أولاً- نص قصيدة أنشودة المطر:
«عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر
كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ ...
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء ،
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ،
والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ؛
فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء
كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر !
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ
وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر ...
وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم ،
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودةُ المطر ...
مطر ...
مطر ...
مطر ...
تثاءب المساء ، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ .
كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :
بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها ، ثمَّ حين لجّ في السؤال
قالوا له : "بعد غدٍ تعودْ .. "
لا بدَّ أن تعودْ
وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ
في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ
تسفّ من ترابها وتشرب المطر ؛
كأن صياداً حزيناً يجمع الشِّباك
ويلعن المياه والقَدَر
وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ .
مطر ..
مطر ..
أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟
بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،
كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر !
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ
سواحلَ العراق بالنجوم والمحار ،
كأنها تهمّ بالشروق
فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ .
أَصيح بالخليج : " يا خليجْ
يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والرّدى ! "
فيرجعُ الصّدى
كأنّه النشيجْ :
" يا خليج
يا واهب المحار والردى .. "
أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السّهول والجبالْ ،
حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ
لم تترك الرياح من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ .
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تئنّ ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع ،
عواصف الخليج ، والرعود ، منشدين :
" مطر ...
مطر ...
مطر ...
وفي العراق جوعْ
وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشّوان والحجر
رحىً تدور في الحقول ... حولها بشرْ
مطر ...
مطر ...
مطر ...
وكم ذرفنا ليلة الرحيل ، من دموعْ
ثم اعتللنا – خوف أن نلامَ – بالمطر ...
مطر ...
مطر ...
ومنذ أنْ كنَّا صغاراً ، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطل المطر ،
وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ .
مطر ...
مطر ...
مطر ...
في كل قطرة من المطر
حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ .
وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديد
أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة !
مطر ...
مطر ...
مطر ...
سيُعشبُ العراق بالمطر ... "
أصيح بالخليج : " يا خليج ..
يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "
فيرجع الصدى
كأنَّه النشيج :
" يا خليج
يا واهب المحار والردى . "
وينثر الخليج من هِباته الكثارْ ،
على الرمال ، : رغوه الأُجاجَ ، والمحار
وما تبقّى من عظام بائسٍ غريق
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى
من لجَّة الخليج والقرار ،
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ
من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى .
وأسمع الصدى
يرنّ في الخليج
" مطر ..
مطر ..
مطر ..
في كلّ قطرة من المطرْ
حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ .
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد
أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة . "
ويهطل المطرْ .»
ثانياً- البحث في محاور القصيدة:
لاشك في أن الأساليب الشعرية تختلف من تجربة إلى أخرى، تبعاً للمتغيرات والمنازع الأسلوبية التي تميز نصاً شعرياً عما سواه؛ولئن كان الشعر فناً فهو أعقد الفنون على الإطلاق،من حيث طرائق التشكيل وماهياتها؛ فكل الفنون الأخرى تعتمد على تشكيل مادة معينة في وسط محدد؛ فالرسم هو تشكيل المساحات اللونية في المكان، والنحت تشكيل الكتلة في الفراغ، والموسيقى تشكيل الدرجات الصوتية في الزمان؛ أما فيما يتعلق بالشعر فليس لدينا تعبير يمكن أن يصف التشكيل فيه بهذه البساطة التي نجدها في الفنون الأخرى؛ فاللغة هي المادة الأولية للتشكيل الشعري؛ لكن هذه المادة من التعقيد بحيث لايمكننا تحديد وسط بعينه تتشكل فيه؛ بل إن اللغة ذاتها تنطوي على جوانب متعددة ، كل منها يصلح وحده أن يكون عنصراً تشكيلياً من مثل الصوت والكلمة، والمعنى،والدلالة، والوزن،والإيقاع،والقافية، وغير ذلك؛ فالشاعر يمتلك- بخلاف غيره من الفنانين- مواد ووسائل كثيرة يمكن أن يستخدمها في تشكيل القصيدة،ومن هنا تبدأ صعوبة تحليل التشكيل الشعري"(1).
وبتصورنا:: إن الأسلوب الشعري الرائق هو الذي يعتمد بكارة الصورة، وعمق مؤثراتها الخلاقة؛ فكما أن الشعرية طاقة انزياحية تحولية في الشكل الأسلوبي، والمعنى الدلالي المراوغ؛ فإن الجمالية الشعرية لا تقاس فقط بالشكل؛ وإنما ببلاغة المعنى، وبكارة الدلالة؛ ولهذا، يبقى الشعر الفن الجمالي الذي يأبى التنميط، أو القياس؛ فهو طاقة إبداعية تخييلية منفتحة الرؤى والدلالات والمؤثرات الجمالية؛ والأهم من ذلك حتى القيم الجمالية قيم تحولية لا يمكن أن نقيس جمالية قيمة جمالية، ونطبقها في نص آخر، ذلك أن لكل نص شعري قيمه الجمالية التي لا تتكرر هي نفسها بالفاعلية نفسها في نص شعري آخر؛وهذا ما يجعل للنص الشعري قدسيته الإبداعية، ولحظته الإبداعية المميزة التي لا تتكرر، ومن أجل هذا لا تتساوى النصوص في درجة شعريتها وفاعلية القيم الجمالية التي تنبني عليها؛ ولا يمكن أن يكون نص ما بسوية نص شعري أخر في إحدى قيمه ومؤثراته الفنية؛ لأن القيم الجمالية متلاحمة ومتواشجة في النص الشعري الواحد؛ومن تواشج وفاعلية القيم الجمالية تتحدد درجة الشعرية والسوية الإبداعية التي وصلت إليه؛وهذا يعني أن جمالية الشعر تكمن في أنه الفن الشعري اللانمطي؛ لأنه من أكثر الفنون انفتاحاً وانطلاقاً في مؤثراته وقيمه الجمالية. ومن هنا يكتسب الشعر هذه الخصوصية المميزة التي تجعله الفن الشعري المتغير في مؤثراته الفنية.
وإننا في تدقيقنا لقصيدة السياب (أنشودة المطر) وجدنا أن الشعرية تنبع من تلاحم مؤثراتها وقيمها الجمالية، التي تبدأ من الجزء لتنطلق إلى الكل؛ فهي ذات خصوصية إبداعية في الشكل الفني والمعنى الدلالي المراوغ؛وهذا ما يكسبها هذه البلاغة، والقيمة الجمالية في توالد الدلالات التي تفجرها في أنساقها التشكيلية؛ ابتداءً من بلاغة الحرف والكلمة، والجملة، والمعنى، والمغزى الدلالي العام,.ولعل من أبرز المؤثرات الجمالية التي تحكم سيرورة القصيدة نبرزها فيما يلي:
1- جمالية الفاتحة الاستهلالية:
ونقصد ب( جمالية الفاتحة النصية): جمالية التشكيل اللغوي في الاستهلال الشعري، بحيث تؤدي الفاتحة الاستهلالية قيمتها في الاستثارة، والتحفيز الجمالي؛فالقارئ عندما يجد فاعلية البارقة الاستهلالية، سرعان ما يتفاعل مع النص، محققاً قيمة جمالية في تلقي النص والانشداه إلى مؤثراته الفنية؛لأن الفاتحة الاستهلالية البليغة ترفع وتيرة الاستثارة في النص الشعري؛ ليبرز كقيمة جمالية مؤثرة في جذب المتلقي إلى النص؛لأن النص الشعري- في الأساس- كتلة تفاعلية؛ تبرز كل عنصر لغوي كقيمة مرجعية خلاقة،بتضافره، وتفاعله مع القيم الأخرى؛ وعندما يوفق الشاعر في اختيار الفاتحة الاستهلالية المؤثرة فإنه يجذب المتلقي إلى كينونة نصه ليتفاعل جمالياً مع النص كقيمة بلاغية مؤثرة؛ولعل من أبرز فواعل الفاتحة الاستهلالية المحرضة للشعرية أن تتضمن تلكم الفاتحة الكم الهائل من الصور البلاغية المؤثرة، التي تتناسل فيها الصور بعضها من بعض؛ محققة قيمة جمالية في المبالغة والتكثيف الجمالي؛ على مستوى تضافر الصور وتناسلها المتتابع، كما في قوله:
""عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقصُ الأضواءُ ... كالأقمارِ في نهَرْ
يرجّه المجذافُ وهْناً ساعةَ السَّحَر
بادئ ذي بدء؛ نشير إلى أن الاستهلالات الشعرية الفاعلة جمالياً ترفع وتيرة النص الشعري، درجات من السرعة، والانشداه، والتفاعل مع النص، لتأمله بوعي وإحساس جمالي؛وهاهنا، يلحظ القارئ بلاغة الصورة التشبيهية، أو التمثيلية المتفاعلة جمالياً مع دينامية الرؤية الغزلية التي أراد الشاعر أن يجسدهما أولاً بتشبيه العيون بغابتي نخيل يقترب منهما القمر،وينأى تدريجياً عنهما مخلفاً صورة إشعاعية ابتكارية جميلة لصورة العينين، ولغابتي النخيل اللتين تقتربان من القمر وتبتعدان،وكأن الضوء المسقط من القمر على شرفتي العينين تبرز الإشعاع الرومانسي الساحر الذي يطلبه العشاق ساعة السحر؛من جمالية ودهشة في وصف المشهد الرومانسي لحركة العينين وتلألؤ أضواء القمر المسقطة على صفحة الماء لينعكس بريقها على الأشياء، وكأن الأضواء تهتز على صفحة الماء لتتلاشى تدريجياً بإيقاع بصري/ مهتز يتماشى مع حركة الماء وتناثر الأضواء والظلال الكاشفة على حركة الماء.
والملاحظ أن الفاتحة الاستهلالية القيمة تحفز القصيدة؛ وترفع أسهمها الجمالية لاسيما بتواشج الفاتحة الاستهلالية مع باقي الأنساق الشعرية التي تحرض القصيدة، وتكشف مكنونها الجمالي العميق،ذلك أن الشاعر لا يعتمد في بناء قصيدته على انتقاء المفردات،واختيار الأساليب النحوية الملائمة بقدر ما يركز على الناحية الفنية، والإيحاءات الفكرية،ووقع الكلمات موسيقياً؛ فهناك مفردات تأتلف مع مفردات من دون غيرها؛ وهناك أساليب لغوية تتجاوز العرف الشائع إلى الإبداع الخاص.وهذا كله يحتاج إلى مقدرة إبداعية يمكنها تركيب المفردات، والتنسيق فيما بينها؛لأن لغة الشعر أغنى وأعمق لا بالكلمات فحسب؛بل في الصياغات، وطرق التركيب، فكل عنصر لغوي في الشعر يستخدم في تطوير قدرة العنصر الآخر؛ ومن هنا، تقوم لغة الشعر على أساس تنظيمي يشارك فيه الشكل الشعري المعنى الشعري في انسجام لا قرين له خارج الشعر"(2).
ولهذا نعد لغة الشعر لغة التواشج والتناغم والتفاعل والانسجام،وهذا يعني أن بلاغة أي عنصر لغوي في النص الشعري تنبع من قيمته داخل السياق،ودور هذا المتغير الفني أو الأسلوبي الذي يجعل علاقة القرينة أو الارتباط بليغة من خلال الإسناد الصادم للدلالات والمقومات الأسلوبية الأخرى؛ وهذا ما يحسب للقرائن اللغوية داخل السياق؛ ولا نبالغ في قولنا: إن حيازة الاستهلالات الإبداعية المنمقة لأقصى درجات التفاعل ينبع من الحساسية الجمالية لهذا القرين الأسلوبي المميز ليسمو بالنسق الشعري ، أي النسق داخل فاعلية الجملة ومحرضها الخلاق،وهذا ما نلحظه من خلال الانسجام الجمالي الخلاق بين الجمل الاستهلالية وباقي الدوال اللغوية التي تنبني عليها باقي الجمل المؤسسة لمحاورها الخلاق,كما في قوله:
" يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر
كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ ...
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء ،
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ،
والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء "
هنا ، القارئ يلحظ درجة التشظي الرؤيوي، والبعد التخييلي في الصور؛ من خلال الحس الجمالي في ربط الصورة بالصورة، والموقف بالموقف؛ أي شعرية هذه الصور تكمن في محرضها الكاشف عن رؤى ودلالات جديدة؛ فكما أن الشعرية – بالأساس- هي قلقلة للحركة المألوفة، وزعزعة لا متوقعة للثوابت والقرائن الدالة فإن فاعلية الدهشة التشكيلية تنبع من شعرية القرين ضمن نسق الصورة، وما يستتبعه من مؤثرات تنسجم مع موقف الشاعر الوجداني، على شاكلة الصور التراسلية المنسجمة في إيقاعها التشكيلي الفاعل:[يرجه المجذاف وهناً ساعة السحر]؛وهذا يعني أنه ثمة بلاغة في انسجام قرائن الصور البليغة في النسق الشعري؛مما يحقق للنسق الشعري قيمته ومؤثراته المحفزة لباقي الأنساق الشعرية ؛ وهذا يعني أن قيمة الفاتحة الاستهلالية تحقق شعريتها بتلاحمها وانسجامها مع الكلمات النصية الأخرى،
كما في قوله:[دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف].مما يعني أن تشخيص المجردات ، أو تجريد المحسوسات وأنسنتها تعد قيمة مرجعية في الارتقاء بحيوية الصورة ومحفزها الجمالي.
واللافت في أنشودة المطر تناغم الكلمات وانسجامها ، سواء أكان ذلك في الفاتحة الاستهلالية، أم في المحور النصي للقصيدة، أم في فاصلتها الختامية؛ مما يعني أن شعرية القصيدة تتمحرق على بلاغة الرؤيا الشعرية وشعرية الصور المبتكرة، كما في قوله:
فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء
كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر !
كأن أقواس السحابِ تشرب الغيومْ
وقطرةً فقطرةً تذوبُ في المطر ...
وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم ،
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودةُ المطر ... "
هنا، تتغلغل الكلمة في بنية الصورة؛ لتشكل رحمها النصي الأبرز، أي تشكل الكلمة بؤرة تنامي الدلالات ومؤشراتها النصية؛ لتكون الكلمة في إيقاعها وتناغمها مع الكلمات الأخرى ذات قيمة مضاعفة في الاستثارة والبلاغة والفاعلية والتأثير، وهنا، نلحظ للكلمات دورها المؤثر في الارتقاء بالصور،وإبراز حاملها الدلالي المؤثر؛ ومحفزها الجمالي الرؤيوي الخلاق، فلا قيمة للنص إن فقد حرارة الكلمة وفقد إشعاعها الجمالي، وهنا، برزت الكلمات في تشكيلها النسقي كقيمة مؤثرة، هي كالتالي:[رعشة البكاء- نشوة وحشية- عرائش الكروم – كركر الأطفال]، فهذه الصور الاستعارية والتشبيهات لم تأتِ مجانية في النص،وإنما جاءت مركزة بأبعاد إيحائية تصل حد الإدهاش؛ وهذا يعني أن بلاغة الصورة ترتكز على بلاغة الكلمة في إيقاعها المموسق صوتاً ودلالة مع التجربة الشعرية.
وهنا لابد من الإشارة إلى نقطة مفصلية مهمة في أنشودة المطر هي أنها تتأسس على شعرية المشاهد والصور المتحركة التي تأتي ذات فاعلية إيحائية في النسق الشعري؛ ولو دقق القارئ في حركة الصور ومتحولاتها النصية لأدرك أنها ذات نشاط مفصلي في إبراز النسق الشاعري الرومانسي من خلال حصيلة مكثفة من الكلمات المشتقة من حقل الطبيعة الرومانس، نوردها على الشكل التالي: [مطر- عرائش- كروم- الأطفال- العصافير- الشجر- السحاب- الغيوم – الطفل- السماء-ضباب- المساء- البحر- النجوم-الأضواء – نهر]؛ وهذا يعني أن الشاعر يخاطب في هذه القصيدة محبوبة ما أو أنثى تمثل له الوطن ،أو الارتباط بالأصالة،والحياة، والوجود؛والثورة والميلاد والتجديد ، فهي قصيدة رمزية تربط المرأة بالعراق، بالثورة والميلاد والخلق والتكوين الجديد. ولهذا، كرّس المتراكمات والتقنيات الجمالية، من تكرار، وجناس، وتضاد، واستفهام، وتنامي الصيغ الإنشائية لتحريك السياق الشعري،بما يثير حراك الدلالات الثائرة ،لإبراز الحلم في الثورة، والتغيير،ولعل أبرز مؤشر على ذلك دال (المطر) بوصفه رمزاً مركزاً تعتمد عليه القصيدة جاء غاية في التنامي، والتكثيف، والحراك الجمالي،وهذا ما نلحظه في قوله:
مطر ...
مطر ...
مطر ...
تثاءب المساء ، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ .
كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :
بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها ، ثمَّ حين لجّ في السؤال
قالوا له : "بعد غدٍ تعودْ .. "
لا بدَّ أن تعودْ "
هنا، ينتقل الشاعر في إحساسه الثوري، ليبشر بالثورة، والميلاد الجديد؛فهو يحلم أن يعود العراق مزهراً كما كان من قبل يحمل البشر، والميلاد، والعطاء الجديد، كما هو حال الطفل الوليد الذي ينتظر أن تعود أمه من غياهب الموت؛ولكن هيهات أن تعود، وعلى الرغم من إيمان الشاعر بأن عودة الأم مستحيلة وكذاك عودة العراق إلى العهد السالف، كذلك صار مستحيلاً،لكن الطفل تشبث بالأمل وما زال ينتظر أمه،وكذاك حال الشاعر على الرغم من إدراكه أن عودة العراق إلى سالف عهده أصبح مستحيلاً إلا إنه ما زال ينتظر عودته متشبثاً بالأمل المستحيل؛ وهذا ما عبر عنه" قالوا ( بعد غدٍ تعود/ لابد أن تعود)،وهذا يدلنا على بلاغة الرؤيا الشعرية في تناميها وإحساسها الجمالي. من خلال بكارة النسق الشعري؛ فالقيمة الجمالية لتفاعل الصور والأنساق الشعرية هي التي تفعِّل الرؤيا الشعرية في القصيدة، وهو ما يحقق تناميها الفني والجمالي المؤثر.
ولعل تكثيف الرؤى والدلالات الكاشفة عن رمزية المطر من خلال دراما الصورة والحركة المموسقة التي جاءت غاية في الحضور والتكثيف الجمالي، كما في قوله:
"لا بدَّ أن تعودْ
وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ
في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ
تسفّ من ترابها وتشرب المطر ؛
كأن صياداً حزيناً يجمع الشِّباك
ويلعنُ المياهَ والقَدَر
وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ .
مطر ..
مطر ..
هنا، تحولت كلمة (مطر) من كونها كلمة دالة بقوة على المطر كقيمة مادية يرمز إليها بالمطر الهاطل من السماء إلى مطر الوجود، والأمل، والحياة؛ أي تحول المطر من كلمة مساعدة في الدلالة على الحياة، والخلق، والتكوين الجديد، إلى كلمة منتجة للدلالة ،ودالة بقوة عن العطاء والأمل المتجدد؛ وهنا، تكمن القوة التحولية في الدوال الشعرية بانزلاقها من متحول دلالي إلى آخر، ومن قيمة بؤرية ممركزة للرؤى الجزئية إلى قيم تحولية مفعِّلة للمعنى الكلي الذي يريده الشاعر؛وهذه اللازمة التكررية التي اعتمدها الشاعر تمثل محرق دلالات القصيدة على اختلاف بناها ورؤاها الشعرية.وكأن لفظة المطر تحولت تدريجياً من قيمتها الرمزية المادية إلى قيمتها الأسطورية ليكون المطر رمزاً دالا ً على الخصوبة والميلاد والتكوين في أسطورة عشتار وتموز، أي إن الشاعر اعتمد في هذه القصيدة المتحول الرمزي بالانتقال بالرمز من إيقاعه المادي إلى إيقاعه المعنوي ومدلولاته المتشعبة إلى إيقاعه الأسطوري، ومحمولاته المتغيرة؛ وهذا أكسب النص مصدر حراكه الشعري ومدلولاته المتغيرة.وهنا تحولت الكلمة من مجرد رمز مادي إلى كلمة ذات مغزى أسطوري وبعد درامي تصويري مشحون بالمواقف والدلالات الاحتجاجية الصادمة.
2- شعرية الأسئلة الرومانسية / ومحمولها الخلاق:
لابد من الإشارة إلى أن السؤال كقيمة بؤرية يعد مركز الحساسية والجمال في النص الشعري إذا كان السؤال مفجراً للدلالات والرؤى والصور الجديدة وإلا كان السؤال مجرد شكل أسلوبي جامد لاحراك له في تكثيف الدلالات وإبراز منتوجها البليغ، وبالتحديد : إن تحول السؤال يعد محرك القصيدة إذا كان دافقاً بالرؤى والمعاني الجديدة وإلا فقد السؤال قيمته كبنية موجهة للخطاب الشعري، وبالتحديد: إن بلاغة السؤال تتأتى من إثارته المعنى الجديد بالصورة الخلاقة والمعنى المتحول أو المنزلق؛ لاسيما دراما السؤال المتحول، فكما أن للرمز دراميته أو لنقل متحوله الدرامي فإن للسؤال كذلك متحوله الرؤيوي المنتج لدراما الشعور او الخيال، وهذا ما لا حظناه في دراما السؤال الرومانسي المتحرك الذي أثاره الشاعر في القصيدة كقيمة بؤرية محركة للشعرية، كما في قوله:
أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟
بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،
كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر!
هنا يأتي السؤال متحولاً بدراما الشعور، وكأن السؤال غدا المتحرك الجمالي الذي أنقذ القصيدة من جريانها العادي المتداول ليخلق لها منعرجاً جديداً، فهذا السؤال الابتدائي( أتعلمين أي حزن يبعث المطر) فتح بوابة الدفقات أو النفثات الشعورية لتبرز وتتحرك بقيمة عالية، لتخليق دراما السؤال المتحرك أو المتحول، كما في تتابع الأسئلة على وتيرة متجددة تحمل الكثير من القيم والدلالات الجديدة :[وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟/ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع]، فهذه التساؤلات رغم أنها جاءت استنكارية إخبارية حملت عمق الموقف وبلاغة الرؤيا الاغترابية في كشف دراما الشعور القلق المتسائل عن وجود جديد وعالم متجدد، فالشاعر انتقل بالسؤال من حركته الدالة على رؤية أو الإخبار بمعلومة أو موقف أو حدث ليكون السؤال نفسه منتجاً للحدث، وكاشفاً عن تناقض الوجود باجتماع النقيضين (الموت / والحياة) و(الوجود/ والعدم) و(الموت/ والمطر) ليكون المتحول الرمزي الدرامي كاشفاً بدقة عمق الإحساس المتناقض، بالأمل وتلاشي الأمل الماثل (بالجوع والضياع والموت)، ولعل هذا الاحتدام الشعوري الذي أثاره الشاعر في القصيدة حرك الدلالات لتصب في مجرى واحد هو مواجهة النقيضين أو المتضادين كما هي طبيعة الوجود وثنائياته المتناقضة، أي مواجهة الموت بالحياة. والجوع والعطش والموت بالمطر رمز الحياة والخصوبة والخلق والتكوين، (كالحب، كالأطفال، كالموتى- هو المطر)،وهكذا حفلت هذه القصيدة بالدلالات المفتوحة والرؤى المراوغة التي تتضمن أكثر من قيمة منتجة للرؤى والدلالات البليغة.
وباختصار شديد، ثمة قيم جمالية متنوعة تخلق متغيرها الجمالي الخلاق تظهر من خلال موقعية الأثر البلاغي أو الجمالي الذي تتركه، وهنا، تحول السؤال والرمز من قيم مساعدة في القصيدة إلى بؤر خلاقة للشعرية ومنتجة للمتغيرات الجمالية التي ظهرت بالانتقال من متغير أسلوبي إلى آخر،ومن صيغة إلى أخرى، محققاً قيمة جمالية عظمى في الدلالات وحراكها الجمالي المتتابع.
ولا نبالغ في قولنا: إن شعرية أي قيمة جمالية تنبع من تفاعلها مع بقية القيم الجمالية الأخرى في النسق الشعري، فتكرار لفظة المطر تناغم مع حركة السؤال الموجهة للدلالات والمعاني الجديدة، والحركة الفعلية وبروز الفعل بقوة استتبعه سيطرة للصور الراسخة التي تدل على ثبات الاسم بدلالاته الدرامية المصطرعة، أي ثمة حركة ضدية درامية تنتقل من الصوت إلى الكلمة إلى الجملة إلى المعاني والدلالات الأخرى التي تقوم على التضاد والمفارقة والجدل في المعاني والأحداث والمواقف المصطرعة التي تطرحها القصيدة.
3- جمالية الصورة المشهدية المتحركة:
ونقصد ب( جمالية الصورة المشهدية المتحركة): الصورة التي تغتني بالمشاهد المتحركة ، بالانتقال من لقطة تصويرية جزئية إلى لقطة أكثر غنى وانفتاحاً نصياً؛ في إبراز دينامية المشاهد ومتحولاتها المشهدية الخلاقة؛وهذا يعني أنه ثمة قيمة مؤثرة في حراك المشاهد وتحولاتها النصية في النسق الشعري الذي تنبني عليه هذه القصيدة في إبراز متحولها المشهدي الخلاق، كما في قوله:
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ
سواحلَ العراق بالنجوم والمحار ،
كأنها تهمّ بالشروق"
لابد من الإشارة بداية إلى أن جمالية الصورة المشهدية المتحركة تبرز كقيمة تصويرية مؤثرة في إنتاج الشعرية؛ لاسيما عندما تبرز في شكلها النصي المراوغ،وهذا يعني أن بلاغة الصورة تكمن في حراكها المشهدي وخلقها المؤثر،كما في قوله: [ومقلتاك بي تطيفان مع المطر/ وعبر أمواج الخليج تمسح البروق]؛ واللافت أن المحفز التصويري البارز الذي تظهره القصيدة يتأسس على حراك المشاهد الشعرية ، وكأن ثمة قيماً جمالية تتحرك عبر النسيج الصوتي للأنساق الشعرية محققة قيمتها الجمالية الخاصة؛من خلال انسجام القوافي التالية:( البروق= الشروق)؛ وتناغم الحركة الفعلية وبروزها في تكثيف المشاهد واللقطات،( سواحل العراق بالنجوم والمحار تهم في الشروق)؛ وهذا يعني أنه ثمة رؤية تشكيلية في توليف اللقطات التصويرية المعبرة عن الثورة والتأمل والأمل الجديد؛وهكذا تتأسس بلاغة الصورة المشهدية على حنكة المشاهد المتحولة التي تبرز كقيم تصويرية ذات إيقاع جمالي محفز للشعرية؛
ولا نبالغ في قولنا: إن شعرية قصيدة (أنشودة المطر) أنها ذات منازع اغترابية في توجيه الخطاب الشعري والرؤية الشعرية صوب متغيراتها الأسلوبية الإنشائية بتحول النسق الشعري من الخطاب الخبري،إلى الخطاب الإنشائي، لإبراز كل مشاعر البث والشكوى والحنين إلى عودة العراق كما كان في سالف عهده، كما في قوله:
أَصيح بالخليج: " يا خليجْ!
يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والرّدى! "
فيرجعُ الصّدى
كأنّه النشيجْ:
"يا خليج
يا واهب المحار والردى .. "
أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السّهول والجبالْ ،
حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ
لم تترك الرياح من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ" .
إن القارئ هنا يدرك لذة الصيغ الإنشائية وسلاستها في التعبير عن حلم الشاعر وأمله بالتغيير،وهذا يعني أن سحر النداء أعطى قيمة توجيهية محرضة للشعرية لاسيما بتتابع وتوالي الصور المشهدية التي تبرز جانب الشكوى والنداء المستحيل لإعلان التغيير والثورة والتحريض،ولعل أبرز ما أغنى شعرية القصيدة بروز متغيرها الجمالي عبر النداء والتمني المحرك للشعرية، وتوالي الصور المشهدية المتراكمة، وهكذا استطاع السياب أن يشكل قفزة نوعية في تغيير الأسلوب والزوغان في حركة المشاهد لتبرز كقيم جمالية محرضة للشعرية.
4- شعرية المتغير الأسلوبي الاقتضائي البليغ:
ونقصد بشعرية المتغير الأسلوبي الاقتضائي البليغ محاولة الارتقاء بالنسق الشعري، درجات من التكثيف والإيحاء الشاعري عبر التشكيل التصويري البليغ، والمعنى المبتكر العميق؛ وهذا يعني أن بلاغة المتغير الأسلوبي ترجع إلى قيمة التركيب،بوصفه تعبيراً جمالياً لغوياً عن المعنى المقصود؛ ولعل أبرز ما أغنى الحركة الجمالية في القصيدة شعرية المتغير الأسلوبي التي تبرز النسق الشعري قيمته المؤثرة، كما في قوله:
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تئنّ ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع ،
عواصف الخليج ، والرعود ، منشدين :
" مطر ...
مطر ...
مطر ...
وفي العراق جوعْ
وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشّوان والحجر
رحىً تدور في الحقول ... حولها بشرْ
مطر ...
مطر ...
مطر ... "
إن بروز التكرار بوصفه قيمة بؤرية في خلق المتغير الأسلوبي البليغ منح القصيدة نغمها الخاص في الارتكاز على حراك البنى التشكيلية المراوغة، وكأن الشاعر أراد من خلال التكرار توجيه الخطاب الشعري صوب المعاني المحفزة للشعرية لتبرز كمتغيرات محفزة لدراما الأحداث والدلالات المصطرعة؛ فالشاعر يعبر عن المتناقضات في السياق الواحد، لترسيخ الدلالة أو الرؤية بنقيضها الوجودي، كما في جمعه بين( الخير/ والجفاف والعقم) من خلال رمزي( الغربان والجراد) الدالين على العقم، والتصحر، والخراب الوجودي، في حين أن رمزي( الحصاد/ والغلال) دالان بقوة على الخير والخصوبة والعطاء المتجدد، وهنا، يرصد واقع الشعب العراقي بين الإشراق والخصوبة والجمال الذي كان عليه في سالف الأيام والأزمنة ،وما آلت إليه الأحوال في الواقع الحالي من دلالة على الخراب والدمار الوجودي،ولهذا جاءت الصورة التعبيرية التالية:[رحى تدور في الحقول ... حولها بشر]؛ بمثابة المؤشر البليغ على دلالة الموت والتصحر والخراب؛ومن ثم جاء تكرار رمز المطر ثلاث مرات بمثابة الرغبة الملحة بالارتداد إلى الماضي، وتحريك إيقاعها الداخلي العميق؛ وهكذا، استطاع الشاعر أن يرسم المعنى الجمالي، مما يدل على بلاغة في الموقف الشعري،وحساسية في التكثيف الشعري.
واللافت أن شعرية المتغير الأسلوبي في أنشودة السياب يعزز الموقف الشعري، ويكشف عن تطور الرؤية من قيمة جمالية إلى أخرى؛مما يدل على بلاغة في الرؤية الشعرية التي تحفز الموقف الشعري وبلاغة التشكيل المراوغ، كما في قوله:
مطر ...
مطر ...
مطر ...
وكم ذرفنا ليلة الرحيل ، من دموعْ
ثم اعتللنا – خوف أن نلامَ – بالمطر ...
مطر ...
مطر ...
ومنذ أنْ كنَّا صغاراً ، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطل المطر ،
وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ . "
بادئ ذي بدء، نشير إلى أن المتغير الأسلوبي في أنشودة السياب يتمثل في المتحول الأسلوبي من صيغة إلى أخرى؛لإبراز عمق الدلالات ومتحولها النصي؛ولو دققنا في المؤولات النصية التي تثيرها هذه القصيدة لتأكدت لنا حساسية الرؤية، وبلاغة الصورة، على شاكلة قوله:[ ما مر عام والعراق ليس فيه جوع]،فالعراق هنا رمز التحدي والصعوبات والأزمات التي يعانيها في ظل الفقر والتشرد والضياع ونيران الحروب المستعرة التي رافقته،وهذا يعني أن القصيدة بكيتها هي صرخة في قرع ناقوس الإيجاب مقابل البشاعة والتشرد والضياع؛ولو دقق القارئ في المؤولات النصية لأدرك غناها بالمحفزات الجمالية التي تنقل الصورة من إيقاعها السكوني إلى إيقاعها المتحرك، وهذا ما نستدل عليه من خلال قوله:
" مطر ...
مطر ...
مطر ...
في كل قطرة من المطر
حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ .
وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديد
أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة !
مطر ...
هنا، يتحول المطر من حالة اعتيادية إلى حالة من الحلم والرؤيا الجديدة؛ فالحلم هنا صار فتياً، والحلم تحول بفاعلية المطر- إلى رمز للعطاء والخير والأمل الذي يبشر بمرحلة مشرقة،وحياة جديدة،تكتنفها المشاعر الاحتجاجية الرافضة لكل مظاهر السلب والإدانة والشقاء؛وهذا ما تستدل عليه بقوله:[ وكل قطرة تراق من دم العبيد / فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد]، فالشاعر هنا يعبر بالصور المتحركة الكاشفة عن عالم الشقاء الذي تعيشه بلده العراق، من فقر وتشرد وضياع؛ وكأنها تحتاج إلى طائر الفينيق لتحترق وتولد من جديد كما هي عليه في الأساطير القديمة.
وهكذا ، جاءت القصيدة مؤثرة في مجرياتها النصية، محققة قفزة نوعية في دينامية الصور المشهدية المتحركة التي تباغت القارئ في مدها الدلالي وإيقاعها الجمالي الخصيب؛مما يدل على أن قصيدة (أنشودة المطر) قمة في البناء الدرامي الموجه للأحداث، والصور، والدلالات المحتدمة التي تقوم على دراما الداخل قبل الدراما الخارج، مما يعني بلاغة موجهة في تحفيز الدلالات والرؤى الشعرية، بالارتكاز على دينامية الأحداث المتحركة في دورانها المشهدي من الإحساس بالتلاشي والضياع إلى الإحساس بالأمل والتجدد والعطاء،وهكذا قامت القصيدة على جدلية اصطراعية تجمع النقيضين ، لتعضيد الرؤية وتركيز أبعاد التجربة بمحاورها ورؤاها كافة.
6-جمالية الخاتمة النصية:
ونقصد ب( جمالية الخاتمة النصية) أن ينهي الشاعر قصيدته بلمحة بلاغية فنية مثيرة ترتقي بأسهم القصيدة جمالياً، محققة فيها قفزة نوعية ، من بداهة السرد وبلاهته إلى ملامح الجمال وحيويته الصورة، وغالباً ما تكون القفلة المثيرة نقطة محرقية في الارتقاء بالقصيدة إلى أقصى درجات الاستثارة واللذة في الإبداع، وعليها تتوقف القصيدة في الارتقاء بمحاورها ورؤاها كلها؛وهذا يعني أن بلاغة الرؤيا بلاغة مرجعية في إثبات حراك البنى والدلالات والمؤشرات الشعرية.
وبتقديرنا : إن قصيدة ( أنشودة المطر) للسياب تنبني على حيوية الرؤى وبلاغة الاستهلال وشعرية القفلة النصية التي تأتي قمة في المتعة والجاذبية الفنية، وهذا ما نستدل عليه من خلال القفلة التالية:
في كلّ قطرة من المطرْ
حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ .
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد
أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة . "
ويهطل المطرْ ."
هنا،يباغتنا الشاعر بالقفلة النصية التي تأتي ذات قيمة في الدلالة على دراما الأحداث وبانوراما التكرار الموجه للدلالات والرؤى الشعرية ليتحول المطر إلى مطر لولادة الحياة من جديد،وهذا يعني أن دراما الأحداث تنتقل من دراما الكلمات والرموز والبنى الدالة إلى دراما الأحداث الموجهة للرؤى و المعاني،وهنا جاء قوله :)ويهطل المطر) قمة في التكثيف والدلالة على واقعية الواقع وحراكه الشعوري، وفيض الإحساس المتنامي الذي تعيشه العراق في زمنها الوجودي المتقلب،والذي يضج بالمتناقضات والتحولات الكثيرة، وهذا يعني أن بلاغة التكثيف والاختزال تحققت في أعلى مستوياتها في الخاتمة النصية من خلال تواشج الصور وتفاعلها ضمن الإطار النصي، وهذا ما يحسب لها على المستوى الإبداعي.
تعليق على القصيدة:
لا شك في أن قصيدة ( أنشودة المطر) بكل ما قيل عنها وفيها من آراء وتحليلات، تبقى من أهم القصائد في عصر الحداثة اعتماداً على التكرار كمفصل جوهري في تحريك دلالات وإيقاعات ومحاور القصيدة كلها، وهي بالارتكاز على التكرار تؤكد انبناءها على دراما الإيقاع الداخلي المتحرك من دراما الرموز، والرؤى، والمعاني، والصور، ودينامية المقابلة، والجناس، والأحداث المتناقضة، والمشاهد المتداخلة، وهي من أبرز القصائد التي يلوِّن فيها الشاعر بين الأحداث هذا على مستوى الإيقاع وحركته من الداخل، أم على مستوى الإيقاع وحركته من الخارج؛ فإن الشاعر اعتمد تلوين القوافي والانتقال من قافية إلى أخرى، ومن نغم صوتي إلى آخر، لتحريك الشعرية من الداخل والخارج في آن معاً؛ ولهذا؛ يلحظ القارئ إثارة بليغة في استهلال القصيدة، وإثارة جمالية في قفلتها؛ لتحمل في جوهرها قيمة أسلوبية لم نجدها إلا في هذه القصيدة ألا وهو بلاغة المتغير الأسلوبي الفني الذي اعتمدته بالانتقال من السرد إلى الإخبار، ومن الوصف إلى الصورة، ومن دراما الداخل إلى الدراما الخارج، ومن المشهد الجزئي إلى المشهد الكلي؛ ومن المعنى البسيط المأنوس إلى المعنى البؤري العميق، ولهذا يخطئ من يظن أن قصيدة السياب هذه قصيدة إعجازية في شكلها وإيقاعها الخارجي،وإنما بحراك الدراما الداخل أكثر من دراما الخارج. وهذا ما منحها استعلاءها على الخارطة الإبداعية في التناول النقدي؛ وهذا ما رمنا تسليط الضوء عليه في هذه الدراسة التحليلية النقدية الموجزة.
الحواشي:
(1) العذاري، ثائر،2011- في تقنيات التشكيل الشعري،دار رند، ص113.
(2) ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، أطروحة دكتوراه ،مخطوطة جامعة حلب، ص95.