ليس هذا مجرد تكريم لكاتب رحل قبل الآوان، وكرس شعبيته والتف حوله قراءة، ولكنها أيضا قراءة دالة لمفارقات الواقع المصري وهي تكتب بقوة الصدفة والتناظر قوانين الزعامة، بعيدا عن المنافقين وكلاب الحراسة. هنا تؤكد مصر، عبر شبابها رأيها أمام ضربات الثورة المضادة وهي تئد أحلامها في العدل والحرية.

أحمد خالد توفيق؛ كاتبٌ استوى زعيماً

عاطف سليمان

 

لعل من المتوجِّب عليَّ، بصفتي كاتب هذه المقالة، الإقرار بحقيقتيْن للأمر؛ حقيقةُ الأمر الأولى هي أني أكتبُ ما أكتبُ الآن عن شخصٍ لم أعرفه من قبل، ولستُ أعرف عنه سوى أنه «قد اختنقَ حَلْقُه» مرةً سنة 2011، للحظاتٍ، ثم استأنفَ العيْشَ بعدما أسعفته الصدماتُ الكهربائية الطبية. وحقيقةُ الأمر الثانية هي أني أكتبُ الآن عن كاتبٍ شهيرٍ، بدأ ينشر كُتبَه منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، ولم يسبق لي أنْ قرأت صفحةً واحدة من كُتبِه، وأنا أذكرُ هذا التصريحَ في سياقِ تقريرِ حقيقةٍ تخصُّني، من دون أن يُفضي ذلك إلى دلالةٍ مُحدَّدة أو حُكمٍ بالاستحسان أو الاستقباح. وعلى الرغم من ذلك فقد كان لي أنْ أعاصِرَ لحظاتِ وداعِه من خلال قُرَّائه وجمهورِه ومحبيه، بل أيضاً من خلال الآلاف من أبنائه وبناته الذين، على الفور، أسموا أنفسَهم «يتامى» بحزنٍ واعتزاز.

شهدت ربوعُ المحروسةِ انتخاباتٍ لم يأبه المصريون بإجراءاتِها، ولم يأبهوا لنتائجِها، واقتصرَ اهتمامُهم بها على السخرية منها وإطلاق الفُكاهاتِ كالرصاصاتِ عليها، فمرت أيامُها فاترةً، من دون أن تفلح حملاتُها الدعائية المشدَّدة المترفة ومكبراتُ صوتها الزاعِقة وحتى رقصُ الراقصات بساحاتِها وباحاتِها في زحزحةِ الجمهور وإغرائه بالالتفات إلى الزمبليطة أو في بَثِّ سخونةٍ في هذا الحدث الذي لا تنعقدُ له أيةُ قيمة من دون هذه السخونة بالذات.

في مساء يوم إعلان نتيجة هذه الانتخابات الخاوية تدفَّقَ أمامي، على صفحتي في «فيس بوك»، موكبٌ من منشوراتٍ متتالية تحملُ نصوصاً مُقتضَبة تكادُ تكون تكراراً لبعضها البعض: «لا أصدِّقُ»، متبوعةً بأيقوناتٍ لوجهٍ يبكي أو وجهٍ دامعٍ أو مذهول. لم أدرِ ما الأمر، فقرأتُ قدراً من التعليقات والحواشي، وفهمتُ في البداية أنَّ شخصاً مُهماً قد مات أو أصابه مكروه أو حَدَثَ منه تصرُّفٌ غير متوقَّع أو غير لائق. غير أنه لم يصادفني، بعدُ، منشورٌ يصرِّحُ بما أرغبُ في معرفته.

بعد حوالي ساعةٍ تغيَّرت صيغةُ موكب المنشورات إلى: «لن أصدِّق»، وقد أُحيطت أيضاً بالوجه الباكي والدموع، مُضافةً إليهما الرمزيات الدَّالة على العنادِ والصمود!

تكررت في المنشورات الجديدة صيغةُ «أبونا الروحي»، «أبانا الروحي»، «أبينا الروحي»، «العرَّاب» بالإضافة إلى صِيَغٍ أخرى تحملُ أيضاً دلالاتِ الارتباط الوثيق. وأثارَ دهشتي ذلك الاتفاقُ العجيبُ، في ما طالعتُه من منشوراتٍ، على اجتنابِ ذِكْر ألفاظِ «الموت» صريحةً، بل أيضاً على إغفالِ ذِكْر «اسم» الشخص. لكن الأخبارَ المباشرة، من وسائل الأخبار المحترِفة، كانت على عادتها المستقِرة؛ لا تحفلُ بالرهافة، ولا قِبل لها بالكياسة، فصرَّحت باِسم الشخص، وأعلنت موتَ أحمد خالد توفيق.

لمستُ تماماً، بالطبع، المشاعرَ التي تترى في النفوس الكائنة وراء تلك المنشورات، واتضحَ لي جليَّاً أن حزناً نقيَّاً هائلاً عميقاً قد سَرى، وسيسري طوال تلك الليلة، في أفئدة الملايين من الشباب وقُرَّاء الكتب في مصر وفي بلدانٍ عربيةٍ عديدة.

في أثناء تلك الساعة، بين الموكبيْن، كانت الإشاعات الأولى - المرفوضة والـمُتَصَدَّى لها من أصحاب المنشورات - عن وفاة الكاتب المصري «أحمد خالد توفيق» قد تأكدت، وبدأ الكاتبُ الراحلُ على الفور، وسط ذهول المتابعين، ميلادَه الجديد الكبير؛ تُهدْهِدُه قلوبُ وأرواحُ الأوفياءِ من قُرَّائه وجمهورِه وأحبائه.

دهشتي، هذه، كنتُ قد قابلتُها لأول مرة أثناء اهتمامي الخاص بأسطورة إيزيس وأوزوريس (أحدوثة إيزه وأوزير)؛ فالنصوص المصرية القديمة حرصت، أيُّما حرصٍ، على أن تتوخَّى كُلَّ أساليب الاحتشام حين يتعلَّق الأمرُ بالموت، فلا تفاصيلَ تُذكَرُ مُطلقاً عن تقطيع أوصال أوزوريس، واستُعمِلت دائماً تعابيرٌ مثل «قد طُرِحَ أرضاً» أو «أُرقِد في موقعٍ» أو «قد اختنق حَلْقُه» حين كان يتحتَّم التصريحُ بمعنى «الموت». وكذلك كان التعبيرُ الذي استعمله محبو وقرَّاء أحمد خالد توفيق تعبيراً مُستَّلاً من عناوين بعض أعمالِه: «حتى تحترق النجومُ»؛ الذي لا يَخفى ما فيه من تضمينٍ لمعاني الوفاء والإبقاء والإصرار على الترابُط، بل التخليد والتمجيد له كإنسانٍ وككاتب.

في فُسطاط انتخابات المحروسة كادت المشاركةُ الطوعية في الإقبال عليها أن تكون منعدمة، مما صعَّب تماماً مُهمةَ الراغبين في الادِّعاء بوجود إقبال جماهيري على التصويت. ثم سرعان ما صار الأمرُ، بالنسبة إليهم، فوق طاقة الاحتمال بظهورِ فسطاطٍ آخر في ليلة إعلان النتيجة نفسها، فسطاط أحمد خالد توفيق بما صَاحَبَه من زخمٍ جماهيريٍّ حقيقيٍّ، مُحتدِمٍ، هائلِ الحجمِ، ومُلتهبِ المشاعرِ، وقد أثارَ ذلك غيظَ وحنقَ وغضب شِلة الانتخابات الفاترة إنْ لم يكن قد أثارَ الجنونَ.

عرفنا في بلادنا «الكاتب العظيم» و«الكاتب الشهير»، لكن «الكاتب المحبوب من أبناء شعبِه وجدانياً وليس فقط أدبياً» يبدو أنها قد وُجدت للتو – أو أُعيدت للوجود - كواقعٍ جسَّدَه أحمد خالد توفيق، بما يليق به؛ بكيانه الإنساني وبكتاباته اللذيْن عقدا الصلةَ والمحبةَ والارتباطَ بينه وبين قلوب ووجدانات وعقول الملايين من أوليائه ومن عشاق كتاباته ومبادئه؛ الذين شهدوا له بالنُبل وبأرقى الصفات الإنسانية.

بعد قدْرٍ من التأمُّل في مُلابساتِ تَلَقِّي خبر وفاته، ثم في ساعات وَداعِه الأولى، ثم في وقائع جنازتِه ودفْنِه والرسائل التي أُرسِلت إليه وعُلِّقت على جدران مقبرته؛ بدا واضحاً ومؤكداً لي أن فكرةَ الزعيم، فكرة الزعيم الحقيقي غير المصطنَع، هي واقعٌ موجودٌ لم يندثر، ولَكأن الكاتبَ أحمد خالد توفيق بعد موته قد انطلق تلقائياً من تلك المكانة السامية التي أصرَّ عليها له جمهورُه ومحبو كتاباتِه، فتحقَّقَ الكاتبُ وارتقى مكانةَ الزعيم الحقيقي، وتأكَّدَ سُلطانُه وبانَ ساطعاً، أكثر ما بانَ، أمام الجميع وقتما خمدت قُواه "المؤقتة"؛ حين لم يعُد له مزيدٌ من الوقت على ظهر الأرض.

في أحد الفُسطاطيْن كانت الأمورُ قد جرت وِفْقَ الـمُتوقَّع لا المأمول فاتسمت بالبؤس الخالص، ووقفَ في ذلك الفسطاط امرؤٌ أعجفُ تساقطت شحومُه ولحومُه تحت أنظار الجميع، وانكشفت تلاعُباتُه، وحُذِقت مخادعاتُه ومخاتلاتُه، فانصرف عنه الناسُ بعضاً بعد بعض، وتحصَّنوا ضد مهاراتِه على الإيهام، فبدا مثل «طَبّوش العِكِر» في الأوبريت المصري «عوف الأصيل»، وبدا مثل بلحةٍ مُضِغَت ثم بُصِقَت ثم أُعِيدت إلى الأفواه فعافَتَها النفوسُ، وجِيء به إلى مباراةٍ مُضجِرة، وجُلِبَ له مُنافِسٌ لا يُنافِسُ، وأحاطَ به أنصارٌ مأمورون، بمواصفات الخاضعين، لا حماسَ لديهم ولا حُلم ولا شغف، بل ربما راودتهم فيه تشكُكاتٌ ورِيَبُ. وفي الفسطاطِ الآخر كانت الأمورُ تمضي في مِعراجٍ أعلى وأرقى من أيةِ توقعاتٍ؛ حيث يرحلُ كاتبٌ تأكدت له تلقائياً سيماءُ الزعيمِ الإنساني والفكري للملايين من الرجال والنساء في أكثر من جيل.

لو استطاع المغتاظون لَفَتَكوا بنَعشِ غريمِهم المحمول إلى المقبرة؛ ذلك أن تجربةَ المقارنة، التي فرضت نفسها على الجميع، قد أودت بصوابِهم، إنْ كان للمغتاظين صوابُ.

رَحَلَ الكاتبُ والزعيمُ أحمد خالد توفيق، على روحه السلام والرحمة والسكينة والنور والطُمأنينة، ولأحبابه خالص آيات العزاء والمواساة، وعسى أن يطلعَ من تلاميذ وأولياء هذا الكاتب المحبوب مَنْ يُسعِده في ملكوته الجديد ويعوِّض شيئاً عن غيابه.

 

atif_sol@yahoo.com