يستقصي الشاعر، من جامعة نابولي للدراسات الشرقية، حالة الانهيار الكلي الذي أمس يتربص بعالم اليوم، حيث أضحت الأوطان صورة في الداخل وأقرب الى الفكرة، عالم بدون قيم تعيد لإنسانية الإنسان القدرة على العيش والتعايش، عالم تسكنه وتتلبسه الفواجع، لتبقى اللغة والقصيدة ملاذ الشاعر النهائي.

الفَجِيْعَةُ كُلُّهَا

مالك الواسطي

 

قَدْ غَادَرَ العُشَّاقُ دَارَكَ وَالفُصُوْلُ

فَرَاشَةٌ سَكَنَتْ مَفَاتِنَهَا الفَجِيْعَةُ

وَالدِّيَارُ تَدُكُّهَا قِطْعَانُ قَافِلَةٍ يُتَوِّجُهَا الرَّمَادُ

غَدَتْ تُغَطِّيْهَا المَآتِمُ وَالسُّهُوْلُ

مَفَازَةٌ،

جُثَثٌ تَجُرُّ بِهَا الوُعُولْ

 

... أَأَضَاعَنِي الوَطَنُ الضَّرِيرُ!

أَمْ ضَيَّعَتْنِي بَهْجَةُ الكَلِمَاتِ بَيْنَ رَمَادِهَا؟

فَبَدَا الطَّرِيْقُ مُعَفَّرًا بِغُبَارِهِ،

وَالدَّارُ أَبْعَدُ مَا تَكُوْنُ وِسَادَةً،

سَكْرَى يَطُوْفُ بِهَا الشُّجُوْنُ

مُعَانِقًا وَهْمًا تَسُوْقُ بِهِ الفَجِيْعَةُ

وَالنَّهَارُ يَظِلُّ

بَيْنَ يَدَيَّ يَسْكُنُهُ السُّكُوتْ

مُوْتٌ يُطَرِّزُ ثَوْبَهُ حُزْنٌ صَمُوتْ

وَعَلى يَدَيَّ تَنَامُ كُلَّ مَتَاعِبِي

وَعَلى جِدَارِ البَيْتِ تَغْفُو لَمْ تَزَلْ

كَلِمَاتُهَا: قُتِلَ النَّهَارُ!

وَفَاضَتِ الكَلِمَاتُ في الكَأْسِ الأَخِيرْ.

 

أَأَتَاهَنِي الكَأْسُ الأَخِيْرُ!

وَمَنْ تَرَى في الكَأْسِ يَغْفُو بَعْدَ سَكْرَتِهِ سِوَايْ؟

 

... وَكَمَا تُرِيْدُ سَأَتْرُكُ الأَبْوَابَ مُشْرِعَةً وَأَغْفُو فَالطَّرِيْقُ اِلَيْكَ عَوْسَجَةٌ تَحُفُّ بِهَا الفَوَاجِعُ وَالصِّغَارُ كَوَرْدَةِ الرِّيْحَانِ تَغْفُو بَيْنَ طَيَّاتِ الشَّجَر لَكِنَّ هَذَا الخُوْفَ يُوْقِظُنِي فَأَفْرُشُ في الرَّوَاقِ تَأَهُّبًا جَسَدِي اليَتِمَ حِكَايَةً في الحُبِّ تَعْرِفُهَا لَعَلَّ العَاشِقِيْنَ كَمَا الضُّحَى يَتَرَحَّمُوْنَ عَليَّ يَوْمَ يَرُوْنَ في عَيْنِي هَوَاكْ.

 

يَا مُنْقِذِي... اَللَّيْلُ يُطْبِقُ وَالنَّوَافِذُ يَعْتَلِيْهَا الخُوْفُ وَالأَطْفَالُ سَكْرَى نَائِمُوْنَ بِجُبَّتِي وَاللَّيْلُ يَطْمُرُنِي فَاَنْعَسُ لَحْظَةً وَأَنَا أُجَرْجِرُ مَا تَبَقَّى مِنْ رَمَادِ اللِّيْلِ بَيْنَ مَدَامِعِي أَغْفُو أَضُمُّ مَفَاتِنِي في زَهْرَةِ الرُّمَانِ يَعْصُرُنِي الجُنُودُ أَلُوْذُ ثُمَّ أَلُوْذُ بَيْنَ عَبَاءَتِي فَعَلَى الحَصِيْرَةِ قَدْ أَبَاحُوا بَغْتَةً مُدُنِي وَعَاثُوا في السُّهُوْلِ وَبَيْنَ سُنْبُلَةٍ وَسُنْبُلَةٍ تَنَادُوا لَمْ يَزَلْ في الدَّارِ صُوْتُ رَصَاصِهِمْ وَعَلى الجِدَارِ شَوَاهِدِي كُثْرٌ يَتِيْهُ بِهَا الطُّغَاةُ فَهَاهُنَا قُتِلَ الفُرَاتُ وَمِنْ هُنَا مَرَّ الغُزَاةُ وَظَلَّ هَذَا اللَّيْلُ يَسْكُنُهُ السُّكُوتْ

مَوْتٌ يُطَرِّزُ ثَوْبَهُ حُزْنٌ صَمُوتْ.

 

يَا مُنْقِذِيْ...

طِفْلِي عَلى الغُصْنِ النَّحِيْفِ

حَمَامَةٌ،

تَحْبُو وَيُسْقِيْهَا الفُرَاتُ

مَرَارَةً جَمَرَاتَهُ،

فَتَطِيْرُ في هَلَعٍ تَحُطُّ عَلى المَسَاجِدِ

وَالكَنَائِسِ وَالبُيُوتْ

لَعَلَّ تَارِيْخًا مَضَى يَبْقَى يُدَثِّرُهُ السُّكُوتْ

تَارِيْخُنَا المَعْقُوْفُ مِثْلَ سُيُوْفِنَا

لا تَشْرَئِبُّ عَلى الغُزَاةِ

وَلا يُفَارِقُ لَوْنَهَا طَعْمُ السُّبَاتِ

تَغُوْرُ رَغْمَ تَحَسُّرِيْ

في القَلْبِ تَحْفُرُ في الضُّلُوْعِ

تَظِلُّ في دَعَةٍ عَلى وَجَعِي تَبَاتْ

يَا مُنْقِذِيْ،

رَحَلَ الفُرَاتُ

وَمِنْ هُنَا مَرَّ الغُزَاةُ

وَظَلَّ هَذَا اللَّيْلُ بَابًا لِلشَّتَاتْ.

 

"... أَوَ تَعْلَمِيْنَ!

... قَدْ غَادَرَتْنِي في الدُّعَاءِ

سَلَامَتِي

فَفَرِحْتُ مِنْ قُرْبِي اِلَيْكِ

وَتَعَثَّرَتْ في الخَافِقَيْنِ

مَحَبَّتِي

فَحَسِبْتُهَا جُرْحًا يَنِزُّ دَمًا عَلَيْكِ

فَانْدَاحَتِ الأَيَّامُ بِيْنَ أَصَابِعِي

غَرْقَى،

تَلُوْذُ بِهَا الطَّوَائِفُ

وَالمَسَاجِدُ قَدْ غَدَتْ بِيْدَاءَ

يَسْكُنُهَا النَّحِيْبُ

تَطُوْفُ مِثْلَ حَمَامَةٍ

وَتَفُرُّ مِنْ وَجَعٍ الى وَجَعِ تُنِيْبْ."

 

... أَأَضَاعَنِي الوَطَنُ الضَّرِيْرُ!

أَمْ ضَيَّعَتْنِي الأَرْضُ بَيْنَ شُقُوقِهَا

فَبَدَا الزَّمَانُ مُجَافِيًا

وَالطَّيْفُ أَبْعَدُ مَا يَكُوْنُ

حَقِيْقَةً عَثَرَتْ بِهَا الكَلِمَاتُ

وَهْمٌ قَدْ تَمَدَّدَ في تَفَاصِيْلِ الفَجِيْعَةِ

وَالسُّكُوْنُ يَلُفُّهُ وَطَنٌ صَمُوْتُ

وَفي يَدِيْ تَتَرَاقَصُ الآهَاتُ تَغْفُو لَمْ تَزَلْ

كَلِمَاتُهَا: قَتَلُوا النَّهَارَ عَلى يَدِيْ

وَأَضَاعَنَا الكَأْسُ الأَخِيْرُ!

وَمَنْ تَرَى في الكَأْسِ يَغْفُو بَعْدَ سَكْرَتِهِ سِوَايْ؟

 

فَالرَّبُ تَهْجُرُهُ المَسَاجِدُ وَالكَنَائِسُ وَالنُّجُوْمُ تَتَيْهُ مَا بَيْنَ الكَوَاكِبِ وَالغُيُوْمِ كَأَنَّ آخِرَةً عَلى مَهْلٍ تَقُوْمُ بِهَا العَوَاصِفُ وَالرِّيَاحُ تَشُدُّنِي تَرْمِي بِقَلْبِي في دَهَالِيْزِ الشَّوَارِعِ وَالصِّغَارُ عَلى الأَرِيْكَةِ نَائِمُوْنَ بِجُبَّتِي يَتَقَلَّبُوْنَ عَسَى يَمُرُّ العَاشِقُوْنَ لِلَحْظَةٍ فَيَضِيْءُ في قَلْبِي هَوَاكْ.

 

... جَلَسَتْ تَدُقُّ بِبَابِهَا وَعَوِيْلُهَا بَحْرٌ تَعَالَى مَوْجُهُ، صَيْحَاتُهَا مَكَثَتْ طَوِيْلاً فَوْقَ أَعْمِدَةِ الطَّرِيْقِ كَأَنَّهَا أَرْضٌ تَشُقُّ بِهَا المَنَاجِلُ وَجْهَهَا التَّتَرِي تَخْفِي في الشُّقُوْقِ مَصَاحِفًا كُتُبًا لأَزْهَارِ البَنَفْسَجِ لِلْطُيُورِ الشَّامِخَاتِ عَلى غُبَارِ المُوْتِ وَالكَدَمَاتِ في وَهْجِ الظَّهِيْرَةِ وَالظَّهِيْرَةُ جَمْرَةٌ لَكِنَّ في المَرْآةِ كَانَ اللَّيْلُ يَهْبِطُ

وَالنَّهَارُ يَتِيْهُ في العَتَمَاتِ

لَمْ يُبْقِ الغُزَاةُ عَلى الشَّوَارِعِ غَيْرَ

وَجْهِ الفَاتِحِ التَّتَرِيِّ مُحْتَفِلًا

وَبَعْضَ غُثَاءِ خِنْزِيْرٍ تَجُرُّ بِهِ الوُعُولْ

 

... أَأَضَاعَنِي الوَطَنُ الخَجُولْ

أَمْ ضَيَّعَتْنِي بَهْجَةُ الكَلِمَاتُ في الزَّمَنِ المَهُولْ؟

يَا مُنْقِذِي ...!

سَكَنَ الغُزَاةُ رُمُوْشَ عَيْنِي والسُّهُوْلَ

وَزَارَنِي رَمَدٌ وَأَلْبَسَنِي التُّرَابُ

ثِيَابَ كَاهِنَةٍ تَنَامُ عَلى الرَّصِيْفِ

لِهَاثُهَا جَمْرُ الظَّهِيْرَةِ

وَالظِّلَالُ بَلَاؤُهَا وَجَعٌ

يَسِيْرُ عَلى الضُّلُوْعِ كَأَنَّهُ مَطَرٌ ظَرِيفْ

يَنُثُّ ثُمَّ يَنُثُّ في قَلْبٍ رَهِيفْ

أَخَالَهُ مَا بَيْنَ دِجْلَةَ وَالفُرَاتِ

حَمَامَةً، سَكْرَى

تُعَانِقُهَا المَسَاجِدُ وَالمَقَابِرُ وَالبُيُوتْ

كَأَنَّها كَلِمَاتُ عَاشِقَةٍ يُكَفِّنُهَا السُّكُوتْ..

 

نابولي ... خريف 2017