يقدم الناقد الفلسطيني المرموق هنا رواية فلسطينية جديدة، ترهف الذاكرة العربية والفلسطينية، وتصحح المسكوت عنه من التواريخ، وهي ترتد بنا إلى ثلاثينيات القرن الماضي، ومشاركة فلسطينيين في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب الجمهوريين، وسلبيات اليسار اليهودي ودوره في تأسيس دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

رواية تفتح نوافذَ وتُحفّز آخرين

قراءة في «علي: قصة رجل مستقيم» لحسين ياسين

نبيه القاسم

 

أنْ تكتبَ رواية، يعني أن تبني عالما متخَيّلا تجعلُ القارئَ يعيش فيه وكأنّه العالَمُ الحقيقي. وأن تجعل هذا العالمَ مقبولا وممكنا للعيش لا بدّ من خلق عوالمَ أخرى رديفة تمده بالحياة وتجعله قادرا على الاستمرار والتّوهجِ والتّألّقِ، مع ووسْطَ العَوالم المحيطة به. أنْ تكتب رواية يعني أنْ تملك مفاتيحَ اللغة وجماليّاتها وأسرارَها، وأن تكون مثقّفا بما فيه الكفاية، ومُلمّا إلى حدّ مقبول بمختلف العلوم والمعارف، ومُطّلعا على تاريخ الشعوب وحضارتها، وتملك رؤية ورُؤيا تُؤثّر في قارئك لتُغيّرَ عن طريقه العالمَ والإنسانَ إلى ما هو الأفضل.

حسين ياسين ابنُ مدينة "عَرابة" أثبت منذ روايته الأولى "ضحى" (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2012) أنّه يملكُ الموهبةَ والثقافة والمعرفة، ويملك الرؤيةَ الثوريّة التي تستمدّ مخزونَها وقوّتَها من الفكر الاشتراكي الماركسي الذي كبُر عليه، وآمن به، وسار في حياته على خُطاه، والرؤيا البعيدةَ الواثقةَ من تحقيق الأهدافِ مهما بعُدَت، وتحقيقِ حلم الانسان ببناء العالمِ الجميلِ الآمنِ المتعاون الذي يسوده العدلُ والسّلام. حسين ياسين أحبّ شعبَه ورفض الظلمَ الذي يحيقُ به، والتنكّرَ لتاريخه وأمجاده ولعمليّة الطّمسِ المقصودةِ التي جرت خلالَ العقود الماضية لكل المفاخر والأعمال المجيدة التي قام بها أفرادٌ من أبناء الشعب الفلسطيني، كما أنّ حسين ياسين رفض موقفَ التّكتّم على الوقائع التاريخيّة التي حدثت، ورأى في كشفها عملا وطنيا يستحقّ عليه الثّناء.

وبحساسيّة المبدع التي يملكُها تنبّه إلى خَلل في ذكر الحقائق عندما كان يقرأ قصة الحرب الأهلية في إسبانيا بين الجنرال فرانكو والجمهوريين الأحرار من سنة 1936-1939، الحرب التي تقاطر عشرات الآلاف من أكثر من ست وخمسين دولة لنُصرة أحرار إسبانيا ضدّ دكتاتورية فرانكو. واستثارته أكثر زيارته للنّصبَ التذكاري لشهداء الحرب الأهلية من اليهود أفراد الكتيبة الأمميّة المقام في مدينة برشلونة. فقد استغرب عدم وجود ولو مناضل ٍ فلسطيني أو عربي واحد انضمّ لصوت الضمير الإنساني العالمي لنَجدة أحرار إسبانيا من الهجوم الشّرس للدكتاتور فرانكو المؤيَّد من النازي الألماني والفاشي الإيطالي، بينما الآلافُ من كلّ أنحاء العالم، ومنهم العشراتُ من اليهود من داخل فلسطين وخارجها. حاسّتُه الشفّافة لم تقبل بذلك وشكّت بخَلل مقصود يجب إصلاحُه.

وهكذا بدأت مهمّة حسين ياسين الصّعبة في تقليب كتب التاريخ والمجلّدات والوثائق وسؤال العشرات من النّاس حتى كان ووجد إشاراتٍ تُنبّهُه إلى إمكانيّة التّوصل إلى الحقيقة المخفيّة. وبالفعل نجح بعد جهد جَهيد وعَمَلِ سنوات في كشْف الحقيقة عن هويّة الأبطال الفلسطينيين الخمسة الذين ساهموا في الحرب ضدّ الدكتاتور ونُصرة الأحرار في إسبانيا إلى جانب عشرات الآلاف من الثوريين الشرفاء، وقد ذكرهم في المقدّمة وغلاف الرواية. وكان ذكر المؤرخين بشكل خاص لِـ"علي عبد الخالق" ابن قرية "الجيب" في الضفّة الغربية، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني، وأجمعوا على أنّه كان مقاتلا شجاعا وسياسيّا بارعا، قاتَل في الحرب الأهلية الإسبانية ضدّ الدكتاتور فرانكو، وسقط في المعركة، ودفن في الأرض الإسبانية مع رفيقه فوزي صبري النابلسي. وكان علي بطلَ رواية حسين ياسين.

يبدأ الكاتب قصة بطله "علي" وهو يصعد على سلّم السفينة في طريقه إلى إسبانيا لينضمّ إلى آلاف الثوّار المناضلين الذين يحاربون ضدّ الجنرال فرانكو الذي يريد التّسَلّط على حكم إسبانيا. "فإسبانيا هي اليوم ساحةُ النّضال، وساحةُ الشّرف، وهي ملتقى أحرار العالم ومركزُ ملتقى خيرة أبناء الإنسانية المناضلة ضدّ الفاشيّة والنّازيّة وموبقات الرأسماليّة".(ص9)

يصعد إلى السفينة وهو "مُثقَل بالهموم والاختناق، تتباطأ خطواتُه ، ويتصاعدُ الأسى من فؤاده كما يتصاعدُ الدّخانُ من مدينة محاصرة تشتعل بالنيران. هو في طريقه إلى الجبهة، للحرب رهبةٌ وقسوةٌ. في الحرب أنت قاتل أو مقتول. مَنْ يدري؟ ربّما يكون قاتلا ومقتولا"(ص9). ما كان يُثقل همومَه ويزيد أحزانَه ويُفجّر غضبَه وهو يصعد إلى السّفينة أنّ السّعادة كانت تفيض من وجوه رجال المخابرات، بينما الغمّ ووجعُ الحنين يكدّران وجهَه.

في الثلاثين من عمره كان "علي" في عمر "رجب" بطل عبد الرحمن منيف في رواية "شرق المتوسط" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثامنة 1991). ومثله كان الحزنُ يغمُره بينما تملأ السعادةُ قلوبَ رجال المخابرات الذين يُتَوّجون انتصارَهم بترحيل "علي"، تماما كما رحّلوا "رجب" قبله، خارج الوطن. وكما وقف "رجب"على ظهر السفينة اليونانيّة، يقف "علي" على ظهر السفينة التي ستُقلّه، إلى خارج الوطن، يستحضر، في الوقت الضائع، ما مرّ عليه في الثلاثين سنة التي عاشها. فقد عاش طفولةً صعبة حيث قَتلَ جنديّ تركيّ والده وأمّه حاملٌ به، وتركتْ والدتُه البيتَ بعد أن تنازلت عن كل شيء وعن ابنها علي ابن الشهور القليلة لتتزوّج من رجل غريب. فتبنّاه خاله وعاش في بيته كواحد من أولاده. وأخذت شخصيّة علي تفرض نفسَها على باقي الأولاد، وقوّتُه الجسدية تتحدّى كلَّ واحد، وذكاؤه الشديد جعله محورَ اهتمام الجميع. ويستعيد مشهدَ هجوم الذئب على قطيعه من الماعز عندما كان يعمل راعيا، وكيف اشتدت المعركة بين الذئب والكلب "مراد" وانتصار علي لكلبه فضرب الذئب بحجر أصابه في الصميم وقتله، والعلاقة القوية التي ربطت بينه وبين كلبه بعد هذه الحادثة (ص23-24) التي تُذكّرنا بعلاقة "عسّاف" وكلبه في رواية "النّهايات" لعبد الرحمن منيف.

وكانت حادثةُ تَحدّيه للضابط الإنكليزي الذي زار بلدته، وسرقتُه لحصانه ممّا قاده إلى السجن لقضاء ليلة ليلاء مع سجناء الحرية الذين أعجبوا بعلي وما فعل، واستطاعوا أنْ يُثيروا فيه حبّ النّضال وتحويل قوّته وضرباته ضدّ جند المحتلّ الإنكليزي. وبالفعل بدأ علي يُشارك في المظاهرات والأعمال المناهضة للمحتل ويعرف كيف يُؤلم جُندَ الحاكم ممّا لفت إليه الأنظار، وجعلت رجال المخابرات يترصّدونه ليوقعوا به.

كانت اللحظة الفاصلة في حياة علي عندما تعرّف على سعدي الذي أوصله إلى قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني لينضمّ إلى صفوفه ويصبح من مقاتليه الشّجعان. انخراطُه في الحزب الشيوعي وانضباطُه الحزبي رتّب حياتَه فترك بلدتَه "باب الثنايا" وأفرادَ أسرته ووردةَ التي أحبّ، وانتقل ليعيش في مدينة القدس، ويعمل في فرن ليكون فعّالا في العمل النّضالي ضدّ المحتل. بالفعل وجود علي في القدس فعّل العملَ النضالي وزاد من وعي الناس والتفافهم حول القيادات الوطنية، والمشارَكَة في المظاهرات ومختلف الفعاليّات، وكان علي ومعه الرفيقة "سمحا" يهوديّة يمنيّة الأصل، شُعلةَ هذا التّحرّك النّضالي، وقد ساهما أيضا في المظاهرات في مدينة يافا حتى أصبحا مَطلبَ الشرطة والمخابرات فطوردا ونفّذا أمر قيادة الحزب للانتقال إلى مدينة حيفا والاختباء عن أنظار رجال الأمن لتمرّ العاصفة. لكنّ عمل علي في سكّة الحديد وقيادته نضالَ العمال المطالبين بحقوقهم نبّه إليه عيونَ الجميع ففُصل من عمله وعاد إلى القدس ونضالاته ومطاردة المخابرات له حتى تمكّن رجالَ الأمن من اكتشاف مكانَه ووضعوه في السجن. هذه السنوات النّضاليّة التي خاضها علي صقلته اجتماعيّا وفكريّا وسياسيّا وإنسانيّا.

ويتذكّر رحلتَه إلى موسكو بقرار من قيادة الحزب للدّراسة، وما حدث له، خاصة علاقتَه مع أولغا الطالبة الروسيّة التي كانت مسؤولة عنه وعن رفاقه حتى وصولهم إلى موسكو، وكيف كان التّغيّرُ الكبيرُ في موقف علي من الحكم في موسكو والتّطبيقُ العمَلي للنّظريّة الشيوعيّة بعدما رأى الاجحافَ الكبيرَ الذي لحق بأولغا وتوقيفَها عن الدّراسة وقَطْعَ كلّ المساعدات عنها وعدم استيعابها في أيّ عمل، فترك الدّراسة وموسكو وعاد ليكونَ مع جماهير شعبه في مواجهة المحتل الانكليزي، وجَماعة اليشوف الصهيونية التي لا تكفّ عن استغلال أيّة فرصة لسرقة الأرض العربية، والتّنكيل بأصحابها. كما وصف الرّحلةَ الشاقّة الطويلةَ التي قطعها حتى وصل إلى القدس، ومروره بقرب قرية "عين نجمة" التي تُقيم فيها أمّه والتقاءه بها والتّعرّف عليها.

خصّص الكاتب القسمَ الثالث والأخير من الرواية للرّحلة الخطرة والصّعبة التي قام بها علي ورفاقه داخل الأراضي الإسبانية للوصول إلى جبهة القتال. وما جرى لهم خلال هذ الأيام من لقاءات مشوّقة مع مواطنين إسبان، والدّفء والحميميّة التي شعروا بها، إضافة إلى متابعة أخبار القتال ومن ثمّ انخراطهم في المعارك، والنّهاية القاسية التي حدثت كما يرويها أحدُ المحاربين فنعلم بأنّ علي أصيب "يوم السابع عشر من شهر آذار عام 1938" برصاصة قاتلة أثناء اشتباك مع العدو وفارق الحياة بعد يومين. ودفن في أرض إسبانيا بعيدا عن الوطن".(318)

الكاتب حسين ياسين نجح في الحصول على النتيجة التي أرادها بإثبات مشاركة مناضلين فلسطينيين في نصرة أحرار إسبانيا في حربهم ضدّ دكتاتورية فرانكو ما بين السنوات 1936-1939.

ونجح في:

* خَلق عالم مُتَخيّل ينقل بالقارئ إلى سنوات الثلاثين من القرن الماضي عندما كانت البلاد في صراع دائم وحربٍ مستمرّة ما بين الفلسطينيين العرب مقابل المحتلّ الإنكليزي للبلاد، وحركة الاستيطان الصهيوني الشرسة في رغبتها بالسيطرة على الأرض لتأسيس كيانها على حساب الشعب الفلسطيني.

* الاقتراب من السّرّ المستور في العلاقة بين أعضاء الحزب الشيوعي الفلسطيني اليهود والعرب، والانشطار الحادّ في المواقف الفكريّة والممارسة اليوميّة حيث برز للعيان انحياز الأعضاء اليهود للفكر الصهيوني، وتأييد إقامة دولة يهودية تضمن حقّ وحياة واستمراريّة مَعيشة اليهود في وطن آمن. ، وكما يرون لا غبار على فصل عامل عربي إذا احتلّ مكانه عامل يهوديّ. وإعطاء العامل اليهودي الأفضليّة في العمل والرّاتب. والتّصرّف الاستعلائي الشّوفيني، وتآمرهم الدّائم ضدّ العرب. حتى في تعاملهم مع سمحا اليهوديّة لم ينسوا أنّها يمَنيّة أدنى مرتبة من أيّة يهوديّة اشكنازيّة، ولهذا تركوها تكون مع العربي "علي" وحتى تعيش معه في غرفة واحدة في حيفا، بينما لو كانت سمحا باسم داليا أشكنازيّة لمنعوا علي من الاقتراب منها أو مسّها. وفي ثورة "البراق" انقسم رفاق الحزب، العرب رأوا في الهبّة نضالا مباركا، بينما اليهود رأوا فيها "بغروم" غير مقبول. وعندما وصف علي "وعد بلفور" بمُخطّط استعماري، قاطعه أحد الرّفاق اليهود قائلا: وعد بلفور عِلّةُ كياني وسبب وجودي هنا"، كذلك أيّد الرّفاق اليهود الهجرة اليهوديّة إلى البلاد وزيادتها (ص207-210)

* كشف حقيقة التلاؤم في المواقف بين المحتل الإنكليزي والقيادة الصهيونية ضدّ أي تصرّف أو مَطلب عربي، وهذا وضح في عمليّات عديدة شارك فيها رجال اليشوف الجندَ الإنكليز في اعتدائهم على العرب.

* تعرّض الكاتب في الرواية إلى قسوة وشراسة الجُند العرب المغاربة الذين جنّدهم الجنرال فرانكو، حاكم المغرب المستعمَرة من قبل إسبانيا، متحدّيا حكمَ الجمهوريين ورافضا له لقتال أحرارها والتّسلّط على الحكم فيها، وهذا يذكرنا بما ذُكر عن قساوة وشراسة الجند المغاربة الذين حاربوا ضدّ الشعب السوري ضمن صفوف جند فرنسا المستَعمِرة لإخماد الثورة السوريّة 1925.

* نجاح الكاتب في تَهيئة علي ليكون البطلَ المعترَفَ به من قبل الجميع طوال مَراحل حياته. فقد وُلدَ كالرُّسل والأنبياء يتيما فَقدَ والده قبل أن يولد، وتركته أمّه وهو ابنُ أشهر قليلة، فعاش في رعاية الخال الذي حضنه وتبنّاه. كان وسيما، وزادت وسامتُه مع تقدّمه في السّن، مَلكَ القوّةَ الجسديّةَ والعقلَ الرّاجحَ والذكاءَ المتميّزَ والجرأةَ والإقدامَ والتّحدّي والصوتَ الجميلَ والعزفَ على آلة النّاي، وكان بارعا في الرّقص وفنّانا في سحر المرأة وإيقاعِها في حبّه والتعلّق به. وكان ثوريّا بالفطرة، ومُحبّا للوطن وناقما على مُحتلِّ بلاده، فشارك في المظاهرات والمواجهات وأبلى بلاء حسنا، ودخل السجونَ وتحدّى السّجّان وفرض احترامَه عليه، يكره العنصريّة ويرفضُها ويؤْمنُ بتآخي الشعوب والحياة الآمنة لكلّ الناس، رفض الظلمَ وحارب مُسَبّبيه وخاض غمارَ القتال مع أحرار العالم لنُصرة أحرار إسبانيا ضدّ دكتاتورية الجنرال فرانكو.

لكنّ ما تفتقده شخصيّة عليّ إلى حدّ ما، هذه الحميميّة وشدّ مَشاعر وأحاسيس ومَحبّة الذين عاش بينهم أو زاملهم وتعرّف عليهم. فقد بقي الشخص المقَدّر والمهاب والمطلوب من الجميع، ولكنّه لم يستطع أنْ يتغلغل في أحاسيسهم ليكون واحدا منهم. حتى علاقته مع المرأة كانت مثار تساؤل، فهو يبدو شديد التّقدير والاحترام لها، كما في علاقته مع زوجة خاله وأم وردة وغيرهما، ولكنّه إذا ما أثارته غرائزه الجنسيّة تنحصر المرأة عنده في كونها الوعاء الجنسي، وكلّ ما يهمّه منها هو جسدها الجميل، وسرعان ما كان ينسى التي اعتقد أنّه أحبّ ليطاردَ الجديدة. فوردة حبّه الأوّل تركها لمصيرها وبكاء حبّها له، بمجرّد أنْ طُلب منه الانتقال للعمل والسّكن في القدس، وتوارت من ذاكرته بمجرّد تعرّفه بسمحا. وسمحا غابت وهو برفقة أولغا. حتى وهو في ضيافة زعيم عشيرة "الباثون" الإسبان لم يتورّع عن اشتهاء زوجته بعد أن سمع قصتها فتنهّد وقال لزوجها: "إنّي أغبطك كثيرا". (ص253). حبّ عليّ للمرأة دوافعه فقط جنسيّة قويّة، تسيطر عليه، وتوقِعُ المرأة الضحيّة بين يديه ممّا يُفقده إلى حدّ ما صفةَ الاستقامة التي وصفه الكاتب بها.

حتى في علاقته مع أمّه يدفعنا السؤال: كيف لم يسأل ويبحث عنها طوال السنوات التي عاشها، وفقط بمروره صدفة قرب البلدة التي تسكنها، يتذكرها ويُعرّج عليها؟ وأيّ لقاء بارد هذا الذي تمّ بين ولد فقدَ أمّه وهو ابن شهور قليلة لا يعرفها، ولا يذكر صورة لوجهها، وفجأة وجد نفسَه بقربها، وبَدَل أنْ يرتمي في حضنها ويُبلل وجهَها بدموعه، أخذ يستجوبها ويُكثر بأسئلته واستفساراته الطويلة؟

صحيح ما قلتُه في البداية "أنّ نجاح كاتب الرّواية يكون بقُدرته على بناء عالم متخَيّل تجعلُ القارئَ يعيش فيه وكأنّه العالَمُ الحقيقي. وأن تجعل هذا العالمَ مقبولا وممكنا للعيش لا بدّ من خلق عوالمَ أخرى رديفة تمده بالحياة وتجعله قادرا على الاستمرار والتّوهجِ والتّألّقِ، مع ووسْطَ العَوالم المحيطة به". ولكنْ أنْ تكون بعضُ هذه العَوالم الرّديفة زائدة وغير ضروريّة ولا تُضيف شيئا، يُفَضّل الاستغناء عنها. فمثلا قصّة سمحا وأمّها وهربهما من اليمن إلى فلسطين فيها من الفانتازيا الغريبة، فلماذا اختارت أمّها فلسطين ولم تلجأ لأيّ قبيلة قريبة أو بلد آخر؟ أم أنّ الأم البسيطة العاديّة كانت قد تشربّت الفكر الصهيوني وحبّ القدس والتّوق لأرض الحليب والعسَل، وتضمن فيها الأمان والاستقرار؟ (ص102-106). ومثلها قصّة نصري المرّ (ص109-114) وقصة بيدرو ص(248-253) ثلاث قصص دخيلة بينما أضافت قصّة "الخندرا- ألكسندرا" (83-84) عُمقا وجمالا وقيمة.

لغةُ الرواية كانت على مستويات مختلفة تبَعا للشخص المتحاوِر وللرّاوي السّارد مع السقوط في بعض المشاهد عندما ينسى أنّ المتحدثّ ليس عربيا، ويجعله ينطق بالعربية الفصيحة، ويستشهد بالأمثال والأقوال كما في حديث بيدرو زعيم عشيرة "الباثون" (ص250-251)، لكن لغة الرواية ككلّ كانت لغةً تتميّزُ بجماليّتها ورشاقتِها وسلاستِها وإيقاعاتِ مفرداتِها ومَخارجِ كلماتِها، لغةً تأخذُ بالقارئ فيشعر براحة نفسيّة ورغبةٍ في المزيد.

وبرزت في الرواية خاصيّةُ الوصف التي برع بها الكاتب حيث جعل المشاهدَ تنبضُ بالحياة وتكادُ لا تترك المتابعَ لها قادرا على التّخلّي عنها، خاصة في وصفِه لمدينة حيفا وهو يَنْشَدُّ إليها على ظهر السفينة الآخذةِ به بعيدا عن الوطن، ولمدينةِ القدس التي جعلها تنبضُ بالحركة وتُنبّهنا إلى ما يتربّصُ بها وبنا وهو يصف ازدحامَ الشوارع بمُعتمري القبّعات السوداء وسوالفَ الشعر المجدول، إشارة إلى تسلّط اليهود على المدينة.

لقد أحسن الكاتبُ في استخدامه لضمير المتكلّم لأنه يُضفي جوّا حميميّا على مُجمل المشاهد والأحداث، وأحسنَ في جعل أكثرِ من شخصية تروي وتقصُّ وتنقلُ الحدَثَ لأنَّ في هذا التّنويع إضفاءَ جوّ الواقعيّة على مُجمل الأحداث وكأنّنا بالفعل نعيش الأحداثَ في زمنها ومكان حدوثها. وكان يُفضّل لو جعل المَشاهدَ الأخيرة من المواجهات القتالية تُروى بضمير الغائب أو تركها للمحارب، رفيق علي ليروي الأحداث الأخيرة من الرواية.

رواية "علي: رجل مستقيم" تُشكّل خطوة كبيرة متقدّمة في درب إبداع الكاتب حسين ياسين، وحافزا قويّا لمبدعينا كي يكشفوا المستور، ويستخرجوا الكنوز في تاريخ شعبنا الفلسطيني.

الرامة – فلسطين