«ان الرواية ليست تجسيدا للواقع فحسب، ولكنها فوق ذلك موقف من هذا الواقع»
لندخل الآن الى عالم رواية (سبايا دولة الخرافة) للروائي المبدع عبد الرضا صالح ونرى، كيف جسد واقع قوى الأرهاب في العراق، وما هو موقفه من هذا الواقع
العنوان :-
العنوان في النص الأدبي عموما، والنص الروائي خصوصا، يمثل المفتاح الذي بواسطته يمكن فتح قلعة النص والأطلاع على مكوناته، من حيث شكل المعمار، ونوع التأثيث، و التعرف على سكنة هذه القلعة... .
اعتمادا على الترابط القائم بين المظهر والجوهر، لا بد أن يراعي الكاتب اختياره للعنوان، بوصفه الغلاف الخارجي للعمل الأدبي، ليكون عامل جذب أو لامبالاة اذا لم نقل نفور المتلقي من العمل الأدبي...
اثارة فضول المتلقي أو لا مبالاته أو اندهاشه يشكل عنوان الرواية وشكل الغلاف، بالإضافة طبعا الى مدى شهرة الكاتب، ومكانته في الوسط الأدبي...
عنوان روايتنا يبدو من الوهلة الأولى واضحا من حيث دلالته ومدلوله، فهو أشارة الى همجية ووحشية وظلامية الدولة الداعشية، فالسبي وأن مورس في الغزوات الإسلامية في صدر الإسلام وما بعده في زمن الخلافة الأموية، والخلافة العباسية وما بعدهما. ألا أنه اصبح من مخلفات مرفوضة في زمن التحرر والتقدم والتنوير، لذلك فالكاتب أضاف صفة السبي بدولة الخرافة، حيث العنوان عبارة عن مضاف ومضاف اليه...
هنا يظهر الكاتب إنحيازه التام الى صف السبايا، ورفضه التام والمطلق لما اسمي ب(الدولة الاسلامية)، واصفا إياها بدولة الخرافة، ففي مثل هذه الحالة يصبح الاضمار والاستتار غير مقبول، أمام وحشية السلوك ومأساوية الحدث، وبذلك فالمؤلف من خلال عنوان الرواية وضع في يد المتلقي شفرة فتح أبواب قلعة روايته الممتعة من حيث الاسلوب السردي الجميل، ومن حيث المفردة الممتلئة بمعناها ومبناها مشبعة بمضمونها...
أشهد انّ دموعي قد بللت حروفها، اثناء القراءة وتأمل صور، وانفعالات ومعاناة شخوصها، وهذا ليس غريبا على كاتب متمرس في السرد الروائي والقصصي، وفنان تشكيلي مبدع، قادر على رسم الصورة بالقلم والفكرة كما هو متمكن من رسمها بالفرشاة.
أصرة الحب والتآخي تصمد بوجه نيران الإرهاب والطائفية والقومانية :-
عائلة البطل الأسطورة (أسحاق) بن حنا،أمه (كاتي)، عائلة مسيحية مسالمة متعايشة بود وحب وسلام مع اغلبية اسلامية شيعية، سنية، وأقلية اخرى يهودية، وصابئية مندائية ... تربطها علاقات الجيرة والوطنية والتاريخ المشترك، ولم تتمكن رياح الطائفية والعرقية من فك اواصر المحبة والتضامن، رغم ريح التفرقة الصفراء التي يراد بها شرذمة الشعب العراقي وتفتيت لحمته الوطنية التي اثبتت قوتها وصلابتها رغم المحن ومؤامرات القوى الخارجية والداخلية المتخادمة معها...
لم يؤلم العائلة سوى اعتداء شرذمة من شباب متهور وقيامهم بكسر اقفال دكان الجد لبيع المشروبات وتحطيم محتوياته امام ناظريه دون ان يتمكن من فعل شيء، ورغم استنكار واستهجان اغلبية اهل المدينة لهذا التصرف المتطرف...
اسحاق الطفل الذي نجا بأعجوبة من الموت، حينما انقلبت السيارة التي تقل والديه لحضور حفلة الكريسمس في اعياد رأس السنة في العاصمة بغداد على اثر انفجار العجلة الامامية للسيارة، مما ادى الى وفاة والديه، وقد عثر عليه مرميا على مبعدة من السيارة حيث انتبه لصراخه ركاب سيارة كانت تسير على الطريق.
تبنى تربيته والاعتناء به جدته (نيفين) وعمته ديلما ومن ثم عمته ميريام. بعد زواج عمته (ديلما) بفترة من الزمن قررت العائلة الانتقال الى مدينة الموصل حيث اقربائهم هناك قبيل انهيار السلطة وهناك واجتياح ذئاب (داعش) للمدينة وغيرها من مدن العراق.
شهدت عائلة اسحاق كغيرها من العوائل المسيحية والايزدية وعموم العوائل التي لم تبايع (الجيفة البغدادي)، كوارث ومآسي يعجز الانسان عن وصفها، حيث القتل الوحشي والاغتصاب وسبي الاطفال والنساء، وسلب الثروات وتدمير المنشآت وفرض الاتاوات وحبس الحريات ابتداءا من حرية المشرب والمأكل وليس انتهاء بالملبس والمظهر...
كان نتيجة ذلك مقتل جد اسحاق وجدته واسر عمته ميريام، ناهيك عما لحق بالعائلة من الخوف والرعب حتى تمكنت من الوصول الى بر الامان في اربيل ومن ثم العودة ثانية الى العمارة مدينة الحب والسلام.
بطل بروح طير حمام، وقلب أسد ضرغام :-
(اسحاق) استاذ علم طبقات الأرض، الروح الودودة المسالمة، مثل الحب والترافة والود «انا اخوك اسحاق كما عرفتني مسالما بسيطا أحب الخير لأمتي وبلدي والسلام» ... هكذا خاطب صديقه مقدم وليد الذي يسر له طريق تخليص عمته (مريام) من ذئاب داعش، حيث انتحل صفة متطوع (داعشي) من بلاد السويد، ليندس في صفوف داعش، ليعيش أحداث مغامرة كبرى، يتمكن من خلالها متعاونا مع العديد من الشخصيات المغرر بها من قبل (داعش) ك(الفيرا) الأفغانية، ورفيقتها حيث تمكنا من مكان أحتجاز (مريام).
والدور الأنساني والبطولي الذي قام به (أبو عاصم) في الموصل للمساعدة في أخفائهم (أسحاق ومريام والفيرا وزميلتها وعاصم) ومن ثم تهريبهم وأيصالهم الى مدينة أربيل بواسطة سيارة شقيقه (مشعان)، والذي تمكن قبل ذلك من تهريب الشابة الازيدية (نارين)، التي أشتراها (أسحاق) ثم دبر أمر هروبها.
مغامرة وشجاعة (أسحاق) لم تنجح لولا وجود الروح الأنسانية والوطنية بين العراقيين جميعا المسلم السني والشيعي والمسيحي والأزيدي، وتضامنهم مع بعض،في زمن الشدائد وتحدي قوى الأرهاب والقهر والأستبداد، جمعتهم المحنة والوطنية والأنسانية دون أنْ تفرقهم الطائفية والمذهبية والقومية الضيقة، فكما هي حياة الحب والتضامن والتكاتف والتعاون في مدينة العمارة بين جميع مكونات الشعب العراقي هي هي في مدينة الموصل رغم أنف الأرهاب، وأساليبه الجهنمية القذرة...
حبكة الرواية وأسلوب السرد الروائي :
استطاع الكاتب ان يمسك بخيوط السرد بأحكام، وأنْ يدير عملية سير الأحداث وتطوراتها بكفائةٍ مشهودة، رغم تشعبات السرد وتفرعاته ولكنه ظل متماسكا ً
زرع الكاتب دوال ومثابات عديدة، رسخت بناء الحبكة عند العودة اليها في أحداث قادمة، ومنها مثلا علاقات (أسحاق) مع (حيدر) المقاتل في الحشد الشعبي، وعلاقاته مع (مقدم وليد) القائد العسكري الميداني، مع أستثمار علاقته ب (الفيرا) المغرر بها.
كذلك كان فطنا في سرد عملية أخفاء العائلة المسيحية عائلة أسحاق لحليها الذهبية ومدخراتها المالية تحت الأرض في دارهم التي هجروها قسر اً، هي أشارة رائعة على أنَّ العراقي متمثلا بهذه العائلة واثقاً من هزيمة هذه العصابات ونهايتها المحتومة وانَّ بعد حين، وبالفعل تحقق ذلك النصر بشجاعة وأصرار كل أبناء وأحرار العراق لتحقيق النصر والحفاظ على وحدة العراق ارضاً وشعباً، وقد أسترجع (أسحق) مقتنيات عائلته من دارهم في عمل بطولي كبير...
أستطاع الكاتب أنْ يرسم لنا بحروفه لوحات تشكيلية توضح لنا ملامح المكان ومعماره، المحلة، والأزقة في العمارة والموصل، وهندسة البيوت والكنائس ممهدا البيئة الواقعية الحقيقة للأحداث لتثري السرد وتؤمن القناعة للقاريء بواقعية السرد والحدث «لأول مرة وجدت نفسي أجتاز دهليزاً عريضا، ينتهي بباب حديدي عال مقرنص بزخارف جميل، يتراءى لي من خلفه قاعة كبيرة، برتاج من خشب الساج المطلي بطلاء لامع.» ص10، فأكسب الرواية المزيد من الرصانة والجمالية، وسلح المعادل الموضوعي للأحداث بالمزيد من قوة الأقناع والاستمتاع...
وصف جميل ودقيق لطبيعة حياة الناس وممارساتهم في مدينته الجميلة، مدينة القصب والبردي، مدينة الانهار، المدينة السومرية الرائعة (العمارة ) «ترقد مدينتي في أحضان دجلة، وتغفو فوق كفوفها الناعمة، وبين أناملها المباركة تتوسد بحب وحنان، حباها الله، وفوضها كل ما تملك جغرافيا العالم من كنوز وجمال.» ص12- 13
كان الكاتب موفقا تقريبا في تأثيث شخصياته الفاعلة في أحداث الرواية، كإسحاق، ومريام، وفيرا، والجد (دانيال) صاحب العشرة ألطيبة والعلاقة السامقة بين الناس وأهله، «شاءت الاقدار ان ينهي آلامه بثيابه الأنيقة وشعره الأبيض الناصع ملقى في حفرة غريبة في ارض بعيدة» ص12 و(نارين) وغيرهم وان كانت صورة البعض الآخر ظلت شاحبة وغير واضحة المعالم، رغم ذلك تمكن من تجسيد صورة الشخصيات الهامة في ذاكرة القاريء، وأستحضار ملامحها في مخيلته، وهذا أمر هام في السرد الروائي. فهل هناك قاريء لا يستحضر أمام عينيه شخصيات روايات (ديستوفسكي) مثلا ؟
كما انَّ الكاتب تمكن من كشف الأسباب الاجتماعية والنفسية القاهرة التي دفعت بالعديد من الناس للتطوع والأنخراط في صفوف هذه الجماعات الأرهابية، ومنها العوز المادي، والنبذ الأجتماعي، والتضليل الفكري والإعلامي الذي برعت فيه هذه المنظمات لتتمكن من جذب المؤيدين والمساندين لها من أمثال (الفيرا) والشاب الباكستاني الذي دفع حياته ثمنا لانخراطه في الأعمال الأرهابية على الرغم من عدم قناعته.
كشف الكاتب ضمن روايته ووثق للتاريخ الأساليب الهمجية واللاانسانية والبعيدة عن الدين القويم الممارسة من قبل هؤلاء القتلة بأسم الأسلام والدين، وان كانت هذه الصور وأكثر منها بشاعة أصبحت معروفة من قبل العراقيين ولكنها مهمة جداً للرأي العام العربي والعالمي، نتمنى أنْ تصل للقارئ العربي، وللقارئ الأجنبي عبر دور النشر وعبر الترجمة أو عبر تحويلها الى أفلام سينمائية، لتكون وثائق توعية وتثقيف ضد قوى الأرهاب العالمي عموما والإرهاب الداعشي خصوصا... وقد برع العديد من الأدباء العراقيين في توثيق وكشف زيف الأرهاب عبر رواياتهم الرصينة
كرواية (عذراء سنجار) لوارد بدر السالم، و(مثلث الموت) للروائي علي لفته سعيد، و(بهار) للروائي عامر حميو وغيرها العديد من الأعمال السردية والشعرية الرائعة، والتي تدل على الدور الفاعل للمثقف والأديب العراقي في محاربة وفضح وهزيمة الأرهاب.
ولا يفوتنا هنا أنْ نؤكد ما ذهبنا اليه سابقا الى أنحياز الكاتب بشكل كامل ضد قوى الأرهاب ومناصريه، وهذا أمر لا بد منه في مثل هكذا روايات لا تحتمل الموقف المحايد أو المستقل «أنَّ الأيدولوجيا في الرواية اذ تكون عادة متصلة بصراع الأبطال، بينما تبقى الرواية كأيدولوجيا تعبيراً عن تصورات الكاتب بواسطة تلك الأيدولوجيات المتصارعة نفسها» النقد الروائي والايدولوجيا – د. حميد لحمداني ط1 1990- ا المركز الثقافي العربي ص 37.
في معالجة ظاهرة مثل ظاهرة الأسر والسبي، يواجه الأنسان المسلم، اشكالية كبيرة في رفض أو تبرير هذه الظاهرة، أذا كان متنورا وحداثيا، يرفض مثل هذه الظاهرة ويعتبرها ممارسة غير أنسانية، ولكنه لا يجد في التاريخ العربي الإسلامي أية فترة زمنية من الفتوحات والغزوات الأسلامية الا ورافقتها ظاهرة السبي لنساء الاعداء بعد هزيمتهم.
هنا يجب أنْ نفهم الظاهرة عبر تاريخ حدوثها فإذا كانت ظاهرة السبي مبررة في ذلك الزمان يجب أنْ تكون مرفوضة في هذا الزمان، نرى ذلك ليس سهلا ويسيرا ان نقنع به الكثير من المسلمين اللذين يتمسكون بالنصوص المتوارثة وبسيرة الشخوص والرموز الأسلامية منذ صدر الأسلام حتى آخر أمبراطورية أسلامية، احلوا سبي نساء مخالفيهم من المسلمين، حتى أنهم احلوا لأنفسهم سبي الهاشميات من نساء آل بيت رسول الله في معركة الطف، لانريد ان نذهب بعيدا في القاء الضوء على هذه الظاهرة وممارستها في التاريخ العربي الأسلامي. كما أنَّ خيال الكاتب الثر تمكن من تصنيع وتخليق شخصياته في الرواية، لتحاكي الواقع المعاش، وهو مؤشر على ثراء ثقافة الكاتب، وعمق فهم الواقع وتفاصيل حياة الناس في مجتمعه.
وقد تمكن بأسلوبه الإبداعي، وبشعرية المفردة، وجمال الصورة أن، يجذب القاريء، ويقنعه بانحيازه الى قيم السلام والمحبة والجمال.
*حميد لحمداني النقد الروائي والايدولوجيا ص51