يرى الباحث المصري أن سيد قطب جمد الإسلام عند حقبة من الزمن، دون إدراكٍ للمتغيرات وللتراكم المعرفيِّ عبر الزمن. فنـزع عن المسلمين القدرة على التطور. بما يتناقض مع فكرة أن الله جعل وظيفة الإنسان الأولى عمارة الأرض. وعمارة الأرض تقتضي بالضرورة أن يواكب الإنسان المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية.

نقد كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب

خالد عزب

 

نشأ سيد قطب أديبًا مبدعًا في جيلٍ من المبدعين المصريين، وعُرف في الأوساط الثقافية ببلاغته وفصاحته؛ لكن التحولات التي حدثت في حياته جعلته يندفع مع جماعة الإخوان المسلمين إلى بناء تصورات أبعد ما تكون عن الواقع؛ لذا فإن كتابه «معالم في الطريق» غلب عليه الطابع الإنشائي في لغة سلسة تدفع الإنسان بالاقتناع لما يُبرهن عليه. لكن إعمال العقل والنقد يقتضي أن نبعد عن العاطفة إلى تحليل مضمون نص الكتاب، والفصل بين الفعل البشري والنص المقدَّس، وتأكيد دور الفعل البشري: الخطأ/ الصواب؛ خاصة في القرون الأولى للإسلام. إذ إن التقديس المطلق لحقبة محددة ولمجموعة معينة من البشر ينـزع عنهم صفة البشرية ليصبحوا ملائكة. في الوقت الذي حمل فيه مجتمع المدينة المنورة في عصر الرسول r كل صفات المجتمعات الإنسانية. وهذا ما تؤكده الروايات والأحاديث النبوية.

تأثر سيد قطب بالمدينة الفاضلة لأفلاطون وما صاغه فلاسفة العرب حولها متأثرين بهذه الرؤية؛ فحوَّل مجتمع المدينة المنورة في الحقبة النبوية وحقبة الخلفاء الراشدين إلى مجتمعٍ مثاليٍّ افتراضيٍّ. إن أصعب ما في «معالم في الطريق» هو رغبة سيد قطب في تجميد الإسلام عند حقبة من الزمن، دون إدراكٍ منه للمتغيرات، بل للتراكم المعرفيِّ عبر الزمن. فنـزع عن المسلمين القدرة على التطور واستيعاب متطلبات الحياة. وهو ما يتناقض مع فكرة أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في كبَدٍ، وجعل وظيفته الأولى عمارة الأرض. وعمارة الأرض تقتضي بالضرورة أن يواكب الإنسان المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية.

فنموُّ وسائل التواصل الاجتماعي أدى إلى ظهور المجتمعات الافتراضية العابرة حتى للحدود، ونموُّ المدنِ أدَّى إلى تفكُّك البنى التقليدية للمجتمعات القائمة على العصبية، هذا كله أدى إلى بناء نظم اجتماعية وقوانين تنظِّم علاقة الفرد بالدولة والدولة بالفرد على صورة مغايرة لمجتمع سيد قطب المثالي؛ فالفرد عند سيد قطب يجب ألا يخطئ، لكنه في مجتمعنا يخطئ ويعاقب على قدر خطئه بالغرامة. فهل الغرامة هنا عقوبة شرعية؛ في حقيقة الأمر هذا يستدعي جانبًا هامًّا من التشريع الفقهي في الإسلام. غالبًا ما تتغافله التيارات الإسلامية السياسية، لأنه متغير ومتفاعل مع البيئة والمجتمع. هو العُرْف المستمد من الآية القرآنية "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" الاعراف آية 199. يفسر الفقهاء العُرْف في هذه الآية بما جرى عليه الناس وارتضوه، ولم يعترضوا عليه. ما دام لا يتعارض ذلك مع القرآن الكريم، أو الحديث النبوي الشريف([1]). والعُرْف في اللغة ضد النُّكر، وفي الاصطلاح: «العُرْف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبائع بالقبول»([2]). وهو إذًا ما يتعارف عليه الناس بينهم.

يعتبر العُرْف من أهم مبادئ التشريع التي يلجأ إليها الفقهاء في إجراء الفقه على الواقع في الكثير من المجالات([3]). استبعد سيد قطب ومن تبعه ممن قاموا بكتابة مناهج على شاكلته دور العُرْف من حياة المسلمين؛ والذي هو بمثابة قوة المعرفة([4])، وتراكم الخبرات. كأداتين لتطوير الحياة والتقدم؛ ومن ثَمَّ ينـزع عن البشر ما أعطاهم الله سبحانه وتعالى؛ فيذكر: «ومن ثَمَّ؛ لا يملكون أن يشرعوا لحياة البشر نظامًا يتحقق به التناسق المطلق بين حياة الناس وحركة الكون، ولا حتى التناسق بين فطرتهم المضمرة وحياتهم الظاهرة، إنما يملك هذا الحق خالق الكون وخالق البشر، ومدبر أمره وأمرهم». في الوقت الذي يناقض فيه سيد قطب نفسه حين قال في الكتاب نفسه: «أن هناك حاجات متجددة، نمو مطرد في الأفكار والتصورات، نمو مطرد في المجتمع والحياة»([5]). فهل هذا كان مقصورًا على جيل الصحابة، أم أن هذا يشمل كل الأجيال اللاحقة. هنا يبرز على الفور مفهومان هما مدار كتاب «معالم على الطريق» وما تبعته من مؤلفات بُنيت عليه فشددت الأمر أو شرحته وفق نظرة كل جماعة، هما مفهوما: الحاكمية/ الجاهلية.

مفهوم الحاكمية

يتوسع سيد قطب بصورة كبيرة في دلالات هذا المفهوم، مما جعله مناط كل شيءٍ في الدين الإسلامي والحياة، حتى كاد أن يكون المصدر الوحيد للمعرفة في المجتمع الإسلامي. في حين إن الرسول r اعترف بالموروث والخبرة في العمل والحياة في عددٍ من المواقف؛ فهل ينكر سيد قطب صحيح الحديث على غرار «أنتم أدرى بشؤون دنياكم» وغيره، أم أنه انصبَّ في رؤيته على أحاديث النظرة فنجده يذكر: «ولا بدَّ أن نبادر فنبين أن التشريع لا ينحصر فقط في الأحكام القانونية - كما هو المفهوم الضيق في الأذهان اليوم لكلمة الشريعة. فالتصورات والمناهج، والقيم والموازين، والعادات والتقاليد. كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه، وحين يصنع الناس بعضهم لبعض هذه الضغوط، ويخضع لها البعض الآخر منهم في مجتمع. لا يكون هذا المجتمع متحررًا، إنما هو مجتمع بعضه أرباب وبعضه عبيد – كما أسلفنا – وهو من ثمَّ مجتمع متخلف... أو بالمعنى الإسلامي مجتمع جاهلي»([6]). هنا سيد قطب حين يتوسع في مفهوم الحاكمية، تكون الهوةُ بينه وبين المفهوم الدقيق للحاكمية في الإسلام واسعة، ففي لسان العرب لابن منظور يحمل مفهوم الحاكمية دلالات لغوية عديدة فجذره اللغوي «ح . ك . م» وكذلك في عدد من المعاجم اللغوية، ومنها القضاء والمحاكمة والفصل والإتقان والحكمة...إلخ.

في حين يشير هذا المفهوم في القران الكريم إلى: القضاء والفصل في المظالم والخصومات، والإحكام والإتقان، والفهم والفقه، والفعل والعمل، وعليه فإن كافة دلالات هذا المفهوم تؤدي إلى أن غايته إقامة العدل بين البشر أيًّا كان طريق هذا العدل.

هذا يستدعي على الفور من الخبرة التراكمية المعرفية لدى علماء المسلمين، قاعدة فقهية هي: «العادة». والأصل الذي تستند إليه هذه القاعدة قوله تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين". العادة في اللغة مأخوذة من العَود أو المعاودة بمعنى التكرار. والعادة اسمٌ لتكرير الفعل أو الانفعال حتى يصير سهلاً تعاطيه كالطبع، ولذلك قيل: العادة طبيعة ثانية.

ومادة العادة تقتضي تكرار الشيء وعوده تكرارًا كثيرًا حتى يخرج عن كونه واقعًا بطريق الاتفاق. ولذلك كان خرق العادة لا يجوز إلا في معجزات الأنبياء. ويقال العادة محكمة، ومعنى محكمة: أي مفعول من التحكيم، ومعنى التحكيم القضاء والفصل بين الناس، أي أن العادة هي المرجع. وأما معنى هذه القاعدة في اصطلاح الفقهاء: فهو أن العادة تجعل حكمًا بين الناس، لا سيما فيما ليس فيه ضابط في الشرع أو في اللغة.

الفرع الأول: دليل هذه القاعدة

- قاعدة (العادة تعتبر إذا اطردت)

مكانة القاعدة من العُرْف

هذه القاعدة تمثل شرطًا مهمًّا من شروط العُرْف، والمراد باطراد العادة هنا أن يكون العمل مستمرًّا بها في جميع الأوقات والحوادث بحيث لا يتخلف إلا بالنص على خلافه. ومعنى هذا أن تكون العادة مستمرة لا تتخلف من بلدٍ إلى آخر أو من مكان إلى آخر.

وهناك شروط أخرى، منها: أن تكون غالبة، بمعنى أن يكون العمل بها هو الغالب، ومعنى الاطراد عدم تخلف العمل بها. والشرط الثالث: أن تكون سابقة على التصرف، ولذلك قال الفقهاء: لا عبرة بالعرف الطارئ. والشرط الرابع: ألا يعارضها تصريح بخلاف، كأن يشترط المشتري على البائع حمل المبيع، فإنه يجب العمل بصريح هذا الشرط وإن كانت العادة بخلافه. والشرط الخامس: ألا تعارض نصًّا شرعيًّا فإنه لا عبرة فيها عند ذلك كحلق اللحية بحجة أن حلقها صار عرفًا لكنه مخالف لأمر النبي r بحفّ الشارب وإعفاء اللحية، فكان عرفًا فاسدًا.

- قاعدة (لا ينكر تغيُّر الأحكام بتغير الأيام)

شرح المفردات:

ينكر: من نكر، والنكرة ضد المعرفة، وتنكر أي غيَّره إلى مجهول.

تغيّر: من غيَّر الشيء فتغيَّر، ومنه غيَّر الزمان في تغيّر الزمان.

الأحكام: جمع حُكم من المنع.

الزمان: الزمن والزمان اسم لقليل الوقت وكثيره وجمعه أزمان.

المعنى العام للقاعدة

أي لا يستبعد تغيير الأحكام العرفية أو المصلحية بتغير الأيام. أي بتبدل الزمان لأن العُرْف تابع لزمان أهله، فإذا تغير العُرْف وتبدَّل بتبدُّل الزمان فهذا أمر معروف لا يستبعد ولا ينكر. والمراد بالأحكام هنا جملة الأحكام التي يلزم بناؤها على العُرْف أو المصلحة، فالعُرف يتغير والمصلحة تتغير فيتغير الحكم تبعًا لذلك. أما الأحكام الثابتة بالنصوص أو الإجماع أو القياس فإنها أحكام لا تتغير.

أسباب تغير الأحكام الشرعية

القاعدة نصَّت على تغير الحكم بتغير الأزمان، والمقصود بها العُرْف، وهناك أسباب أخرى تتغير الأحكام بتغيرها، من هذه الأسباب:

فساد الزمن

فقد انتشر الفساد انتشارًا عظيمًا، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج عن الشرع بالكلية، لأن هذه الشريعة جاءت لنفي الضرر أو الحرج عن الناس. ومن أمثلة ذلك ما أفتى المتأخرون من الحنفية بجواز أخذ الأجر على تعليم القرآن لما انقطع عطاء العلماء من بيت المال. ومن ذلك: تضمن الصنَّاع وقد كان الحكم فيهم أيام النبي r قوله تعالى: "ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم" (التوبة:91) ، لكن لما فسد الزمن وخربت الذمم أفتى المتأخرون بوجوب الضمان على الأجير. ومن ذلك: التسعير، فلم يشأ النبي r أن يسعر للناس لما غلا السعر في عهده وقال: «إن الله هو المسعّر القابض الباسط الرزاق»، لكن لما فسد الزمن أفتى المتأخرون بجواز التسعير حماية لمصالح الناس من جشع التجار.

تغيُّر المصلحة

والمصالح التي يطرأ عليها التغيير هي المصلحة المرسلة، وهي التي لم يرد نص خاص باعتبارها ولا إلغائها. مثل كتابه المصحف ولم يتقدم فيه أمرٌ ولا نهيٌ، وتدوين الدواوين، وعمل السكة، واتخاذ السجون، وهدم الأوقاف التي بإزاء مسجد النبي r للتوسعة، وحرق المصحف، وجمع الناس على مصحف واحد، وغير ذلك. ولما كانت المصالح تتغير فالحكم المبنيّ عليها يتغير تبعًا لتغيرها. والأمثلة على ذلك واضحة.

تغيُّر الأحوال

وقرائن الأحوال من الأحكام التي تندرج تحت السياسة الشرعية التي تختص بولاة الأمور، وقد أعطى الشارع للحاكم سلطة القضاء بما يراه من أحوال الناس. وقرائن الأحوال فرعٌ عن المصالح المرسَلة لأنها في النتيجة المحافظة على مقصور الشرع.

تغيُّر الحكم بتغير المقاصد

قد يتغير الحكم بتغير علته ومقصده. فمن ذلك مسألة التماثيل والصور، فقد ذهب أهل العلم إلى تحريم اتخاذ الصور والتماثيل لما فيها من مضاهاة خلق الله تعالى لحديث عائشة «الذين يضاهون بخلق الله»، وحديث أبي هريرة «ومن أظلم ممن يخلق كخلقي»؛ فالمقصد من التحريم هو مضاهاة خلق الله.

وذهب بعض أهل العم كابن العربيّ إلى أن النهي عن التصوير هو أنه ذريعة لعبادة الأوثان والأصنام عن طريق الغلوّ في هذه الصور والتماثيل. أما من صنع الصور والتماثيل لغرض الامتهان والابتذال كلعب الأطفال والدمى والتي لا يرقى إليها شك التعظيم، فهذه جائزة، وإنما جازت لتغير مقصد الفعل لأن المقاصد تغير أحكام الفعل.

تغيُّر الأحكام باختلاف الأماكن

وقد فرع على هذا الأصل الإمام السالميّ عندما تكلم عن حريم القبر. فذكر أقوال أهل العلم، فقيل إنه ثلاث أذرع، وقيل ذراعان، وقيل ذراع، وقيل مرجعه إلى نظر العدول حيث لا مضرة فيه على القبر. ثم قال: لكن اختلفت الأماكن فرأى بعضهم صلابتها محددة بالذراع ورأى آخر توسطها فحددها بالذراعين، ورأى الآخر سهولتها فحددها بثلاث.

ومثَّل لها ابن القيم بترك الرسول إقامة الحد في الغزو حتى لا يفر المحدود إلى المشركين. ومن الأمثلة اختلاف الأحكام في التشريع المدني عن التشريع المكي، وهذا هو الأصل في اختلاف الأحكام باختلاف المكان. من ذلك اختلاف الحكم في دار الحرب عن دار الإسلام وهو اختلاف باعتبار اختلاف المكان. ومن ذلك اختلاف الحكم في المساجد عنها في غيرها فيحرم فيها حمل السلاح. وكذلك البيع والشراء ونشد الضالة واللبث فيها للجُنُب والحائض، وكل ذلك باختلاف المكان.

ونستدعي أيضًا من تراثنا الفقهيّ تأكيد الفقهاء على الحقوق حتى صار للحق في الفقه الإسلامي مفهوم محدد أقيمت عليه مئات الأحكام الفقهية، وعليه فإن مفهوم العدل وفق هذا هو القيمة العليا التي على أساسها قام الإسلام، ونرى تعاطي الفقهاء مع هذا المفهوم على النحو التالي:

الحق في اللغة مصدر «حقَّ الأمر» يحق ويحق حقًّا وحقوقًا من بابي ضرَب وقتَل، صار حقًّا وثبت، قال الأزهري: معناه وجب وجوبًا ومن ذلك قوله تعالى: "لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون" (يس:7). أي وجب، وقوله تعالى: "وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين" (البقرة: 241)أي ثابتًا وواجبًا عليهم، وقال الراغب الأصفهاني: أصل الحق المطابقة والموافقة. والحق من أسماء الله تعالى، وهو ضد الباطل.

يتنوع الحق إلى نوعين: عام وخاص.

النوع الأول: الحق العام

وهو ما ترتب عليه مصلحة عامة للمجتمع من غير اختصاص بأحد، فالشرع منحة لكافة الناس ألزمهم بالحفاظ عليه. وذلك كالمرافق العامة من مياهٍ وطرقٍ وتعليمٍ وصحةٍ وانتفاعٍ بالمباحات.

ومعنى العموم في هذا النوع: أن الانتفاع بها حق للجميع وصيانتها والحفاظ عليها فرض على الجميع، ووليِّ الأمر حين يباشر ذلك إنما هو وكيل عن العامة فينفق عليها من بيت المال. فإن ضاق بيت المال ولم يوجد فيه فائض ينفق منه على هذه المرافق فوَّض وليَّ الأمر إلى القادرين من السكان ما به يتم القيام بما يلزم نحو الحفاظ على هذه المرافق ولذا نجد أن الحق العام يطلق بالاشتراك بين حق الله وحق الإنسان العام.

النوع الثاني: الحق الخاص

وهو ما ترتب عليه مصلحة خاصة لفرد أو أفراد معينين، وذلك كحق الإنسان في داره وعمله ونحو ذلك. فلصاحبه وحده التصرف فيه والمطالبة به وإسقاطه إن احتمل الإسقاط إلى غير ذلك من أنواع التصرفات.

يتضح من ذلك أن التراث الفقهي كان غائبًا عن سيد قطب حين أعد هذا الكتاب. هل لأنه لم يتعاطَ مع علم أصول الفقه، قد يكون، لكن بلا أدنى شك، كان سيد قطب نتاجًا لمجتمع مضطرب الأفكار بين الحركات الشيوعية وبين أنصار الاستعمار الاستحواذي الغربي على العالم الإسلامي، وبين حركات متأثرة بالفاشية والنازية في مصر، وظهر هذا جليًّا في تخبطه داخل «معالم في الطريق»؛ فما بين تكرار الأفكار، وهو ما يفسره البعض على أنه محاولة للتأكيد عليها، وما بين اضطرابه وهو واضح بصورة جلية حين يكرِّر ويكرِّر بصور مختلفة.

إن إحدى الملمات اليوم في العلوم الإنسانية هي أن المنهج التجريبـي وأصول القانون أخذهما الغرب من المسلمين عبر الترجمة خاصة من التراث الأندلسـي([7]). لكن في الوقت نفسه ينكر على المسلمين الاستفادة مما طوره الغرب من حقول الدراسات الإنسانية، حتى إنه ينفي صفة العلم عن الدراسات الإنسانية المعاصرة([8]) فماذا عن الأنثروبولوجيا «علم دراسة الإنسان والمجتمعات الإنسانية» الذي أصبح علمًا أساسيًّا لفهم الشعوب. فإذا أردنا اليوم نشر رسالة الإسلام لدى الشعوب غير المسلمة، هل يمكن أن ننشره من خلال هذا العلم لنعرف المداخل الصحيحة لنشر الإسلام.

إن جانبًا ملفتًا للنظر في كتاب سيد قطب هو محاولة خلطه ما بين التفكير الإنساني أو الفكر الإنساني والإسلام، حتى إن هذا الأمر سبَّب لغطًا كما لفت الانتباه عددٌ من المفكرين. فكلٌّ من فؤاد زكريا ومحمد أركون اعتبرا الفكر أو التفكير ظاهرة مستقلة بطبيعتها خاصة في سياقها التاريخي عما تنتمي إليه من أصول ثابتة مقررة في العقيدة والشريعة الإسلاميتين([9])، بينما يطلق سيد قطب على الفكر «التصور» وبحمل للإسلام كدين([10])، في حين إن التصور عملية فكرية محضة، تحتمل الخطأ والصواب، فلا يمكن أن يستعمل «التصور» كدلالة على كليات الوحي الإلهي.

من هنا نستطيع أن نستوعب أنه حينما جابه سيد قطب «وثيقة المدينة»؛ وهي وثيقة التعايش بين المسلمين والآخر داخل مجتمع المدينة المنورة، يرى أنها جاءت لظروف المواءمة السياسية([11])، في حين إنها حملت مضامين تتواكب مع المتغير الاجتماعي في المدينة المختلف عن مكة المكرمة. ([12])

وعلى الرغم من أن وثيقة المدينة تؤكد وتشير إلى مبدأ المواطنة، كما أن الرسول r حين غادر مكة المكرمة مهاجرًا كان فراقها عليه صعبًا، فإن سيد قطب يرى «أن كل قيمة الأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج الله وسلطانه فيها»([13])، وهنا تبرز فكرة وحدة الكون لدى سيد قطب الذي يرى أنه يجب أن يكون كله على منهج واحد يدين بالإسلام دون مساحة للتعددية، فجعل بذلك الإسلام دين عنفٍ ولد هكذا، فيقرر: «هذه ملابسة لا بُدَّ منها، تولد مع ميلاد الإسلام ذاته، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضًا ولا خيار له في خوضها، وهذا صراع بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً»([14])، ويؤكد ذلك بقوله أيضًا: «ومن ثمَّ لم يكن للإسلام أن ينطلق في «الأرض» لإزالة «الواقع» المخالف لذلك الإعلان العام.. بالبيان والحركة مجتمعين، وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبد الناس لغير الله أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه والتي تحول بينهم وبين سماع «البيان»..»([15]). إن الحجة التـي يسوقها سيد قطب للجهاد هي إزالة الحواجز أمام الناس للاستماع إلى «البيان» وقد كان هذا في العصور المبكرة للإسلام واجبًا لكنه واجب ينتفي مع عصر المذياع والتلفاز والإنترنت؛ وهي وسائط جعلت من يريد أن يعرف الناس بالبيان وهو الإسلام أمرًا سهلاً دون حواجز أو قيود. وعبر صفحات الكتاب تتراوح فكرة الجهاد، ولدى سيد قطب تعبيرات مختلفة يسوقها للاستدلال على ما يذهب إليه على نحو «الذي يدرك بطبيعة الدين- على النحو المتقدم- يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف- إلى جانب الجهاد بالبيان...» ([16]).

في حين يعود سيد قطب ليناقض ما سبق حين يقول: «ربما كان ذلك أيضًا لأن الدعوة السلمية كانت أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش، ذات العنجهية والشرف..»([17]) فهل كان للدعوة السلمية للإسلام أثر في نشر الإسلام أم كان الجهاد أكثر أثرًا، إن كل ما بنـى عليه سيد قطب رؤيته عن الحرب الجهادية لنشر الإسلام خاصة خلال حقبة الصحابة والدولة الأموية لم يدم غير قرنٍ واحد من عمر الدين الإسلامي، بينما كان التجار المسلمون بحسن خلقهم وحسن معاشرتهم وكونهم قدوة في معاملاتهم وفقهاء المسلمين الذين ابتكروا عقودًا ومشاركات متنوعة وتغطي كافة المعاملات التجارية حتى صار التاجر في الصين تجوب تجارته العالم دونما حاجة إلى أن يأتي إلى القاهرة مثلاً لأن له فيها وكيلاً تجاريًّا يتلقى البضاعة في «الوكالة» التي أخذت اسمها منه، ورأينا عقودًا متنوعة للشركات كالشراكة بالمجهود وبالوقت والمال بحصص إلى غير ذلك، فأحدث الفقهاء مع ممارسات التجار قفزات أدت إلى نمو متسارع لشبكة التجارة من الصين إلى الهند عبر الطرق البرية أو البحرية في ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ العالم. حتى في إفريقيا كان التجار هم من نشروا الإسلام بحسن إسلامهم لا بالسيف.

يناقض هذا كله نظرية نشر الإسلام وتغيير المجتمعات بالقوة؛ لأن القدوة الحسنة هنا هي مناط أداة التغيير الحقيقية، فماذا لو تم غزو العالم كله وفتحه ولم تكن هناك بين الفاتحين «قدوة حسنة»؟ لا شكَّ أن الأمر سيكون سيئًا.

يحمل «معالم في الطريق» بين جنباته وعبر سطوره نظرية عنصرية للإسلام، وهو ما يجعل الأمر في عصرنا الحديث والخطاب مع هذا العصر غير مقنع خاصة مع أهل الغرب، فتحرير وإلغاء العبودية كان بسبب كفاح الغربيين الذين أذلوا أهل إفريقيا وجعلوهم عبيدًا في الأمريكتين من قبل؛ فخاض أهل الرأي في بريطانيا والولايات المتحدة معارك لإلغاء الرقّ، وهي قيمة إنسانية سعى إليها الإسلام في ثورة على عصره وقيمه حينما جعل العديد من الكفارات عتق رقبة، وحفّز على تحرير العبيد. ومن ثمَّ عندما ينهي الغرب استرقاق البشر هنا تكون هذه القيمة تعظيمًا لقيمة أحدث بها الإسلام ثورة على عصره.

هنا يمكننا أن نبنـي نقضًا لواحدة من أسس كتاب «معالم في الطريق»، وهي الرفض الكلي لكل ما هو آتٍ من الغرب من قيم بدلاً من غربلتها وإعمال العقل فيها، لكن أتباع سيد قطب آمنوا إيمانًا مفرطًا به كمفكر، وهذا هو ما أخفى أعينهم عن كثيرٍ من العيوب التي كان من الممكن أن تظهر لهم لولا هذا الإيمان، مما يجعل إدراك هذه العيوب في الأوساط التـي يسودها الإيمان بهذا النص وصاحبه مخاطرة لا تحمد عقباها.

مفهوم الجاهلية

ما الجاهلية؟ إن ماهية الجاهلية والتوسع في دلالاتها أدت إلى ظهور تطرُّف إلى حد الاعتزال عن مجتمعاتنا المعاصرة، بحجة أنها مجتمعات جاهلية، هذا التطرف جاء من تحميل هذا المفهوم ما لا يحتمل من قبل سيد قطب. فلم يكن العرب قبل الإسلام بلا حضارة بصورة مطلقة كما حاول البعض أن يزعم، بل كانت لهم حضارة قديمة، خاصة في بلاد اليمن والتي كشفت عن أسرارها الاكتشافات الأثرية في العقود الأخيرة، كما كان للأنباط من العرب حضارة شواهدها ما زالت باقية في البتراء وبصرى، بل إن للعرب ممالك قبل الإسلام كالمناذرة، هكذا كان الأمر والشواهد على هذا لا تُعَدَّ ولا تحصـى([18]).

اعتاد الناس أن يسموا تاريخ العرب ما قبل الإسلام «التاريخ الجاهلي» أو «تأريخ الجاهلية». والجاهلية اصطلاح مستحدث، ظهر بظهور الإسلام، وقد أطلق على حال ما قبل الإسلام تمييزًا وتفريقًا لها عن الحالة التي أصبحوا عليها بظهور الرسالة على النحو الذي حدث عندنا وعند غيرنا من الأمم من إطلاق تسميات جديدة للعهود القائمة، والكيانات الموجودة بعد ظهور أحداث تزلزلها وتتمكن منها، وذلك لتمييزها وتفريقها عن العهود التي قد تسميها أيضًا بمسميات جديدة، وفي التسميات الجديدة التـي تطلق على العهود السابقة ما يدل ضمنًا على شـيء من الازدراء والاستهجان للأوضاع في غالب الأحيان.

وقد سبق للنصارى أن أطلقوا على العصور التـي سبقت المسيح والنصرانية «الجاهلية» أي «أيام الجاهلية» أو «زمان الجاهلية» استهجانًا لأمر تلك الأيام وازدراءً لجهل أصحابها لحالة الوثنية التـي كانوا عليها، ولجهالة الناس إذ ذاك وارتكابهم الخطايا التـي أبعدتهم في نظر النصرانية عن العلم وعن ملكوت الله([19]).

كان أصحاب الرسول r يعنون بـ«الجاهلية» الزمان الذي عاشوا فيه قبل الإسلام وقبل نزول الوحي فكانوا يسألون الرسول r عن أحكامها، وعن موقفهم منها بعد إسلامهم وعن العهود التـي قطعوها على أنفسهم في ذلك العهد، وقد أقر الرسول r بعضها ونهى عن بعضها الآخر، ويدل ذلك على أن هذا المعنى كان قد تخصص منذ ذلك الحين وأصبح للفظ «الجاهلية» مدلول محدد منذ عهد الرسول r، وعلى ذلك تكون الجاهلية مفهومًا تاريخيًّا انقضى مضمونه بفتح مكة المكرمة. ولا يعبر عن حالة موضوعية يمكن تكرارها على مدار الأزمنة، وتكفير الناس أمر شدَّد فيه فقهاء المسلمين بشدة وحزم قاطعَين، إذ لا يجوز تكفير أي إنسان.

والجاهلية من هذا المنطق ليست صفة عمت مجتمع قريش، بل وجدت فيه من القيم والعادات ما احتفظ به الرسول r؛ فالرسول r يقول «تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»([20]). ومن ذلك قوله أيضًا عن حكيم بن حزام t حيث قال «قلت يا رسول الله أرأيت أشياء كنت أتحدث بها في الجاهلية من صدقة ومن عتاقة وصلة رحم، فهل لي فيها من أجر؟ فقال النبي r «أسلمت على ما سلف لك من خير»([21]). ومن ذلك أن عمر سأل النبـي r «كنت قد نذرتُ في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: أوفِ بنذرك»([22]). إن الجاهلية بهذا المعنى انتهت من جزيرة العرب بفتح مكة المكرمة، إذ إنه بفتحها استظل بالإسلام كلُّ من في جزيرة العرب، باعتبار رمزية مكة كمكان مقدس وكأكبر حاضرة للجزيرة.

بعد هذا كله، يجعل سيد قطب في كتابه «معالم في الطريق» الجاهلية جاهلية موضوعية، بحيث إن كل من لا يتبع جماعته وهي جماعة المسلمين عنده في إطار مفاهيمه، خارج من الإسلام إلى الجاهلية، وبالتالي هناك جاهلية في كل زمان وفي كل الأرض، ومن هنا، فإن قتال كل من على الأرض خارج إطار هذه الجماعة واجب، وهو ما يتناقض مع صحيح الإسلام، انظر هذه الفقرة من كتاب «معالم في الطريق» إذ يقول: «إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا: إنه كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده.. متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي، وفي الشعائر التعبدية وفي الشرائع القانونية.. وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار «المجتمع الجاهلي» جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً!!».

تجاوز سيد قطب كثيرًا في هذا التعريف بل خرج عما أجمع عليه علماء المسلمين ومؤرخوهم وفلاسفتهم، إذ إن توسيع مفهوم الجاهلية يتناقض حتى مع ما قام به الصحابة الذين فتحوا مصر وشمال إفريقيا وأواسط آسيا في عصور عمر بن الخطاب t وعثمان بن عفان t والدولة الأموية، حيث كانت تعيش مجتمعات غير مسلمة، فلم يذلوا أهلها لأنهم غير مسلمين ولم يجبروا أحدًا على اعتناق الإسلام، وكان الإقناع سبيلهم لأن هدف الجهاد كان هو التخلية بين هذه المجتمعات ودعاة الإسلام كي ينشروا الإسلام، فإذا لم يؤمن هؤلاء فلا يجبر أيٌّ منهم على الإسلام، وأقوى الأدلة على ذلك تعدد الأديان لدى سكان العراق من صابئة وآشوريين وكذلك في بلاد الشام وهي من أوائل البلاد التـي فتحها جيل الصحابة والتابعين، ولم نرَ أي فقيه مسلم حتى ابن تيمية الذي عاش في بلاد الشام والذي يُعَدُّ مرجعًا للعديد من التيارات الإسلامية المحافظة، لا نراه يذكر مصطلح الجاهلية في كتاباته، بل نراه يذهب إلى المحاججة والمناظرة.

إن المسلمين الذين عاشوا في الهند حيث الديانات الوثنية كالهندوسية وغيرها، وحكموا الهند، لم يجبروا هؤلاء على الإسلام حيث حكموا الهند لقرون، بل تركوا هؤلاء ودينهم فأسلم من أسلم من الهنود وإلى الاستعمار البريطاني للهند كانت الهند بتنوعها تُعَدُّ من ديار الإسلام. يناقض هذا الواقع ما ذهب إليه سيد قطب؛ الذي من الواضح أن إدراكه للمعرفة والتجربة الإسلامية عبر قرون كانت محدودة، في الوقت الذي نراه حين يقر بالتعددية والتنوع الإنساني يستعين بالآية القرآنية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]الحجرات/ آية 13 [ليعود بعد ذلك لينفي التعددية بالقول: «إن هناك دارًا واحدة هي دار الإسلام، تلك التـي تقوم فيها الدولة الإسلامية»([23]). إن رؤية سيد قطب لكل المسلمين في عصره أنهم كفرة وفي جاهلية ونراه يذكر ذلك في الفقرة التالية: «كل ما حولنا.. تصورات الناس وعقائدهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية وفلسفة إسلامية وتفكيرًا إسلاميًّا هو كذلك من صنع الجاهلية».

هكذا ذهب سيد قطب وكل من تبعه، وهو ما لم يجرؤ عليه فقهاء وعلماء المسلمين طوال ثلاثة عشر قرنًا هجريًّا قبله، فهل كان هؤلاء في جاهلية، لا شكَّ أن هذا الأمر في حاجة لمراجعة، خاصة أن ثلة من علماء عصره من الأزهر ممن لم يختلف عليهم اثنان؛ وهم محمود شلتوت ومحمد عبد الله دراز ومحمد حسنين مخلوف ومحمد حسين الذهبـي وُئدت كتبهم ودراساتهم في ظل بوق الدعاية التـي ساقتها جماعة الإخوان المسلمين لصالح كتابات سيد قطب.

لم يتورع سيد قطب وأنصاره وفق ما سبق ذكره عن تكفير الناس، بل إن الأمر المثير هو أن كتابه «معالم في الطريق» يدعو إلى «إعادة إنشاء هذا الدين» بالعودة إلى المجتمع الذي يصفه سيد قطب في كتابه بأن رسول الله r جعل منه «جيل قرآني فريد»([24])، ونجده بعد ذلك ينكر على المسلمين أي اجتهاد عبر عصور التاريخ الإسلامي بقوله: «وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملاً أساسيًّا من عوامل ذلك الاختلاف البيِّن بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد»([25]).

وهْمُ سيد قطب

إن الباحث بدقة بين جنبات كتاب «معالم في الطريق» سيجد أن سيد قطب تأثر بكتابَي أفلاطون «الجمهورية» وكتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة» لأبي نصر الفارابي([26]) ألبس الكتابين ثوبه ذا الوجه الإسلامي، فعلى سبيل المثال عاش أفلاطون في عصر تدهورت فيه دولة المدينة City State، وكان المجد الذي اكتسبته اليونان بعد انتصارها على الفرس قد ذوَى قبل أن يُولد بوقت طويل، ولقد كان شعوره بإخفاق الروح اليونانية أقوى من شعور جميع معاصريه، وكانت حياته، مثل حياتنا، تقع في نهاية عصر من التوسع، فقد كان في الخامسة والعشرين عندما انتهت الحرب الكبرى بين أثينا وأسبرطة بهزيمة مواطنيه وإذلالهم، وقد تداعت أمام عينيه الإمبراطورية الأثينية، وأدرك أن المهمة الحقيقية ليست بناء أثينا وإنما إنقاذ اليونان، ولكي يتحقق هذا الغرض، كان لا بُدَّ من تحليل متعمق لدولة المدينة وطبيعة الإنسان..([27]). أي أن أفلاطون كما سيد قطب عاشا إحباطًا ولَّد مثالية غير موجودة فعليًّا. يرى الدكتور فؤاد زكريا أن أقوى المؤثرات الفلسفية في تفكير أفلاطون هو ذلك التيار الصوفي الانفعالي مقترنًا بالاتجاه الذي يدافع عن فكرة الثبات في مقابل التغير، والوحدة في مقابل الكثرة والتعددية([28])؛ وهذه نفس سمات كتاب «معالم في الطريق» الذي كُتب في لحظة انفعالية في حياة سيد قطب([29]) عقب خسارة جماعة المسلمين كل شيء أمام جمال عبد الناصر.

وليس ببعيد عن هذا التشابه بين الفارابي وبنيته الخيالية للمدينة الفاضلة وهي ذات المدينة التـي تخيلها سيد قطب في مجتمع المدينة المنورة في عصر الرسول r حيث تخيل في «معالم في الطريق» مجتمعًا افتراضيًّا بناه الرسول r على جيل التحم مع القرآن الكريم، فصار جيلاً قرآنيًّا مثاليًّا بلا ذنوب ولا خطايا، وجعل سيد قطب هذه المجتمع هو المقياس الذي تعيش عليه بقية المجتمعات. ولنعود إلى الفارابي مرة أخرى الذي يذكر عن المدينة الفاضلة: «المدينة الفاضلة شبيهة بالجسم الكامل التام الذي تتعاون أجزاؤه لتحقيق الحياة والمحافظة عليها، وكما أن مختلف أجزاء الجسم الواحد مرتب بعضها لبعض وتخضع لرئيس واحد هو القلب، وكذلك يكون الحال في المدينة، وكما أن القلب هو أول ما يتكون في الجسم ومن ثم تتكون بقية الأعضاء فيديرها القلب وكذلك رئيس المدينة؛ فالرئيس هو إنسان تحققت فيه الإنسانية على أكملها،.. وتضاد المدينة الفاضلة من غير فاضلة.. المدينة الجاهلة التـي لم يعرف أهلها السعادة الحقيقية واعتقدوا أن غاية الحياة في سلامة البدن، واليسار والتمتع باللذات والانقياد إلى الشهوات.. المدينة الفاسقة: التي عرف أهلها السعادة والله، ولكن جاءت أفعالهم أفعال أهل المدن الجاهلة،.. المدينة المبدلة، هي التي كانت آراء أهلها آراء المدينة الفاضلة ولكن تبدلت فيما بعد وأصبحت آراء فاسدة.. المدينة الضالة التـي يعتقد أهلها آراء فاسدة في الله والعقل الفعال..» ([30]).

هذه التقسيمات نراها بين صفحات «معالم في الطريق» وهو ما يعنـي أنها كانت في ذهنه وهو يكتب الكتاب، فهو يبحث فيه عن مجتمع مثالي افتراضـي مقابل مجتمعات أخرى شابتها شوائب كثيرة فتحولت إلى مجتمعات جاهلية.

 

[1] اتفق فقهاء القانون على تعريف العُرْف بأنه مجموعة من القواعد التي درج الناس على اتباعها جيلاً بعد جيل واحترموها خشية العقاب، وتأتي قوة العُرْف من أمرين: الأول: هو العنصر المادي، وهو توارث التقاليد من الأب إلى الابن، والأمر الثاني: العنصر المعنوي: وهو التخوُّف من مغبة العقاب في حالة مخالفة العُرْف. صوفي أبو طالب: مبادئ تاريخ القانون، القاهرة، 1972: ص 128 -129.

[2] محمد عرفة الدسوقي، حاشية الدسوقي، ج3، تحقيق محمد عليش، دار الفكر العربي، بيروت، ص 376.

[3] انظر: خالد عزب، فقه العمران، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 212م، ص 39.

[4] سيد قطب، معالم في الطريق، ص 16- 17.

[5] مرجع سابق، ص 19.

[6] مرجع سابق، ص 119.

[7] المرجع السابق، ص 119.

[8] المرجع السابق، ص 140.

[9] المرجع السابق، ص 142.

[10] محمد الكتاني، جدل العقل والنقل في مناهج الفكر الإسلامي، دار الثقافة، الدار البيضاء، ص 66-67.

[11] محسن عبد الحميد، المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري، كتاب الأمة، قطر.

[12] سيد قطب، خصاص التصور الإسلامي ومقوماته، 1962.

[13] سيد قطب، معالم في الطريق، ص 80- 81.

[14] بلقيس الزريعي، الإسلام في المدينة، دار الطليعة بيروت 2007، ص 66-68.

[15] سيد قطب، معالم في الطريق، ص 86.

[16] المرجع السابق، ص 70-71.

[17] المرجع السابق، ص 72.

[18] المرجع السابق، ص 78.

[19] جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت 1978م.

[20] المرجع السابق، ج2، ص12.

[21] رواه البخاري عن أبي هريرة في كتاب المناقب، حديث رقم 3493.

[22] رواه البخاري، حديث رقم 1436، كتاب الزكاة: باب «من تصدق في الشرك فأسلم».

[23] هشام جعفر، منهج النظر إلى مفهوم الجاهلية، سلسلة كراسات مراصد، مكتبة الإسكندرية، 2013، ص 18-19.

[24] سيد قطب، معالم في الطريق، ص150.

[25] المصدر السابق، ص17.

[26] هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان من مدينة فاراب في إقليم خراسان التركي نحو عام 259 هـ/ 870 م، دخل العراق وأقام في بغداد، اشتهرت تصانيفه وكثرت تلاميذه وصار أوحد زمانه وشرح الكتب المنطقية، تُوفي الفارابي في دمشق 339 هـ/ 950 م وله من العمر ثمانون عامًا. أبو نصر الفارابي، كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة»، قدَّم له وعلق عليه الدكتور ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت 1986، ص 11-12.

[27] فؤاد زكريا، جمهورية أفلاطون، دراسة وترجمة، مؤسسة سلطان العويس، دبيّ 2010، ص 14.

  1. المصدر السابق، ص 14.

[29] حلمي النمنم، سيد قطب.. سيرة التحولات، دار الكرمة للنشر والتوزيع، القاهرة 2014م.

[30] أبو نصر الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 27-29.