ظل معلقا على مشجب بحجرة نومه، يصر على تفقده فى الصباح، يحتضنه بعينين أجهدهما النوم المتقطع والكوابيس الليلية.
كل صباح يبادره سؤال اول النهار، ماهى اجندته اليوم؟ ثم يفيق على لا شيء، اليوم مثل الأمس، وغالبا سيكون الغد مثلهما.
لا شيء.
يسرع خارجا من حجرة نومه الى الحمام، يحيى زوجته بإيماءة سريعة، يمارس أنشطته الصباحية بالتدريج، يعود مكملا استراحة قصيرة على كنبة غرفة المعيشة، تسأله وهى مشغولة بالكتابة على الكمبيوتر:
- مالك؟ حلمت بكوابيس؟
- زى كل يوم.
تربت على كتفه مواسية، ثم تكمل انشغالها متحدثة عن ضرورة ألا يستسلم وان يبحث عن شيء يشغل به وقته.
- مانتى لو اعتزلتى حتفضيلى.
أصيبت بحسرة من تدهور الأوضاع العامة وتفرق مجموعة العمل التي ظلت تبنيها منذ 2007 على مدى 10 سنوات، واشتدت الخلافات بينهم وتحول بعضهم الى الرقص على خلخال ست الملك بدلا من المقاومة.
يغسل اسنانه، ثم يشرب كوبا من الماء، ثم الدواء، يلي ذلك كوبا آخر من الماء الدافئ بالليمون.
ينظر في المرآة ليحدد هل تلزم حلاقة الذقن اليوم؟
يغادر ليحضر الجرائد ثم الإفطار، ويعود مرة أخرى لتناول إفطاره وحيدا وسط عبارات مقتضبة متبادلة مع الزوجة قبل ان تغادر الى عملها.
يصر على النزول يوميا حتى لا يتكلس جسده.
يحاول ان يحدد اختياراته، هل يذهب للنادي؟ ام للمقهى أسفل البيت؟ ام لكوستا في المول القريب؟ ام يكمل صباحه بالمنزل؟
قرر ان يكون اليوم من نصيب النادي حيث الجلوس حول حمام السباحة والشمس الشتوية الدافئة، والرواد كبار السن المعتادين يلعبون الطاولة.
السيد الرئيس يوجه بالاهتمام بأهالي الروضة الذين استشهد ذويهم وهم يصلون ، القبض على أربعة إرهابيين خطرين كانوا يعدون لتفجيرات ضد المنشآت ودور العبادة ، حقل ظهر سيوفر عملة صعبة لمصر ، لا زيادة جديدة في سعر البنزين ، القدس عربية ، الرئيس سيستقبل نائب الرئيس الأمريكي ، الحكم على إسلام مرعى ب 3 سنوات وليس سنة واحدة ، البرلمان يوافق على قانون التأمين الصحي من حيث المبدأ، نقص الأدوية يتوالى ، ضرب طبيبين بمستشفى أسيوط الجامعي من أهل مريض توفى ، بديع يطلب من القاضي الإفراج وإعطاء الإخوان حريتهم لتحرير القدس ، شركة النصر للكيماويات الدوائية مازالت تقاوم والوزارة لا ترد ، مسلسل نقابة مهندسي الإسكندرية مستمر في إثارة الملل.
وصلته رسالة من شاب بإلغاء الاجتماع الحزبي بسبب موت طالب الطب وعضو الحزب مؤمن عصام.
بلهفة شديدة يبحث في الفيس بوك عن اية معلومات عن موت الشاب، يرى حزن الزملاء ولوعتهم في بوستات حزينة.
الشاب سقط في الترعة وغرق.
الشاب الأسيوطي الذى أحيل للتأديب بالجامعة لاتهامه بالتظاهر، وحول أيضا للمحكمة لنفس السبب مات.
رن التليفون من زميله الدكتور نظمى، ظل يحادثه عن استدعاء الشركة العربية لسؤاله عن رأيه في عمر الفرن، ارتفعت كفاءة الماكينات قليلا بعد تولى ضابط الجيش المتخصص في افساد الشركات رئاسة الشركة، توقف هو عن العمل معهم لكن زميله استمر دون ان يحصل على مقابل مادى، ينهى نظمى المكالمة طالبا كالعادة لقاءهما وهو يدرك انها مقابلة لن تتحقق.
هاجمته الرائحة التي يحبها، رائحة المعطف، تلفت يمنة ويسرى محاولا اكتشاف مصدرها، ثم وقف متجها لصالون النادي، لم يجد إلا عجائز كل يوم وماري منيب على الشاشة تقول لابنتها "يجعل جوزك برطوشة في رجلك".
اتجه نحو حديقة العائلات مارا بين الكراسي الخالية.
تذكر فجأة صديقه العالم النووي سمير الذي ظل قابضا على جمر محطة الضبعة النووية، محافظا عليها وحريصا على تنفيذها، وحين بزغت شمس التحقق من بعيد، انهوا خدمته، بحجة الدواعي الأمنية لأنه يساري.
سمع صوتا يناديه، التفت حتى وجده، هاشم.
تبادلا التحية وهما واقفين، دعا هاشم للجلوس لشرب شيء، قبل بعد تردد:
- أصل انا على موعد مع الشباب.
- شباب مين؟ انا عرفت إنك نازل الانتخابات !!
- أيوه، مانا ها قابلهم.
- انت كنت نازل في قايمة مش ظريفة، فقلت لنفسي مش حانتخبك، وبعدين عرفت إنك سبتها.
- أيوه، انا ماكنتش نازل، وبعدين ،....
استمر هاشم في حديث ممل، هرب من الحكايات متذكرا كيف أتى كفرسان القرون الوسطى بعد بيع الشركة لمجموعة مالية ليتولى منصب المدير التجاري براتب يعادل 3 اضعاف راتب عبد المجيد وسيارة شيروكي اختارها بنفسه شاهرا جداول Excel واسئلة تقييم الأداء " Key Performance Indicator " في وجه رئيس المجلس والعضو المنتدب والمديرين.
- انت عامل ايه يامهندس عبد المجيد؟؟
- انا بطلت شغل.
- مانا عارف، انا متابعك على الفيس، كلامك كله معارضة، هههه
- بتشتغل فين ؟
- ماسك المشتريات في شركة العصائر المتحدة.
تذكر رحلة هاشم المهنية ، تدرج في شركة متعددة الجنسية حتى وصل لوظيفة عالية ، وكان يرسل الإميلات له ولغيره من الموردين معنونة بالسرية حتى لا يكشف مشاريع شركته الجديدة ، وفى نفس الوقت يرفق بها جدوله بالإحتياجات من كل الشركات ، فتكون النتيجة انه لا سرية ولا يحزنون!!.
أجبر على الإستقالة من الشركة لسبب غير معلن ، وتقدم لشغل وظيفة المدير التجارى بالمجموعة المالية التي اشترت الشركة التي عمل بها عبد المجيد.
كان يناديه يا" عبده" ، في محاولة لرفع الكلفة ، فيرد عليه " ياهشوم" أكثر من مرة حتى يجبره عن التوقف عن رفع الكلفة دون جدوى.
ترك الوظيفة مجبرا بعد تراجع المجموعة المالية عن الصفقة، و اصبح عبد المجيد يسمع أخبار تنقله من وظيفة لأخرى ، كلها وظائف مغرية مؤهلاتها جدول ال Excel ، وال Key Performance Indicator ، اللذين اضطر عبد المجيد لتعلمهما من النت و طباعة محتواهما لباقى زملائه حتى للعضو المنتدب.
- هيه، ناوى تنتخبنى ولا لأ؟
- ناوى انتخب من يلتزم بلقاء شهرى مع أعضاء النادى ، انا طلباتى من النادى قليلة ، النظافة ، كافيتريا نضيفة ، حتى لو سمح لها بالتوريد الخارجي لغير أعضاء النادى.
- طبعا ، قايمتنا ملتزمة طبعا بده.
كانت النية لدى كثير من الأعضاء هي التغيير ، الكل يرغب في مجلس إدارة من وجوه جديدة ، الناس ترغب في تلمس إحتمالية الأمل ، يبدو ان المصريين فقدوا القدرة على التغيير السياسى ، فاستبدلوا السياسة بانتخابات الأندية.
إستمرا في الحديث ، وسمعا مجموعة من كبار السن ملتفين حول أحدهم المتقمص دور العالم :
- السيسى مش سهل ، دا مورد اسمنت لمشروع سد النهضة ، ماهو إلا مادة متفجرة ، يدوس على زرار من القاهرة ، يفجر السد في اثيوبيا.
ضحكا سويا ليسأله هاشم :
- انت مهندس أولا وبتفهم في السياسة ثانيا ، ايه رأيك في الهجص ده؟؟
- ممكن طبعا ، مش عبعاطى عمل جهاز يعالج الإيدز ويحوله لكفتة؟؟.
ترك عمله المحبب منذ عامين ، بعد تأكده من ان رئيس المجلس الجديد احمق ، لن يتفاهم معه ،خاصة والرئيس مقتنع بان الشركة كانت تسير بالبركة ، وضبطها مسئوليته.
حين تقدم باستقالته بعد إهانة الرئيس للعمال في حضوره، أخبره انه سيأخذ موافقة مجلس الإدارة على الإستقالة وانه يطلب منه الإستمرار مستشارا للشركة وهو مالم يحدث.
كان عبد المجيد يلتقى أسبوعيا بمعلمه يحيى الذى انهى خدمته في شركة منافسة، فاخبره بامر الإستقالة وحكى انطباعته عن الظروف الجديدة في العمل.
بعد مرور الأسبوع اخبره الرئيس بالموافقة على الإستقالة .
فوجئ قبل مغادرة عمله بيوم بزميله يحيى يخبره انهم اتصلوا به ليحل محله وهو سيقابلهم اليوم للتوقيع.
شعر بغصة ، انا احكى لك ، وانت لا تنبس ببنت شفة ؟؟
- ماشى ، Good Luck
- طلبوا منى انى آجى وانت موجود ، بس انا رفضت.
- ليه؟ الصح انك تيجى وانا موجود عشان الف بيك المصنع واعرفك عالناس
- اهو اللى حصل ، انا رفضت وخلاص.
كانت صدمته عنيفة رغم انها ليست المرة الأولى التي يخدعه صديقه.
غادر شركته بعد ان قضى فيها اثنين وعشرين عاما وزود طاقتها الإنتاجية بمشروع كبير.
إلتحق عبد المجيد بعمل جديد ، لم يستمر فيه أكثر من أربعة أشهر بعد إكتشافه ان أصحاب العمل لا يبحثون عن أصحاب الخبرة ، بل يفضلون ايقونات مطيعة بلا رأى ولا شخصية يزينون بها الملابس الرسمية.
منذ فبراير 2016 ، يجلس بلا عمل ، استشارات متقطعة لبعض الشركات ، تكشف له حجم الخراب الذى يجتاح الصناعة ، واللا جدوى المعلنة في كل مكان.
كان معطفه المزين بلوجو الشركة دائما امام عينيه، رغم انه نظيف ومغسول إلا انه يحمل الرائحة التي أحبها دائما، رائحة غير محددة، ولا معلومة المصدر، إلا انه كان يشمها كل صباح حين يدخل المصنع.
فجأة تساءل ، ماصلة هاشم بهذه الرائحة؟؟
هاشم لم يمض بالشركة أكثر من عامين ، ولم يكن عمله شيئا إيجابيا ، لم يقدم قيمة ذات معنى ،بل إختار سيارته الشروكى ، وانت لم تركب إلا سيارات قديمة لم تخترها ، بل تؤول لك ميراثا من العضو المنتدب بعد ان يغيرها بالأحدث.
تذكر أمه وهي تقول " البطن قلابة".
توجه الى حجرته، تناول المعطف القديم، طواه في حقيبة بلاستيكية، القاه في سلة القمامة.
قرر ألا ينتخب هاشم، رغم تؤكده من نجاحه.