تكشف تلك الفورة غير العادية التي تسري في ثنايا كل المجتمعات بمناسبة مباريات كأس العالم عن قدرة كرة القدم على توحيد الاهتمامات الإنسانية التي تباعدت وتناءت. وعن استقطابها للكثيرين ممن لم يتعودا على مشاهدتها أو يتحيزوا لأحدى فرقها أو أنديتها الكثيرة. فلم تعد مجرد ممارسة شعبية يتعالى عليها المثقفون وأبناء الطبقة الوسطى أو المتعلمة، أو حتى مجرد أفيون الشعوب الجديد كما تقترح أحدى شخصيات رواية شكري المبخوت الجميلة (باغندا). فما أشاهده هنا في بريطانيا من اهتمام شديد بكل ما يدور في وقائع كأس العالم الدائر في روسيا الآن، لا يقل حدة وعنفوانا عما شاهدته عنه في الأسبوع الماضي في زيارة قصيرة لفرنسا، أو عما أتابعه في جل وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي في عالمنا العربي بشأن هزائم الفرق العربية المتتالية في مبارياته. وهو اهتمام يتجاوز همّ متابعة الفريق الوطني إلى الانشغال باللعبة نفسها، وما تقدمه من طرح فريد عما آل إليه حال العالم وما يدور فيه.
ويكشف لنا هذا الاهتمام الجمعي العابر للقوميات والطبقات والاهتمامات وحتى مستويات التحقق الحضاري من تقدم أو تخلف، أننا بإزاء لعبة تخاطب شيئا جمعيا عميقا في نفوس البشر. شيئا دفع الشاعر الكبير والمخرج السينمائي العبقري الذي اغتيل وهو في أوج العطاء، بيير باولو بازوليني (1922- 1975)، لاعتبارها آخر الطقوس الجمعية المقدسة في عالمنا المعاصر. فهي طقس يستوعب طاقتهم العقلية النقدية والانفعالية، الشخصية والقومية في آن واحد. وليس طقسا يعتمد على تغييب الوعي أو الهروب إلى سماوات الميتافيزيقا. فلدى مباريات كرة القدم القدرة على الكشف عن مخزون المشاعر المكبوتة، أو التي لا تفصح عن نفسها كثيرا. سواء أتعلق الأمر بتلك التي تثيرها التحيزات القومية أو الوطنية، أو التي تتيح للمسكوت عنه والمقموع أحيانا أن يعرب عن نفسه بطريقة مراوغة؛ أو تلك التي تطلق العقل النقدي من عقاله لتحليل أداء الفرق داخل مجتمعاتها، وتقييم إنجازاتها أو إخفاقاتها بطريقة لا تتاح بنفس القدر من الحدّة والدقة والحرية فيما يتعلق بكثير من أمور حياتهم السياسية أو حتى الاجتماعية أو الدينية. ذلك لأنها تقدم لهم ساحة بديلة ولغة موازية يستطيعون عبرها أن يتعاملوا مع ما لم تتحه لهم الساحات الأخرى واللغة الأم.
موت الكلام .. ولغة الأقدام:
ففي كتاب الدكتور مصطفى صفوان المهم (الكلام أو الموت) والذي يؤكد لنا صاحبه العالم والمحلل النفسي الكبير في تقديمه له، أنه انطلق من مقولة جاك لاكان «أنه لا يوجد بين شخصين إلا الكلام أو الموت» لأننا بدون التعبير أو التفكير نكون بإزاء الموت الكياني/ الوجودي. إذ يؤكد لنا صفوان: «لا يوجد بين شخصين سوى الكلام أو الموت، التحية أو الضرب بالحجر. إلا أن طرح العنف في أساس ما يسمى الشرط الإنساني، ودون الأخذ بالحسبان ما ينطوي عليه ذلك من هزيمة الكلام، لا يوصل إلى أي نتيجة». (ص87) فهزيمة الكلام هي المدخل إلى ميلاد العنف أي الموت كبديل للتعبير عن الذات والتواصل مع الآخر. فقد بين جاك لاكان أن الذات تنغرس في نظام قائم بشكل مسبق وذي طبيعة رمزية، وهو اللغة والكلام. إن النظام الرمزي عند لاكان يبين أن بنية اللاوعي مبينة على كونها لغة. وهكذا فالكلام وقانونه هو الحكم بين الذات والآخر، وهو الذي يجعل العلاقة الإنسانية ممكنة ويمنعها من التدهور إلى الاقتتال. وما أكثر ما يتفشى الاقتتال بين ظهرانينا هذه الأيام.
يقول مصطفى صفوان «إن التحليل النفسي يجد الذات في اللغة، وهو يجدها هناك مقيدة إلى ما يسميه فرويد في مؤلفه "المخطط الإجمالي" كذبة أولى، وبالنتيجة يجد التحليل النفسي الذات حتى في أعراضها كونها فريسة للحقيقة وليست صيادا لها» (الكلام أو الموت ص 60) فـ«الكلام هو في الآن عينه فعل القول والواسطة التي تتحمل الذات من خلالها مسؤولية هذا الفعل ... وفي الواقع فإن هذه المسؤولية ليست وليدة أي سلطة، حتى ولو كانت إلهية، إذ يكمن شرط إمكانية هذه المسؤولية في تبادلية "النعم" و"اللا" التي يقوم عليها الخيار، والتي تشكل بدورها أحد المحورين الكبيرين اللذين يتمفصل الدال تبعا لهما. كما أن هذه السلطة لا تقرر هذا الخيار الذي هو في نهاية المطاف قضية رغبة.» (ص75) ويوشك الكلام بهذا المعنى الذي يبلوره صفوان، ويتشارك في تصوره له مع لاكان، أن يكون هو المستودع المرجعي لكل ما يمنح الذات سلامها الداخلي، ولكل ما تؤمن به من قيم. لأن الكلام عند لاكان سابق على وجود الذات، كما أن اللغة سابقة على وجود الطفل وهي التي تُعَيّنه، أي تبلور حقيقته العيانية/ الكيانية منذ مرحلة المرآة والتعرف على الذات كآخر. وهو الأمر الذي سبق أن قال به هيجل حينما أكد أن كل عمليات الوعي الذاتي تتبلور من خلال توسط اللغة.
لكن الآخر بالمعنى الكلي الكبير، والذي يكتبه لاكان بأداة التعريف وبالحرف الكبير l’Autre، كامن في الكلام/ اللغة، لأنه يدل على النظام الرمزي الذي يحدد الذات. فهو بنية رمزية أساسية تشكل القانون الحاكم للكلام ودلالاته. بنية تتجاوز أجرومية اللغة إلى أجرومية القيم والأخلاق. كما أن الآخر الكبير بما هو قانون الكلام يحكم العلاقات ما بين الذاتية ويضبطها. حيث تتكون الذات من خلال تموضعها في الكلام، وموقعها في عالمه الرمزي بواسطة اللغة باعتبارها ما يميز الإنسان ككائن متكلم. ويتعارض هذا الآخر الكبير مع الآخر الصغير autre الذي يشير إلى الأشخاص الآخرين الذين يتعامل معهم، وقد يكون أحدهم موضوع رغبة الذات أو منافسه عليها. لأننا «ندرك تبعا للاكان أن الرغبة هي دفاع، وتحديدا، دفاع ضد تجاوزها لحدود معينة في الاستمتاع». (ص76)
وبدلا من الاسترسال في شرح مقولات هذا الكتاب المهم، والذي يلخص عنوانه أهم مقولاته (الكلام أو الموت)؛ ومن أجل العودة إلى موضوع هذا المقال، أقول إنه حينما يفقد الكلام معناه، وتنتهكه العجمة والمهاترات ويتفشى فيه التدليس والكذب بدلا من الحقيقة. حينما يسود الكذب ويصبح هو القاعدة كما هو الحال في الخطاب العام في عالمنا اليوم، بدءا من الأخبار المختلقة مع دونالد ترامب، وصولا إلى المشاريع والصفقات المختلقة في جل بلداننا العربية، تتعمق المشكلة. فبدلا من لا جدوى الكذب الذي نهت عنه كل الشرائع والأعراف الإنسانية الدينية منها وغير الدينية. فحظر الكذب ومنع القتل وجهان لعملة واحدة في (الكلام أو الموت)، أصبح الكذب الآن وسيلة للتقدم واحتيار السلطة. لذلك أقول حينما يسود الكذب وفقدان دلالات الكلمات والقيم والمفاهيم، ويستشري الفساد والتدليس، يبحث الإنسان عما يدرأ به عن نفسه الموت.
هنا تقدم له كرة القدم لغة مغايرة. فقد كانت هذه اللعبة الجميلة حسب توصيف جرامشي لها «مملكة الحرية الإنسانية تمارس في الهواء الطلق»، قبل أن تتسلل إليها عناصر العملية التجارية والاحتكارات المفسدة. حيث تتم فيها إعادة انتاج عمليات التنافس والتباري مع الآخرين بطريقة تدرأ عنه الموت ولا تفضي إليه. حيث يعيد فيه الإنسان على شكل لعبة علنية مقننة، تحكمها قيم «الأمانة والعدالة والنزاهة» شعار منظمة الفيفا FIFA نفسها، انتاج عمليات الاقتتال التي تضمرها جل ممارساته الاجتماعية منها والسياسية أمام جمهور يتحول إلى حكم لا يقل أهمية عن الحكم الفعلي للمباراة. ففي كرة القدم يكتسب الاقتتال أقصى صوره رمزية، يصبح أقرب ما يكون إلى الفعل المتعالي، أو الرقصة الرمزية، التي تتعاظم قيمتها كلما تجنبت أي اشتباك حقيقي أو فظ مع الآخر. بل إنه ما أن تنحدر أي مناورة أو حركة إلى اقتتال حقيقي حتى تقابل بالاستهجان ورفع العقوبات في وجهها! بدءا من منح ركلة للخصم وصولا إلى البطاقة الصفراء أو الحمراء.
لكن تعقيدات مجتمعنا المعاصر وتغلغل عناصر السياسة والاقتصاد في تلقائية تلك اللعبة وعفويتها القديمة ابتعدت بها كثيرا عن تصور جرامشي لها، وإن أبقت على شيء من هذا التصور في جوهر الشغف بها. فكلما ازدادت المجتمعات الإنسانية تعقيدا وفسادا، وفقد فيها الكلام وضوحه، والتبست مفرداته وشاع فيها الكذب، والأهم من هذا كله كلما تمادى المجتمع في انتهاك القوانين البديهية التي نصت عليها كل الشرائع منذ بدء التاريخ وبلورتها الأديان المختلفة، وتواضع الناس على أنها البنية الرمزية التي تسبغ على الكلام/ الحياة المعنى، كلما تنامى شغفه بلعبة كرة القدم. حيث تقدم له عالما بديلا ولغة لم تفقد فيها المفردات دلالاتها. ألا وهي لغة الأقدام التي تصوغ في كل تمريرة جملها الفريدة.
حيث يميز بازوليني، الذي كان شديد الشغف بكرة القدم، وكان يلعبها بمهارة في شوارع بولونيا التي أمضى فيها سنوات صباه، وبعد ذلك في شوارع روما في شبابه، في مقالة لامعة نشرها عن الموضوع في يناير عام 1971، بين لغتين في كرة القدم: إحداهما شعرية والأخرى نثرية. لأن الكرة عنده نظام من العلامات، بمعنى أنها لغة لها كل خصائص اللغة ومقوماتها، وفق النظريات السيميائية الحديثة. حيث تصاغ مفرداتها ودلالات كل مفردة بنفس الطريقة التي تتخلق بها اللغة. فكل ركلة للكرة أو تحريك لها بالقدم مفردة، يدعوها قوادم podeme في مقابل الصوائت phoneme الصانعة للمفردة اللغوية. سرعان ما تدخل في جملة. وكما أن احتمالات الجمل اللغوية لا نهائية، وكل منها تتسم بقدر من التفرد والجدة، فإن الأمر كذلك بالنسبة للغة الكروية بتمريراتها ومراوغاتها وتسديداتها المختلفة. وكما لأي لغة بنيتها ونحوها وأجروميتها وقواعد تركيب المفردات فيها من سياقية ونحوية، نجد الأمر نفسه في كرة القدم. حيث تقدم كل مباراة ما يدعوه بنصها الدرامي، الذي يصوغ اللاعبون شفراته في الملعب، ويقوم المشاهدون بتفكيك تلك الشفرات وفق قواعد معتمدة من الجميع تخضع لها عمليتي التشفير والتفكيك.
وكأي لغة فإن لها نثرها وشعرها، وهو الأمر الذي يستفيض في شرحه متناولا أبرز لاعبي عصره. ولكنه يخلص من تمييزه بين النثر والشعر إلى أن كرة القدم الأوروبية في اعتمادها على اللعب الجمعي المقنن والمحكوم بذرائعية العقل العملي الكانتية، أكثر نثرية من نظيرتها في أمريكا اللاتينية التي تميل إلى الشعرية والمراوغة الفردية والتطريب في جملها المشغوفة أحيانا بجمالياتها، واستعراضات بلاغتها وهي تسعى إلى التسجيل في مرمى الخصب. ولأن كل مباراة هي في حقيقة الأمر نص درامي له بنيته الخاصة، ويمكن الاستفاضة في تحليله، فإن فيه لحظاته النثرية والشعرية معا. ويحرص على التأكيد بأن التمييز بين الشعر والنثر في كرة القدم ليس تمييزا قيميا، ولكنه تمييز تقني محض ينهض على أن لكل منهما جماليات خاصة بها. حيث تبلغ بعض الجمل فيه ذروة الشاعرية حينما تفضي إلى تسجيل هدف، ويصبح الهداف شاعر الفريق. لأن كل هدف هو دائما كما يقول لنا بازوليني اختراع جديد، هو حتمية متفردة، صدمة مدهشة تصيب النسق بالخلل، وصياغة مبدعة، مسيرة غير متوقعة من النادر استعادتها يتم فيها اللقاء بين الذكاء والغباء. تنطوي بطريقتها الخاصة على مراوغتها المتفردة للقواعد والشفرات. كل هدف يكون دوماً ابتكاراً، ودوماً تشويشاً للسَّنَن: يكون فيه دوماً شيء ما حتمي، ساطع، مدهش، لا يمكن تفاديه. هو بالضبط نفس ما يجري مع الكلام الشعري.
عالم محكوم بأبرز القيم الإنسانية:
والواقع أن قدرا كبيرا من الشغف بكرة القدم، أو حتى الجنون بها، يعود إلى الحنين إلى عالم يسوده القانون وتحكمه النزاهة وتسيطر فيه العدالة. عالم لا تجري أهم ممارساته، المباراة، في الخفاء أو كواليس السياسة وأقبية المفاوضات السرية، وإنما أمام جمهور عريض يقوم بدور الرقيب والحكم معا. وهو عالم تم فيه حلّ إشكالية السلطة المعقدة. ففي كل مباراة حكم، ولكن سلطة هذا الحكم مستمدة من القيم الأخلاقية الحاكمة للعبة: الأمانة والعدالة والنزاهة. سلطة تحل مراقبة الجمهور المستمرة لممارساتها، وتعبيره التلقائي بالاستهجان والاستحسان عن تلك الممارسة، إشكالية الجدل بين مقولة هوبز «إن السلطة وليست الحقيقة هي التي تصنع القانون الذي يضبط العلاقات بين البشر ويحكم صراعاتهم» وأطروحة لوك المضادة بأن «القانون يعطي سلطة» وما تكشف عنه من أهمية الشرعية، سواء أكانت شرعية السلطة التي تضع القانون، أو شرعية القانون الذي يمد منفذه بالسلطة، وما هو مصدر هذه الشرعية؟
إنه التماثل الذي يبلغ حد التطابق بين قوانين اللعبة والقوانين الأخلاقية التي صاغتها البشرية منذ (فجر الضمير). إلى الحد الذي دفع ألبير كامو إلى القول: «إنني أدين بكل ما أعرفه بشكل يقيني عن الأخلاق والالتزامات القيمية إلى كرة القدم». ذلك لأن القوانين الحاكمة لها على قدر كبير من البساطة والبديهية والوضوح. فأصغر فرد في الجمهور يتسم عادة بدرجة عالية من الوعي بكل القوانين الحاكمة للعبة، وبأصغر انتهاكات لقواعدها، وبأحدث متغيراتها. فالتماهي مع اللعبة ينبع من الإيمان العميق بالمبادئ التي تنهض عليها: الأمانة والعدالة والنزاهة. ومن الرغبة الشديدة في رؤية هذه المبادئ وهي تسود في ساحة الملعب/ ساحة الحياة؛ من أجل تحقيق الأهداف وفق درجة عالية من الشفافية والخضوع الكامل للقانون، وفي الهواء الطلق: هواء الحرية الفردية المطلقة والعمل الجمعي في آن.
ويتنامى التوق إلى رؤية هذه المبادئ والقوانين في أبهى تجلياتها، أي في ساحة الملعب المحددة بخطوط واضحة، برغم الحرية المطلقة، كلما افتقدها الإنسان في حياته اليومية. وكلما انتُهِكت القوانين التي تحقق العدل في المجتمع، كلما تعاظم الحنين إلى رؤيتها وهي تطبق في الملعب. لأن الإنسان يميل بطبعة، وبرغبته في أن يسود الكلام لا الموت، إلى احترام هذه القوانين الأخلاقية والتشريعية معا. لذلك فأننا نشعر بالغبن الشديد كما يقول سلوفوي جيجيك حينما، نرى نحن الذين نلتزم بتلك القوانين والقيم، من ينتهكها وهو يفلت من العقاب. ناهيك عن التمتع بخيرات هذا الانتهاك المستمر لها، مالا وسلطة، كما هو الحال في عالمنا العربي.
وكما يقول لنا صفوان: «إن الذات تتمسك بالقانون الأخلاقي بشدة مضاعفة بمقدار ما تُقصِّر رغبتها الواعية تجاه قانونها» (ص83) أي أنه كلما قصّرت رغبة الذات الواعية إزاء القانون الأخلاقي، أو عجزت عن الارتقاء لمستوى متطلباته الضميرية، كلما تضاعف تمسكها به، وتنامى معه إحساسها بالذنب تجاه ما تعيشه. إن بنية المعايير والقيم كما يكشف لنا (الكلام أو الموت) لا ترجع إلى التاريخ، ولا حتى إلى الذوات المتعالية، وإنما إلى بنية اللغة وعلاقة الإنسان باللغة، إلى الكلام باعتباره النقيض المقابل للموت. لذلك فإن منع الكذب، بما هو منع معياري، يصوغ قاعدة تبادل الكلام الذي يرتكز عليه كل تبادل. إنه من هذه الناحية قاعدة كونية بالمعنى الذي نعطيه لحظر سفاح المحارم. وإذا وجدنا قواعد محركة أخرى للكلام لها الطابع الكوني ذاته، سيكون بإمكاننا أن نسميها في مجملها النظام الرمزي. (راجع الكلام أو الموت ص85)
وفي واقع يتعرض فيها هذا النظام الرمزي لاختلالات غير مسبوقة، ويتم فيه حظر القول ومنع الفكر وإهدار أي إمكانية للتحقق سواء لأسباب سياسية في عالم يسود فيه الاستبداد السياسي والأصوليات المتذرعة باسم الدين وتفشي العصبيات الطائفية يزداد الحنين إلى رؤية كل ما هو مفقود في هذا الواقع المختل حيا وفاعلا! تحكم فيه الشفافية والأمانة والعدل مسيرة المباريات. وتتمتع فيه المعايير والاخلاق باستقلالية واضحة عن الوقائع. وينفصل المتفرج ولو لتلك الساعات القليلة التي يمارس فيها طقس المشاهدة الجمعي عن هذا الواقع الموبوء. فإزاء الموت، وكي يدرأ الإنسان عن نفسه صدمته الصعبة، يسعى إلى المتعة كما يقول لاكان، وهو يتناول طقوس الكثير من المجتمعات التي تلجأ بعد إجراءات دفن الموتى للمتع الحسية والمادية من مأكل ومشرب باعتبارها اليقين الوحيد في مواجهة الموت. هنا تصبح مشاهدة عالم لايزال صحيا، ولاتزال ممارساته خاضعة للمنطق والقانون، متعة أخرى يدرأ بها الإنسان المحبط عن نفسه هذا الموت الذي ينزّ من كل ما يحيط به من فساد واستبداد.
فوائض الإحباطات العربية:
لكن ترى هل استطاع عالمنا العربي الغارق في الاستبداد والتردي والفساد أن يستمتع بطقس مباريات كأس العالم بعيدا عن سطوة الفساد فيه؟ وهل ترك الاستبداد والفساد وما يصاحبهما من هوان أي مساحة لتلك اللعبة كي تكون مملكة للحرية يسود فيها العدل وحكم القانون؟ بل هل استطاعت المباريات أن تمنح الجمهور العربي تلك اللحظات العابرة من البهجة والمتعة التي يدرأ بها عن نفسه الموت الرازح في كل مكان؟ تكشف لنا فوائض الإحباطات العربية أن الإجابة على تلك الاسئلة هي النفي! فقد جرى في كل المباريات التي لعبتها الفرق العربية الأربع (فرق مصر والمغرب وتونس والسعودية) المشاركة في كأس العالم بروسيا الكثير من الخلط، كما سادت في تغطيتها سواء في الإعلام العربي أو وسائل التواصل الاجتماعي العديد من السلبيات والمحبطات.
لم يكن تبرير سيل هزائم الفرق العربية وخروجها كلها من دورة المباريات الأولى بأنه من المستحيل أن تنفصل الفرق عن الواقع الذي صدرت عنه، والسياقات الحضارية التي أنجبتها إلا أخف تلك السلبيات ضررا. لكن أخطرها كان المزج بين الفريق ونظام الحكم السائد في البلد الذي جاء منه. بل تجاوز الأمر هنا حدا يمكن وصفه بالدونية العربية التي تسحب كل مساوئ الأنظمة العربية ومسؤولياتها عما يتجلى في بلادها من تخلف في كل المجالات على فرق تلك البلاد، وتحابي بدلا منها فرقا أوروبية أو أميركو-لاتينية أو حتى أفريقية. صحيح أنه برغم كل تلك السلبيات كانت هناك في أغلب الأحوال ظاهرة إيجابية هي أن بنية المشاعر، حسب تعبير ريموند وليامز الشهير، ذات الطبيعة العربية كانت أعلى صوتا من كل تلك السلبيات. فهي لاتزال قادرة على التعبير عن نفسها، وتجاوز سلبيات الترديات القطرية، ناهيك عن التماهي مع كل الجوانب الإيجابية في أي أنجاز عربي، حتى ولو كان لحظيا أو منقوصا.
وقد كانت من مفارقات مباريات كأس العالم الدالة في روسيا أنها أشارت إلى مدى مسؤوليتنا، أو بالأحرى مشاركتنا الفعلية في تحقيق هزائمنا، حينما سجلت كل من مصر والمغرب هدفا في مرماها، بدلا من مرمى الخصم. فكثيرا ما نتغافل عن دورنا في هزائمنا التي تساهم فيها أخطاؤنا بنفس القدر التي تساهم فيها قوة الخصم أو مهاراته. وهو الأمر الذي كثف الشعور بالخزي والانكسار حينما يسود الوعي بأن عالمنا العربي قد أصبح بحق رجل القرن الحادي والعشرين المريض، تماما كما كانت توصف الدولة العثمانية بأنها رجل أوروبا المريض في مطلع القرن الماضي. ففي مصر خاصة، حيث بلغ الاستبداد والقمع مدى غير مسبوق، تدور فيه اللعبة لأول مرة في تاريخها، في ملاعب خالية من الجمهور، كان يستحيل أن يترك الفساد والهوان المستشري أي فرصة للعبة كي تدور في مناخ نظيف. ويكفي أن يتابع أي مشاهد تعابير وجه اللاعب المصري محمد صلاح، أثناء تلك المباريات في الملعب وخارجه، وما يعبر عنه وجهه وتصرفاته من انكسار وأسى دفين كي يدرك بعضا مما جرى. ويقارن بين صورته المشوبة بالغم والكدر في ملاعب كأس العالم وصورته المرحة المتألقة وهو يلعب مع فريق ليفربول الانجليزي الذي ساهم في إبراز شهرته وصقل مهاراته، كي يدرك أهمية السياقات ودورها الجوهري في كل من الانتصار أو الهزيمة على السواء.
فقد جسّد هذا اللاعب المصري الناجح احترافيا والذي تحول إلى أيقونة شعبية تمثل للجمهور المصري كل ما تجسد اللعبة نفسها من قيم سليمة؛ قيم الأمانة والعدالة والنزاهة. وازدادت أهميته كأيقونة للاستقامة والاجتهاد والوضوح كلما تفاقم التردي واشتدت حدة القهر والاستبداد؛ بعد إجهاز الثورة المضادة على كل أمل للمصرين في الخلاص من واقعهم المزري المشين. كما عزز التماهي معه صعوبة أو بالأحرى استحالة، التماهي مع أي من أعلام السياسة أو نجوم إعلام النفاق والرياء. وبالرغم من أنه كان باستطاعته أن يبتعد بنفسه عن كل أوشاب ما يدور في بلده من فساد، خاصة وقد أتاحت له الإصابة الحرجة في مباراة ناديه الانجليزي في بطولة الأندية الأوروبية أمام «ريال مدريد» عذرا جيدا للتملص من مباءاته، إلا أن مشاعره القومية والوطنية الأصيلة دفعته للحرص على المشاركة في فريق بلاده، بعدما قام بدور مرموق في تأهيله للمنافسة في كأس العالم.
لكنه فيما يبدو لم يكن يعي أن أوباش السياق كله وأوشابه سوف تصيبه بما أصابته به من خيبات. وسوف يرتد مفعولها سلبا، لا على مباريات مصر التي لم تحقق فيها غير صفر، كما هو حالها دائما تحت حكم العسكر، وإنما على سمعته الجيدة هنا في بريطانيا بسبب استغلاله في تبييض سمعة حاكم الشيشان المستبد البغيض، وقد قبلت المؤسسة المصرية ضيافته المجانية، برغم أن الـFIFA دفعت لها كما هو الحال مع كل من يتأهل للمشاركة في كأس العالم، مليون وثمانمائة ألف دولار، لا نعرف أين ذهبت؟ ولأنه ليست هناك ضيافة مجانية، فقد استأدى مستبد الشيشان وجلادها الثمن من سمعة محمد صلاح والظهور معه بل ومنحه الجنسية الشيشانية الفخرية التي لا يريدها عاقل. ألم تكتف المؤسسة المصرية بالحضيض الذي انحطت فيه بفضلها مكانة مصر وسط بلدان العالم حتى تلطخ سمعة أي رمز مشرف لمصر في أي مجال خارجها؟!