يحكى أن الشيخ محمد بنعيس(1) أراد أن يمتحن أتباعه، فاستدعى مائة منهم ليلة العيد، وكان قد اشترى قبل ذلك مائة كبش، وقال لهم: سأكون مسرورا لو اجتمعتم عندي صباح الغد.
لم يخلف الأتباع الموعد، مع صباح يوم العيد اصطف الأتباع أمام باب شيخهم إلى أن خرج إليهم قائلا:
- كلكم أبنائي، وإذا كنتم تعتبرونني أبا لكم فهل باستطاعتكم تنفيذ ما سأطلبه منكم؟
فأجاب الأتباع: نعم.
- إن رغبتي هي أن أذبحكم بمناسبة هذا العيد، اندهش الأتباع من أمر شيخهم، فقال أحدهم:
- ولكن يا شيخنا، إننا نذبح الأكباش.
- أنا أريدكم أنتم كأضاحي، فمن منكم يحبني فعلا، فما عليه إلا أن يدخل بيتي كي أنحره.
تقدم المريد الأول وراء الشيخ قائلا:
- لك حياتي إن كان في الأمر منفعة.
حينما وصلا إلى الداخل، طلب الشيخ من مريده أن ينحر كبشا ويترك دمه يسيل إلى أن يصل إلى الخارج.
بعد ذلك تقدم المريد الثاني باتجاه الداخل وطلب منه الشيخ أن يقوم بما قام به المريد الأول إلى أن وصل عدد الأتباع إلى ثمانية وثلاثين.
بعد استفحال سيلان الدم خارج الدار، تم إخبار رجال المخزن بأن الشيخ الهادي بنعيسى ينحر أتباعه، فقدم هؤلاء إلى المكان لكنهم لم يجدوا سوى ثمانية وثلاثين مريدا حيا وإلى جانبهم ثمانية وثلاثين كبشا مذبوحا(2).
تضعنا هاته الحكاية بفضل سياقها الزمني (العيد الكبير أو عيد الأضحية) وحدتها (التضحية بالمريد عوض الكبش) في صلب الرهانات المؤسسة لطقس العيد الكبير بشكل خاص، والتضحية بشكل عام. مثلما تضعنا بفضل هوامشها في صلب العلاقات القائمة بين العنف والتأويل.
1– التضحية والتأويل:
تعتبر التضحية Le sacrifice تأويلا لمسألة العنف، إنها تأويل مطروح داخل السياق الكتابي من طرف الديانات التوحيدية الثلاث لحل وإيقاف مسألة العنف/ القتل سواء تعلق الأمر باقتتال الإخوة أو بقتل الأب للابن. أرسي هذا التأويل بكيفيات متمايزة عبر إنشاء الحدث الإبراهيمي/ الإسماعيلي وإعادة تأويله من طرف هاته الديانات.
لقد جاءت تضحية إبراهيم الخليل بابنه إسماعيل، إذا ما انحصرنا في سياق التأويل الإسلامي، وحسب فتحي بنسلامة، لتشغل مكانا فارغا في تأويل إبراهيم لرؤياه(3). ولأن فعل التضحية حدث كاستبدال للنقص الحاصل في التأويل، يمكن القول بأن التضحية فعل مساو وعادل للتأويل: إنها تأويل ناقص. وإذا ما كان الأمر كذلك فإن فعل التضحية الذي عاشه إبراهيم الخليل في الرؤيا لن يكون غير الحلم بفعل إتمام الرغبة في التأويل، أما التضحية الفعلية فستكون تجسيدا واقعيا لإنجاز هاته الرغبة.
إن التضحية بالابن حدثت إذن نتيجة تأويل ناقص لرموز الرؤيا/ الحلم(4). وبصيغة أخرى، فقد حدث نتيجة تطبيق كامل وحرفي لهذا الحلم في الواقع، الأمر الذي يسمح بالقول إن التضحية بالابن فعل معادل لإمحاء المسافة التأويلية التي تسمح للحلم بربط صلات غنية بالواقع. ولأن إبراهيم الخليل رفع هاته المسافة، كاد نقص التأويل أن يودي بحياة الابن، وكادت التضحية أن تكون قتلا.
في هذا السياق يمكن اعتبار الإبدال الإلهي لإسماعيل بالكبش في آخر لحظة استدراكا لخطإ تأويلي كاد أن يشرع لفعل القتل(5). ربما لأن إبراهيم كان خليلا، فإنه لم يركز على المسافة التأويلية الضرورية التي يجب أن تفصل بين فعل الأمر وفعل التنفيذ(6) وفضل عوضها الاجتهاد في مسرحة فعل الذبح. فقد أبعد إسماعيل عن البيت وعن الأم، وأوهمه بأن أمر الابتعاد يتعلق بجمع الحطب من الوادي بالرغم من أن إسماعيل لم يبد أي اعتراض على فعل الذبح! فهل تعلق الأمر بالهروب بعيدا داخل المكان الفارغ في تأويل الرؤيا؟ أم بمسرحة عنيفة ودرامية لبياضات التأويل؟
يعلق ابن عربي على تأويل إبراهيم الخليل لرؤياه قائلا: "اعلم أيدنا الله وإياك أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال لابنه: "إني أرى في المنام أني أذبحك" والمنام حضرة الخيال فلم يعبرها. وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام فصدق إبراهيم الرؤيا، ففداه ربه من وهم إبراهيم بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله تعالى وهو لا يشعر".
فالتخلي الصوري في حضرة الخيال محتاج إلى علم آخر يدرك به ما أراد الله بتلك الصورة(7).
يكشف ابن عربي عن مكمن الخلل الذي جعل من التضحية معادلا لنقص في الفهم والتأويل. فالمسألة تتعلق بحضرة الخيال التي تتطلب مقدرة تأويلية موسوعية، بالمعنى الذي يحدده أ.إيكو للموسوعة(8). تظهر العلاقات الرمزية المتعددة بين الصور والرموز مع مرموزاتها. فالمماثلة بين صورة الكبش وصورة الابن داخل الحلم قد تفتح الشهية للممارسة التحليلية-النفسية بكل آلياتها ومفاهيمها. لكن الأمر هنا لا يتعلق بحلم عادي ويومي وفردي، بل بحلم ثقافي تتمفصل فيه بشكل معقد حضرة الخيال (المنام) مع حضرة المتخيل الرمزي، وهو ما يفرض موضعة الرمز الحلمي داخل سياق أكبر وأشمل من واقع الطفولة الفردية.
لنعد إلى حكاية شيخنا الهادي بنعيسى، تنخرط هاته الحكاية ضمن نفس المسار الذي سلكه ابن عربي، وإن بمستوى مختلف اختلاف انتمائهما إلى الحقل الصوفي. يتمثل ذلك في إعادة فتح باب التأويل وتجديده قصد بيان انعكاسات محدودية التأويل على العلاقة بالعالم وبالغير. تقوم الحكاية على الاستعادة التأويلية للمفاصل الأساسية للقصة الإبراهيمية: فالشيخ يشغل موقع الأب، ويقرر أن يذبح أبناءه، لكن هذه المرة ليس في حضرة الخيال بل في حضرة الواقع، ومن دون أن يلجأ إلى تورية أو تغليف أو تقنيع لفعل الذبح. يؤطر الشيخ الكامل هاته المفاصل بوعي قبلي بأن ما سيقدم عليه امتحان ليس إلا، لا يتطلب وضع السكين فوق رقبة مريديه، بل يتطلب تخطيا وعبورا لعتبة باب الدار، بكل ما تحمله لفظتا العبور والعتبة من دلالات رمزية في المجال الصوفي.
إضافة إلى ذلك، يفضل الشيخ تعويض علاقة الإبدال بين المريد والكبش، بعلاقة المجاورة. فالكبش لا يحضر كإبدال للمريد-الضحية، بل يوجد إلى جانبه، وهو ما يسمح بفك اختلاف وتمايز الصورتين، وإن كانا معا يشغلان وضعية الضحية.
يتعلق الأمر مع هاته الحكاية بتعرية تأويلية لكل تغليفات القصة الإبراهيمية. فالشيخ كان على علم منذ البداية بأن ذبح مريده-ابنه لن يحصل(9). لذلك لم يلجأ إلى مسرحة فعل الذبح، بل إلى مسرحة المسافة التأويلية بين الرغبة في ذبح الابن وفعل إنجازها. إنها مسرحة للمنام الإبراهيمي، وبالضبط لفعل العبور، الذي لم ينجزه إبراهيم الخليل، من مجال التنفيذ إلى مجال التأويل.
يقول ابن عربي بأن التضحية الكبرى هي التضحية بالنفس بوصفها الجهة الحيوانية الفاسدة في الروح. هاته الجهة يمثلها كبش الأضحية. إنه المقصود الضمني للحلم الإبراهيمي وكذا المقصود العلني لحكاية الشيخ، والمتمثل في العبور داخل عالم الذات من جهاتها الدنيوية الفاسدة إلى جهاتها الروحية القدسية.
2- عن الجسد الإسماعيلي:
لقد استعاد الرسول صلى الله عليه وسلم الحدث الإبراهيمي-الإسماعيلي بكيفيتين مترابطتين. تمثلت الأولى في استعادة إسماعيل بوصفه جدا عربيا لا أعجميا، ثم نعت الرسول لنفسه بكونه ابن الذبيحين، والمقصود هنا إسماعيل الذبيح وأب الرسول عبد الله الذي كان سيذبح لولا فديته من طرف عبد المطلب بمائة ناقة(10). أما الثانية فتتمثل في استعادة حدث الذبح لكن لا لجعله محورا بل معبرا مؤداه مصالحة الأب إبراهيم لابنه إسماعيل الذي يخلده البناء المشترك للكعبة موطن حج المسلمين وقبلتهم.
تقوم هاته الاستعادة على بناء معنى جديد فوق آخر موجود، فإسماعيل العربي سيحجب إسماعيل الأعجمي، والذبيح الثاني (عبد الله) سيحجب الذبيح الأول (إسماعيل)، والمصالحة بين الابن والأب ستحجب رغبة الأب في ذبح الابن، وهجرة الابن في الصحراء سيتم حجبها بفعل بناء الكعبة. نتيجة لذلك سيدون فعل الذبح في طقس العيد الأكبر لكن دون نسيان موضعته في فضاء طقس أشمل منه يذكر بفعل البناء والمصالحة أكثر منه بفعل الذبح، وهو طقس الحج.
تجد مضاعفة المعنى هاته تفسيرها الأكبر في الصراع بين الديانات التوحيدية على استعادة الأب الأصلي، وهو أمر يستدعي تحليلا وسياقا مغايرين. لكن ما يثيرنا فيها في نطاق سياقنا هو المضاعفة الطقوسية المتمثلة في التغليف العام للعيد الكبير موضوع حكاية شيخنا بشعيرة الحج التي يجري في فضائها الاحتضان الشامل للحدث الإبراهيمي. يتجسد هذا التغليف في إخضاع فعل التضحية وحجبه بفعل الصلاة، ومن ثم حجب المضحي وراء المصلي والضحية وراء قول الشهادة. إن توسط فعل الصلاة بين الرغبة الأصلية في ذبح الابن والإبدال الواقعي للابن بالأضحية يعيد هيكلة الحدث الإبراهيمي من حدث قائم في الأصل على ارتفاع الحدود بين الابن والأضحية إلى حدث قائم على الفصل بينهما.
مع حكاية الشيخ محمد بنعيسى ترتفع الحدود بكيفية قصدية بين المريد-الابن والقربان، وكأن الأمر يستهدف الاستعادة الأصلية للحدث الإبراهيمي-الإسماعيلي. فإذا كان التأويل الكتابي يضع الصلاة في موقع الحد الثالث الفاصل، فإن التأويل الطقوسي يستهدف رفع هذا الحد كي يؤسس الصلة الجسدية الرمزية بين الجسد والقربان. إن مهمة الطقوس الأساسية هي إظهار القربان في هيئة جسد رمزي وإظهار الجسد في هيئة قربانية، الأمر الذي يكشف عن جوهر الاستعادة التأويلية-الطقوسية للحدث الإبراهيمي-الإسماعيلي، الكامن في الاستعادة الرمزية للجسد الإسماعيلي. إن رهان التأويل الطقوسي قائم على الاستعادة الجسدية بينما رهان التأويل الكتابي قائم على الاستعادة المفهومية والقولية التي يجسدها إعلان الشهادة والبسملة والحمدلة. وباختصار يمكن القول بأن الرهان قائم على تحويل الجسد إلى حروف قدسية أو تمديد الحروف القدسية في ثنايا الجسد.
تبتغي الاستعادة الكتابية الإسلامية للحدث الإبراهيمي-الإسماعيلي تذويب فعل الذبح في فعل المصالحة وتذويب الجسد الإسماعيلي في القول القدسي (الصلاة)، في حين ترتكز الاستعادة الطقوسية على لحظتين مترابطتين: تتجسد الأولى في استعادة اللحظة التي لم يعد فيها فاصل بين جسد الابن وجسم الأضحية. أما الثانية فتتمثل في استعادة المواجهة الجسدية للموت التي جسدتها هاجر الأم في سعيها بين الصفا والمروة من جراء معايشتها لابنها إسماعيل وهو يموت ببطئ من جراء العطش، إنها لحظة التماهي مع اضطراب الجسد(10).
في اللحظتين معا يواجه إسماعيل الموت، وفيهما معا يبدو في وضع بيني: بين الابن والأضحية، الصورة الحلمية والصورة الواقعية، الجسد المهجور والجسد المذبوح، بين الجسد الذكوري والجسد الأنثوي، ليصبح بفعل ذلك جسدا محملا بالاستعارة أو جسدا مستعارا(12).
تجسد الجذبة أو الحضرة العيساوية، وخصوصا منها تلك التي يتماشى فيها الفاعلون الطقوسيون مع الحيوانات (جذبة الأسود واللبوءات وجذبة النوق والجمال)، الوضع البيني للجسد الإسماعيلي، ففي ظلها يتحول الحيوان إلى استعارة جسدية تنمحي بفضلها الحدود والفواصل بين الطبيعي والثقافي، التخيلي والواقعي، مثلما يتحرر بفضلها الجسد من سلطة القول القدسي. مع الجذبة أو الحضرة العيساوية يعيش الجسد قلقه الخاص وهو يواجه عنفه الذاتي المتأصل في فعل دفع كل الحدود بين البيولوجي والثقافي، والرمزي والفعلي إلى حدودها القصوى حيث لا يسود هنالك سوى الجسد وهو يبحث عن التماهي الكامل مع اضطراباته ولا توقعاته(13).
* * *
الهوامش
(1) الشيخ محمد بنعيسى هو مؤسس الطريقة العيساوية وينعته الأتباع بهذا الاسم أو باسم الشيخ الكامل أو الشيخ الهادي بنعيسى، يوجد ضريحه بمدينة مكناس.
(2) يجد القارئ هاته الحكاية في:
Dr Jules Davasse, Les Aissaoua, Les charmeurs de serpent, Paris, E.Dentu Librairie, éditeur, 1862.
(3) Fethi Benslama, (Le sacrifice en Islam), Pardès, n°.22, 1996, p32.
(4) تتميز الرؤيا عن الحلم بمصداقية تحققها في الواقع، ولأن رؤيا إبراهيم لم تتحقق بحكم التدخل الإلهي، فإنها تظل على صلة بالحلم.
(5) فتحي بنسلامة، (التضحية في الإسلام)، مذكور سابقا، ص32.
(6) Marie Belmary, (Le sacrifice d’Isaac, une lecture psychanalytique entre Judaïsme et christianisme), Pardès, n°.22, p36.
(7) ابن عربي، فصوص الحكم، فص حكمة حقية في كلمة إسحاقية.
(8) يضع أ.إيكو تمييزا مهما بين القاموس والموسوعة مؤداه التمييز في التأويلات الرمزية بين التأويل القاموسي والتأويل الثقافي على اعتبار أن الرمز ينهل مرموزاته من الثقافي وليس من المقابل الاصطلاحي، انظر بهذا الخصوص:
E. Eco, Sémiotique et philosophie de langage, PUF, 1988.
(9) يعتبر كيركيغارد أن إبراهيم كان على يقين بأن الله لن يتركه يذبح ابنه وفي الآن نفسه كان بحكم موقعه مضطرا لدفع الأمر الإلهي إلى حدوده القصوى، الأمر الذي جعله يعيش تجربة القلق بوصفها خوفا على وخوفا لأجل، انظر تفاصيل الأمر في كير كيغارد، خوف ورعدة، ترجمة فؤاد كامل، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1984.
(10) ابن هشام، السيرة النبوية، المجلد الأول، سلسلة ثرات الإسلام، ص151-152.
(11) فتحي بنسلامة، (الطلاق الأصلي)، موجود ضمن كتاب، لغات وتفكيكات في الثقافة العربية، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، 1998، ص135.
(12) في سياق تحليله وتأويله لطقس بيلماون الممارس في جنوب المغرب يوم العيد الأكبر يكشف الباحث المغربي عبد الله حمودي عن الكيفية التي ترتفع فيها الحدود بين الذكوري والأنثوي داخل الجسد الطقوسي، انظر:
A. Hammoudi, La victime et ses masques, Seuil, 1988, p184.
(13) انظر تفاصيل هاته الفكرة وكذا تشخيصاتها في:
G.Balandier, Le pouvoir sur scènes, ed. Balland, Paris, 1992, pp45-53.