يقدم الباحث مسحا لفحوى الدراما التي قدمت في شهر رمضان. ويرى أنها بدلا من التحرك ضمن منظومة ثلاثية الأبعاد هي المحاكاة ثم التخييل فالتنبؤ، فإنها اقتنصت صورا مشوهة، وفاقدة لبؤرة التخييل والمتعة، وغاب عنها توجيه الرأي العام، لصالح الطرح السطحي للقضايا.

فلسفةُ الفنِّ .. مقدِّمَةٌ في راهنِ الدّراما العربيَّةِ

بليغ حمدي إسماعيل

 

لا يختلف اثنان لا ثالث لهما في أن الدراما تستطيع أن تغير من سلوك وطبائع المرء، لاسيما وإن كانت هذه الدراما قائمة على ركائز أصيلة ومعايير نبيلة وقوانين رصينة، وتكاد تتفق كل أكاديميات الفنون المنتشرة في كافة ربوع المعمورة الأرضية في أن دراما المنزل -أي الأعمال التي تقدم عبر شاشة التلفاز- لابد وأن تقدم نوعية جيدة وجديدة من القيم التي تتماثل وخطط التنمية التي تنتهجها الدولة التي تقوم بعرض هذه الأعمال على شاشاتها، لذلك حرص القائمون على صناعة الدراما التلفازية منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى بداية الألفية الجديدة أي نهايات التسعينيات في تقديم دراما تليق بهم أولا، وتقدر ثقافة وعقل وعين المشاهد، لكن في ظل حرص صناع دراما هذا العصر على وجود كلمات وإشارات مستفزة مثل (حصريا) وعلامة الهاشتاج (#) وأخيرا علامة + 12 أو + 18 أصبحت هذه الدراما البليدة لا تقدم إلا سفها وسخفا على الأقل في يقين كاتب هذه السطور العبد لله.

ولم يكتفي صناع الدراما العربية بوضع هذه الرموز غير الهامسة في عين المشاهد، بل تجاوزت إلى حد تفكيك الجغرافيا العربية لا عن طريق الشراكة الفنية في الإنتاج، أو على مستوى الأداء التمثيلي، بل التجاوز تمثل في تقديم صور مشوهة عن الشخصية الخليجية في بعض الأعمال لاسيما المصرية، وهم بذلك يصرون على بقائهم المسكين في زمن سينما المقاولات التي راجت وذاعت في تسعينيات القرن الماضي، حينما كان الثري الخليجي يظهر كرجل ساذج يرتاد الملاهي الليلية من أجل إقامة علاقة غير مشروعة مع فتاة ليل أو راقصة لعوب، مثلما ظهر أيضا كفريسة يمكن اقتناصها عن طريق نصاب بسيط.

وبدلا من أن يبحث القائمون على صناعة الدراما العربية عن المتعة الذهنية من أجل إغداقها على المشاهد من خلال طرح قضية ذات مضمون اجتماعي محترم، راح هؤلاء -متعمدون- صوب دغدغة العقل بمشاهد ومواقف درامية يمكن توصيفها بالساخنة، لا سخونة العري واستغلال الجسد، بل ساخنة من حيث شيوع العنف والإرهاب والترويج الموجه للبلطجة عن طريق ممثل غير موهوب أصلا ولا يعتري بثقافة الأوطان أو هو في الأساس لا يعرف حق المعرفة لخطط الدولة التي ينتمي إليها سواء أكانت هذه الخطط اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية.

هذه التقدمة غير الإجبارية بالطبع تمهيد لراهن الدراما العربية التي تفجرت عبر القنوات الفضائية اللاهثة وراء ملايين الإعلانات من أجل الإنفاق على القنوات واستمرار البث ومن ثم شراء الأعمال المقبلة، وهذا الراهن كما أظن لا ينتمي لحاضر الشعوب العربية التي يمكن تصنيفها وفق رؤى سياسية اجتماعية، أمم ممزقة أمنيا وسياسيا مثل اليمن السعيد وليبيا وسورية المنكوبة، وأمم تسعى في النهوض اقتصاديا واجتماعيا كمصر والجزائر وتونس، وأمم مستقرة نسبيا بفعل الأنظمة الثقافية التاريخية التي توجه الفعل السياسي بها كدول الخليج عموما باستثناء العراق الذي خرج منذ سقوط صدام حسين ولم يعد حتى الآن.

فراهن الدراما في رمضان المنصرم جاء بعيدا تمام البعد عن واقع وحاضر الشعوب العربية، وخير شاهد ودليل على ذلك فقر الأعمال الدرامية المصرية في تناولها للحرب على الإرهاب في سيناء أرض الفيروز، وكأن هذه الأعمال الفنية سيتم عرضها في دول أخرى مثل موريتانيا أو السودان أو البحرين وليست مصر، وكانت أمام القائمين على صناعة الدراما فرصة ذهبية سانحة في توظيف الفن فلسفيا لصالح هذه المعركة الشريفة الوطنية لكن للأسف فشل جميعهم في استغلال الحدث والحادثة على السواء.

ومنذ أيام قلائل انتهى الموسم الدرامي الرمضاني كالعادة، أعمال كثيرة وكثيفة أرهقت عين وعقل المشاهد وبات اليوم النقد الفني يمارس أدواره التقليدية، هذا أفضل عمل وذاك الممثل العظيم لكن في إطلالة سريعة للدراما تنظيريا ندرك أن الدراما هي إبداع على مستوى الحدث الفني، يماثله إبداع آخر على مستويات الإنتاج والتناول لاسيما القضايا الجوهرية لا تلك القضايا السخيفة التي شاهدناها بسخف أطول. ولعل أبرز ما يميز الدراما الإيهام في العمق وهي خاصية مميزة لأي عمل فني سواء أكان مسلسلا أو مسرحية أو حتى قصيدة ورواية وهذا الإيهام بالعمق شديد الصلة بالرمزية في التعبير لكن لسوء طالع المشاهد العربي أن الأعمال التي قدمت في رمضان ابتعدت تماما عن فكرة العمق أو حتى الإيهام بها وبالضرورة لم تفطن تلك الأعمال لفكرة الرمزية.

وإذا كانت الدراما في عمومها الأكاديمي تتحرك في منظومة ثلاثية الأبعاد هي المحاكاة ثم التخييل انتهاء بالتنبؤ، فإن دراما الأعمال الرمضانية التي اجتاحت فضائيات الدول العربية اقتنصت صورا مشوهة إن لم تكن معظمها مشبوهة أيضا لمحاكاتها، وفقدت تلك الأعمال بؤرة التخييل لأن عقول المؤلفين نضبت بالفعل فلم نجد عملا تخييليا كما كان الأمر في سلسلة ألف ليلة وليلة التي عرضت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.

أما بالنسبة للتنبؤ، فالأعمال في مجموعها التي تم تقديمها تحت كلمة حصريا تنبئ بأن القادم بالضرورة سيكون أسوأ، فما بين البلطجة أو الضابط الخارج عن القانون والنسوة المبتذلات ورجال الأعمال الفاسدين الصعيد الغائب عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية كانت قضايا الأعمال الدرامية مع الاعتذار الكامل لنظريات الدراما الأكاديمية.

وثمة علامات ترصد واقع الأعمال الدرامية التي تم دغدغة عين وعقل وقلب المشاهد من خلالها، منها أن الدراما والتي من المفروض أن تقوم بتوجيه الرأي العام وخدمة المجتمع، ابتعدت عن هذين الهدفين ودارت في فلك السفه أو السخرية أو التصدي للقانون بتقديم نماذج لأبطال اتسموا بالصوت العالي والعنف والبلطجة، رغم أن مصر على سبيل المثال بدأت منذ فترة بإعلاء دور الشباب، وبدلا من أن تتكاتف الدراما مع توجهات الدولة ومبادرة السيد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في اعتبار أن الشباب طاقة الأمة وتخصيص عام كامل يحمل اسم عام الشباب، إلا أن هؤلاء مرتزقة الفن قدموا أبشع صورة للشباب المصري، وكم كنت أتمنى أن يتم تناول عمل الشباب المصري بأحد مشروعات التنمية مثل مشروع قناة السويس الجديدة أو مشروع المليون ونصف فدان وغيرهما في عمل درامي، لكن للأسف الشديد غابت الوطنية والوعي بالدولة رغم ثورتين متتاليتين.

والعلامة الثانية هي استمرار تشويه المجتمعات العربية عن طريق تقديم نماذج وقضايا متزامنة مع سفاهة وسطحية القائمين على الأعمال باستثناء واضح على أعمال احترمت المشاهد العربي مثل عوالم خفية للزعيم عادل إمام وليالي أوجيني لظافر عابدين وهارون الرشيد لقصي خولي. لكن بقية المسلسلات غرقت في بحور خيانة الأزواج والطلاق والخلع والذبح والقتل والإرهاب من زاوية تدفع المرء للقيام به.

ولعل السبب في شيوع مثل هذه الأعمال وغيرها هو نفور منتجي الدراما من الأعمال الأدبية الرصينة لكبار الكتاب من مثل إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وعبد الرحمن منيف وواسيني الأعرج وبهاء طاهر، لكن هؤلاء لم يعرفوا أن هناك دراما أدبية أي قيام العمل الفني على مرتكز أدبي رفيع المستوى مثل أعمال عميد الرواية العربية نجيب محفوظ.

والمشهد المؤسف أن ذاكرتي لا تذكر عملا دراميا واحدا تم تقديمه لرواية أدبية سوى أرض النفاق للروائي يوسف السباعي، وكأن القائمين على صناعة دراما المنزل يكنون كما من الكراهية صوب الأدب والأدباء أو أنهم يظنون أن المشاهد لن يقبل عملا فنيا مأخوذا من رواية أدبية هم بذلك يشاركون بقوة في صناعة الجهل طوعا أم كرها.

وبجانب نمطية الأعمال الدرامية والظهور الإجباري لظاهرة الممثل الموظف الذي ينتظره جمهوره لتقديم نفس الدور ونفس الأبطال والمخرج أيضا، علامة ثالثة تميز هذا الموسم الدرامي وهي حالة الغياب المستدامة للدراما التاريخية، فقط رأينا هارون الرشيد بغض النظر والطرف عن مدى تاريخية المسلسل الذي غاب بأبطاله بعيدا عن حقائق تاريخية ميزت عصر هارون الرشيد الذهبي، لكن أن تقتصر الدراما العربية على عمل أو عملين فقط مأساة فنية لا تليق بدراما عربية ضاربة في العمق والتاريخ، وربما السبب هو فقر المشاهد ثقافيا الأمر الذي دفع مروجي الدراما إلى استغلال هذا الفقر لا بعلاجه بل بتدعيمه عن طريق تقديم دراما الموقف القصير.

وإذا كانت الدراما العربية تؤكد أصالة معالجة القضايا العربية الاجتماعية، فاليوم أصبحت دراما مجتمعية، وهناك ثمة فوارق بينية واضحة بين الدراما الاجتماعية والدراما المجتمعية ؛ فالأولى تتناول قضايا مهمة تتصل بالوطن والمواطن كالانتماء والبطالة والتضحية وكفاح الفرد في عمله وصولا للقمة، وكذلك دور المرأة التنموي أو صفات أصيلة بالشعوب العربية كالصبر والصدق والبطولة ورفض الهجرة للخارج، أما الثانية ـ المجتمعية ـ فهي قضايا البطل فقط، وتلك تكتفي فاختطاف بطل يقدم شخصية واحدة فقط تتسم بالعنف والسطوة وقهر الآخرين والثراء الفاحش والتهريب والاتجار بالأعضاء والمخدرات، والمستقرئ للأعمال الدرامية يجد أعمالا حملت أسماء أبطالها مثل رحيم وطايع وأيوب، وكأن العمل يتناول شخصية البطل دون قضية البطولة.

والغريب في علامات رمضان الدرامية أن الدراما من واجبها أن تحرك بوصلة مواقع التواصل الاجتماعي، وأن تقوم بتوجيه الفكر والرأي تجاه العمل الدرامي، لكن اليوم أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي هي المحرك الرئيس للعمل الفني في ظل غياب مستدام للرواية الأدبية المقدمة على الشاشات الفضية، فنجد علامة الهاشتاج # دائمة التواجد بجانب اسم العمل، فيقوم المؤلف والمخرج بمتابعة كل ما يكتبه رواد تلك المواقع بتغيير أداث العمل حسب هوى كاتب التعليقات.

أما العلامة الأخيرة التي ميزت سلبا الأعمال الدرامية التي قدمت في رمضان هي توصيف الصعيد المصري في الدراما، فبدلا من التأكيد على ضرورة أصالة قيم الصعيد مثل الشهامة والتضحية والانتماء للوطن، ظهر الصعيد الغائب عن عقلية وثقافة المؤلف والمخرج كوجبة دسمة للالتهام بل والافتراس أيضا فكان صعيدا لا يمثل الصعيد أصلا، قضايا تهريب آثار ومخدرات وضباط فاسدين وتشويه متعمد للمرأة الصعيدية، وليتهم أدركوا أن الصعيد هو أصل مصر بقيمه وعاداته ومثله العليا.

(مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية. كلية التربية ـ جامعة المنيا)