منتصبة على قدمي القلق والارتباك، غارقة في عمق توتر وارتعاشة نفس وارتجاف نبض ووجعِ مخاض. يناديها بصخب صوته المترامي الأطراف، يبدو بلا عنوان ولا تخوم ولا نهاية، يغريها باقتحامه... أدمن ألوانها سحبا داكنة يرشف منها السواد والرماد وخرير الدماء:
- إني هنا، ألا ترينني، اغمسي الريشة، لطخي صدري، اغمريني... ألا تسمعينني؟
كلما ناداها إغراؤه، استجابت في طواعية، تلبي طلبه دون تردد ولا مساومة، وحده تضعف أمامه، فتعري فيه صدرها النافر المنتفخ بسواد زمن أرعن مجنون يخبط خبط عشواء، تصيب الجميع وتميت الجميع. ترد عن سؤال صحافية: إننا في العالم السفلي، موتى نصلى العذاب المرير في طريق إلى موت لا ندري كيف هو الحقيقي... ألا ترين؟
تجيبها بقدرة قادر عن بعض الأسئلة السريعة، تدردش معها قليلا جدا، فهي لم تعد قادرة على التنفس بسبب الأدخنة الثقيلة الدكناء على رئتيها، فبالأحرى الكلام طويلا عن واقع أبلغ من الكلمات والألوان وكل أنواع الإبداع.
الكثير من أصدقائها وجيرانها وأقربائها يلملمون بقايا أشياء، يتربصون بأول فرصة للانقضاض على مركبة أو مركب يَسُلّهم من أنقاض موت لا كالموت، من جحيم نار تحرقهم إلى آخر قطعة من لحم أو عظم لتحييهم من جديد، فتعاود الكرّة من جديد، ينقلهم إلى أي بقعة أو مكان يضمد عظامهم أو جلدهم أو أي قطعة لحم من بدن أحرقته حمم البركان.
لكنها وسط روح النار مشغولة، تبحث عن بقايا صباغة في عمق متلاشيات دواليب، عن ريشة من تحت حطام مرسمها الذي عشقته منذ نعومة أظافرها. سماء زرقاء تسبح في عمقها الطيور متراقصات، السنابل خضراء والنخلات باسقات، وباقات جوري باسمات متبسمات، والأسوار بهاماتها مرتفعات شامخات، و... و... و... ويتصاعد من عمقها لهيب زفرة لا يجد فيها ما يلتهمه لسانه.
تتدبر أمرها بعد أن تبسم لها طيف حظ حين وفر لها بقايا أدوات، عثرت عليها كمن يعثر على فقيد غاب دهرا بين الأنقاض. يلتهمها بياض مخالف، لم يعد في المكان بياض، ولا في الأفق ما يدل على بياض... تسكب الصباغة بسوادها، تدر عليه رماد زوجها وابنها الرضيع، وابنتها أحلام وابنها فراس و الورد الجوري في حديقتها، تطل عليه كل صباح، يطمئنّ نبضها عليه...
ومن صُلب الألوان المسكبة في الأعلى كأديم سماء، تندلق الدموع، تتدفق في شكل غدران نحو الأسفل، تتماهى مع صبيب دموع منسكبة أيضا من عينين كبيرتين لملامح ظلال وجه امرأة خافت، يمتصه ذبول وتأكله عتمة من كل جانب... لم يعد للبياض أثر، لكن تظهر بعض البقع الخضراء، في طريق مجرى الدموع يتربص بها سواد في شكل مسخ بعينين من نار...
لم تفكر في العنوان، وُلد مع كل لون وكل لطخة وأنة وخفقة ورشفة وجع: "ألوان باكية".
تخرج من الألوان الباكية بهذا العنوان، وهي تمسح دموعها بيديها الملونتين بصباغة عمقها... تخرج من التشكيل، تنظر إليه من بعد، تبتسم لمولودها الجديد شبه ابتسامة، لكن يداهمها اللحظة رعب مجنون يرج نبضها وأركان المكان، يصك سمعها هدير الطائرات ودوي المتفجرات وأصوات الرشاش... ليس في المكان دراع ولا جدران ولا سقف ولا أي شيء تحتمي به...
دون تردد، ترتمي في «ألوان باكية».