تصريح خارج السرد: لیس ثمة إنسان یهتم بالمسرح اهتماما جادا، ویستطیع أن يمر ببريشت مرور الكرام"
(يقول Peter Brook بیتر بروك)
مبدئيا؛ لا تشكل هذه المقاربة إحاطة جامعة لما يحتويه المنجز "المسرح والسرد" بل إنها قراءة تبدو انتقائية. تلامس محتويات بعضه لتفكيك مرامي وظيفته؛ ونوعية إضافته في المنجز النقدي في المشهد المسرحي المغربي؛ لأن ما قدمَه وخَطه صديقنا ورفيقنا في درب اللذة السيزيفية؛ د. محمد أبو العلا؛ في منجزه الأخير (المسرح والسرد نحو شعرية جديدة) فوجئت أيما مفاجأة؛ بحمولته النوعية وتعدد المصطلحات وتوظيفها في خطاب تحليلي ومقارباتي؛ تلك هي فضيلة بحد ذاتها؛ وفي نفس الوقت تبيانا للتطور الفكري والاشتغال المضن والمتميز في هذا المبحث؛ وهذا لا يعني أن منجزاته السابقة (اللغات الدرامية وظائفها وآليات اشتغالها) و(المسرح المغربي من النقد إلى الإفتحاص)(2014) (المسرح المغربي: سؤال التنظير وأسئلة المنجز)(2016).
لا تحمل قيمتها المعرفية والتحليلية؛ بالعكس؛ لقد ساهمت وبالتأكيد من خلال القراءات والمناقشات. في تطوير تصوراته والبحث عن قيمة مضافة للمشهد المسرحي في مجاله النقدي؛ وذلك من خلال المساهمة في الاشكالات الحالية وطرح أسئلة كبرى حولها؛ ايمانا بروح ديونيزوس؛ الذي يحمله على عاتقه. ومسألة الأمانة من هذا النوع ليست بالهينة؛ إذ نحن وبدون مجاملة أمام اشتغال فيه من المهارة والحبكة المعرفية؛ تتناغم مع التعريض التلميحي لاجتراح التصريح من لدن القارئ/ المهتم لكي يتسلل منه بريق نحو توقّعات جديدة.
وبالتالي فاشتغاله على المسرح والسرد؛ يوحي ولو بشكل عابر للمهتمين والباحثين؛ بأن هناك انخراط عملي وفاعل في المباحث المستعصية الآن، وهذا ما تلمسه مقدم الكتاب د. إبراهيم الهنائي وأشار إليه بالقول: وقد شكلت كل هذه المباحث مجموعة من المداخل ناقش من خلالها الباحث بعمق الإشكالات المتداولة الآن في الساحة المسرحية؛ محاولا تسليط الضوء على الشعريات الجديدة التي تتشكل انطلاقا من تداخل الخطابين السردي والمسرحي(1).
فالاشتغال على خطابين/ جنسين: كُل واحد منها له مكوناته وميكنزماته ومنطلقاته؛ فالمسألة جد معقدة؛ ولاسيما أن المسرح في تركيبته العامة حركي/ دينامي - جمالي/ ساحر. بخلاف السرد هو كلامي/ أسلوبي/ أدبي، وبالتالي فالسرد مكون من مكونات المسرح (الآن) بخلاف عقود سابقة كان السرد هو المسرح؛ بحيث كانت الفرق العربية في القرن التاسع عشر وأواسط الأربعينات من القرن العشرين؛ تشير في ملصقاتها أنها ستقدم (رواية) كذا؛ ولا تخط (مسرحية) كذا. وذلك نتيجة طغيان المفهوم الأدبي في مجالات فنون القول؛ وأسلوب منسجم إلى حَد بعيد مع تاريخه وزمنية اشتغاله؛ ولاسيما أنه مجال حيوي من تراثنا المعرفي، وفاعل في خزان الذاكرة الجمعية بكل آلامها وآمالها ومتخيلاتها، لأنه أساسا من الأساليب المتّبعة في القصص والروايات وكتابة المسرحيات؛ وقبل هذا وذاك.فالسرد تعبير إنساني، تتم عبره ترجمة الأفعال والسلوكيات الإنسانية والأمكنة والزمان إلى كثلة من المعاني التي توظف فوق الركح، وبناء على هذا فأقرب تعريف للسرد (هو) الحكي: وكان مقدم الكتاب الذي نحن بصدده استخلص هذا في عنوان فرعي دال بالقول: عندما يفتح الركح ذراعيه لشهرزاد(2) بداهة فشهرزاد سيدة الحكي بامتياز ونموذج للسرد وهذا یعْني أنّ السرْدَ لا یوجد إلاَّ بواسطة الحكایة؛ وكما يعَرفه جيرارجينيت: هو قصُّ حادثة واحِدة أو أكثر، خیالیة أو حقیقیة(3) وهذا ينطبق على حكايا شهرزاد أو أبوزيد الهلالي أو العنترية وغيرهم؛ علما أن: السرد مصطلح نقدي حديث يعْني "نقل الحادثة من صورتها الواقعية إلى صورة لغوية(4) فمن هذا المنطلق حدد باحثنا الفاضل أبو العلا الاشتغال على منجزه؛ بطريقة مضمرة على اساس قلب الصورة اللغوية لصورة واقعية فوق الركح؛ فمن هنا نجد أن عنوان الكتاب؛ يحمل السرد كمعطوف على المسرح؛ ولكن أثناء الغوص في حمولة الكتاب؛ نستشف وضعيات مختلفة بين (المسرح والسرد)/ (السرد والمسرح)؛ وهذا التقلب طبيعي بحكم طبيعة الموضوع؛ الذي يسعى لتقديم مقاربة نظرية لمصطلحات السرد والشعرية المسرحية ومجالات اشتغالها وتحولها من لغة حكائية إلى لغة مسرحية، وعلى اعتبار أهمية الموضوع فإن إشكالية الدلالة المسرحية تفرض استقراء ومقاربة وضعيات؛ وكذا محاولة تأصيل وتحديد مفاهيم ومصطلحات خاصة التي انقذفت في البحوث ما بعد الدراما وهذا ما يركز عليه الكاتب في مقدمته: وسعيا ما يتصل بالموضوع أثرنا المزاوجة في هذا الكتاب بين مباحث نظرية وأخرى متضمنة أو مجاورة؛ هاجسها التطبيقي افتحاص المتداول من مفاهيم ومقولات وإشكالات؛ منحدرة من خطاب ما بعْد الدراما؛ تحت عنوان ومباحث موسومة(5) وهذا المعْطى يتواطأ معه مقدم الكتاب؛ في أخر الصفحة (التاسعة) نتيجة هَم الاشتغال وقلق السؤال نحو شعرية جديدة أو بديلة تتغلغل في الممارسة المسرحية المغربية تحديدا.
قلق السؤال:
فالتواطؤ له مبرراته الذاتية والموضوعية؛ وهذا يتبين أن المقدمة مفعمة بالأسئلة والتساؤلات؛ التي يبرز فيها علامة الاستفهام المرتبطة بـ(هل) نفس الوضعية التساؤلية؛ تتشظى جوانية الموضوع –المسرح و السرد- بحيث إن قمنا بإحصاء عدد التساؤلات والأسئلة؛ فهنا لا محالة سنسقط في المنهج الإحصائي؛ والذي يفرض لامحالة إحصاء حتى عدد المصطلحات والمفاهيم كـ التثاقف/ المثاقفة/ التقويض/ التناسج /التوطين/ الشعرية.. فترددها عدة مرات وفي سياقات مختلفة؛ لأن المُؤلف أصلا هو: إصدار جامع لمباحث فرقها الارتهان لمناسبات علمية متباينة؛ وجمعها ما اجترحناه من اشتغال على ما يعتمل الآن من شعرية واصلة بين الخطابين؛ بدل الفصل الأجناسي المتوارث عَن بويطيقا أرسطو(6) فهنا سنفسد بهذا المنهج ماهَوية الموضوع؛ باعتباره حامل لرؤى فلسفية تتداخل وتتحاور جوانية الاشتغال السردي/ المسرحي؛ المنزاح عن المنهج الإحصائي الذي هو أصلا من بين المناهج العلمية التي تضفي الصيغة العلمية البحثة؛ على الدراسات السياسية والاجتماعية؛ التي ينعدم فيها قلق السؤال؛ الذي يرتبط جدليا بمجالات الثقافة والفكر، لأن إنتاج مفاهيم وأسئلة جديدة يعتبر من أهم وظائف الفكر الفلسفي؛ الذي يعيش قلق السؤال والمغامرة في مجهول الذات والموضوع للبحث عن امكانات نحو شعريات جديدة؛و التي تتفاعل مع الممارسة المسرحية ما بعد الحداثة؛لأن صلب تفكير المنجز يتأطر في السؤال الجوهري- ألسنا في حاجة اليوم إلى إعادة النظر في خطابنا النقدي المحايث وتوسيع أسئلته النقدية قياسا على توسيع موضوعه بالسرد؟(7) فهذا التساؤل فرضته المرحلة المفصلية والمناخات الثقافية المغايرة. في عصرنا هذا؛ الذي يحمل معه ثورته الرقمية ووسائط التواصل والاتصال؛ التي ساهمت في بروز الإنسان المرآوي. وفي ظل هذا فالظرفية الآن تدفعنا لطرح وتوالد أسئلة/ تساؤلات؛ فكرية/ إبداعية؛ وغير مسبوقة بالأساس؛ وذلك لمقاربة المستجدات المتعاقبة بشكل مهول في زماننا هذا؛ زمن المعلومة والصورة؛ قبل المعرفة،وبالتالي تحرض المهتمين والممارسين في المجال الإبداعي عموما؛ لإعادة الرؤية النقدية في الأسئلة المطروحة، وذلك من خلال اختلاف موقع السؤال ومقومات إجابته باختلاف الإشكالية التي تحتويه. هنا تزداد الإشكالية حينما يبحث السؤال عن إجابة ولو تقريبية؛ يصطدم حينما تتم الاجابة عنه بسؤال لاحق أو سابق ك: ماذا تشكل العودة إلى المحكي التراثي في المسرح العربي ؟هل هي إشارة لتصدع النموذج الغربي الذي هيمن (وما يزال) على المسرح العربي(8)؟ هنا تكمن روعة المبحث؛ الذي حاول قدر الامكان خلخلة الجاهز واليقيني من المعطيات؛ وذلك عبر التفكيك؛ الذي ينتج اللامعنى عبر السؤال والهدم؛ الذي يفرض على القارئ -المفترض- مشاركته في البحث عن جواب أوإجابات حول سؤال الإشكالية؛ أو إشكالية السؤال؛ التي تحمل في طياتها قلق السؤال؛ للقبض على المعنى. وهذا نلمسه منذ البداية. وخاصة أن المنجز في عموميته وضع بدهاء؛مسافة بَيْنِية بين المسرح والسرد والاحتفاء بعملية الابدال السردي؛ التي أنتجت في العمق اهتجاس بالتجريب؛ الذي يحمل مظاهر الحماس المفرط في ترحيل تلك الدراماتورجيات خارج تخومها الغربية.
نقطة البدء:
إيمانا بالتحول الذي يعْرفه العالم؛ والذي أعْلن إفلاس الحداثة؛ بعدما اسْتنفدت نفسها على حد تعبير آلان تورين ووصلت إلى مآزقها، مما استدعى ممارسة نقدية لما ألت إليه الأمور؛ وأن الحل الفعلي سيأتي من خارجها؛ أي من التوجه المابعد حداثي الذي عمقته كتابات فوكو ودريدا استناداً لما تركته النتشوية من أفكار وطاقة تتوسم بإرادة المعرفة والقوة في تجاوزها لشروط إنتاج الحداثة. هنا فالمسرح كما فكر فيه الصديق محمد أبو العلا بدوره مدرك لهذا التحول؛ وهذا نتيجة المواكبة والاطلاع التي تفرض نفسها؛ و تؤطر باحِثنا أنه لا يعيش في عوالمه الخاصة؛أو في صومعته يفكركما يحلو له؛ بل موازاة بأبحاثه أنجز نصوصا مسرحية وبعض منها تم الاشتغال عليه؛ وثانيا ما يؤكد هذا قوله في منجزه: ويتموقع المسرح في قلب هذا المتغير؛ انطلاقا من طبيعة خطابه وآليات تصريفه بناء على تقويض الهوية/ هوية ذات الممثل؛ لتشييد أخرى مقنعة؛ ثم انفتاحه المبكر على الآخر؛ بعد استنفاذ المسرح الغربي لأسئلته(9) هنا نلاحظ أنه تم التركيز على (الممثل) لماذا؟ لأن الممثل هو قطب العملية المسرحية بدون منازع؛ وبالفعل ينتج الدلالة من خلال أدائه، السردي وتنوع تجسيده مع عناصر الآداء وتفعيل الفنون المجاورة له؛ لأن المحددات السردية لإنتاج المعني يحددها الممثل داخل التفاعل الدلالي لمكونات العرض. وبذلك يصبح الممثل ملتقي طرق السياقات والنوايا والمعاني. وعندما يصنع كل ذلك في ذهنه، ينجح في تقديم السرد، ليس في صورته الأحادية. بل إنه يدخل في مشاركة تواصلية، بشكل ضمني أو علني، مع عناصر النسق السيميوطيقي. لأن النص ليس هو الذي يتيح السرد، بل إن المشاركة الفعلية هي التي تؤسس الممثل باعتباره راويا سيميوطيقيا(01) وهذا يتمظهر جليا في الشق التطبيقي من المنجز.
قلق البحث:
المنجز في إطاره العام انعكاس عياني لما يعيشه الأستاذ محمد أبو العلا في دواخله من حالة قلق فكري/ معرفي؛ ولكنه قلق معقلن وهادئ؛ يبحث عن خلاص لمسرح مغربي مشرق؛ مما يموضع إشارة قوية حضور المؤسسة كحاضن لإشكالية المسرح والسرد؛ والمتمثل في (المركز الدولي لدراسات الفرجة) الذي انخرط في نقد أطروحة المسرح الغربي؛ وذلك لدعم وتبني تصورات لـ إريكا فيشر حَول المثاقفة والتناسج فالمفهومين أساسا يحملان التباسا في سياق الفرجة؛ باعتبار أن المثاقفة مهما تحايلنا على اصطلاحيتها فجوهرها الدلالي يقوم أساسا على مفهوم السيطرة والغلبة بين غالب ومغلوب؛ ولا نخجل هاهنا إن أشرنا بأننا لازلنا في خندق المغلوب؛ رغم أنه وقعت محاولة انزياح الآنا عن الآخر؛ وتم اللجوء للتراث لتحقيق الهوية؛ فالإشكالية تم السقوط في أخضان المسرح الغربي وتوظيف تقنياته وأدواته الأدائية؛ وبالتالي للقفز على (المثاقفة) التي نقدتها بشدة الفيدرالية الدولية للبحث المسرحي؛ في إطار الغرب/ الشرق (الأقصى) هنا يبدو لنا الصورة محض ثقافية/ إبداعية؛ لكن بالعودة للحرب الباردة؛ وللحرب الاقتصادية الآن بين الغرب/ الشرق (الأقصى) أما (الأوسط) ففي دمائه يسبح وينسج حكايا على جثته؛ سيستوعب هذ الضجيج الفكري الذي يمرر عبر مفاهيم ومصطلحات التي يقودها الآن جورج غادامير، وهابرماس، وإريكا فيشر ليتشه التي نحتت من قلب (المعهد الدولي لتناسج ثقافات الفرجة) التابع للجامعة الحرة ببرلين "مفهوم التناسج" لتجاوز المثاقفة وترفضها كآلية لكونها تكرس هيمنة النموذج الغربي، الذي يرى في الأصل الأوروبي مصدر إشعاع يغمر بضيائه الثقافات الأخرى؛ ورغم هذا الطرح النقدي؛ لقد تماهى به (المركز الدولي لدراسات الفرجة) واعتبره: تفاعلا بين الثقافات وسعيا نحْو الانفتاح دون انصهار وإبراز الذات دون انغلاق(11) مبدئيا هذا تعريف لعلماء الاناسة؛ وليس من وحي المركز. وهنا ينتبه الصديق أبو العلا لذلك؛ مبرزا نقيض الأطروحة بقوله:على خلفية الإجماع على تقاسم المفهوم بانتماء مغاير؛ وبالمأزق الحافة بعبوره خارج تخومه فمفهوم المثاقفة المتجاوز على علاّته يبدو ممتلكا إطاره المفهومي؛ وحقل تداوله في المعرفة والتاريخ (12) أكيد أن المثاقفة لا يمكن أن يتخلص منها المسرح العربي تحديدا؛ لأن أصلا الغرب متجذر في ماهية ثقافتنا؛ وما مسألة الأنا والآخر إلا ضرب وهمي؛ لأن في عمقها نوع من استغلال ثقافات الضعفاء؛ لأنه بشكل تلميحي تشير إريكا فيشر: إن المثاقفة المسرحية أيضا لها جانب سياسي؛ لا ينبغي تجاهله؛ وهو مرتبط بالعلاقات السلطوية بين الثقافات(13) فأي سلطة مسرحية لدينا؛ ولاسيما لا وجود الآن لثقافة يمكنها أن تدعي الصفاء العِرقي؟
الجميل أن الإجابة تأتي بهذا الشكل من داخل المنجر الذي يحاور بهدوء أغلب الإشكالات الواردة في سياق ما يُنظر للفرجة المسرحية: وعلى عكس مقدمات التفكيك الموفقة في الغرب التي عملت على اجتراح مسار الثقافة الغربية؛ ومنها المسرح بتحضير الأرضية الخصيبة لتفاعل فرجوي عابر للقارات؛ وتصحيح صورة الآخر بتجسير المعابر المفضية إلى تخومه ظل المسرح عندنا محكوما بالإخفاق في حل أسئلة تتجاوزه، وذلك لاستسهاله الحسم في إشكالات مسرحية؛ لها امتداداتها خارج خطابه؛ داخل سياق ثقافي إشكالي حاضن بمزالق المقدمات الثقافية للإخفاق(14) نلاحظ بأنه الأستاذ محمد أبو العلا يمارس التلميح؛ الذي يفرض كما أشرت تفكيك ما يريد الإشارة إليه؛ لتفعيل الجدل والحوار بغية إعادة بناء تصورات وظيفية للنقد التشاركي، وبالتالي لا مناص من إعادة قلب صفحات المنجز للقبض على الخيط الأساس: وفق هذا المنظور؛ فحجم الجدل الذي أثارته الاحتفالية في السبعينيات لا يمكن تفسيره في نظرنا بحراكها على صفيح اشتراكي ساخن؛ أو قتلها لبريخت؛ الأب الروحي لمسرح الهواة زمن الانحياز والتصنيف القاتل للنظريات أو تعطيلها في نظر الخصوم لمسارات أخرى كان سيجترحها مسرح الهواة؛ بل في تحركها في مشهد ثقافي موصول بالغرب؛ ومتحكم فيه من طرف أنتلجينسيا تتعارض في مرجعتيها الحداثية مع الاحتفالية بمرجعها التراثي والعروبي" رديف الانحطاط" وجنوحها بمسرح غربي شرع في التشكل خارج سياقه الحداثي المناسب له(15) هنا من واكب ويواكب الممارسة المسرحية المغربية؛ للتوِ سيستنتج ما تغلفه من أبعاد هاته الفكرة ألتي استخلصها بالسؤال التالي: أين المثاقفة هنا وأين التناسج ؟ وهل استلهام التراث يشكل مثاقفة أو تناسجا؟
ففي ظل الصراع الممنهج أو الاعتباطي؛ في محيط واحد؛ وعدم تدبير خِلافتنا وما أكثرها في النسيج المسرحي؛ والاقتناع باختلافاتنا تتعطل آلية التفاعل والتواصل بين الأفراد؛ أو كما سماها هابرماس الفعل التواصلي. فبالأحرى بين الثقافات التي بعض منها يحمل هجنته؛ بناء على الاحتلال الذي فرض علاقات تأثير وتأثر غير متكافئة بحكم علاقة الغالب بالمغلوب. وبالتالي فالعودة للتراث لممارسة التأصيل المسرحي هل يعني هذا انزياحا عن ثقافة الغرب؛ لبناء هوية؟ يجيبنا المنجز بقوله: إن سؤال العودة إلى التراث وضمنه المحكي؛ هو بمثابة عودة مفارقة؛ تثبت أزمة المسرح؛ وضيق أفقه الحداثي؛ حيث إن بَدت منطلقات البحث في هذا الاتجاه تصحيحا لمسارات التأصيل؛ إلا أنها تؤشر في نفس الوقت؛ على تصدع النموذج المسرحي الغربي الوافد؛ واستنفادا لإمكانات تثويره حداثيا من الداخل؛ الشي الذي جعل البحث المسرحي وفق هذه الرؤية يروم تكييف التراث وفق تطلعاته(16) طيب في تقديري ان العودة للتراث هي نتيجة موجة فلسفية في العالم العربي؛ ساهمت في احتدام الصراع الفلسفي/ الفكري بين المغاربيين والمغاربيين؛ والمغاربيين بالمشرقيين؛ بعد (نحن والتراث) وانزلق المسرح العربي في خندق استلهام التراث وتوظيفه استيطيقيا؛ إذ يبدو لنا أن هنالك محاولة القطيعة بين الأنا والآخر؟ بالعكس فالآخر فرض على الأنا أن تستلهم التراث والاشتغال على أشكال فرجوية. من أجل فهم كيف نفكر و كيف نشتغل؟ ربما يبدو طرحا ساذجا؛ ولكن تلك هي الحقيقة؛ لأن الآخر ليس مستهترا أو لا مباليا؛ بالعكس فلماذا انوجاد المعاهد والمختبرات السردية والمورفولوجيا والأنثروبولوجيا والأثنوجرافيا والسيميوطيقا والإثنوسينولوجيا واللسانيات... مُتمأسسة في كبريات المدن الأكاديمية بما فيها برلين وفرانكفورت التي نستقي منها الآن أغلب المفاهيم الفلسفية والإبداعية؛ فعلى سبيل الإشارة؛ فما أهمية الإثنوسينولوجيا المتمركزة في (فرنسا) بدعم من منظمة اليونسكو ودار ثقافات العالم، لكي تقوم بالتعرف على ثقافات الشعوب ودراسة وتجميع مجموعة من الفرجات الفطرية والفنون الشعبية والثقافات الأثنية المتنوعة، ومجمل الفنون المشهدية الاحتفالية والظواهر البشرية سواء أكانت فردية أم جماعية، والتي يغلب عليها الطابع المشهدي المنظم.
وبالتالي هل الأعمال الدرامية على علتها في عهد الاستعمار؛ لم تكن تستلهم من التراث قبل موجة استلهامه؟ ألم يكن هنالك مثاقفة وتناسج بين الثقافة المغربية والفرنسية والإسبانية آنذاك؟ الإشكالية ليست هنالك دراسات وابحاث عميقة؛ تؤكد ذلك؛ بقدرما هنالك نتفا وإسقاطات؛ نفخ فيها الرحاب الجامعي؛ واعتبرت أبحاثا؛ وفي المنجز الذي بين أيدنا لأخينا أبو العلا أشار بشكل ذكي إلى 1923: موعدا تاريخيا عرف المغاربة المسرح بعد زيارة أول فرقة مصرية.. مما يطرح أكثر من سؤال حول مسوغات استهجان هذا الخطاب في معقله وقبوله وافدا عبر شرقه؟(17) مادام هو سؤال مفتوح؛ نتساءل بدورنا من أكد استهجانه ومن سمح له أن يكون وافدا ؟ للأسف وبقدرة قادر اتفق أغلبية من تناول المسرح المغربي؛ أننا اكتشفناه في 1923 فالبنايات المسرحية المشيدة قبل هذا التاريخ؛ ماذا كانت تقدم ؟ ولماذا أكد الجزائريون بدورهم أنهم اكتشفوا المسرح بعد زيارة فرقة جورج أبيض سنة 1921 للجزائر؟ ولماذا هاته الفرقة لم تدخل للمغرب؟ والمسرح في تونس كان 1909؟ ولماذا نشأت حركة المسرح الغنائي في تونس؛ بٌعيد زيارة جوق "سليمان قرادحي"، ولم تتأسس في الجزائر ولا في المغرب؟ ولماذا قدم إلى تونس الشيخ سلامة حجازي الذي ذاع صيته في العالم العربي، آنذاك ولم يزر الجزائر ولا المغرب؟ هاته فقط إشارات تحتاج لبحْث/ بحوث مضنية! لأن هنالك تداخلا جذريا بين البعد السياسي والثقافي والاجتماعي والاستراتيجي؟
وإن كان الأستاذ أبو العلا قدم أسئلة ملغومة تتقاطع بشكل أو آخر مع ما أشرت إليه بمعْنى: هَل التركيبة البشرية واللغوية للفرقة؛ هي التي كانت العامل الأساس وراء حميمية اللقاء الأول؛ وتذويب عنصر الإدهاش؟ أم أن التركيبة الذهنية للنخب المغربية الموفدة إلى أوربا؛ لم تكن حينها على وعي كاف بتوطين هذا الفن؛ على غرار مارون النقاش؟ أم هو موضوع الفرجة المشرقية المطوَّع مسبقا بما يكفي؛ لدرء خيبة الانتظار؟ هل هو مكر الصدفة أن تقدم على امتداد الزيارة المشرقية للمغرب عروض بحمولات مغايرة (صلاح الدين الأيوبي؛ روميو وجولييت..) أم أن القصد من فعل المزاوجة؛ هو استدراج المتلقي بنص مخاتل لتلقي نص وافد تم تهذيبه بالاقتباس؟(18) ممكن؛ في غياب يقينيات؟ ولكن لماذا الآن الدول المغاربية تناقش بحِدة مفهومي المثاقفة والتناسج؟ بخلاف الشرق العربي؛ رغم أن مصر كرَّمت إريكا فيشر ليتشه في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الثاني عشر؟ هنا فأي ثقافة يمكن أن تتلاقح بثقافة أخرى؛ لتحقيق التناسج؛ ونحن لا زلنا نتخبط في تدبير والحسم في أبسط المفاهيم؛ وترشيح معطيات هل هي تراثية أم لا كالحلقة (مثلا) والسبب يعود للتأثير الذي خلفه الغرب من منطلق المركزية الثقافية والسبق الحضاري؛ وألغى دابر التأثر. وبالتالي فمنطق التبعية بكل تجلياته حاضرة في الآنا؛ مما يفرض حسب طرح جميل في المنجز مفاده: حرق المسافات بالعبور احتذاء بالغرب إلى مربع الحوار بينه وبين شرقه؛ والتفاعل مع أطروحة التناسج في غياب الحسم في أسئلة مربعنا الأول؛ قد يفضي إلى تصديع هذا المسرح من الخارج؛ بتوسيع دائرة تأرجحه المأساوي بين إنجازات الآخر؛ وطرح إمكانية إثبات الذات(19) فمظاهر الحماس المفرط أمام مفاهيم وتصورات نظرية لها مرجعيتها ومبررات تمظهراتها؛ يتم -انقذافها- بدون مقدمات ولا تمهيدات وتستنبت بقدرة أفكار الآخر؛ فحتى المطر لا يهطل أو ينقذف إلا بعد مقدمات طبيعية كتكتيف السحٌب وظهور البرق الذي يسبق الرعد وهكذا.
إذن فالتناسج الذي يعتبر تفاعلا ومشاركة بين ثقافتين أو أكثر؛ لمزجها ونسجها في قوالب جديدة؛ لكي تتشابك كل العناصر بشكل متكامل لتخضع أساسا للتحول التاريخي والجمالي؛ هنا فثقافتنا بشكل عام مغلوبة؛ فكيف لها أن تنصهر في الثقافة الغربية ندا لند؟ بكل بساطة فالتناسج وجه أخر من المثاقفة التي يتحكم فيها قانون الغالب والمغلوب؛ وهنا فكتاب المسرح والسرد يلغي ما أفكر فيه مؤكدا: على خلاف التناسج الذي لا يملك بعد ما يكفي من المفهومية والتجذر؛ ومن إمكانات التجسير بين فرجة منبعثة لتوها من تاريخ مثخن بإنِيَّة طافحة؛وأخرى يؤرقها سؤال الذات؛ في علاقتها الملتبسة بالتراث وبالآخر(20) ولكن بالنسبة لي أعتبره تناسخا وإن كانت إريكا فيشر أعادت النظر في العلاقة بين عمليات الانتاج والعمل الفني والتلقي؛ فخطابها النقدي يروم لما أنجزه أوجينو باربا في تجاربه التي تقوم على الهجنة التي تحايث سياقات العولمة لتحقيق مسرح كوني: كما في عرضه "إيغو فاوست"، مثلا، الذي وظّف فيه عددا من الفرق الموسيقية التي ترافق الأداء بعزف حي يمزج بين الأنماط الموسيقية الهندية واليابانية، وتستخدم أحيانا قرع الطبول الأفريقية، بذريعة أنها تمثل مقترحا لمسرح كوني تنصهر فيه الهويات الفرعية والأجناس الفنية الممثلة لشعوب مختلفة، ويشكّل نوعا من التقاء الثقافات وتمازجها. وهو في الحقيقة مسرح يخفي تحت قشرته الخارجية نزعة مركزية غربية، ومنظورا ثقافيا كولونياليا(21).
داخل السرد:
أشرت بأن الصديق محمد أبوالعلا ركز على الممثل؛ وهذا نلمسه في الشق التطبيقي الذي حصره في نماذج مغربية انطلاقا من العنوان الفرعي (المسرح والحكي التفاعل والازاحة) بحيث يربط الممثل بالتراث الشعبي (الحلقة) وهذا منحى محفوف بالمزالق؛ ولكن د. أبو العلا؛ مارس مساوقة الموضوع عبر أعمال وإن كان فيها نوع من الانتقائية؛ لا بأس كاستئناس وأرضية لخلخلة مفهوم السرد والسردية التي ينجزها –السارد- في المسرح؛ والذي كان مرتبطا بالملحمي دون الدرامي؛ لكن العودة الأكيدة للسرد وترهينه بالفعل المسرحي؛ ما بعد الدرامي في عمقه اهتجاس بالتجريب ونحو التجريب؛ بعدما تمظهرت أصوات تعلن موت المؤلف؛ موت الناقد؛ موت التاريخ؛ وذلك كنتاج ما أصاب الحداثة؛ وبالتالي فبعض العروض (الآن) أمست تركز على بنية سردية تعتمد أساساً على نصوص تراثية شعرية وروائية ومسرحية، لتكوين عالم الرؤية من خلال إيقاع المونولوجات والكلمات المنطوقة/ المسرودة بحيث: انبرى بحث جاد مقر بالتراسل بين الخطابين السردي والمسرحي مقاربا موضوع الحكي على ضوء البويتيقا؛ باعتبارها نظرية عامة تقر بالمشترك بين المسرح والأدب(22) فالملاحظ أن هذا المشترك في نظر أخينا الباحث لا يكمن إلا في الراوي/ السارد من خلال الحلقة كترهين للحكي للمروي له؟ كما أشرتُ؛ فاتخذ (السمايري) عن مسرحية (بشار الخير) باعتباره سارد/ راوي جوانية البنية السردية: كتنويع للحكاية الأصل بتنويع الصوت السردي؛ وذلك بالإحالة على السمايري؛ قائما بالسرد ومتوسلا لغة قريبة من مُباشرة(23) طبيعى أن (الحلايقي=السمايري) أثناء سرده/ خطابه يسعى جاهدا خلق تفاعل بينه وبين المروي له (المتلقي) وهَذا ما تسعى إليه نظريات إريكا فيشر في جعل الثقافات والجمهور والفنان في خط أفقي وعلى قدم المساواة، عبر الانتقال من النص إلى التركيز على العرض؛ وهذه الرؤية كانت مفعلة بقوة حضورها عند مايرهولد وبريشت؛ وعند أوغوستو بوال (مسرح المقهورين) أو باربا (المسرح الثالث) إذ الاستاذ محمد ابو العلا لم يدرج هؤلاء في سياقه؛ بقدرما أشار لقول صاحب المسرحية بقوله: نحن عندما نمثل الحلايقي على خشبة إيطالية؛ نحقق تواصل الممثل بالجمهور؛ ونحقق تواصل الشرق بالغرب؛ تماما كما فعل الغرب منذ سنوات، عندما أخذ يرجع إلى صيغ التواصل الشرقية القديمة في عملية البحث عن مسرح جديد والعملية لا زالت مستمرة(24) فهذا القول المنقول عن أساطير معاصرة وبشار الخير؛ هل يندرج في سياق المثاقفة أو التثاقف أوالتطويع أو التناسج؟
فالمنجز لم يجب عن ذلك؛ لأن منظوره للعمل تقديم نماذج من الموروث الشعبي؛ لكنه يجيب بطريقة غير مباشرة؛ بأن هنالك إزاحة واقعة بين موقعين بالمفهوم الفيزيائي؛ وليس انزياحا كما أشار صاحب العمل؛ حينما تمَّ الإنتقال للعمل الثاني: تطرح عودة فرقة " فيزاج" إلى فن الحلقة في مسرحية "الرابوز" إشكالية امتصاص الفرجوي لفرجة العرض باحتلال الحكي المساحة المنذورة للتفاعل وليس للإزاحة؛ وذلك في غياب الاحتراز مما قد تمليه المسافة غير الآمنة في نظر جبرار جينيت بين منجز الذال ونموذجها الأعلى المحاكى(25) هنا فالعرض انزاح عن طوق القاعة للفضاء العام؛ لتحقيق ردم بين المسرح والسرد؛ لتحقيق التطويع كرهان باعتباره مفهوم يساهم في إعادة تشكيل وتأسيس للتراث المسرحي؛ وبالتالي تموضع العمل في واقع وهموم الحلقة؛ من خلال تشغيل شخصيات بعض الحلايقية من جامع الفنا كعلامات؛ هنا نفاجأ بردة فعل نقدية/ معرفية من لدن الباحث: على خلفية غياب مفردات الركحية لغياب السينوغرافيا مادام فضاء الحلقة المستعار لا يحتاج إلى سميأة وتشغيل علامات؛ عدا علامة الممثل محاكيا حكواتيي الحلقة؛ وهو ما يؤشر عليه غياب الوعي بجدلية التباعد والتقارب بين الفرجوي والتمسرح(26) طيب هنا محاولة تجريبية لتفعيل السرد/ الحكي في المسرح؛ ولكنها معادلة ملتبسة وعشوائية حينما أقدم على إسقاط الحلقة في الحلقة؛ والتي ساهمت في قتل دلالة التمسرح على حساب الفرجوي؛ هنا حبذا لو الباحث؛ قدم ولو إشارة بين هذا العمل وكيفية اشتغال عبدالرحمان ولد كاكي وعبد القادر علولة على (الحلقة) في جل أعماله كتقنية قادرة على خلق تواصل بينه وبين المتلقي ؟ وهذا ما حققه الطيب الصديقي بدوره؛ ولكن كنت أتوقع بعد الوصول للعنوان الفرعي (الصديقي وتربيع المثلث الشعبي) أن أستشف مقاربة بينه وبين علولة لأن كلاهما متح من المادة الخام الشعبية؛ ذات حمولة فرجوية؛ هنا ما هي نقط التقاطع ومدارات الاختلاف في المنجز الشعبي وموروثه بينهما؟ ولماذا استمر اشتغال علولة على الحلقة حتى يوم مقتله برصاصة غادرة؛ بخلاف الفنان الطيب الصديقي التي تقلب بين ثنايا الموروث الشعبي المحلي والعربي كمواد: تنزاح بمفهوم غربي وافد من مستوى المقولات إلى المستوى الاجرائي؛ وذلك باعتماد الصديقي وهو يوطن للمسرح الشعبي على مداخل عديدة لتحيين تراث باذخ؛ ناظرا إليه بعين العارف بأسئلته الجمالية والفكرية(27) هذا مما لاشك فيه؛ وارتباطا بتجربة علولة؛ الذي راهن على الأذن قبل العين؛ بخلاف الصديقي المراهن على العَين قبل الأذن؛ وكلاهما حققا مصالحة بين المسرح والسرد. لكن السؤال الذي لم يطرح في جميع الأوساط الثقافية العربية؛ لماذا علي بنعياد لم يجار أستاذه جان فيلار كما جاراه الطيب الصديقي: في مسألة شعبية مطمورة خارج تخوم جغرافيته؛ متساوقا مع بارت المصر على العودة أيضا إلى ما هُو شعبي خارج الذات(28)؟ دونما الانغماس في متاهات السؤال؛ نلاحظ بأن الصديقي وعلي بنعياد وعلولة الذي استفاد بدوره من تكوينات فرنسية؛ لم يقرأوا لحد الآن سياسيا؟
وفي إطار الاشتغال التطبيقي حول المسرح والسرد؛ للأستاذ محمد أبو العلا يطرح عملا ثالثا من جغرافية منا وإلينا؛ ولكنها منسية على مستوى الحكي في مسرحية "كدور الذهب" لفرقة أدوار للمسرح الحر بكلميم؛ وهذا الانعطاف نحو شعرية شعبية ذات مخيال حساني له امتدادات إفريقية؛ محاولة لتسنين الممارسة المسرحية وتخصيب للفرجة من خلال ردم الفجوة بين الشمال والجنوب والبحث عن منعطف سردي؛ وهذا ما يعبر عنه الكتاب صراحة: وعلى خلاف احتكار حكي الشمال يبدو استثماره باهتا؛ حين نولي وجهة البحث المسرحي شطر الجنوب؛ بما يوفره متخيل صحراوي من تكثيف لإبدالات مسنودة بمخيال حكائي مدهش؛ من شأنه الاضطلاع لدور رافعة حقيقية للمسرح المغربي؛ وهو ينعطف اليوم بقوة نحو السرد(30) لا خلاف بأن منطلق التكريس الفعلي للحسانية كرافد أساس وأصيل للهوية المغربية ومكون من مكوناتها؛ وارد حتى في الدستور الحالي. ومن الطبيعي وفي إطار البحث والتفعيل؛ استكشاف الثقافة الحسانية كمخزون فني عميق في التاريخ والذاكرة الصحراوية والثري بالتراث الحساني وتفاعُله بموروث إفريقي شبه مهمل!!
لكن نكتشف بأن منجزه يحاول قصدا أو بحسن نية ؟ أن يروم ويساهم في البحث عن مداخل وتخريجات ولبنات: لترويض استشكالات توطين التناسج خارج مدار الآخر؛ بالموازاة مع تحضير الوجدان الجمعي المسرحي لشعرية وافدة؛ موصولة بمساءلة هوامش فرجوية غير مٌبأرة(29) طارحا ثقافة الجنوب الصحراوي؛ كمنطلق لتأصيل الفعل المسرحي في الثقافة الحسانية؛ ولكن لنقتنع بأن المسرح في الثقافة الحسانية هو بحث ودراسة عن فعل لا زال في طور البناء والتشكل؛ بحكم أن الفعل المسرحي بدوره يبحث عن سبيل وطرق سالكة نحو مكونات الموروث الحساني المفعم بالشعر والرقص والغناء والحكي في امتداداته التاريخية والمجالية. وبالتالي هنالك محاولات جريئة في هذا المضمار ومكابدة عملية من لدن الفعاليات الصحراوية؛ إلا أن المثير بأن (المركز الدولي للفرجة) بطنجة انخرط في العمل المشترك في مهرجان الداخلة للمسرح الحساني في دورته السابعة(2016) وبعْدها لا حضورله؛ وقبل هذا نجد حسن اليوسفي يشير في كتابه (المسرح والفرجات) الصادرعن المركز الدولي لدراسات الفرجة سنة 2012، يتطرق لمنطقة تافيلالت بوصفها فضاء للفرجات؛ فالمسرح فرجة بالأساس ولكن ليس كل فرجة مسرح؛ وبالتالي فمجاليا تافيلالت صحراوية؛ لها امتدادات تاريخية وثقافية في التخوم الجنوبية الشرقية ولا مناص أن هناك تأثير جنوبي/ إفريقي ينسج تركيبات فرجوية ولكنه لم يستمر في هذا النبش وتقديم نماذج تفعل المحكي التافيلالتي في المسرح؛ والمسرح في السرد الفيلالي. لماذا؟
السؤال له علاقة بما سبق حول المركز الدولي لدراسات الفرجة؛ وهنا نؤكد لا تحامل ولا ضغينة تجاه المركز وغيره؛ بل نتساءل كما تتساءل أريكا فيشر حول المثاقفة و التناسج المسرحي من خارج المركز و داخله!
وبناء عليه؛ ألا يمكن أن نستغرب ونتساءل أين كانت البحوث والدراسات تتجه وتهمل الموروث التافيلالتي والحساني الذي كان يشارك ويساهم في مهرجانات مسرح الهواة المأسوف على إهدار دمه؟
في هذا المضمار؛ هل يمكن ان نتفق على جواب ضمني لما يروم إليه المنجز (المسرح والسرد نحو شعريات جديدة) بقوله: المنعطف السردي كاختيار ما بعد درامي؛ أمسى رهانا مغريا من منظور الباحثين والمبدعين في المسرح اليوم بما يشرعه من تخصيب للفرجة؛ وتوسيع أفقها بأسئلة متصلة بشعرية السرد(30)
* * *
الاحالات:
(1) المسرح والسرد نحو شعريات جديدة: لمحمد أبو العلا الناشر- فالية للطباعة والنشر- ط1/ 2018، تقديم إبراهيم الهنائي، ص6 و7.
(2) نفسه، ص 5.
(3) معجم المصطلحات الأدبیة الحدیثة: لمحمد عنان: ص59، ط3، الشركة المصریة العالمیة للنشر، 2003.
(4) تقنیات السرد في النظریة والتطبیق: لآمنة یوسف، ص28، دار الحوار للنشر، دمشق، ط1، 1997.
(5) المسرح والسرد نحو شعريات جديدة: ص12.
(6) نفسها، ص11.
(7) نفسها، ص11.
(8) نفسها، ص7.
(9) نفسها، ص12
(10) الممثل والسرد، تأليف: نادين يوتوف، ترجمة: أحمد عبد الفتاح، جريدة مسرحنا، عدد220، 03/ 10/ 2011.
(11) من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافة الفرجة، إريكا فيشر ليتشه، ترجمة ومقدمة لخالد أمين، ص14، منشورات المركز الدولي لدراسة الفرجة، سلسلة عدد42، 2016.
(12) المسرح والسرد نحو شعريات جديدة، ص21.
(13) من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافة الفرجة، ص80.
(14) المسرح والسرد نحو شعريات جديدة، ص42.
(15) المسرح والسرد نحو شعريات جديدة، ص25.
(16) نفسها، ص53.
(17) نفسها، ص 22 و23.
(18) نفسها، ص23.
(19) نفسها، ص42.
(20) نفسها، ص21.
(21) يوجين باربا من لحام إلى مؤسس أنثروبولوجيا المسرح، عواد علي، صحيفة الراكوبة، تاريخ (15/ 08/ 2015).
(22) نفسها، ص52.
(23) نفسها، ص59.
(24) نفسها، ص62.
(25) نفسها، ص 62 و63.
(26) نفسها، ص65.
(27) نفسها، ص77.
(28) نفسها، ص74.
(29) نفسها، ص44.
(30) نفسها، ص70.