منذ أول ساعة تكليف له في حديقة السيرك "وكان البغل قبل هذا ينظر إلى نفسه بعين الإكبار" راودت الريبةُ قلبه. فقد كان كل شيء حوله يشي بالتمييز بينه وبين الحيوانات الأخرى. فعند توزيع المهام على الحيوانات، اتّضح أنّ لكل حيوان فقرة يؤدي بطولتها خلال عرض السيرك، باستثنائه هو، لاحظ أنه الوحيد الذي لم تُفرد له إدارة السيرك فقرة في العرض، بل قصُرت مهمته على نقل البشر والأمتعة من خلف الستار. ولمّا استفسر من الإدارة عن السبب وراء هذا التمييز، جاءه الرد صاعقاً: لأنك بغل، ومهمة البغال الوحيدة في العروض هي نقل الأحمال على ظهورها.
بمجرّد أن شخُصَت أمامه حقيقة وجوده الهشّ لأول مرة في حياته، باكتشافه أنه على هامش السيرك لمجرد أنه خُلق بغلاً، غرق البغل في اكتئابٍ شديد. وصارت تلحّ الأسئلة القدرية على ذهنه ليل نهار. فصارت حيوانات السيرك تراه تارةً واقفاً ساعة الغروب، ساهماً في ملكوت الله بمسحة حزنٍ باهتة في وجهه، أو تنتبه له تارة أخرى يحدّث نفسه وقد غاب ذهنه عمن حوله: لماذا يا الله لا يملك المخلوق أن يغيّر قدره في منتصف الطريق؟ لماذا يتوجب على الذي خُلق بغلاً، أن يظل بغلاً مدى الحياة؟ أي ظلمٍ في هذا!
لم تعطِ الحيوانات، بدايةً، تساؤلات البغل هذه اهتماماً، بل افترضت أنّ ما يدور في خلده مجرد هلوسات بفعل الحشيش الذي يتعاطاه. أما البغل نفسه، فقد كان يحمل تساؤلاته هذه على محمل الجد لأقصى درجة، حتى أخذت الحيرةُ بلباب عقله، فأهزلت بدنه، وبرت عودَه، وأضحت التساؤلات -من بعد صمتٍ طويل- ديدنه في الليل والنهار.
عند هذا الحد تنبّهت إدارة السيرك وباقي الحيوانات إلى جدية أمر البغل. وأحسّت بأن تنبّهها هذا جاء متأخراً، فأصابها القلق البالغ مما قد يقود إليه حاله، فالإدارة تحسب حساب خسائرها في حال تمرّد البغل على وظيفته واضطرت لاستبداله بحيوان آخر، وكل فرد من الحيوانات يحسب حساب كرامته التي ستُهدر في حال قررت الإدارة انتدابه إلى وظيفة البغل المتمرد. أصبح السيرك، بفعل ما يحصل للبغل، يغلي كالمرجل فوق النار. الإدارة والحيوانات في ركضٍ وسعيٍ حثيثين لتدارك أمر البغل، قبل أن تقع الفأس في الرأس، وساعتها لن يُجدي فوق الركام عويل.
كان لا بد من إقناع البغل بأهمية وظيفته، وبمشاركة الكثير من الكائنات له في هذه الوظيفة. وفي سبيل هذا الأمر، اقترح السعدان الاتصال بالجحش، والاستعانة به لإقناع قريبه بهذا الموقف.
الجحش له روح خفيفة، وسريرة نقية، لهذا فقد كانت استجابته لطلب السعدان سهلة سريعة. ففتح على الفور اتصالاً بقريبه البغل يستفسر فيه عما يتخبط به من تساؤلات مصيرية. ثمّ قدّم له محاضرة سريعة في وجوب اعتزاز الكائن بموقعه من الحياة، أياً كان هذا الموقع، حتى لو كان تحت إست البشر. فقال له البغل محاولاً لفت نظره للمفارقة في الأمر: لو أني حمار ابن حمار وحمارة يا ابن خالي الكريم، لربما كنتُ ابتلعتُ هذا القدر الظالم للحياة على نحوٍ أفضل، أمّا أن أكون ابن حمارٍ وفرس، فهذا يعني أنّ قَدَر الأكابرية أخطأني بخطوةٍ واحدة. وهذه صدفة تحزّ في بال بغل مُجلّ لذاته، مثلي.
ردّ الجحش، المعتزّ بفردانيته، المتحلل من عُقَد الماضي: أخطأني القدر بقدر ما أخطأك يا ابن عمتي، لكنّ ميزتي عنك هي أنني متصالحٌ مع قدري. ثمّ دخيلك أنا بماذا كان أبي الحصان أفضل مني؟ أي نعم أنه كان حصاناً، وبمجرد أن يولد تحت هذا المسمى فهذه مفخرةٌ للمرء أي مفخرة، إلا أنه كان حصاناً داشراً أجلّك المولى، أفسده الفراغ والشباب والدعة. ولو أنه احترم رفعة نسبه قليلاً، ولم تدلُف نفسه إلى حايالله حمارة سارحة في الطريق، لكنتُ الآن في مصاف الأكابر. لكنّ المرحوم كان دندوفاً، والله وحده يعلم كم جحشاً غيري يدفع الآن ثمن شهواته المنحطة. أما أنا ولده، وكلّي فخرٌ بجحشانيّتي، انظر إليّ تجدني أعفّ خلق الله، ولي عين لا ترفّ يميناً ولا شمالاً. وهذه أيضاً مفارقة لا تقل عن مفارقتك الأكابرية يا ابن العزيزة الغالية. افرد ابتسامتك الآن يا صديقي، افردها ودع عنك هذه التخاريف.
لكنّ البغل لم يفرد ابتسامته، بل تعاظمت الكشرة على وجهه. وأنهى مكالمته مع ابن خاله وهو يقلّب كلام ذاك الجحش في ذهنه فلا يقوى على التسليم به "يا رب! هذا المنطق الجحشاني لا تستسيغه عامة البغال، ما بالك ببغل فيلسوف مثل حكايتي!".
وفي عصر يومٍ من تلك الأيام الكئيبة من حياة البغل، كان يراقب الزرافة وهي تجرّب نظارات من ماركة Dolce & Gabbana قبل بدء فقرتها في السيرك، ويندب حظه: "يا بارئ الخليقة! حتى هذه الصعلوكة صارت وتصوّرت!"، فجاءه اتصال من والده الحمار، بعدما نقلت له إدارة السيرك صورة الأزمة التي يمر بها فلذة كبده.
لمّا استعلم الوالد العاقل من ولده المأزوم عن سرّ اعتمال هذه العواطف في نفسه، قال له، وكان حماراً مثقفاً له أساليبه التربوية الواعية: يا بابا يا حبيبي، كم مرة أفهمتك أنّ هذه الدنيا مراتب. ناس في عليين، وناس في أسفل سافلين؟ يكفيك فخراً اعتزازي بك. فأنت المقام الذي لم يتسنّ لي إدراكه، وأنت الغصن المطعّم الذي زاد جذعي عَظَمة على عَظَمة. افرد ابتسامتك يا عمري، أنا لا أحبّ الكشرة على وجهك الجميل. برضاي عليك تفردها يا ولدي، ولا تُقلقني على مستقبلك أكثر من هذا، أنا حمار كبير، وصحتي لا تحتمل كل هذا القلق.
مع كل هذه الرجاءات، لم يفرد البغل ابتسامته، بقي على تعنته واكتئابه. ثم التمّت الحيوانات كلها حوله، تحاول رفع معنوياته، وتبديل فكرته المتدنية عن وظيفته. حاول الأسد التوسط له عند إدارة السيرك لتنفيذ عرض ترضية صغير له أمام الجماهير، أسوة بباقي الحيوانات، إلا أنّ البغل رفض هذه الوساطة، مؤكداً أنّ موقفه المبدئي لا يتساوق مع هذه الحلول الجزئية. حاول الفيل ضمّه خفية إلى جوقة المطبّلين وراءه خلال فقرته الفنية، لكنه أبى الانجرار في طابور المطبّلين دون إبراز لشخصه بينهم. حاولت القرود إقناعه بتعلّم القفز من حبل إلى آخر، علها تكتشف فيه تسليةً تنفع في الوقت الفاصل بين العروض، فرفض محاولتها معللاً أنه لم يُخلق للوقت الفاصل.
"أها! وإذن لأجل ماذا خُلقت يا سعيد النصبة؟!" احتارت الحيوانات في أمر البغل، الذي لا هو قانع بوظيفته الأصلية، ولا هو مستعد للحلول المتاحة، فاشمأزت نفوسها منه وابتعدت عنه، تاركةً إياه يواجه مصيره مع الإدارة التي بدأت تضيق بفلسفته الجوفاء.
إدارة السيرك كانت أكثر حنكةً من أن تفصل البغل من العمل أو تعاقبه عقاباً مادياً مباشراً، فتسبب بهذا رهاباً لقطيع الحيوانات كافة، فقررت عزله رويداً رويداً وتجريده من صلاحياته في نقل العتاد.
بعد مدة من إقصائه عن عمله الذي لا يُعجبه، فاجأ البغلَ الشعورُ بأنه أكثر خواءً من أي فترة سابقة، وأنّ حياته إن كانت تملك قبل هذا الإقصاء بقايا من معاني الحياة، فإنها بعد الإقصاء لم يعد فيها من البقايا بقايا. إذ أصبح الآن على هامش الهامش، وأحسّ كم أنّ الهامش الأول -الذي اعتاد ممارسة بغلنته فيه بحرية- كان يحوي الفضل الكثير. وصارت تنتابه نوستالجيا جارفة لذكريات نقل الأقفية على ظهره. لكن ما تراه ينفعه الحنين لأيام العز وقد خسر الآن كل شيء بتبغدده وسوء فهمه لمراتب الكائنات!
بقي البغل على انطوائه أشهراً طويلة. لا إدارة السيرك تسرّحه من العمل فيرى وجه ربه في وجهةٍ أخرى، ولا هي تعيده إلى سابق مجده في نقل الأحمال. وكانت هذه الأيام هي الأكثر حلكةً واسوداداً في تاريخه، إذ لم تُثر كل الأسئلة القدرية السابقة في نفسه من الغصّة والكآبة ما أثارته أيام العزل والإقصاء. ثمّ انحدر به الحال إلى أن عفّت نفسه عن الحشيش والماء فصام عنهما تماماً، وبدا ظاهراً أنه يتجرع سكرات الموت على نحوٍ بطيء.
يمكن القول إنها كانت شعرة واحدة تفصل روحه عن شهقتها الأخيرة، عندما أرسلت إدارة السيرك في طلب البغل لنبأ هام. ساعدته بعض الحيوانات على الوقوف، فقد كانت أرجله بالكاد تقويان على النهوض به مما خلفه الصيام فيه، وسارت به إلى مكتب الإدارة، حيث وجد في انتظاره صندوقاً كبيراً ملفوفاً بشريط هدايا. يا حنّان يا منّان! إنها هدية!
سلّم مدير السيرك البغل مقصّاً لقصّ الشريط عن الصندوق وفتحه، ففعل صاحبنا، ويا لدهشة ما وجد. هذا السرور الذي كان بانتظاره في الصندوق ما بعده سرور، وهذا المُرتجى الذي كان يختبئ له خلف باب الإدارة ما بعده مُرتجى. أتراه كان يتخيل في أروع أحلامه خلال شهور الإقصاء أن تعفو إدارة السيرك عنه، بل وأن تُكافئه بـ "حلسٍ" جديد؟!
فعلت مفاجأة الحلس الجديد في عظام البغل مفعول السحر، فقد أحيتها وهي رميم، ودبّت في عروق صاحبها الحياة لأول مرة منذ شهور طويلة، فلم يتمالك دموعه من أن تنهمر على وجنتيه كمطر مفاجئ بعد قيظٍ طويل. الآن هو يعلم أنه عاد محط ثقة الإدارة، وأنها ستنتدبه مرةً ثانية لتأدية وظيفته المهمة التي اعتاد تأديتها في السيرك: نقل الأقفية والعتاد. يا وعده يا سعده! وأي مفخرةٍ له في نقل الأقفية والعتاد!
هرعت الحيوانات، ببالها الذي اطمأن أخيراً، إلى غرفة الإدارة تحمل الكاميرات، وتلتقط للبغل صوراً تذكارية. ثم رفع المبادرون من الحيوانات وأعضاء الإدارة الحلس الجديد على ظهر البغل.
ما إن استقر الحلس على ظهر صاحبه حتى دوّى تصفيق حاد في كل الأرجاء، فيما انقشع كل ألم الماضي عن وجه البغل، وافترّ ثغره عن أعرض ابتسامة شوهدت عليه! وفي هذه الأثناء كانت الحيوانات تلتقط له الصور الجميلة وتُتبعه إطراءاتها: أيوة هكذا، افردها يا جميل، هذا هو البغل الذي نحبّ أن نراه.