تشبَّع مارك ستراند بالأساليب والأشكال والمدارس الشعرية العالمية، فالسوريالية بالنسبة إليه لم تكن سوى نموذج جمالي وفني، يتوجب عليه كشاعر أن يلقي نظرته الخاصة على هذه التجربة، لا ليجاريها، بل ليعرف جوهرها ومحتواها، فشاعريته هي أكبر من أن تُحشر أو تُحصر في سياق تعبيري معيَّن.

بصيرة الشاعر الرقيبة على الحياة

هاشم شفيق

 

أظن أن الشاعر الأمريكي مارك ستراند، كان واحداً من أهم الشعراء الأمريكيين الأحياء، والإنكليز كذلك، فهو شاعر أمريكا المتوج، والحاصل على أهم الجوائز العالمية، أبرزها جائزة البوليتزر. شعره خارج عن المألوف، وخارج بعض المواضعات الشعرية التي يغلب عليه الطابع التنميطي، شعر لا يخضع للمقايسة والمقارنة والتشابه مع أي شاعر عالمي آخر، فهو نسيج وحده، إنه شعر الابتكار والجنوح إلى الكشف ومواصلة السفر في المجهول والغوامض، حيث العوالم البعيدة والمُضبَّبة، عوالم السديم والشواش، والضباب المُهيمن على شكل ونسيج وسياق القصيدة التي تنطلق بشكل عمودي، ثم تتمدد باتجاه أفقي، مالئة الواقع والخيال معاً، بحركتها الدينامية، وبشحنتها الدلالية، فإن ظهرت على السطح ستظهر في العمق أيضاً، وإنْ برزت بالقرب من الجسد، فهي ستذهب نحو الروح مباشرة، فالعلامة هي رفقتها الدائمة، وموشورها السيميائي هو هاجسها الذي يتحرك في فضاء الهرمونيطيقا، وشساعة الفضاء التأويلي الذي تتحرك فيه هذه القصيدة. وهي ليست قصيدة ذات بعد واحد ومدلول واحد، وهي لا تنتمي إلى أفق واحدي، بل هي قصيدة التشظيات، قصيدة متواترة، وسَمَها الغموض اللازوردي، ليست سلسة بالتأكيد، بل خشنة كحجر كريم خام، داخله مصقول وظاهره خشن، عمقه معلوم وسطحه مبهم، تتكاثر عليه النتوءات التي لا توحي بالنعومة والشفافية.

كل شعر غامض قابل للقراءة مرات ومرات، وهنا لا أقصد بالغموض المفتعل الذي ابتكره بعض السورياليين اللاعبين على معاني اللغة ومقاصدها وشكلها في أوروبا، أثناء فترة الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم، بل ما عمل ويعمل عليه مارك ستراند وصحبه، من أمثال برودسكي وسيميك، هو الغموض الفعَّال والجميل والمُحبَّب، الغموض الذي تتواصل معه، لكي يبقى فترة أطول ويعيش أكثر، مثل شعر مالارميه ورينيه شار وأودن وقسطنطين كفافي. شعر يغوص في أعماق الكائن، مستغوراً إياه، باحثاً عن الجوهر واللامحدود، باحثاً عن المعاني الكبيرة لهذا الوجود والكون والعالم.

ترجمات أشعار مارك ستراند إلى العربية قليلة. ترجمتْ له وزارة الثقافة السورية كتاباً شعرياً، وظهر له عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ديوان واحد، هذا ما أتذكره وأنا أسطر هذه الكلمات حول الديوان الذي ترجمه الشاعر الفلسطيني سامر أبو هواش إلى العربية، تحت عنوان «النوم بعين واحدة مفتوحة»، وهو ديوانه الأول، ذلك الذي كان فاتحة لشهرته، لتكرَّ بعده إصداراته الشعرية الكثيرة.

ولد مارك ستراند 1934ـ 2014 في كندا، هناك كانت بداياته الأولى، ثم تنقلت عائلته في الولايات الأمريكية، وفي كولومبيا والمكسيك وبيرو.

درس خلال شبابه الرسم، ونال فيه شهادة عليا، ثم سافر إلى إيطاليا ليدرس شعر فلورنسا إبان القرن التاسع عشر، وبُعيد ذلك، وخلال عام 1962 نال شهادة الماجستير في الفنون من جامعة أيوا الأمريكية.

كان مارك ستراند آخر الشعراء العمالقة، كونه المكتشف لطرائق جديدة لم يسبقه أحدٌ في ارتيادها، وأعني تلك المناطق الشعرية الخام، مناطق الحلم والاستيهام والتفكر بالمساحات العذراء، المساحات التي يكون الخيال فيها الساكن الوحيد. صحيح انه درس الرسم وتوله به في مرحلة صباه وشبابه، ولكن الرسم كان بالنسبة له كتعلة، ومعراج يصعد من خلاله إلى آلهة الشعر، ومن هنا تجد أعماله الشعرية ملوَّنة، وتنفتح على المشهد العياني أحياناً، المشهد المضبب والغامض والمشوب بالسديمية، لا تفاصيل هناك بل رؤيا، وهُيام واستيحاء للطبائع وللطبيعة، وللموجودات التي تبدو في قصيدته موشَّاة وعصيَّة ومبهمة في بعض الحالات كقوله:

«في حقلٍ

أنا الحقلُ الغائب،

هكذا الحالُ دوماً،

حيثما أكونُ

أكونُ

ما ليس في مكانه،

حينما أمشي

أفرِّق الهواء

وعلى الدوام يملأ الهواء

المساحات الشاغرة لمرور جسدي».

لقد تشبَّع مارك ستراند بالأساليب والأشكال والمدارس الشعرية العالمية، فالسوريالية بالنسبة إليه لم تكن سوى نموذج جمالي وفني، يتوجب عليه كشاعر أن يلقي نظرته الخاصة على هذه التجربة، لا ليجاريها، بل ليعرف جوهرها ومحتواها، فشاعريته هي أكبر من أن تُحشر أو تُحصر في سياق تعبيري معيَّن، أو تطويقه بنموذج فيه الكثير من اللعب والتهريج والزخرفة اللغوية، بصفته المطلع والمستوعب والخبير العارف بجماليات الأنسقة الشعرية وتحولاتها الفنية. أنه المنفتح باستمرار على التجارب الوجودية والإنسانية، وما عيشه في كل من المكسيك وكولومبيا والبيرو إلا ليختبر العالم الآخر، والإنسان المجاور لعالمه، ليعرف المحيط الذي يسكنه أناس في غاية البساطة، يعيشون بشكل مختلف، إذ لديهم عادات وتقاليد وأعراف مغايرة، لا تمت لعالمه الأبيض بصلة. ويحضرني في هذا المجال الرائد الأول للسوريالية اندريه بروتون الذي رحل إلى المكسيك إبان دخول القوات النازية إلى باريس، وعاش ردحاً هناك، متشرِّباً تلك العوالم الغريبة عليه، ولذا نجد في شعر مارك ستراند الكثير من الروائح الوافدة، والكثير من الفلسفات والتداعيات الشعرية، تلك التي تستدعي الصورة الجديدة، والنبرة غير المعهودة، مع الميل إلى توكيد الذات الإبداعية، في هذا المنحى الدلالي كقوله في قصيدة «بقايا»:

«أُفرِّغُ نفسي من أسماء الآخرين، أُفرِّغ جيوبي،

أُفرِّغ حذائي، وأتركها كلها على قارعة الطريق،

ليلاً أعيد عقارب الساعة إلى الوراء،

أفتحُ البوم العائلة، لأرى نفسي صبيَّاً.

أيُّ نفع يتأتى من ذلكَ، السَّاعات قد أدَّتْ عملها،

الفظُ اسمي، أقولُ وداعاً،

الكلماتُ تطاردُ بعضها في الرِّيحِ».

في هذ المقطع من القصيدة، يلوح التضفير الدلالي، وينهض التجديل بين الجمل والكلمات التي تؤدي وظيفتها ومدلولها عبر سياق رمزي، يستدعي الزمن ليفككه، ويعيد الحياة مرة أخرى، إلى أزمنة الطفولة وأوقاتها، حيث الحلول في تلك الذكرى البعيدة عبر صورة عائلية، فالصبي الذي في الصورة هو الآن كهل، وربما أبٌ وجَدٌّ. لقد أعاد عقارب الساعة إلى الوراء، ولكنه يتساءل في نهاية المقطع الدال والذي يحمل الكثير من المعاني: أيُّ نفع يتأتَّى من ذلك، الساعات قد أدَّت عملها، ودخل الإنسان في لحظته الحاضرة، ليصطدم بالزمن، والحياة التي تعبر وتمر، حيث الموت الذي يفاجئ الأقربين، ويترك بصمته السوداء على الجميع، وها هو يخاف الزمن، ويخاف كيف يراوغ أحياناً، كقوله في قصيدة الوصول الغريب لرسالة:

«كان يوماً طويلاً في المكتب، ورحلة عودة طويلة إلى الشقة الصغيرة، حيث أعيش، حين وصلتُ إلى هناك، أضأتُ النور، ورأيت على الطاولة مغلفاً عليه اسمي، أين كانت الساعةُ، أين كانت الروزنامة؟ كان خط اليد خطُّ أبي، لكنه كان ميتاً منذ أربعين عاماً، وكما يحدث في حالة كهذه، بدأتُ أفكرُ أنه ربما فحسب، انه حيٌّ، يعيش حياة سرِّيَّةً في الجوار».

قليلون هم الشعراء الذين تقرأ لهم وتتمتَّع، ولا سيَّما الشعراء الأحياء، فهو يأخذنا صوب مجاهل وآفاق غير منظورة، لم ترَها عين شاعر قبله، وهنا يكمن التميز والخلق والابتكار، وتكمن خلخلة المشاعر والمدارك، لكي ندرك هذا الكلام المُعبِّر الذي يعمل بطاقة المُخيلة والوسائل الموحية، لكأن مارك ستراند حقاً يأكل الشعر، حتى يسيل الحبر من شفتيه، وهذا حقاً ما قاله في قصيدته «أكل الشعر» والتي يتحدث فيها عن هذا المأزق. ويبدو أن شاعراً بقامة مارك ستراند همَّه اليومي الشعر أولاَ وأخيراً، سيكون دون شك طعامه وغذاؤه، لا بل أكله اليومي هو الشعر، والتي في مطالعها يقول:

الحبر يسيل من زوايا فمي

ليس من سعادة تُشبه سعادتي

لقد كنت آكلُ الشِّعر،

أمينة المكتبة لا تصدِّق عينَيها،

عيناها حزينتان،

وتمشي ويداها في ثوبها.

القصائد رحلت،

الضوءُ خافت

ما زال الشاعر الأمريكي مارك ستراند غامضاً لدى بعض المترجمين، لم يتطوع أحد ويتفرَّغ لترجمة أعماله العديدة، وهي أعمال ليست بالهيِّنة وتحتاج إلى تفرُّغ ووقت، ولا يستطيع ترجمتها إلا من امتلك الوقت، وهذا ما نعهده بالشاعر والمترجم الشاب، سامر أبو هواش، الذي تقدم وخاض غمار هذه التجربة الجميلة والصعبة في آن واحد.

 

مارك ستراند: النوم بعين واحدة مفتوحة

ترجمة سامر أبو هواش

دار المتوسط، إيطاليا ـ ميلانو 2017

صفحة.142

 

القدس العربي