الوجع العراقي حينما ينكتب شعرا، أو هكذا يعيد الشاعر العراقي تخطيط الوجع العراقي من خلال استثمار الإنسان والماء ولأن سفينة نوح لن تعبر أي أفق مادام هذا الوضع يزيد الوضع قتامة والإنسان يأسا عارما وهو ما يجعل من الحياة وجعا إضافيا.

نوح ينتظر المطر

ليث الصندوق

 

لا صراخَ في الأفق

ألحناجر اليابسة تتساقط كالأثمار

من شُجيرات الأعناق

مرّ الزمنُ يُجرّرُ أذيال هزائمه

مخلفاً وراءَهُ جثثَ الصمت تنهشها العُقبان

ألرياحُ اللاهبة تنفخ الأجساد كأشلاء الذبائح

والسرابُ يتقدّم

ساحقاً تحت سِرفتِهِ القرى الملتحفة بالعطش والبُهاق

لا شيءَ سوى الأهداب المنسوجةِ ستائرَ على الأحداق

مرّتِ الأمطارُ في أحلامي مثلَ رشقاتِ الرصاص

تاركةً في ذاكرتي بقعاً من الدم والندوب

إنهُ العطش

ألأفاعي تنفض قمصان الوديان بحثاً عن ظلال هائمة

والجرادُ يسكبُ القمرَ الذابل في رضاعات الأطفال

عطشٌ

عطشٌ

عطش

لم يعد من أمل

سوى أن نضربَ الجدرانَ بالسياط

لتترك أساساتها ، وتعدو

**

كلما مددتُ يدي إلى السماء

قطعت حِبالَها ، وارتفعتْ إلى أعلى

كلما ناديتُها

سدّتْ ثقوبَها بالحصى

أيتها اللامعةُ من شدة الظمأ

كأنها سقف من الإبر

متى تُمطرين ؟

وتجرف سيولُكِ أشجارَ الحديد ألنابتةُ من مسامات الجلدِ المحروق

متى أرفعُ على السفينة عباءتي المنسوجةَ من خيوط الصبر ؟

فأشرعتي حولتها عثةُ الإنتظار إلى غرابيل

متى اُبحِرُ ؟

بينَ الجُثثِ الطافيةِ كبُقعِ الزيت

تُسابقني الأشجارُ والجبالُ مُستعينة بزعانف

**

من زمنٍ بعيدٍ أكملتُ بناءُ السفينةِ عظماً عظماً

وفقرةً فقرة

واستوتْ تتنفسُ وتنمو

فظننتُ أنها ستقطعُ اليابسةَ سَيراً على قدمين

كنت أتأملها تنتفخُ

مثلَ بطنٍ مليءٍ بالتوائم

ففي عنابرِها تتناسلُ الحيواناتُ مثلَ فقاعاتِ الصابون

ألمؤمنونَ على السَواري يحاولون عبثاً الطيران

فأجنحتُهم لم تكتمِلِ النموّ

أما المذنبونَ فيَطيرونَ ويُزقزقون

مُتخذينَ من سراويلِهم أجنحةً

ويتخذونَ من قناني الخمر الفارغة مناقير

**

أنتظرتُ المطرَ بشهيّة ثُعبانٍ أعمى

كلما هبّتْ نسمةٌ باردة

قلتُ : الحمدُ للهِ

ستنبتُ في فكّي الأدردِ الأسنان

كلما سقطتْ قطرةٌ من الندي

أعددتُ الخيطَ والإبرةَ لأنظمَها في عِقد

لكن لا بروقَ

ولا مطر

ألقدورُ تغلي من دونما نار

والرياحُ تعود إلى صناديقِها قانعةً بالأقفال

**

ألسفينة هرمتْ في سجن الانتظار

صارتْ أخشابُها تئِنّ من سوفان الفقرات

وأشرعتُها تتقصّفُ من هشاشة العظام

وعنابرُها تُسعل

وتنفثُ ما تبخّرَ في رحمِها من الأجنة

بينما السماءُ تُحدّقُ بحقدٍ

مخفيةً تحتَ عباءتِها أكداساً من ملفات الذنوب

كلُ يوم يمرّ بلا مطر

تغطسُ السفينة في كهولةِ الصلواتِ والأدعية

فتنبتُ لأخشابها جذورٌ هي ألسِنةٌ مؤنّبة

هكذا السفينةُ صارتْ شجرة

عصافيرُها نمورٌ وأرانب

وأثمارُها فحيحٌ وعواء

كلُ يوم يمرّ

تتحوّلُ المساميرُ إلى فِرَشٍ لأسنان الفئران

وتتحولُ المجاذيفُ

إلى عُكّازاتٍ للرياح العرجاء

وما زلتُ أصلّي ورأسي غائصٌ في السماء

أنبشُها بنظراتي

أقلبُها بطناً لظهر

باحثاً عن صنابير الماء

**

ألفُ عامٍ

وعيناي طشتانِ تحتَ مزاريبِ الحَسَرات

لا بروقَ

لا رعودَ

لا مطر

ألسماءُ تحولتْ إلى سَقفٍ من الأحجار

وما عادَ أحدٌ يرفع يديه بالدعاء

مخافةَ أن تسقطَ على رأسِه حجرة

ضاعَ العُمرُ في النظر إلى الأعلى

تنخّرَتْ أسناني من حموضة الدُعاء

فقراتي تئِنّ من وخز الدبابيس

أنفاسي وعَرَقي يزيدان من عِبءِ الأرض

لا جدوى من الإنتظار

لا جدوى من الإنتظار

فالسماءُ التي لم تمطرْ الفَ عام

لن تُمطرَ أبداً