العلاقة بين الحيوان والإنسان لها جذور عميقة. فالإنسان في أصله حيوان، ناطق أو مفكر. غير أنه حيوان استطاع أن ينطق ويفكر، أن يعبّر عما يريد وأن يحققه. لعل البداية مع وجود الإنسان البدائي الذي توقف عن الجمع والالتقاط ليبدأ حقبة جديدة بتسخير الحيوانات لمنفعته الشخصية، فالكلب للحراسة والحصان للتنقل والثور لحرث الأرض... إلخ. لعل تلك العلاقة هي ما دفعته أيضًا لتصوير الحيوانات على الكهوف القديمة لتسجيل ما يمر به، وتقديسها مع نشوء الديانات الأقدم، حتي الديانات السماوية لم تخل من قصص الحيوانات. أما الأدب فقد اتخذ من الحيوانات أبطالاً وشخوصًا، وسرد على ألسنتهم العديد من الحكايات الأدبية البديعة، وإن كانت الكتابة عن الحيوانات بالغة الندرة فهي أيضًا بالغة التأثير، فمن خلالها تمكن المؤلف من أن يعبّر عن المتاح وغير المتاح، هنا سنعرض أبرز القصص التي اتكأت على الحيوان كبطل رئيسي ومحرك أساسي في الحكاية.
* * *
«كليلة ودمنة»: خلاصة الحكمة بالطرافة.
يحكى أن الأسكندر ذا القرنين حين غزا بلاد الشرق، وكانت الهند من ضمن تلك البلاد، عيّن أحد رعاياه حاكمًا عليهم. غير أن الهنود لم يرضوا بهذا الحاكم الأجنبي فثاروا عليه وخلعوه ونصبوا واحدًا منهم وهو "دبلشيم" حاكمًا لهم، وقد أمر الحاكم الجديد الفيلسوف "بيديبا" أن يجمع له خلاصة الحكمة بأسلوب طريف، فما كان من الفيلسوف غير أنه كتب حكايات كليلة ودمنة. وكليلة ودمنة هما حيوانان من حيوانات ابن آوي، والحكايات كلها تدور في الغابة على ألسنة الحيوانات المختلفة، وقد رجح البعض أن الكتاب يعود إلى القرن الرابع الميلادي وتمت كتابته باللغة السنسكريتية وأنه هندي الأصل بينما شكك البعض الآخر في تلك المعلومة ونسبوا الكتاب إلى عبد الله بن المفقع نظرًا لكون الكتاب في لغته العربية هي الأقدم، فكيف يكون ترجمه ابن المفقع في القرن الثاني الهجري بينما الكتاب تم تأليفه في القرن الرابع الهجري؟ وبعيدًا عن أصول الكتاب فإن العمل الذي وصل إلينا الآن زاخر بالحكايات المسلية ذات المعاني القيمة، فكل قصة تحمل في نهايتها حكمة يعقبها دعوة للحاكم، ويحتوي الكتاب على خمسة عشر بابًا، لكل باب منها يتضمن حكمة ما، فالباب الأول مثلاً، باب الأسد والثور، سنجد أن موضوعه ينطوي على الوشاية التي تفسد الصداقة، بينما الباب الثاني، باب الفحص عن أمر دمنة، فإن الحكمة منه هي المصير السيء للواشي… وهكذا.
والكتاب يتخذ نفس تقنية «ألف ليلة وليلة» من حيث أن هناك قصة إطارية عامة، بداخلها قصة تنبع منها قصة أخرى… فما تكاد أن تخرج من حكاية حتى تدخل في أخرى.
وإن كان هدف الكتاب من البداية تجميع الحكمة بأسلوب أدبي مسل، فإن الكاتب استطاع أن يحقق هدفه، وأن يقدم للبشرية عملاً أدبيًا راقيًا يشمل النصح الأخلاقي والإصلاح الاجتماعي والتوجه السياسي السليم ويعمل على تقويم الحكام والرعيّة.
* * *
«مزرعة الحيوان»: هكذا تضيع الثورات..
لا يمكن أن ننظر إلى الأعمال الأدبية بمعزل عن حياة مؤلفيها، فالكاتب كالإناء ينضح بما فيه، وجورج أوريل الكاتب البريطاني الأشهر عانى كثيرًا من الشيوعية السوفييتية، واعتبرها مضللة، تغرر بالأفراد وتستغلهم. تُنتسب «مزرعة الحيوان» إلى الأدب السياسي، وفيها يرصد تطورات الثورات -وإن كان يقصد تحديدًا الثورة الروسية- منذ اندلاع الحلم وحتى تحولها إلى كابوس رهيب. والبداية مع الخنزير العجوز ميجور صاحب الجائزة الذي رأى في منامه حلماً بالاستقلال، فأخبر به حيوانات المزرعة ومات، ولكن بعد موته تتحرر الحيوانات من استعباد مستر جونز السكير، وتطيح به وبرجاله لتصبح المزرعة ملكًا للحيوانات، ويقوم الخنزيرين سنوبول ونابليون على إدارة المزرعة، ولكن مع تطور الأحداث تتحول الخنازير إلى صورة أخرى من البشر، من الاستبداد والظلم. وتضيع مبادئ الثورة، وتندثر شعاراتها وما كان يأمل إليه كل حيوان وسط ثغاء الخراف، ليجدوا أنفسهم كما كانوا قديمًا مجرد عبيد.
* * *
«حكاية على لسان كلب»: التنصل من الأصل.
الكاتب المصري يحيى الطاهر عبد الله حالة متفردة بلا شك في الأدب العربي، وربما العالمي، يكفي أنه الوحيد القادر على حفظ رواياته وقصصه، ولعل ذلك ما أكسبه لغة شديدة الخصوصية.
وللكاتب المصري رواية صغيرة أو قصة طويلة بعنوان «حكاية على لسان كلب» والقصة تدور حول الكلب البلدي محظوظ الذي يعيش في الأرياف، وهناك يرى الكلبة لولو صاحبة الحسب والنسب فيتعلق بها ويقرر أن يهرب من أهله وأن يرحل باحثًا عنها في المدينة حيث يتعرف على نملة تكون هي مرشدته المخلصة. ويكتشف الكلب محظوظ مواهبه فيلتحق بالسيرك ليقدم عروضًا مدهشة، على أثرها ينال الشهرة والمجد والمال، ويتزوج من لولو حبيبة القلب في حفل زفاف ضخم يضم الكلاب من كافة الفصائل. غير أنه في حفل الزفاف يتنصل من أهله "البلدي" ويطردهم من قصره الكبير، ويقتل النملة... بعدها يُصاب بمرض غامض فيعيش ما تبقي من عمره على الحقن والأدوية.
قد تبدو القصة مستهلكة تمامًا، وهي أقرب إلى أفلام السينيات، وقد تكون أقرب إلى قصة عبد الحليم حافظ، وقد تكون من أقل ما كتب يحيى الطاهر عبد الله، ذلك الكاتب الذي متعنا بـ«حكايات للأمير حتى ينام» و«أنا وهي وزهور العالم».
* * *
«النورس جوناثان ليفنجستون»: أن تعيش لتطير.
يحكي الكاتب الأميريكي ريتشارد باخ في روايته الصغيرة عن النورس جون، ذلك النورس الذي يحلق بعيدًا عن السرب، فالطيران بالنسبة له متعة أو غاية المتع، ولا يقارن بأي عمل آخر، في الوقت الذي يراه باقي السرب غريب الأطوار، حتى الأب والأم، وهما شخصيتان في غاية النمطية، وفي مرة قرر جون أن يحلّق بسرعة كبيرة جدًا. غير أن مجلس السرب قرر أن يطرد جون بسبب حماقته المتكررة. وفي وحدته تعرّف على المُعلم -وهو أيضًا شخصية في غاية النمطية- الذي نصحه بأن يتبع تفكيره ليجد جون نفسه في سماء غير السماء، لها ألوان عجيبة وشموس، وهناك الكثير من النوارس التي تحيا من أجل الطيران. وكان بإمكانه أن يعيش هناك إلى الأبد غير أنه بدافع من المسئولية قرر العودة إلى موطنه على المحيط ليواصل رسالته المقدسة وليكون معلمًا لـ"فلتشر" بعدها انضم العديد من النوارس ليتعلموا من جون.. هنا تنتهي الرواية في جزئها الثالث ولكن المؤلف قرر أن يضيف جزءاً رابعاً لكتابه، وفيه تحول "جون" عبر أجيال إلى نورس مقدس.
والرواية قد حققت رواجًا هائلاً -كعادة الروايات التي تتسم بالنصائح المباشرة أو تنتمي إلى التنمية البشرية- ولكن إن نظرنا في النص ورمزيته فلن نجد أنه قدم جديداً، خاصة وأنه أفرغ المعنى الباطني واقتصره على الطيران بلا جدوي.
على أية حال فإن الأعمال الأدبية التي قدمت الحيوانات كأبطال لها توقفت عند الرمزية، وانشغلت بما ينشغل به الإنسان، ولم تعبر بصدق عن الحيوان نفسه، وإن كنت أعتقد أن الفن، والأدب خصوصًا قادر على إنتاج نص يعبر بالفعل عن بطله حتى وإن كان حيواناً.