خلال حياتها في ظل الأوضاع الاستعمارية.

(مكلف بالدروس بكلية الآداب، اللغات والفنون، قسم الفنون الدرامية)

(نقلا عن إنسانيات، المجلة الجزائرية في الانثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية)

* * *

الهوامش

(1) أنظر: يعد دغمان، الدين. الأصول التاريخية لنشاة الدراما. الجامعة العربية بيروت، لبنان 1973، ص.73.

(2) طالب الابراهيمي، أحمد. من تصفية الاستعمار إلى الثورة الثقافية، ترجمة حنفي بن عيسى. الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. ص.14.

(3) انظر: مرتاض، عبد المالك. فنون النثر. ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر، د.ط، 1983. ص.37.

(4) دغمان، سعد الدين . الأصول التاريخية لنشأة الدراما. ص.75.

(5) ابراهيم، نبيلة. قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية. بيروت، دار العودة، 1974. ص.7.

(6) ابراهيم، نبيلة. أشكال التعبير في الأدب الشعبي. القاهرة، دار المعارف، الطبعة الثالثة. ص.103.

(7) ابراهيم، نبيلة. المرجع السابق. ص.171.

(8) دغمان، سعد الدين. الأصول التاريخية لنشأة الدراما. ص.ص. 80 – 83، وانظر أيضا يونس، عبد الحميد. إيزيس والبطل في الأساطير والملاحم الشعبية. مجلة الهلال، عدد فبراير 1986. ص.25.

(9) خورشيد، فاروق. السير الشعبية. القاهرة، دار المعارف. ص.41.

(10) دغمان، سعد الدين. الأصول التاريخية لنشأة الدراما. ص.87.

(11) انظر:
BADRI, Mohamed. Sources et origines du théâtre Algérien. Révolution Africaine, N° 322, 1970. p. 21
أنظر أيضا:
ROTH, Arlette. Le théâtre Algérien de langue Dialectale. Paris, François Maspero, 1967. p. 14

(12) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

(13) انظر : الكساندوفنا، تمارا. ألف عام وعام من المسرح العربي، ترجمة توفيق المؤذن. بيروت، دار الفرابي، الطبعة الأولى، 1981. ص.60.
وانظر أيضا: لانداو، يعقوب. دراسات في المسرح والسينما عند العرب، ترجمة أحمد المغازي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972. ص.40.

(14) المرجع السابق. ص.35.

(15) أنظر: بورايو بن الطاهر، عبد الحميد. القصص الشعبي في منطقة بسكرة. رسالة ماجستير جامعة القاهرة، 1978. ص.45.

(16) انظر: المرجع نفسه. ص.64.

(17) دغمان، سعد الدين. الأصول التاريخية لنشأة الدراما. ص.88.

(18) أنظر : تمارا، أ. ألف عام وعام من المسرح العربي. ص.ص. 45-46.

(19) أنظر : صبيان، نور الدين. اتجاهات المسرح العربي. ص.18.

(20) انظر: لانداو، يعقوب. دراسات في المسرح والسينما. ص.182، وانظر أيضا، دودو، أبو العيد. مجلة القبس، عدد 50، 1969. ص.93.

(21) انظر:

ROTH, Arlette. Le théâtre Algerien. P. 14.
وانظر أيضا:

ARNANDIES, Fernand. Histoire de L’opéra d’Alger. Alger, Ed N. Heintz, 1941.- p. 19

(22) أنظر : BACHTARZI, Mahieddine.- Mémoires . Alger, S.N.E.D., 1969, Tome I. p.p. 33, 34, 35
حيث يذكر بعض أسماء محترفين، بالإضافة إلى نموذجين من هذا الفارس الذي كان مشهورا قبيل الحرب العالمية الأولى.

(23) انظر:

ROTH, Arlette. Le théâtre Algerien. p. 2.
وانظر أيضا: الهواري، م ع.؛ القسنطيني، رشيد. رائد المسرح العامي في الجزائر. جريدة الشعب، (جزائرية)، عدد 23 مارس 1971. ص.22.

(24) تمارا أ. ألف عام وعام من المسرح العربي. ص.75.

(25) أنظر : المرجع نفسه. ص.ص. 75-76.

(26) المرجع نفسه. ص.77.