يتوقف الباحث التونسي عند بيانات الكتاب بالتأمل والتحليل باعتبارها نصوصا موازية تنتمى إلى أفق الشروح والمقدمات، تنطوي على قدر كبير من تماثل الأهداف ومقدار من اختلاف المشاريع الفردية والرؤى. ويرى أنها تحولت إلى أداة لكسب معركة التجديد، وقد تفلح في الإشارة إلى ميلاد أنواع جديدة.

بيانات الكتّاب

تماثل الرؤى واختلاف المشاريع

لمجد بن رمضان

 

مقدّمة:

يتنزّل هذا البحث ضمن إطار عام هو القراءة النقدية، وإطار خاصّ وهو قراءة مشاريع الكتاب. ونتناول فيه بالدراسة والتحليل جنس خاص من أجناس الكتابة اصطلح عليه بـ"البيانات". وهي نصوص موازية للأعمال الإبداعية. أصدرها عدد من الروائيين أو الشعراء للكشف عن هواجسهم تجاه التجارب الفينة. وقد ظهرت هذه "البيانات" في أدبنا العربي فترة تميّزت بالدعوة إلى التجديد في الأدب، على مستوى الإنتاج وعلى مستوى التلقي. وقد لفت انتباهنا إلى هذا الجنس من الكتابة اشتراكها في عدّة نقاط رغم اختلاف ظروف نشأتها. حيث تبدو كأنها صادرة عن رؤية واحدة. لكنّ وقوفنا عند بعض تفاصيل الخطاب جعلنا ندرك أنّ وحدة الرؤية في البيانات لا تعبّر بالضرورة عن وحدة المشاريع. فالتماثل الظاهر في عدّة نقاط، يخفي اختلافات تكاد تكون جذريّة بين الكتّاب في مستوى المقاصد. ويعود ذلك إلى اختلاف الموقع الذي يتحرّك منه كلّ كاتب في تعامله مع الظاهرة الأدبية والغايات الذاتية التي يرمي إلى بلوغها.

لمسنا التقارب في الرؤية خاصّة في "بيان الكتابة"، لـ"محمد بنيس"، بيان الحداثة للشاعر السوري "أدونيس"، "موت الكورس" لـ"أمين صالح وقاسم حدّاد" التي صدرت في مناسبات متفرّقة ثمّ جمعها وقدّم لها "محمد لطفي اليوسفي" في كتاب وسمه بـ"البيانات"(1) وقد كان "اليوسفي" من أوائل الذين تنبّهوا إلى غلبة صفة التماثل بين هذه البيانات. فقد لاحظ هذا الأخير أنّ هاجس الكتّاب واحد رغم تعدّد البيانات، فجميعهم يهدفون إلى بلورة نموذج جديد في الأدب لا يعترف بالحدود الأجناسيّة. قال: "للكتّاب طموح العصف بالحدود ولهم هاجس الابتداء"(2). لكنّه لم يتطرّق إلى المشاريع التي أفرزت هذه البيانات. فقد كان مقدّم البيانات مهتما بإبراز السمات المشتركة التي تضفي أكبر قدر من الانسجام بينها. خدمة لغرض ما، وهو إصدارها ضمن كتاب واحد . فقد سعى "اليوسفي" إلى تبرير الخطوة التي أقدم عليها –تجميع البيانات في كاتب واحد- من خلال البحث في المشترك بينها. وكان على درجة كبيرة من الصواب. فالأعمال المذكورة تلتقي في عدّة نقاط، والذي يجمعها ليس وحدة الهدف فقط وإنما "الرؤية" التي أنتجت الخطاب.

إنّ التماثل -في اعتقادنا- لا يعني التطابق التام. فالناظر في تفاصيل الخطاب لدى كلّ كاتب يتبيّن بوضوح أنّ الاختلافات عميقة بينهم. فليس للكتاب مشروع موحّد. وذلك راجع في نظرى إلى تعدّد مفهوم الأدب ووظيفته لدى كلّ واحد منهم، والأهداف البعيدة المنشودة من وراء التجديد. فما يحصل من تشابه ظاهري في الرؤية لا يتعدّى الأسباب التاريخيّة، فالمعاصرة تلزمهم إلى حدّ ما الوقوع تحت "أفق الانتظار" نفسه، وتبنّي رؤية مشتركة. في حين تبقى الغايات المتوارية خلف الخطاب متباينة إلى حدّ كبير.

بناء على ما تقدّم، قامت خطّة هذا العمل على بنية ثلاثيّة: جعلنا الفصل الأوّل تأطيري، شرحنا من خلاله المفاهيم الرئيسيّة الواردة في العنوان. ثمّ كان الفصل الثاني وصفيّا وقفنا فيه على أهمّ مظاهر التماثل في رؤى الكتاب المتجسّد في الخطاب. وكان الفصل الثالث تأويليا تطرّقنا من خلاله إلى حدود التماثل وتبيّنا عمق التباين بين مشاريع الكتاب.

1. ضبط المفاهيم:

تتمثّل الغاية المنشودة من إنجاز هذا القسم من العمل في ضبط متصوّرات المفاهيم. ويهدف خاصّة إلى توضيح المقصود بالبيان ثمّ المقصود بالرؤية. فهذان المصطلحان يستعملان في عدّة مجالات بمفاهيم مختلفة. وهو ما يتطلّب تخصيصا لمفهومهما في ما نحن بصدده.

مفهوم البيان:
إنّ المقصود بالبيان هنا، نمط من الكتابة مخصوص، يدخل ضمن النصوص الموازية التي ترافق صدور الأعمال الأدبيّة أو تليها. ويأتي في أغلب الأحيان كإعلان عن التجارب الجديدة، التي تروم إيجاد مكانة لها في الثقافة، وتوضح أهداف منشئيها. وهو جنس دخيل على الأدب، استعاره الأدباء في العالم من مجالات أخرى، هي المجال السياسي، العسكري على وجه التحديد. واستفادوا من بعض سماته الخطابيّة في نشر الأفكار وكسب ودّ المتلقي(3). وتسرّب البيان إلى الثقافة العربيّة منذ فترة ليست بالبعيدة(4). واعتبر وسيلة ناجعة لإعلان المواقف وجلب انتباه جمهور الأدب إلى الظواهر المستحدثة. ومما لا شكّ فيه أنّ لجوء الكتّاب إلى هذا الجنس من الخطاب تمليه الحاجة الملحّة إلى تأكيد خصوصيّة تجاربهم في علاقتها بالتجارب الإبداعيّة الرائجة. فهو -أي البيان- يعمل على كسر أفق الانتظار السائد، وبناء أفق انتظار جديد. ويطمح أصحابه إلى تغيير ذائقة المتلقي حتى يتقبّل تجاربهم الجديدة. فالتغيير يشترط وعي جمالي مخالف لما ترسّخ في ذهن القارئ بفعل التجارب السابقة والخطاب النقدي الذي روّجها، وكذلك المؤسّسات الرسميّة كالإعلام والسلطة الثقافيّة والخطاب السياسي التي تعمل بدورها على تربية الوعي العام على نمط من الفنون التي يتوافق هواها مع مشاريعها.

ويأتي البيان من الناحية الشكليّة شديد الاختزال. إذ لا يتعدّى الصفحات المعدودة، خاصّة إذا ورد في متن واحد مع عمل أدبي(5). ويتميّز بدقّة اختيار الكلمات من طرف المتكلّم وتواتر الأساليب البلاغية، خدمة لغرض الإقناع عن طريق التصوير. فكتاب البيان يوظفون ما أمكن من طاقة حجاجية في اللغة. ويميلون إلى مخاطبة الوجدان أكثر من مخاطبة العقول. كما يعتمدون على إستراتيجية التوجيه في خطابهم رغم ما فيها من ممارسة للقوّة قد تصل إلى التحكم في سلوك المتلقي دون أن يقتنع تمام الاقتناع بالرأي. وقد يعود استعمال هذه الإستراتيجية بعد أن تحسّس المتكلم صعوبة إقناع مخاطَبه عبر سبل أخرى.

ورغم أنّ خطاب البيان واقع على التخوم بين الإشهار والنقد والإبداع، إلاّ أنّه يصدر عن رؤية. إذ لا يخلو من تصوّرات محدّدة للظاهرة الأدبيّة بأبعادها المختلفة. وهو يعدّ في نظرنا شكل من أشكال التلقي المخصوص للظاهرة الأدبيّة. يتحوّل فيه المبدع إلى قارئ يتلقى تجربته، محاولا أن يفوز بمرتبة القارئ الأوّل الذي سيساهم بالضرورة في تشكيل أفق انتظار التجربة الجديدة. فقد أكّد صاحب "جماليّة التلقي" الألماني "ياوس" أنّ طريقة استجابة الجمهور الأوّل للعمل الأدبي الجديد تعتبر بالبداهة مقياسا للحكم على قيمته الجماليّة(6) . فليس البيان في النهاية سوى قراءة للظاهرة الأدبية من بين قراءات عديدة ممكنة. لكنّ تميّزه يكمن في أنّه صادر عن قارئ يمكن أن ننعته بعبارة "هارولد بلوم" "القارئ القويّ" (strong reader)، "أي القارئ الذي لا يستجيب لمحاولات الهيمنة التي يحاول أن يفرضها نمط التلقي العام وأفق القراءة السائد. وبدلا من الاستجابة أو الانصياع لإكراهات القراءة الجماعيّة المهيمنة، يعمد هذا النوع من القرّاء إلى مجابهة هذه الهيمنة من أجل التعبير عن قراءته الخاصة والمختلفة عما هو سائد"(7). وذلك بهدف ترسيخ تجربته الإبداعيّة الجديدة في التاريخ. ويظهر هذا النمط القرائي خاصّة في لحظات تاريخيّة معيّنة حين تبلغ درجة الركود الثقافي حالة من التكلّس والسكون الذي لا ينتج، ولا يتقبّل أي محاولات جديدة غير مألوفة بدعوى أنّها تعكّر صفوا النظام العام(8).

مفهوم الرؤية:
يتّصل مفهوم الرؤية (
vison) في المعاجم والموسوعات عادة بحاسّة البصر. فالمعنى الأوّلي لهذا المصطلح يشير إلى إدراك الموجودات بالعين عندما ينعكس عليها الضوء. ثمّ بات لهذا المصطلح عدّة مفاهيم ولكنّ جميعها ترتبط بمعنى الإدراك للشيء. من قبيل الإدراك بالفكر، الذي يرتبط بشكل من الأشكال بالبصر أي نقل ما تشاهده العين إلى العقل لفهمه وتأويله على ضوء ما هو موجود سلفا في ذلك العقل.

إنّ مفهوم الرؤية في هذه الحال يقترب من مفهوم "الفهم القبلي" عند التأويليين، ويتمثّل في ضروب الاستعداد المسبقة التي يتحقّق في نطاقها فعل الفهم والتي تمثّل أفق كلّ مفسّر في تعاطيه مع أيّ ظاهرة(9) ، أي منظومة المعارف والآراء والتصوّرات التي يتزوّد بها الفاهم فتكيّف فهمه وتكوّن لديه "أفق انتظار" يتقبّل على أساسه الظاهرة الأدبية(10). والرؤية لا تقف عند حدود تكييف الفهم، بل تمنح الخطاب هويّته الخاصّة التي يحقّق بمقتضاها وجوده داخل شبكة الخطابات التي لا حصر لها. وبناء عليه فإنّ الرؤية كيان مركّب من نواتين: نواة معرفية، "إبستيمولوجية"، يرتدّ إليها تفسير الذات الفاهمة للموضوع في كلّيته وفي أجزائه. ونواة وجودية، "أنطلوجية"، تستند إليها هذه الذات لتحقيق ذاتها. فما يظهر في الخطاب الحامل لتلك الرؤية، لا يقتصر فقط على صورة الظاهرة الأدبيّة كما تجلّت للمبدع، وإنّما أيضا، الصورة التي يقيمها المبدع لنفسه وللمتقي الذي يعوّل عليه لتحقيق التفاعل الإيجابي. وبالتالي فإنّ الرؤية تتحكّم إلى أبعد الحدود في علاقة المتكلّم بذاته وبموضوعه وبالآخر، في لحظة زمنيّة محدّدة. وهي ترتبط بالسياق ارتباطا وثيقا، لأنّها صادرة عن ذات محدودة بالزمان والمكان. وتتجلّى من خلال خطاب لا يمكن للمتكلّم فيه أن يتعالى عن تاريخيه والمجال الثقافي الذي يصدر عنه. وتظلّ تعبيرا عن نمط من التفكير السائد، ليس للذات المتكلّمة فقط وإنّما للحظة التاريخيّة التي شيّد فيها الخطاب. فقد بيّن بعض الدارسين العرب أنّ الوعي الفردي يلتحم الوعي الجماعي. ويصبح بالتالي الخطاب الصادر عن الفرد تعبيرا عن هواجس جماعيّة يتقاسمها مع محيطه. يقول "جابر عصفور" :"إنّ من أهمّ شروط الرؤية أنّها جماعيّة بالضرورة، أي تنتج عن ذات فاعلة تتجاوز الذات الفرديّة وتحتويها"(11). وفي السياق نفسه يقول "إدوارد سعيد": "إنّ من الجنون ... الادعاء أنّ الكتّاب والموسيقيين والرسّامين ينتجون أعمالهم كأنّما على صفحة بيضاء. إنّ العالم موسوم أصلا عميق الوسم ليس فقط بعمل الكتاب والفنانين السابقين وإنما أيضا بكمّ ضخم من المعلومات والخطابات تتحشّد في الوعي الفردي" (12).

بناء على ما تقدّم يمكن القول: إنّ الرؤية المتجسّدة في خطاب الفرد لابدّ وأن تشترك مع باقي الرؤى المجاورة لها ضمن نفس الدائرة الثقافيّة والاجتماعيّة. ولا يمكن بالتالي فصل البيان الواحد عن باقي البيانات الصادرة في الفترة التاريخيّة ذاتها رغم ما قد يبدو من هوّة تفصل بينها. وكان "محمد لطفي اليوسفي" قد نبّه إلى وهم هذا الفصل على أساس جغرافي بين ما كتبه محمد بنّيس في المغرب وقاسم حدّاد وأمين صالح في البحرين أو أدونيس في باريس. فالهاجس هو ذاته في كلّ بيان ولدى كلّ كاتب، فجميعهم يلتقون حول هموم فكريّة واحدة.

2 مظاهر التماثل في الرؤى:
دار هذا القسم من العمل على فحص الخطابات وصفيا، بهدف الوقوف على مظاهر التماثل بينها. ولرسم ملامح هذه الرؤية المشتركة. فهي -كما أسلفنا- ليست ذاتيّة وإنما تصدر عن أفق جماعي مشترك. ويمكن رصد مظاهر التماثل في عدّة نقاط :

1.2. التماثل في أهداف البيانات:

تشترك البيانات المذكورة في الهدف، إذ يحدوها جميعا طموح التأسيس لنموذج جديد في الأدب نثرا وشعرا. وهذا التجديد لا يقف عند حدود المنجز من النصوص الإبداعيّة، وإنّما يطال أيضا الوعي الجمالي الذي يتلقاها. فلا ينفكّ كتّاب البيانات يؤكّدون ضرورة تغيير نماذج الإبداع الرائجة في زمانهم، وفتح آفاق جديدة للمبدعين تكون أكثر حريّة وأكثر تعبيرا عن هموم الإنسان العربي المعاصر. وقد صيغت هذه الأهداف بطرق مختلفة من طرف الكتاب. ولكنها تصبّ في الغاية نفسها تقريبا. فقد دار بيان "أدونيس" حول مفهوم "الحداثة". وتمثّل هدف صاحبه في صياغة حداثة حقيقيّة، تكون بديلا للحداثة الوهميّة. وهذه الدعوة لا تقتصر على إنتاج الشعر فقط وإنّما الكيفيّة التي يتمّ بها فهمه. حيث دعى بصريح عبارته إلى "انقلاب في فهم الحداثة الشعريّة العربيّة [...]وانقلاب مماثل في نقد هذه الحداثة"(13). فبالنسبة إليه ما يروج في الأوساط الفكرية والثقافيّة من تصوّرات حول الحداثة، ليست سوى صورة مشوّهة ومحض أوهام. حيث لم يلامس المثقفون العرب على اختلاف مستوياتهم إلاّ المستوى السطحي لهذا المفهوم. ومن الطبيعي أن لا تتحقق الحداثة في مستوى الإنجاز مادام العقل المنتج لم يستوعبها على أحسن حال. وبنفس الدرجة فإنّ نقد النصوص التي تزعم الحداثة سيسقط في تقييم خاطئ. وقد أخذ "أدونيس" على عاتقه في هذا البيان مهمة تصحيح مفهوم الحداثة كمصطلح أوّلا، ثمّ الحداثة في مستوى ممارسة الشعر ثانيا. وذلك من شأنه أن يفتح آفاقا جديدة أمام الإبداع وينقذ التجارب الشعريّة الجديدة من خطر الانهيار والوقوع في مأزق "التلقي السّلبي".

ولم يختلف "محمد بنّيس" عن "أدونيس" في الهدف الذي أنشأ من أجله "بيان الكتابة". إذ كان همّه هو الآخر "تغيير مسار الشعر"(14). وهذا التغيير المنشود يطال قوانين الإنشاء وانتظارات المتلقّي. فقد كان ينشد التأسيس لممارسة شعريّة جديدة تتجاوز الأنماط الموجودة، التي تفرض على الشاعر السير في طريق مألوفة. وفي ذات الوقت كان يسعى إلى فتح أفق جديد للنقد حتى يتحوّل إلى رافد للإبداع لا مجرّد آليّة لوضع الحدود أمام المبدع وعرقلة نشاطه. يقول: "النقد أساس الإبداع [...] آن لنا أن نخرّب الذاكرة كآلة متسلطة، تفصّل الممكن على قياس الكائن، تمنهج الرؤية من خلال محور العين التي هي تاريخ كلّ نصّ، تستبعد الحلم، الممارسة، التجربة، تبطل النقصان والانشقاق"(15). فالممارسة النقديّة السائدة تقيّم التجارب الإبداعيّة الجديدة بمقارنتها مع النصوص القديمة وباعتماد آلية القياس. مما جعلها تستبعد كلّ تجربة ناشئة لا تحاكي ما هو موجود ومتأصّل في الذاكرة والجماعيّة، أي الثقافة العربيّة.

وقد كان بيان "موت الكورس" "لقاسم حدّاد وأمين صالح" هو الآخر حاملا لنفس الهدف، أي بلورة كتابة إبداعيّة جديدة بسمات مغايرة لما هو متداول، وتأصيل هذه التجربة في ذائقة المتلقّي. فقد أبديا رغبتهما في الانعتاق من ضوابط الكتابة على النمط الواحد من خلا قولهما: "نحاول مع آخرين هنا وهناك أن نفتح نافذة لنطلّ من خلالها على الأفق الشاسع... أفق الكتابة ويقينا ثمّة نوافذ كثيرة مغلقة، ترجو فتحها، لنطلّ –أو نعبر- من خلالها نحو مجال يتيح لنا أن نرى بشكل أفضل، وأكثر إنسانيّة أو كونيّة"(16). كما أبديا رغبة مماثلة في كسر أفق الانتظار السائد، من خلال تغيير نموذج الكتابة الماثل في الوعي النقدي والثقافة العربيّة عامّة. فهذا الوعي الذي يستمرّ في قياس الإبداع على نماذج قديمة هو بمثابة الجوقة. ولذلك لابدّ من إيقافه حتى يلتفت الناس إلى الجديد ويتخلون على القديم. يقولان: "يعلو صوت الجوقة في مدح النصّ الأوّل. علينا أن نكسر هذا الصوت ونعلن أنّ كلّ كتابة خاضعة لشهوة النار" (17).

إنّ تصحيح مفهوم الحداثة الوارد في خطاب أدونيس، وتغيير مسار الشعر لدى محمد بنّيس وبلورة كتابة جديدة لدى قاسم حدّاد وأمين صالح، تجري جميعها في المسار نفسه. فالهدف في النهاية هو التأسيس لنمط من الإبداع متحرّر من القولبة والنمذجة، والتأسيس لنقد يفي هذا الإبداع حقّه ويساهم في دفعه لا في إعاقته ورسم الحدود أمامه.

2.2. التماثل في وسائل التغيير:

إنّ التماثل في الأهداف المنشودة قاد هؤلاء الكتّاب إلى التماثل في مستوى رؤيتهم للوسائل التي سيحقّقون بها أهدافهم. فقد كانت الخطابات البيانيّة الثلاثة تفصح عن الآليات نفسها التي يراها الكتّاب ناجعة لتحقيق المنشود. فـتحديث الشعر عند أدونيس لا سبيل إلى بلوغه، إلاّ من خلال قطع الصلة مع الموروث الشعري العربي وكذلك الشعر الغربي. يقول :" تقتضي الحداثة القطع مع التأسلف والتمغرب في آن" (18). فلابدّ للحداثة أن تبدأ بنقد الذات، أي: نقد الموروث الشعري العربي وفهمه في إطاره التاريخي، ونزع الهالة القدسيّة التي تحيط به، والتي جعلته "تراثا أبويّا سلطويّا". وهذا النقد وسيلة لتحرير الذات من القيود المفروضة عليها من الداخل، ويجعلها تنطلق نحو "أبعاد جديدة". ولابدّ للشاعر الحداثي أن يعي اختلافه عن الآخر. فليس الغرب، بالضرورة، نموذجا يمكن محاكاته. فكلّ تجربة لها خصوصيّاتها ولا يمكنها الانطلاق من واقع غيرها.

وكان "محمد بنيس" يرى أنّ "تغيير مسار الشعر" يقتضي الخروج عن القوانين القديمة. حيث أبدى اعتراضه على الفهم الذي يعتبر الشعر غنائيا أو لا يكون. من قبيل القول: "إنّ سنّة الشعر في المغرب هي الإنشاد، وتلك سنّته في عموم العالم العربي، وما عداه ليس إلاّ تبريرا أجنبيّا عنا"(19). فهذا الرأي يتأسّس على طبيعة محافظة لا تساعد على الإبداع والخلق والتجديد. وقد ساهم ذلك في تكريس الموجود وتقديس القديم، حتى غدا "هذا الشعر المقدّس في الكتب والمقرّرات الرسميّة ينكفئ على موته الدائم، يتخلّى ببرودته وتكلّسه، لا سؤال لديه ولا جواب، لا حنين ولا كشف ولا مغامرة، ركام من البلادة والعفن"(20). واقترح "بنّيس" إلغاء كلّ سلطة من أجل الخروج بالشعر من هذا الوضع المرير. وبناء نصّ على قاعدة المواجهة. يقول "الكتابة نفي لكلّ سلطة"(21). والمقصود بالسلطة هنا نظام القصيدة العربيّة الماثل في الثقافة العربيّة. فالإبداع بالنسبة إليه لا مجال لتحقيقه من خلال تكرار الشكل القديم. أوّلا: في بنيته، يقول: "لا معنى للنمو خارج التحوّل، أي نفي كلّ نمطيّة قبليّة أو نموذج مسبق"(22). ثانيا: في معانيه، يقول "ليست المعقوليّة وحدها هي التي تمنح الإبداع شرعيّة وجوده. إنّ الإبداع مراوحة بين الوعي واللاّوعي"(23).

وقد كانت مقولة التخلّص من سلطة القديم كسبيل للتجديد، هي الوسيلة ذاتها التي تبناها "قاسم حدّاد وأمين صالح". فالتجديد -بالنسبة إليهما- لا يتمّ في ظلّ سطوة القديم على وعي المبدع. ولذلك وجب على التجربة الصاعدة أن تترك جانبا كلّ التراث الأدبي العربي، أو ما سمياه "النصّ الأوّل". وقد عبّرا عن ذلك في قولهما: "ليس النصّ الأوّل نموذجا ولا سطوة على المخيّلة إن لم تستطع هذه المخيّلة أن تبدع نصوصها الجديدة بشروط إبداعيّة جديدة، فمن الأجدى لها أن تنتحر، إذ لا رغبة لدينا في إعادة إنتاج النصّ الأوّل أو التنويع على شكلانيّته وجاهزيّته"(24). فما ترسّخ في الأذهان من قيم جماليّة وآليات للكتابة لم تعد صالحة لرهانات المرحلة الجديدة، التي تتطلّع إلى أدب أكثر تعبيرا عن الواقع. فما كتب على سبيل "المحاكاة" في التجارب السابقة لم ينقل سوى صورة مصغّرة عن هذا الواقع على حدّ قولهما. أي أنه ساهم في تكريس القديم بدل السعي إلى نقده وتغييره. وقد اقترح الكاتبان بدائل جديدة، تقوم على المساءلة الدائمة للواقع، والشكّ المستمر في الأجوبة المقدّمة لتفسيره. وشدّدا على ضرورة أن تقوم الكتابة على مفهوم اللعب الذي يكسر قدسيّة اللغة.

يبدو من خلال ما تقدّم أنّ الكتّاب جميعهم يلتقون في مستوى رؤيتهم لوسائل التغيير. فقد ركزوا بصفة جماعيّة على ضرورة التجرّد من القبليّات سواء كان منشأها عربي أو غربي. ويعود ذلك خاصّة إلى التماثل في مستوى الفهم.

3.2. التماثل في النظر إلى التراث الأدبي:
يقف الكتّاب على المسافة نفسها تقريبا من التراث الإبداعي العربي، ويتقاسمون الرؤية نفسها لإنجازاته. فالصورة الماثلة في خطاب "أدونيس" تتردّد في خطاب "محمد بنّيس" و خطاب "قاسم حدّاد وأمين صالح". إذ ينقسم هذا التراث إلى حقبتين. الأولى قديمة تميّزت بإنتاج رائع لكنّه صالح لزمانه. والثانية معاصرة تتصف بالسلب لغلبة التقليد فيها على الإبداع.

يعتبر "أدونيس" أنّ الحداثة ماثلة في العديد من الأشعار التي كتبت في الزمن الماضي البعيد أكثر من بعض الأشعار التي كتبت في زمن قريب. فبالنسبة إليه،كان "امرئ القيس في كثير من شعره أكثر حداثة من شوقي في شعره كلّه، وإنّ في شعر أبي تمام حساسيّة حديثة ورؤيا فنية حديثة لا تتوفّران عند نازك الملائكة"(25). فالقديم رغم ماضويّته لا يزال عظيما مؤثّرا في الثقافة العربيّة ويخترق الزمن. أمّا المعاصر فهو محدود زمنيا لا يستطيع الاستمرار أو تجاوز حدود معينة. والسبب يعود لكون القدامى كتبوا شعرهم وبوعي اللحظة التي عاشوا فيها، وتمثّلوا خير تمثيل واقعهم. أمّا المعاصرون فسقطوا في متاهات المغايرة وبقوا أسرى لفكرة إنتاج النقيض. أو تسابقوا من أجل نقل منجزات الحداثة الغربيّة دون وعي. فهي على حد قوله: "نظرة تصدر عن إقرار مسبق بتفوّق الغرب، ولهذا فإنّ أصحابها والدائرين في فلكها ينعون دائما على الشعر العربي تخلّفه وتقصيره على اللحاق بالشعر الغربي، كما ينعون على الحياة العربيّة، إجمالا، تخلّفها وتقصيرها عن الحياة الغربية"(26). وقد أدى ذلك على مستوى الممارسة إلى إنتاج شعر يتّصف بالاستلاب. "فالعربي اليوم الذي ينتج شعر المحاكاة للقديم، إنّما يعيد إنتاج الوهم الأسطوري التراثي، ولا يبدع شعر ذاتيّته الواقعيّة الحيّة. والعربي الذي يكتب اليوم شعر الماثلة مع الآخر الغربي لا يكتب شعره الخاصّ، وإنما يعيد إنتاج شعر ذلك الآخر"(27). ومن هذه الناحية تبدو نظرة أدونيس إلى التجارب الإبداعيّة السابقة قديما وحديثا غير قادرة على الاستمرار في الزمن الحاضر. فالقصيدة العموديّة، مهما بلغت من الإبداع والقفز على الزمن، لا تصلح للتعبير عن الراهن. وكذلك محاولا التحديث المعاصرة لا يمكن أن تستمرّ لضعفها في مستوى المرجع.

وقد كان موقف "محمد بنيس" من القديم مماثلا لموقف "أدونيس" تقريبا. إذ كان هو الآخر يعتبر التراث الشعري غير قادر على صياغة الحاضر. يقول: "لم يستطع الشعر المغربي المكتوب باللغة العربيّة الفصحى، طوال تاريخي أن يمتلك فاعليّة الإبداع، أي القدرة على تركيب نصّ مغاير يخترق الجاهز المغلق المستبدّ إلاّ في حدود مساحة مغفلة إلى الآن"(28). فالكاتب يرى في هذا التراث مجرّد وثائق تصلح فقط لدراسة مرحلة تاريخيّة لكشف خصوصياتها، ولا يستثني منه إلاّ القليل، الذي يبقى ويستمرّ في التاريخ، لأنه لعب دورا في مصير الإنسان وفي تحوّله وتحرّره. ويقصد بذلك الشعر الوطني في زمن المقاومة. ذلك أنّ أغلب الشعر "يختار القناعة والرضى [...] يستكين للنمطيّة والاجترار [...] يستهدي بالذاكرة"(29). إنّ "محمد بنّيس" لا يستحسن من الشعر الحديث إلاّ بعضه الذي ساهم في الحركة الوطنيّة أماّ الباقي فهو مجرّد محاولات لا تعبّر عن نضج في مستوى الإبداع.

ولم يختلف خطاب "قاسم حدّاد وأمين صالح" عن الموقفين السابقين. فقد كانا بدورهما ينظران إلى التراث الأدبي العربي نظرة يطغى عليها السلب. فهما يرفضان جلّ ما تقدّم على التجربة الجديدة المنشودة. والسبب يعود لكون المطروح في النصوص القديمة مبنيّ على المحاكاة التي لا تؤشّر على روح إبداعيّة. وحتى التجارب الرائدة في التاريخ العربي لا يمكنها أن تستمّر في الحاضر. فكلّ زمن ينشد تجربته الخاصّة. فـ"للكاتب حقّه في صياغة الحاضر، مثلما كان للأسلاف حقّهم في صياغة الماضي"(30). وقد كانت نظرة الكاتبان تقسّم الأدب وفق ثنائيّة التجريب والتقليد. "الذي لا يجرّب يقلّد، أن تقلّد يعني أن تصدر عن سواك، عن الآخر، وتكتب صورة شكل منجز، صار معروفا لا مجال لجمال المفاجأة فيه ولا لغرابة الدهشة"(31). ومعنى ذلك أنّ الإبداع الذي ينخرط في مدرسة أو يرتهن إلى نموذج أو قالب جاهز ليس إبداعا. أمّا الإبداع الحقيقي فهو في "التجريب" الذي يعني عندهما الخروج عن كلّ نسق ممكن.

لقد كان الاهتمام بالآثار الإبداعيّة القديمة من قبل الكتاب يدور في سياق فهمهم للتجديد. فلا يمكن في كلّ الأحوال أن تنشأ تجربة مغايرة دون أن تكون التجربة أو التجارب القديمة حاضرة في نسيجها أو على الأقلّ في ذهن منشئيها. ولا سبيل إلى تركيز أفق انتظار للتجربة الجديدة دون هدم النموذج القديم الماثل في الثقافة والمتجذّر في وعي الناس. وقد كانت هذه النظرة إلى القديم مصحوبة بنظرة مماثلة إلى النقد الأدبي.

4.2. التماثل في النظر إلى النقد:
يعالج الكتّاب مسألتين في النقد، تتعلّق الأولى بما هو سائد، وتتعلّق الثانية بما ينبغي أن يكون. فقد أبدت البيانات جميعها ما يشبه الموقف الموحّد تجاه القراءات النقديّة السائدة، وعبّرت في مجملها عن الرفض العنيف لهذا النقد. وهذا الموقف يحيل على عمق الأزمة الفاصلة بين التجارب المطروحة وأفق القراءة السائد. فالواضح أنّ طموح الكتاب اصطدم بواقع نقدي مخالف لاتجاهاتهم. ولم يكتفوا في بياناتهم بإصدار موقف من النقد، بل اقترحوا بدائل له حتى يواكب تطلّعاتهم.

فقد عبّر "أدونيس" عن وجود خلل في المفاهيم المتداولة التي تقرأ على أساسها النصوص الشعريّة. وخاصّة "مفهوم الحداثة"، الذي أسيئ فهمه، وبالتالي أسيئ استخدامه في الحكم على جودة النصوص. والسبب يعود حسب قوله إلى الأوهام التي روّجها بعض الشعراء وبعض الإعلاميين حول هذا المفهوم. يقول: "أبدأ بالكلام على أوهام الحداثة. ذلك أنّها أوهام تداولتها الأوساط الشعريّة العربيّة، وتكاد على المستوى الصحفي-الإعلامي، أن تخرج بالحداثة عن مدارها، عدا أنّها تفسد الرؤية وتشوّه التقييم"(32). وقد أثّر الفهم الخاطئ في تعامل النقّاد مع من الإنتاج الشعري. وهو تعامل يطغى عليه التلقي السلبي، الذي يقلّل من قيمة هذا الشعر ويكيل الاتهامات لصاحبه. وقد تحوّل ذلك على حدّ قول "أدونيس" "إلى ظاهرة شبه مرضيّة في الوسط الثقافي العربي، هي ظاهرة اتهام الشاعر العربي الحديث بتقليد الحداثة الغربيّة، وتقليد شعرائها، وبنقل مفهوماتها، والحكم على الحداثة الشعريّة العربيّة بأنّها، غير أصيلة"(33). ومن أجل التخلّص من هذه النظرة الضيّقة، يقترح "أدونيس على النقاد تقييم تجربة الشاعر على ثلاث مستويات: "مستوى النظرة أو الرؤيا، مستوى بنية التعبير، مستوى اللغة الشعريّة"(34). بمعنى البحث في كلّ تجربة عمّا يميّزها وليس ما يجمعها مع باقي التجارب. لأنّ التشابه في إحدى هذه المستويات بين تجربة الشاعر الحداثي وشاعر آخر يعدّ من قبيل التقليد. يقول: "يصحّ التقليد حين نجد شاعرا يحوّل أحد هذه المستويات عن شاعر آخر، إلى نمطيّة يتلبّسها ويكرّرها"(35). وربّما كان القصد من وراء هذا القول عدم الحكم على جميع التجارب الشعريّة الحداثيّة من خلال الفشل الجزئي لبعض الشعراء.

ويعتبر "محمد بنّيس" أنّ النقد، في المغرب خاصّة، يتجاهل الإنتاج الشعري الحديث، ويتّجه إلى النصوص القديمة لسببين رئيسيّين: الأوّل، غلبة الاتجاه التأريخي على الدراسات النقديّة، التي تهمل الجانب الفني وتبحث عن الجانب الوثائقي في الشعر، فتجد في القديم ضالتها. فالنقاد يتعاملون مع الشعر "لا كإبداع، ولكن كوثائق شبه رسميّة تساعد على تجلية غوامض مرحلة من المراحل، أو ملابسة من الملابسات"(36). والثاني، وهو سبب مزدوج يتمثّل في سهولة التعاطي مع مادّة قديمة من أجل الكسب السريع، والرغبة في تكريس الموجود بدافع أيديولوجي. يقول: "وهو [أي الشعر القديم] عند الآخرين سبب للكسب، يقف عند رغبة ملء الصفحات البيضاء، وتدنيس براءتها، بما يدّعونه من أبحاث ودراسات تكرّس تخلّفه، كمقدّمة ضروريّة لتكريس سلطة سياسيّة لا علاقة لها بالابتكار والانعتاق"(37).

وقد وجّه "بنّيس" دعوة إلى فكّ الارتباط بين التفكير النقدي و"المتعاليات"، أي القناعات السياسيّة والاعتبارات الأخلاقيّة والدينيّة وسلطة القديم. يقول: "أوّل ما يجب أن يتّجه إليه النقد هو المتعاليات، بمختلف تجلّياتها. ليس الغائب هو الذي يخلق الحاضر والمستقبل، بل الإنسان هو خالق حاضره ومستقبله" (38). وذلك بهدف وضع حدّ لتبعيّة الأدب لمجالات خارجة عنه. وخاصّة فصل الممارسة النقدّية عن التفكير السياسي. ويحيلنا موقف "بنّيس" إلى نوع من الممارسة النقديّة في الثقافة العربيّة المعاصرة التي ترتهن إلى النشاط السياسي، وتجعل من الأدب خاضعا لرؤى أيديولوجيّة معيّنة وخادما لأغراضها. يقول أحد النقاد :"في الفترة التي يسود فيها الفكر السياسي، نجد النقد العربي يتسع ليعبر عن بُنى سياسية مباشرة يخاطب بها مرحلة لا حياة، ويقف عند حالات لا ظواهر، فينعدم الموقف ويغيب الخطاب المتكامل الذي يبلور شخصيّة واضحة محددة، فلا نتلمس مبدئية نقدية ما. ذلك أنّ الأحداث تسوق المنهج لا العكس"(39).

وقد كانت نظرة "أمين صالح وقاسم حدّاد" أكثر حدّة في توصيف واقع النقد. فقد اعتبراه بمثابة "الجوقة"، التي لا تنقطع عن مدح التراث الأدبي وترسيخه في الثقافة وقياس التجارب الجديدة على ضوئه. ويتلخّص ذلك في قولهما: "يعلو صوت الجوقة في مدح النصّ الأوّل"(40). ويعيب الكاتبان على هذا الخطاب النقدي السائد بحثه الدائم عن المعنى في النصوص، وتسخير طاقاته من أجل الكشف عن انعكاس الحياة الاجتماعيّة في الأعمال الأدبيّة، وتقييم التجارب الإبداعيّة وفق نموذج سابق. ومن هذه الناحية فإنّ نقّاد هذا الاتجاه لا يمتلكون مفاتيح النصّ الجديد. لأنّها نصوص لا تتماها مع السائد والمألوف، ولا تمتثل إلى القوانين والحدود المرسومة سلفا."لا شأن لنا بالناقد الذي يلج النصّ بأدوات لا تتجانس مع النصّ ذاته نقبل به، ونوليه اهتمامنا، إذا تجرّد من مواقفه ومنطلقاته واستنتاجاته وأدواته السابقة"(41). وقد اقترح الكاتبان رؤية نقديّة جديدة تبدأ بالتجرّد من المعايير القديمة في معالجة الظاهرة الأدبيّة، والتعامل مع كلّ نصّ على أساس خصوصيّاته لا غير. بمعنى أن يحاول الناقد فهم كلّ نصّ باعتباره منقطع الصلة عن غيره من النصوص وعن الظواهر البعيدة عن الأدب.

لقد عبّرت جميع البيانات عن تململها من واقع النقد أو نمط القراءة السائد. وحاول أصحابها أن يقدّموا بدائل قد تنقذ النقد من حالة التخلّف، وتمكّنه من مسايرة التطوّر الذي شهده الإبداع نثرا وشعرا. لكنّ هذه الحلول على أهميتها لم تكن بالوضوح الكافي. فلم تدعم بنماذج تطبيقيّة ولا بحجج كافية لتوضيح المنشود. فالموجود في الخطاب، في أحسن الأحوال ضرب من الإنشاء الذي يقرّب البيان من الخطاب الإبداعي، اعتمد فيه على مسلك مخصوص من مسالك الإقناع هو "التوجيه".

5.2. التماثل في إستراتيجية الخطاب:
تبدو البيانات من خلال شكلها ومحتواها ساعية إلى إيجاد "جمهور" يتقبّل التجارب الإبداعيّة الجديدة ويتفاعل معها إيجابيّا. فالواضح من خلال الخطاب أنّ الإشكال الأساسي الذي أنشئت من أجله البيانات تمثّل في وجود أزمة تلقّي. حيث قوبلت الآثار الأدبيّة التي قدّمها هؤلاء الكتاب بالتجاهل من طرف القرّاء، والتفاعل السلبي من طرف النقاد، الذين انتبهوا مبكّر إلى اختلاف هذه الأعمال عن السائد والمألوف، لكنهم قللوا من شأن هذه التجارب. وقد كان ذلك دافعا وراء تغليف الخطاب بجملة من الظواهر اللغويّة ذات الطابع التوجيهي.

ففي ظلّ غياب البراهين العقليّة المنطقيّة التي من شأنها أن تفحم المخاطب وتجعله يسلّم بصواب الرؤية المحمولة في البيان، لجأ الكتاب جميعهم إلى "إستراتيجية التوجيه"(42) كسبيل ممكن لتحقيق مرادهم. وقد لمسنا التوجيه في أكثر من موضع. بدءً بالعناوين: فلفظ البيان يفترض سياق تواصلي، يكون فيه الخطاب في اتجاه واحد، صادر عن متكلّم أو كاتب إلى جمهور معيّن يكتفي بالاستماع أو القراءة وتنفيذ ما ورد في محتواه. حيث يفصح الخطاب في هذه الحالة عن عدم التكافؤ بين مرتبة الباث ومرتبة المتلقّي. فالأوّل يتبوّأ مرتبة أعلى من مرتبة الثاني من خلال ما ينسبه لنفسه من سلطة على الثاني.

وقد لاحظنا التوجيه عند "أدونيس" وهو يفتتح بيانه بالقول: "أبدأ بالكلام على أوهام الحداثة"(43). قول يحيلنا على صورة الأستاذ الذي يلقي محاضرة على مجموعة من المتعلّمين، الذين يكتفون بالاستماع وتسجيل ما يرونه مهمّا من معلومات يكتشفونها لأوّل مرّة. وتتضح هذه الصورة التي رسمها "أدونيس"، أكثر، عندما يقول لاحقا: "أوجز هذه الأوهام في خمسة"(44). الإيجاز يتعلّق أوّلا بطبيعة البيان الذي لا يحتمل الإطناب في الكلام، ويتعلق ثانيا بمراعاة مقام المتلقّي، الذي يتطلّب فهمه الضعيف -مقارنة بفهم المتكلّم- التدرّج من العام إلى الخاص، وتتطلّب الدهشة الناتجة عند سماعه "أوهام الحداثة" التبسيط في الكلام. حيث سيعمل المتكلّم على هدم مفهوم الحداثة العالق في ذهن المتلقي، والمتجذر في الثقافة العربيّة بصفة عامّة. خاصّة وأنّ هذا المفهوم روّجت له الأوساط الشعريّة والإعلامية، ويصعب استبداله بمفهوم جديد. فهذه الأوساط التي ذكرها "أدونيس" يرتبط خطابها بصفة مباشرة بخطاب السلطة السياسيّة، التي سعت على مدى عقود إلى تربية الذوق العام على نمط معيّن من المفاهيم. وعملت بدورها على أن تكون الجماهير تلميذا نجيبا يتلقى الخطابات وينفّذ التعليمات.

وقد سعى "أدونيس" إلى استثمار تلك العلاقة بين الجماهير والخطاب السياسي المتواري خلف الخطاب الثقافي. فكان تعامله مع متلقي نصّ البيان فوقيّا، يقوم في جوهره على الإملاء. نتبيّن ذلك في تفصيله للأوهام الخمسة التي ذكرها مجملة في مفتتح البيان. حيث يسير بالمتلقي خطوة، خطوة نحو هدم الصورة القديمة عن الحداثة، وترسيخ صورة أخرى مغايرة. يقول: "الوهم الأوّل هو الزمنيّة، فهناك من يميل إلى ربط الحداثة بالعصر الراهن من الوقت [...] والواقع أنّ هذه نظرة شكليّة تجريديّة، تلحق النصّ الشعري بالزمن فتؤكّد على اللحظة الزمنية لا على النصّ الشعري ذاته"(45). ثمّ ينتقل إلى الوهم الثاني، يقول: "الوهم الثاني هو ما أسميه بوهم المغايرة، ويذهب أصحاب هذا القول إلى أنّ التغاير مع القديم، موضوعات وأشكالا هو الحداثة [...] وهذه نظرة آليّة تقوم على فكرة إنتاج النقيض، وهي شأن النظرة السابقة تحيل الإبداع إلى لعبة التضاد"(46). ثمّ ينتقل إلى باقي الأوهام واحدا تلو الآخر على نفس الشاكلة. وفي كلّ مرّه نراه يسمي "الوهم" ويعرض الفكرة التي رسّخته وهي الفكرة الرائجة في الثقافة، وقد يكون المتلقي تعرّض لها وصارت جزء من رصيده المعرفي، الذي لا يقبل التغيير. ثمّ يدحضها مبيّنا أسباب رفضه لها. ويعتمد "أدونيس" هكذا أسلوب في مخاطبة قارئه حتى يكون لحجّته وقع قويّ. ويضيف إلى جانب هذا الأسلوب نوع من المسرحة في الحديث. كاستعمال أسماء الإشارة (هذه، هؤلاء)، والسؤال الإنكاري كقوله "ألا تبدو المماثلة هنا استلابا كاملا- أي ضياعا في الآخر حتى الذوبان؟"(47). وتعمل أسماء الإشارة على التوجيه المباشر، أي لفت انتباه القارئ أو السامع إلى الناحية التي يجب أن ينتبه إليها. أمّا الاستفهام الإنكاري فيعمل على التوجيه غير المباشر. فهو نمط من الاستفهام المغلق الذي لا يقبل إلاّ إجابة واحدة بعينها. ويلجأ إليه المتكلّم كوسيلة ناجعة للتوجيه. لأنّه من الأدوات الضامنة للسيطرة على المتلقي وتوجيه الفهم نحو ما يريده المرسل. فالمقصود بالسؤال في هذه الحال ليس الاستخبار شيء يجهله الباث، وإنّما إثبات أنّ المماثلة في الشعر تساوي الاستلاب.

ويتّضح التوجيه في خطاب "أدونيس" عندما ينتهي من تعداد الأوهام الخمسة، ويبدأ في حثّ المتلقّي على تبنّي خياراته في التعامل مع الظاهرة الأدبيّة. فيحاول دفعه إلى التخلّص من أدواته القديمة في الفهم، واستبدالها بالأدوات الجديدة. يقول: "ينبغي على القارئ/الناقد، إذن أن يواجه في تقييم شاعر ما ثلاث مستويات: مستوى الرؤيا، مستوى بنية التعبير، مستوى اللغة الشعريّة"(48). يخاطب "أدونيس" هنا قارئه بصفة مباشرة، ويدعوه بصريح العبارة إلى أن يضع بعين الاعتبار هذه المستويات الثلاثة كمعايير لتقييم أي عمل شعري. ويبدو واضحا أنّ الكاتب وضع هذه المعايير لأنّ أعماله الشعريّة تستجيب لها. ولا ريب أنّ القارئ إذا تعامل مع الشعر وفق هذه المحدّدات سيدرج التجربة الجديدة في نطاق الحداثة. ومن ثمّة يتحقق مقصد الخطاب، أي تحقيق أقصى درجات المنفعة للمتكلّم حين ينزع اعتراف المتلقّي بطرافة التجربة الشعريّة. وهي مسألة تبقى معلّقة لأنّ الآخر الذي يعوّل عليه في تحقيق لا يحضر إلاّ على سبيل الصورة.

وقد كان التوجيه صفة غالبة على خطاب "محمد بنّيس" أيضا، ولكن بكيفيّة مغايرة. حيث حاول في مفتتح "بيان الكتابة" استباق ردّة الفعل السلبيّة التي قد تنشأ عند المتلقّي. وبيّن الحجج التي سيرتكز عليها هذا المتلقّي السلبي. فقال: "هنالك من يعترض. لن يقرأ ما سيشغل هذا البياض. يقول: لسنا بحاجة إلى التنظير، نحن بحاجة إلى الشعر. يقول أيضا: تقديم الشعر، إصدار بيانات تعيّن الحدود، خارجة عن عاداتنا، إنّ سنّة الشعر في المغرب هي الإنشاد، وتلك سنّته في عموم العالم العربي، وما عداه ليس سوى تبريرا أجنبيّا عنا"(49). يوجّه الكاتب خطابه في الظاهر إلى طرف أخر هو المعترض عن المفهوم الجديد للشعر. ويلوح ذلك من خلال استعمال اسم إشارة للبعيد. لكنه في حقيقة الأمر يخاطب قارئ البيان، الذي تأصّلت ذهنه هذه الأفكار القديمة. فالمعني بالكلام ليس ذلك البعيد وإنما المتلقي القريب. وقد لجأ "بنّيس" إلى هذه الحيلة لتلطيف الخطاب وكسب تعاطف القارئ، ومن ثمّ توجيهه نحو الغاية التي يسعى إليها. وهي ضمّه إلى صفّه في المشروع الذي يروم تحقيقه. وفي مرحلة لاحقة من البيان يلجأ الكاتب إلى ضمير المتكلّم الجمع في قوله: "غربة متجذرة تقوم بيننا وبينه، يختار القناعة والرضى ونختار الغيّ والعصيان"(50). والمعني بضمير نحن هما الكاتب والقارئ معا، في مقابل الآخر أي أصحاب الفكر التقليدي المتشبث بالنظرة القديمة للأدب والحياة عموما. فالكاتب حاول أن يجرّ القارئ معه في معركته مع خصومه. فقد جعله واقعا بين مفترق طرق إما الرضا بالموجود والسير في الطريق المريح مع الفكر القديم، وإمّا اللحاق بركب الحداثة مع الجديد.

ويتّضح التوجيه أكثر في خطاب محمد بنّيس حين يحوّل الكلام إلى أوامر مباشرة للقارئ. يقول "لا تستصغروا المتعاليات. إنّها المتحكّمة في وعينا ولا وعينا"(51). إذ تعتبر الأفعال في صيغة الأمر أو النهي أقصى درجات التوجيه. يتحوّل بمقتضاها الباث إلى صاحب سلطة مطلقة، ويدفع المتلقي إلى إنجاز أمر ما لا يقبل التأجيل، خاصّة حين يردف الجملة الحاملة للأمر بجملة أخرى تفيد تأكيد الخطر الداهم. ومن ثمة لا يبقي خيارا للمتلقي سوى العمل بمقتضى قول الباث. ولا يكتفي الكاتب بهذا فقط، بل يطنب في شرح الأسباب التي من أجلها يصدر أوامره للقارئ، وتتعلّق أساس بمفهوم "المتعاليات" ومدى تأثيرها في الوعي. مستعملا دائما جمل اسميّة مسبوقة بالناسخ "إنّ" الذي يفيد التأكيد، من قبيل قوله: "إنّ المتعاليات، كمجال معرفي تعتمد قناعة أساسيّة، وهي أنّ الإنسان موجود بغيره لا بنفسه، شبح عابر في دنياه، صورة لمثال، مصيره فوقه لا بين يديه، تغطيه السماء بحنينها مرّة، وتحتفظ له الظلمات بالردع هنا وهناك"(52). وتعمل هذه الجمل على تبديد الشكّ الذي قد يتسرّب إلى ذهن القارئ في جدوى الامتثال لأوامر الكاتب. فهي تجيب عن جملة من التساؤلات التي تعتمل في ذهنه حينما يتلقى أمر التخلي عن "المتعاليات" أي جملة التقاليد التي تحوّلت إلى مقدّسات في الوعي الفردي والجماعي وتمثّل قناعات لا يمكن التخلي عنها بسهولة.

أمّا التوجيه في خطاب "قاسم حدّاد وأمين صالح" فيتمثّل في عدّة ظواهر لغويّة، لعلّ أهمّها تلك التي تدخل في إطار بناء العلاقة بين المرسل والمتلقي. حيث تظهر الذات المتكلّمة متضخّمة ومتعالية على المتلقي. ويتمثّل ذلك خاصّة في لجوء المخاطب إلى ضمير المتكلّم الجمع كالقول: "نحن المخبولون بالكتابة"(53) فالإسناد إلى ضمير "نحن" في هذه الحالة يفيد بأنّ المتكلّم ناطق باسم جماعة، وبالتالي فإنّ موقعه على درجة كبيرة من القوّة والتعالي مما يتيح له فرض رأيه على الآخر. وقد استعمل الخطاب عدّة صيغ للتحكم في ردّة فعل المتلقي، من قبيل "الإشارة": "ضدّ النصّ الأوّل، هذا هو الهاجس المتأجّج في التجربة"(54). فالإشارة في هذا السياق هدفها الظاهر الإيضاح، وفي الباطن الحدّ من التأويلات التي قد تنشأ في ذهن المرسل إليه وهو يتعرّف إلى التجربة الجديدة. ومن الظواهر الدالة على التوجيه في الخطاب "التحذير"، من قبيل: "لسنا جنودا ينبغي توضيح ذلك"(55). وهو يعمل في الخطاب أيضا للحدّ من التأويلات الخاطئة التي قد يبديها المرسل إليه تجاه المرسل. فيقوم بمحو الصورة العالقة في ذهن المرسل إليه التي تربط بين "البيان" والانقلاب العسكري" وهي صورة سبق وتبيّنا أنّها متأتية من ذكرى الاستعمالات الأولى لمصطلح "بيان".

ومن أكثر الصيغ المستعملة للتوجيه، "النفي" و"الإضراب". وهي صيغة في التلفّظ تنسحب على كامل الخطاب تقريبا، من قبيل: "لا نبحث في السطح، بل نحاول اقتحام الباطن"(56). كان من الممكن للخطاب أن يكتفي بالجملة الثانية، "نحاول اقتحام الباطن"، فهي قادرة على إفهام المرسل إليه مغزى الملفوظ. ولكنّ المرسل يُسبقها بالنفي حتى يفهم من كلامه أنّه يتجاوز البحث في السطح أي ما يبدو سهل المنال ومكشوف لكلّ كاتب، ويتركه خلفه ويتحوّل مباشرة إلى الباطن أي أعماق الظواهر الاجتماعيّة والفكريّة. وبذلك يتحقّق الفهم على النحو الذي يسعى إليه. ومن الأمثلة الأخرى على التوجيه بهذه الصيغة كذلك قوله: "لا نكتفي بالمعطيات والنتائج، إنّما نغزو الموقع الذي منه تتشكّل العلاقات والحالات"(57). لكنّ الإثبات هنا لا ينبني على ما تمّ نفيه، بل إضافة عليه مع الحفاظ على نفس الغاية المراد تبليغها وهي التجاوز الذي يحمله المشروع. فهو يثبت بهذه الصيغة أنّه ينطلق من نفس الموقع الذي انطلق منه الكاتب التقليدي. لكنّه لا يقف معه في نفس المنتهى، إذ يتجاوزه إلى أبعد الحدود. ومن الصيغ التوجيهيّة كذلك نجد إخراج الملفوظ في شكل "وصيّة"، "علينا أن نكسر هذا الصوت ونعلن أنّ كلّ كتابة خاضعة لشهوة النار. للكاتب حقّه في صياغة الحاضر مثلما كان للأسلاف حقّهم في صياغة الماضي. هكذا ننجز شيء ليس وثنا، مرشّحا للتحول والتجديد.."(58). فظاهر القول يدلّ على أنّ الخطاب موجّه إلى الذات أي المتكلّم وجماعته. ولكنّ ما سعى إليه المرسل هو ضمّ المرسل إليه من خلال ضمير المتكلّم الجمع. وبالتالي يصبح القارئ هو المعني بالفائدة الحاصلة من العمل بالوصيّة.

إنّ لجوء الكتاب إلى إستراتيجية التوجيه يجد تبريره في طبيعة الخطاب البياني، كخطاب يسير في اتجاه واحد من مرسل إلى متلقي. وقد أملته حاجة الكتّاب إلى طريقة في الإقناع لها مفعول فوري. فقد كانوا في حاجة ماسّة إلى وسيلة تضمن تجاوب القارئ مع مشاريعهم. كما يكشف لجوء الكتاب إلى هكذا إستراتيجية عن بعض خصوصيّات الأفق التاريخي الذي كتبت فيه البيانات. فالتوجيه لا بدّ أنه مثّل نسقا في التخاطب يسيّج كلّ عمليات التواصل القائمة في المجتمع. حيث يسعى كلّ متكلّم إلى التسلّط على الطرف المقابل له، فارضا عليه رؤاه وفهمه لجميع الظواهر والأشياء في الكون. ويستوي في هذا جميع أجناس الخطاب، الديني والسياسي والثقافي والعلمي. حيث لا يتم إشراك الآخر في إنتاج المعنى من خلال التحاور المتساوي الذي يؤدي إلى الظفر المشترك بالمعنى في مسألة من المسائل. بل تقوم كلّ ذات، حسب الموقع الذي تحتله، بالإملاء وإلقاء الأوامر على وجه التسلّط والاستعلاء خدمة للمصلحة الخاصّة(59). ومن هذه الناحية يمكن القول إنّ الكتاب قد استخدموا الآلية نفسها التي حاولوا التحرّر منها. فهل نحن -على حدّ عبارة جابر عصفور- " إزاء آليّة المقموع الذي ينعكس القمع على وعيه، فيشع منه على مصدره، أو يوقع بغيره ما وقع عليه، ويعيد إنتاج القمع كما يعيد سطح المرآة إنتاج ما يسقط عليه من إشعاع، أم نحن إزاء عقلية الثّأر القديمة، تنبعث من اللاّشعور الثقافي النقلي التقليدي بكلّ مكوناته ونواياه وثاراته، لتوقع وزر البعض على الكلّ، وتعيد تمثيل فعل الثأر في الاتجاه المضاد على نحو يجعل المفعول به فاعلا للفعل نفسه؟"(60).

3. حدود التماثل ومشاريع الكتاب:
رأينا في ما تقدّم عدّة سمات مشتركة بين البيانات، وانتهينا إلى أنّ هذا التماثل نابع من تأثير الأفق التاريخي الذي جعل الكتاب شبه متفقين على أهداف وطرق صياغة الملفوظ الحامل لها. لكنّ لا يعني ذلك ضرورة التطابق التام في الغايات الدفينة التي أُنشأ من أجلها كلّ بيان. فكلّ واحد منها يحمل مشروعه الخاصّ الذي يحقّق من خلاله وجوده المستقل(61). فمن المعلوم أنّ "كلّ كاتب ينطلق من أفق فكري وجمالي يكيّف تصرّفه في الموضوعات والأفكار وتدبيره للغة وسياسته للأشكال والأساليب. ويتكوّن من تمرسه الجمالي بالجنس الأدبي الذي يبدع فيه ومن تصوره الخاص للكتابة ومن ذخيرة قراءته"(62). وهو ما يجعلنا نقرّ بوجود مسافة فاصلة بين الكاتب والآخر . فرغم أنّ البيانات عبّرت عن هموم جماعيّة واتحاد في الموقف فيما يخصّ القضايا المطروحة، إلاّ أنّ بعض الجزئيّات تبرز بوضوح خصوصيّة كل مشروع.

1.3. المشروع النقدي لأدونيس:
ينطلق أدونيس من فكرة مركزيّة وهي تصحيح مفهوم الحداثة، وهذا التصحيح يمرّ عبر هدم التصوّر الذي بناه العرب لهذا المفهوم ودأبوا على قياس الأعمال الأدبية على أساسه. ومن هذه الناحية فإنّ تغيير المفهوم المتداول بمفهوم آخر جديد يتطلّب مراجعة عميقة لما هو متأصّل في الفكر. وبالتالي فإنّ عمل أدونيس هو عمليّة نقد (بالمعنى الفلسفي للكلمة) للعقل الذي أنتج هذا التصوّر للمفهوم. فقد بدأ بعملية تشكيك في جميع الخطابات التي استعملت هذا المصطلح وروّجته بمفاهيم متعدّدة أخرجت الحداثة عن سياقها الأصلي حسب رأيه.

هذا الشكّ الذي يمارسه أدونيس ليس شكّا هدّاما يحطّم الأشياء دون أن يجد لها بديلا. بل على الأرجح أنّ صاحبنا يميل إلى الشكّ "الديكارتي"(63) الذي يفتح طريقا نحو المعرفة. ويمكن القول بالتالي أنّ مشروع أدونيس فلسفي أكثر من كونه مشروعا ثقافيا. وقد نتبين ذلك في الخطّة الحجاجية التي اعتمدها والتي تشبه إلى حدّ ما طريقة الفلاسفة في عرض أفكارهم (essai). حيث يستعرض في خطابه أطروحته والأطروحة المضادّة، (thèse et antithèse ) مجملتين في المقدّمة. ثمّ يبدأ في عرض الأفكار (les arguments) المضادة واحدة تلوى الأخرى ويبيّن هشاشتها والإخلالات التي تتضمنها ومن ثمّة ينقضها ويفصح عن الرأي البديل الذي يتبنّاه. وفي الأخير يحوصل ويستنتج (synthèse ).

2.3. المشروع الإصلاحي لمحمد بنّيس:
أما "محمد بنيس" فقد كان مشروعه "إصلاحيا"، فهو يأخذ على عاتقه تصحيح النظرة الخاطئة للشعر ولوظيفته في الثقافة المغربية بصفة خاصة والعربية بصفة عامة، وفي الآن نفسه، تصحيح وظيفة الخطاب السياسي. فقد كان همّه الأوّل فصل الشعر والأدب عموما عن النشاط السياسي. لأنّ المرحلة التي كانت تقتضي ذلك التلازم قد انتهت مع استقلال المغرب عن المستعمر الفرنسي، ولم يعد هنالك مبرّر لتحكّم السياسي في الأدبي. يقول "يظهر هنا أنّ الشعر في المغرب الحديث ظلّ على هامش الحديث السياسي الذي يتحكّم في كلّ المبادرات، فهو يجعل من الشاعر تابعا لا مبدعا، أسيرا لا متحرّرا، والكلمة الأولى لتصريف حقيقته السياسية. لهذا التهميش دور سلبي في الاستمرار الشعري"(64). إنّ وظيفة الشعر عند "محمد بنّيس "متحوّلة عبر الزمن وليست ثابتة. لذلك كان من المهم بالنسبة إليه إعادة النظر في علاقة الشعر بالسياسة أو السلطة بصفة عامة. لأنّ حقيقة كلّ منهما لا تتفق دائما. ولا يمكن بالتالي أن يلعب الفكر السياسي دور الموجه للإبداع دائما. لأن في ذلك التوجيه قضاء على الإبداع واختصار لـ"وظيفة الشعر في الجواب على السؤال السياسي، لا السؤال الشعري- التاريخي"(65).

يرى بنّيس أنّ تصحيح العلاقة بين الخطاب الأدبي والخطاب السياسي تعود بالفائدة على الطرفين. لكنّه يُظهر أنّ المستهدف بالإصلاح بالدرجة الأولى الخطاب السياسي الذي يتوهّم أنّه "المالك وحده للحقيقة مما يلغي الشعر والإبداع، [...] ويدفع إلى تكريس المتخلف والمستبدّ، بدل تعضيد المتقدّم والمتحرّر"(66). إنّ ما يؤكّد موقف بنّيس الإصلاحي وليس الثوري قوله: "ليس هذا الجهر تنطّعا، ولا تدميرا للحديث السياسي، بمشتقاته، وخاصّة التقدمي منه، بل هم انصهار واع ومسؤول في تحويل التاريخ، ودعوة إلى التبصّر في الفروقات الموجودة بين قوانين القول الشعري والحديث السياسي، لا تابع ولا متبوع، كلّ منهما يعضد الآخر ويفتح له أفقه"(67). فهو يسعى إلى إيجاد صيغة تجعل من الأدبي والسياسي متعاضدين لتحقيق التقدّم والرقي الفكري.

3.3. المشروع الثوري لقاسم حدّاد وأمين صالح.
إنّ نبرة الخطاب عند كاتبي البيان تشير في أغلب الأحيان أنّ مشروعهما ينطلق من أسس إيديولوجيّة ثورية(68) . فهما قد بيّنا رفضهما لكافة أشكال السلطة ودعائمها وداعميها. وتمثّل الاستعارة المهيمنة على الخطاب خير دليل على تلك الرؤية الثورية. فاستعارة الحرب، ليست مجرّد وسيلة لرسم صورة لحدّة المنافسة بين القديم والجديد، وإنما دليل على أنهما يفكّران في أنّ الكتابة مسألة حياة أو موت(69). كما أنّ مبدأ المواجهة بين الأنا والآخر يسيطر على كامل الخطاب بما يؤكد على نحو كبير أنّ منطلقات البيان ذات طبيعة ثأرية.

فقد عقد الكاتبان صلة متينة بين الأدب التقليدي وكتابة ونقاده والمنابع الفكرية التي أنتجته والمجتمع الذي تلقاه وألفه والسلطة السياسية الحاكمة التي تبنّته. وأعلنا عن دخولهما في صراع مع هذه الأطراف جميعا والتحريض عليها، لأنّها رموز للسلطة والقمع. وحاولا أن يلتمسا عذرا للتحريض من خلال رسم صورة للأديب التقليدي المنافس لمشروعهما في قولهما: "لابدّ للمقلّد لكي يفرض حضوره أن يقمع وأن يصادر حرية الآخر الذي لا يقلّد. إرهاب فكري نحاربه بالإفراط في التجريب"(70). فالآخر -بالنسبة إليهما- خصم وعدو وليس منافسا. أما نمط الكتابة السائد فهو قانون جائر يحدّ من الحريّة ولا يمكن الالتزام به. فـ"الكاتب لا يمتثل للقوانين التي تأتي إلى النصّ من خارجه"(71). والنقاد "يمارسون النقد كفعل قضائي(72). ويعمل بالتالي كمقيّد للحرية إلى جانب الرقابة المفروضة من الدولة "محاكم التفتيش تعلن عن حضورها من وقت لآخر"(73).

الخاتمة.
وقع كتاب "البيانات" تحت الأفق التاريخي نفسه، فتماثلت رؤاهم واشتركوا في الأهداف المباشرة. لكنّهم اختلفوا في مستوى المشاريع التي تظلّ في كلّ الأحوال فردية. فقد جمعهم همّ واحد وهو تجيد الأدب والرقي بقارئه. وكانوا جميعا واعين بخطورة اللحظة التاريخية، فأخذوا على عاتقهم مسؤولية تحريك الجوّ الثقافي والفكري العربي، بعد أن بلغ فيه التكلّس والجمود مرحلة متقدّمة. وقد احتاجوا إلى الكتابة ضمن هذا القالب المستعار من مجال آخر، لأنّ الخيارات لم تكن متاحة أمامهم. ولا سبيل إلى كسب معركة التجديد بوسائل تقليدية. لكنّ هذه "البيانات" تظلّ في نهاية المطاف قراءة تضاف إلى رصيد التجارب الإبداعية، وليست كلمة فصل لمعانيها. فلا يمكن اعتبارها دائما منطلقا للفهم، فهي تحتلّ مرتبة النصوص الموازية، شأنها شأن الشروح والمقدّمات والتعليقات التي تسبق أو تلي ظهور الأعمال الأدبية. وقد تفلح في الإشارة إلى ميلاد أنواع جديدة، لكنها لا تحدّ من حريّة القارئ في تأويلها، لأنه هو الآخر يتلقى العمل الأدبي بشروط خاصّة به.

الهوامش

  1. البيانات"، جمع وتقديم محمد لطفي اليوسفي، دار سراس للنشر، تونس، ط 1، 1995.
  2. المصدر السابق، ص 6.
  3. بول آرون وآخرون، "معجم المصطلحات الأدبيّة"، ترجمة محمد حمود، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 2012، مادة "بيان"، ص 274.
  4. تطرّقنا إلى مفهوم البيان بأكثر تفصيل في مقال سابق. وبيّنا أنّ استعمالاته الأولى في مجال الأدب ظهرت في أوروبا تحديدا ومنها انتشر إلى باقي الثقافات ومنها العربيّة التي استفاد أدباؤها من القيمة المضافة لهذا الجنس. انظر لمجد بن رمضان، "إستراتيجية التوجيه في بيان موت الكورس"، مجلّة الكلمة، لندن، عدد 118، فيفري 2017.
  5. يرد البيان أحيانا في شكل مقدمة لبعض الأعمال الأدبيّة، من قبيل مقّدمة تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم الصادرة في طبعتها الأولى سنة 1986. والذي أعلن فيه عن ميلاد نمط جديد من الكتابة الروائيّة.
  6. Hans Robert Jauss, « Pour une esthétique de la réception » Traduit de l’allemand par Claude Maillard, éd, Gallimard, Paris, 1978
  7. نادر كاظم، "المقامات والتلقي"، المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، البحرين، ط1، 2003، ص15.
  8. بيّن سعيد يقطين أنّ المتلقي العربي يميل إلى الجاهز والمألوف ويستبعد كلّ تجربة أدبية جديدة تخالف انتظاراته قال: إنّ الخلفية النصية العربية ككلّ عام، والمغربية ضمنها، خلفية هامدة وانفعالية سلبا. لذلك يبدو تجاوبها مع النصوص المكرورة مفعما بالترحاب والتصفيق والانفعال، لأنّ ذلك يحقق مطمحا من مطامحها المكبوتة. أما النصوص غير المألوفة لديها فإنها تقابلها بالهجوم والرفض والاستياء لأنها، صعبة خارجة /منحازة عن المعتاد. وما ليس معتادا غريب، وخارج عن القيم النصية "العمودية". وهذه الظاهرة ليست خاصة بالقارئ العربي فقط، ولكنها ظاهرة شاملة تعرفها بالأخصّ المجتمعات التي تترسخ فيها قيم ماضوية أو تبغي إعادة ترسيخها في مواجهة التحديات التي ترمي إلى إذابة شخصيتها القومية والوطنية وسلبها هويتها المصيرية. ونجد هذه الخلفية النصية ليس فقط عند القارئ العادي، ولكن نجدها أيضا لدى القارئ/ الكاتب أو الناقد ذي الثقافة العالية. انظر، سعيد يقطين ،"القراءة والتجربة حول التجريب في الخطاب الروائي الجيد في المغرب"، الشركة الجديدة دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1985، ص-143
  9. يقول هيدجير: إنّ تفسير شيء ما إنّما هو مؤسّس في ماهيّته عبر مكسب سابق ورؤية سابقة وتصوّر سابق. فليس التفسير بأيّ وجه إمساكا خاليا من أيّ مسبّقات لشيء معطى سلفا". انظر، مارتين هيدجير، "الكينونة والزمان"، ترجمة، فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط-1، 2012، ص-294.
  10. انظر حسين الواد "المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب"، يقول: "إنّ القارئ يتزوّد بصنوف من المعارف يتكيّف معها فهمه وتكوّن لديه أفق انتظار معيّن لنوع معيّن من الآثار يترجّاها". ص-ص،18-19.
  11. جابر عصفور، "نظريات معاصرة"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1998، ص110.
  12. إدوارد سعيد، "الأنسنيّة والنقد الديمقراطي"، ترجمة فواز طرابلسي، دار الآداب، بيروت، 2005، ص63.
  13. البيانات، ص52.
  14. البيانات، ص 90.
  15. البيانات، ص 92.
  16. البيانات، ص-ص، 126-127.
  17. البيانات، ص، 127.
  18. البيانات، ص، 24.
  19. البيانات، ص، 78.
  20. البيانات، ص، 80.
  21. البيانات، ص، 91.
  22. البيانات، ص، 92.
  23. البيانات، ص، 92.
  24. البيانات، ص، 127.
  25. البيانات، ص، 23.
  26. البيانات، ص، 24.
  27. البيانات، ص، 24.
  28. البيانات، ص، 79.
  29. البيانات، ص، 79.
  30. البيانات، ص، 127.
  31. البيانات، ص-ص، 130-131.
  32. البيانات، ص، 22.
  33. البيانات، ص، 26.
  34. البيانات، ص، 28.
  35. البيانات، ص، 29.
  36. البيانات، ص، 79.
  37. البيانات، ص، 79.
  38. البيانات، ص، 93.
  39. حاتم الصكر، "منهج تحديا، المنهج اختيارا"، ضمن مجلة الآداب بيروت، عدد 1-3 جانفي مارس 1986.
  40. البيانات، ص، 127.
  41. البيانات، ص، 133.
  42. نشير هنا إلى أنّ مفهوم الاستراتيجيّة في الخطاب مثله مثل مفهوم البيان ينحدر من المجال السياسي والعسكري خاصّة. ويشير "إلى فنّ قيادة عمليّات الجيش في ميدان القتال وهو يقابل مصطلح خطّة (tactique)[...] وقد انتهى الأمر بهذا المفهوم إلى اكتساب معنى أعم يفيد كلّ عمل يتمّ القيام به بصفة منسّقة لبلوغ هدف ما" (انظر، معجم تحليل الخطاب، دومنيك منغنو وباتريك شارودو، ترجمة حمادي صمود وعبد القادر لمهيري، دار سيناترا، المركز الوطني للترجمة، تونس، ط1، 2008). وبات للمصطلح استعمالات في شتّى المجالات. وقد بيّن الدكتور "هشام القلفاط، أنّ"مفهوم الإستراتيجية يقوم على ثلاث محدّدات كبرى مؤدّاها السعي إلى تحقيق جملة من المقاصد المنشودة باستعمال منظومة وسائل في مقام احتراب صريح أو ضمني"(إستراتيجية الحجاج التصويري في خطاب الجرجاني"، حوليّات الجامعة التونسيّة، عدد 58، 2013.) ويصدق هذا –حسب رأيه- على إنشاء الخطاب. حيث يعمد المتلفّظ برسالة كلاميّة ما إلى تصريف العبارة على نحو يضمن له تحقيق هدف الإقناع. أمّا أصناف الاستراتيجيّات الخطابيّة فهي تفوق الحصر. ويختلف استعمال الإستراتيجية الواحدة من متكّلم إلى آخر. لكنّ بعض الخطابات المتشابهة من الناحية الأجناسيّة وفي مستوى انتظارات أصحابها، يمكن أن تلجأ إلى نفس الإستراتيجية. مع اختلاف بسيط في طرق توظيفها. ففي حالة البيانات نجد شبه إجماع على اختيار التوجيه كإستراتيجية للخطاب. ومفهوم "الإستراتيجية التوجيهيّة" حدّده الباحثون في تحليل الخطاب من خلال الإستراتيجية التي تقابلها "الاستراتيجيّة التضامنيّة". ومن خلال العلاقة بين طرفي الخطاب والهدف وأفعال القول. فالمتكلّم وفق الاستراتيجيّة التضامنيّة يسوق خطابه بشكل فيه الكثير من التأدّب والتخلّق. وذلك "إمّا مراعاة لعلاقته الحسنة مع المرسل إليه، وإمّا بقصد تأسيسه معه بالخطاب" (انظر، عبد القادر بن ظافر الشهري، "استراتيجيات الخطاب: مقاربة لغوية تداولية"، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، ط1، 2004). وبالتالي فإنّ العلاقة الجامعة بين طرفي الخطاب تقوم على تفعيل مبدأ التعاون. في حين تمثّل الاستراتيجيّة التوجيهية نوع من ممارسة القوّة في الخطاب. وتظهر عند "خرق قواعد التأدّب" التي جعلها "ليتش" المبدأ الأوّل عند التلفّظ بالخطاب.حيث يسوق المتلفظ خطابه بشكل فيه الكثير من الضغط والتدخّل في توجيه المرسل إليه. ويترك المرسل جانبا كلّ أساليب تهذيب الخطاب. وقد حدّد "سيرل" الأفعال التوجيهيّة في الخطاب بأنّها "كلّ المحاولات الخطابيّة التي يقوم بها المرسل، بدرجات مختلفة للتأثير على المرسل إليه، ليقوم بعمل معيّن في المستقبل". وهذه الأفعال تتدرّج في مستوى ممارسة القوّة على المرسل إليه من "درجة التواضع واللين، بوصفها مجرّد محاولات، مثل الاقتراح، الدعوة لعمل شيء ما، حتى تصل التوجيهات إلى درجة الإكراه". بحيث يمكن أن تتحوّل هذه الأفعال إلى ممارسة الوصاية على المرسل إليه خاصّة في الخطاب البياني الذي يدفع متلقي الأدب نحو قبول التأويلات التي يتبنّاها منشئ الخطاب، ويحذّره في المقابل من تتبع مسالك أخرى في فهم العمل الأدبي وتأويله. وقد حدّد الباحثون في مجال تحليل الخطاب عدّة مسوّغات لاستعمال هذه الاستراتيجيّة. من بينها العلاقة غير المتكافئة بين طرفي الخطاب. من قبيل التفاوت في المستوى الثقافي أو في المركز الاجتماعي أو المهني أو رغبة المرسل في الاستعلاء، أو أي شكل من العلاقات التي تسمح للمرسل أن يوجّه أفعال المرسل إليه."فاستعمال الإستراتيجية التوجيهيّة نابع من علاقة سلطويّة بين طرفي الخطاب". وكذلك السياق الذي يفرض على المرسل استعمال أفعال التوجيه كالتحذير من خطر داهم. ولعلّ أهمّ المسوّغات تلك التي ترتبط بالهدف، من قبيل إصرار المرسل على تبليغ رسالته بأي شكل من الأشكال دون مراعاة للعلاقة بين طرفي الخطاب. حيث يبدو له الهدف أسمى من العلاقة. ومن هذه الناحية تبدو الاستراتيجيّة التوجيهّية صالحة في مقامات الاحتراب. حيث تكون العلاقة بين أطراف الخطاب سلطويّة أي أنّ للمرسل حقّ فرض سيطرته على المرسل إليه. وبالتالي فرض رؤيته ومشروعه، ولا يبقى للطرف الآخر سوى القبول والتسليم.
  43. البيانات، ص 22.
  44. البيانات، ص 22.
  45. البيانات، ص 22.
  46. البيانات، ص 23.
  47. البيانات، ص 24.
  48. البيانات، ص 28.
  49. البيانات، ص 78.
  50. البيانات، ص 79.
  51. البيانات، ص 93.
  52. البيانات، ص 93.
  53. البيانات ص 126.
  54. البيانات، ص 127.
  55. البيانات، ص 129.
  56. البيانات، ص 128.
  57. البيانات، ص 128.
  58. البيانات، ص 127.
  59. - انظر طه عبد الرحمان، " اللسان والميزان أو التكوثر العقلي"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 1998.فقد بيّن أنّ نزعة السلطة في الخطاب تظهر خاصّة عند غياب الدليل وينطبق هذا على مجموعة البيانات. يقول " يلقي المتكلّم بالدليل إلى الغير على وجه التساوي والتعاون، حتى يتمّ الظفر المشترك بالصواب في مسألة ما، بينما يلقي المتسلّط بأمره إلى الغير على وجه الاستعلاء والتفاضل، حتى يتمّ استتباب الأمن في ظروف مكانيّة وزمانيّة معيّنة. [...]يطلب صاحب الدليل إقناع الغير سالكا في ذلك مسالك تجلب رضى هذا الغير، بينما صاحب السلطان قد تكتسي مسالكه في الإقناع صبغة الإكراه والقمع كأن يذكره بمكانته". ص 132
  60. جابر عصفور، "الهوية الثقافية والنقد الأدبي"، دار الشروق، القاهرة، ط 1 ، 2010، ص 57.
  61. ننظر إلى مفهوم المشروع من خلال التعريف الظاهرتيّة له ويتمثّل في أبسط معانيه في "الجسر الذي يعبر من فوقه الموجود في حياته اليوميّة ليكون موجودا، فهو وسيلته لتحقيق الوجود"، انظر، روبرت ماجليولا،"التناول الظاهراتي للأدب نظريته ومناهجه"، ترجمة عبد الفتاح الديدى، مجلة فصول مجلد 1 عدد 3 سنة 1981 ص 182.
  62. انظر رشيد بنحدو، مقدّمة الترجمة العربيّة لكتاب "نحو جمالية التلقي"، هانس روبرت ياوس، منشورات دار الأمان الرباط، ط 1، 2016 ص-13.
  63. نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي "ديكارت".
  64. "البيانات" ص- 85.
  65. "البيانات" ص-86.
  66. "البيانات" ص- 87.
  67. "البيانات" ص-87.
  68. لابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ استخدامنا لمصطلح الإيديولوجي لا يعني بالضرورة تهمة تقلل من قيمة مشروع الناقد. فالأيديولوجيا في كثير من الأحيان تمثّل نسقا حاضنا للأفكار يعطي توازنا للخطاب، إلاّ أنّ بعض الانحرافات التي أدّت إلى انغلاق بعض الإيديولوجيات جعلت المصطلح عند الكثيرين يرتبط بغايات خبيثة.
  69. "الاستعارات نادرا ما تكون محايدة: فإنشاء شيء بمفردات شيء آخر تنتج عنه وجهة نظر معينة حول "الشيء" موضوع التساؤل، وينطوي غالبا على اتجاهات وتقييمات محدّدة . وبمفردات نظرية الاستعارات المفهومية، فإنّ الاستعارات تبرز بعض أبعاد المجال المستهدف وتخفي أخرى. فاستعارة الحجاج الحرب على سبيل المثال، تبرز الأبعاد التنافسية والعدائية والصراعية للحجج، وتخفي أبعادها التعاونية والبناءة, ربما يؤثر هذا ليس فحسب على طرق تكملنا وتفكيرنا في الحجج، ولكن يحتمل كذلك أن يؤثّر على السبل التي نتصرف بواسطتها أثناء الحجاج. هل يعني هذا بناء على ذلك أننا مقيدون ومعصوبو الأعين تماما من خلال الاستعارات التي نستخدمها بشكل تقليدي. انظر إيلينا سيمينو "الاستعارة في الخطاب"، ترجمة عماد عبد اللطيف وخالد توفيق، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط 1، 2013.
  70. "البيانات" ص- 131.
  71. "البيانات" ص- 133.
  72. "البيانات"، ص-133.
  73. "البيانات" ص- 133.