تكشف المقدمة التي كتبتها المستعربة الألمانية المرموقة هنا عن أهمية هذا الكتاب كمرآة سودانية لجوانب من فسيفساء الحياة الألمانية المعاصرة. حيث يقدم لنا يقدم لنا نظرة صادقة الى حياة وعالم وفكر العديد من الكتاب السودانيين في ألمانيا، بأسلوب يتأرجح ما بين النمط الألماني والنمط السوداني.

افتتاحية كتابات سودانية

أنجليكا نويفرت

ترجمة د. حامد فضل لله

 

ننشر هنا مقدمة البروفيسورة أنجليكا نويفرت Angelika Neuwirth لكتاب (كتابات سودانية: قصص قصيرة وشعر ومقالات) الصادر باللغة الالمانية عن دار الدليل ببرلين في مارس 2018.

 

تُقدم مجموعة من الكتاب السودانيين نفسها في هذا الكتاب للقارئ الألماني، وهم ليسوا كلهم بكتاب محترفين، وإنما يشاركون كأفراد في الحياة العامة في ألمانيا، مثلا كأطباء أو خبراء كمبيوتر. ولا تُقدِّمْ (كتابات سودانية) توثيقا للحياة في السودان إلا عَرَضاً، إذ أن معظم أحداث حكاياتها يدور في ألمانيا، وهي لا تدور بالضرورة في بيئة المهاجرين العرب. ومع ذلك، فإن جميع المؤلفين يكتبون قصصا قصيرة، و"قصصا قصيرة جدا"، وشعرا وقصصا للأطفال تحمل بدرجات متفاوتة طابع الثنائية القومية الذي يميّز خلفية المؤلفين.

إنها من ناحية شهادات على ادراكهم للمجتمع الألماني، وخاصة ما يكتبه حامد فضل الله، أخصائي أمراض النساء والتوليد المقيم في برلين، الذي يعود بذاكرته إلى السودان عبر قصة قصيرة واحدة فقط، تدور أحداثها في عيادة متواضعة اثناء عمله هناك، بينما يجعل كل قصصه الأخرى تدور في المانيا والتي تدور في الغالب حول المشاكل الجنسية وما يرتبط بها من صراعات تُحكى ببساطة، وهي مثيرة ومتعاطفة دوما مع بطلات قصصه الالمانيات.

حامد فضل الله الذي لا يكشف في قصصه عموماً عن أصله الأجنبي صراحة، تتبين نظرته كغريب بشكل غير مباشر من خلال نظرة نفسانية تسلط الضوء على “الآخر” في الشخصية الألمانية، فهو يركز على خصائص "الآخر" وعلى الحياة العاطفية "الأخرى" المعقدة للنساء الغربيات، مقارنة بوطنه الأم.

مرة واحدة فقط يتعرض فيها لـ "اختلافه" هو عن الأخر ولكن هذا يأتي ايضا في سياق تذكر علاقة حب. أما حدة الصراع الذي يحتدم داخله تجاه البيئة الألمانية فهي تظهر في قصة وحيدة، لم تُكتب مباشرة بالألمانية وانما تُرجمت عن العربية وتدور حول صراع أيديولوجي.

قصتان لـ أمير حمد ناصر الباحث في الأدب العربي، إهداء لذكرى عاشقة فُقدت أو صديق رحل، وهما مصاغتان بحنين ومشحونتان باقتباسات من الشعر أو من الأغاني. اما محمد محمود فيستخدم في المقابل نوعا أخر من السرد، فعنوان قصته "حكاية الرجل الذي لم يصدق قصة النملة" يعدنا بمعانٍ كامنة في طبقات تحتية. إنه أدب العبثية الذي أصبح شائعا في المجتمعات ذات الحكم الشمولي منذ بداية القرن الماضي. تبدأ القصة بحادثة جاءت في القرآن الكريم، وهي قصة الحيوانات المتكلمة في محيط الملك سليمان (الذي أصبح حسب التراث الانجيلي حاكماً للجان والحيوانات الناطقة). في وادي النمل الذي يريد الملك سليمان عبوره، متفقدا جيشا من الجان والحيوانات، تحذر نملة رفيقاتها من الحاكم، وتدعوهم إلى الاختباء ليأمنوا بطشه. يرضي هذا التحذير كبرياء الملك العظيم، الذي يفهم ايضا لغة الحيوانات، فيغتبط ويتعهد (بشكل غير مباشر في الصلاة) بنبذ العنف. هذه النهاية هي محور شك بطل القصة الذي لا اسم له في قصة محمد محمود. هو يرفض تصديقها. فالعنف هو الواقع الذي يعيشه، ويصبح هو نفسه ضحية لألوان متعددة منه على يد اصحاب السلطة من عيارات مختلفة، فهم يجسدون جميعا شخصية الملك سليمان الذي لا يرحم: رجال الشرطة، الأطباء، الممرضات، علماء الدين وأخيرا جلاده. إنها قصة تخلو من أي إشارة إلى مكان أو زمان، وبدون أسماء، ولكنها تتضمن نقداً اجتماعياً صارخاً يهز المشاعر. وقد قدمت لنا عبير بشناق ترجمة ممتازة لها.

ثلاثة عشر "قصة قصيرة جدا"، مع تباين كبير في المضمون والاسلوب – تضم العديد من قصص الأدب العبثي إلى جانب تلك التي تشير بشكل صريح الى تجارب نفسية من الحياة اليومية – يتبعها قسم الشعر. تُرجمت القصائد عموما من اللغة العربية الأصلية. لا يزال الشعر أكثر من مجرد جنس أدبي في جميع انحاء العالم الناطق بالعربية، حيث يعتنى به العديد من المتعلمين كنشاط فني ويحفظه الأكثر ثقافة منهم عن ظهر قلب. تعتمد القصائد أكثر من القصص على توصيل الطبقات الخفية الكامنة في الكلمة، والتي يجب شرحها اولا للقارئ الذي لا ينتمي الى نفس البيئة الثقافية. تنعكس هذه الصعوبة أيضا في الاقتباسات الشعرية، المبثوثة في القطع النثرية، التي لا يسهل دائمًا الوصول إلى معناها الأعمق للقارئ الخارجي. وقد أولى الناشر حامد فضل الله أهمية خاصة للشعر وحرص على أن يكون حاضراً ضمن مختاراته. يُفتتح قسم الشعر بقصائد لمحمد الفيتوري ( 2015 ــ ?1930). الذي يمكن اعتباره أهم شعراء السودان. وعلى الرغم من أنه ليس معاصراً للكُتاب إلا أنه ينتمي إليهم، فقصائده هي جزء من كنز ذاكرتهم. ومن هنا فهو يتبوأ في المختارات مكانة فريدة يبدو معها وكأنه شعار الهُوية.

يضم الكتاب أيضا مجموعة من القصائد المعاصرة لـ صلاح يوسف وأمير حمد ناصر ومصطفى بحيري - تُرجمت لأول مرة، أو مؤخراً إلى الألمانية.

يتبع ذلك قصص قصيرة للأطفال والشباب لـ حسن حميدة، وهو جنس جديد في الأدب العربي. القصص عن الحيوانات في الوطن السوداني موجهة إلى الأطفال، اما تلك المتعلقة بالهروب والاستقرار في أوطان جديدة فهي مصاغة من منظور البالغين وموجهة غالباً للشباب.

يقدم لنا قسم "النثر" شخصيات معاصرة مختارة. و يبدأ بقصة حياة السباحة السودانية (سارة جاد الله ـ المترجم) التي حققت ارقاما قياسية على الرغم من الاِعاقة الشديدة. ثم ينتقل إلى شهادات ذاتية لبعض الكتاب والشعراء ممثلين لأنفسهم في المختارات. فيقدم صلاح يوسف مثلا حساباً مريراً لمعاناته في الغربة، يقابله النص الايجابي المتسامح المتوازن بقلم المحرر والمؤلف المشارك حامد فضل الله.

أما ما قدمه مجدي الجزولي حول تواصله المكثف مع الأدب الألماني، رغم العقبات العديدة، فهو جدير بالذكر و يوضح مرة أخرى قرب بعض المؤلفين السودانيين شخصيا من الثقافة الألمانية.

يقدم لنا الكتاب الذي يكتسب قيمة إضافية من خلال رسومات حسن موسى، نظرة صادقة الى عالم حياة وعالم فكر العديد من المفكرين السودانيين في ألمانيا، وهو يشع سلاسة بلا تكلف، ولا يبحث عن مناطق الاختلاف، كما أنه لا يقدم للقارئ الألماني صورة مقولبة لـ “الغريب”. أما أسلوبه فيمكن القول أنه يتأرجح ما بين النمط الألماني والنمط السوداني.

على الرغم من أن أحداث القصص تدور بعيدا عن السودان فإن العنوان "كتابات سودانية" له ما يبرره، حيث أن الكثير من هذه الكتابات السودانية، أو بشكل أكثر عمومية، الكتابات العربية، لها مرجعيات من التراث الشعري العربي، كما أنها تحتوي على أماكن ومشاهد عربية نموذجية وإن لم تذكر بالاسم. إن الكتاب يستحق الاعتبار كمرآة للمجتمع الألماني، ولكن أيضا للمشاكل والتناقضات الداخلية لوجود سوداني في هذا المجتمع.

 

برلين

 

ــ أنجليكا نويفرت Angelika Neuwirth أستاذة ومديرة معهد الدراسات العربية السابقة في جامعة برلين الحرة والمديرة السابقة لمعهد الشرق التابع للجمعية الشرقية الألمانية في بيروت واسطنبول.