لم يحتف كاتب بحالة التبطل أو الكسل أكثر من ألبير قصيري، كأنها المواجهة الحقة للعالم. بداية من العامل، والكسول ثم صاحب الفلسفة في النهاية. فحالة التبطل خيارات مختلفة لمن يمارسونها، بداية من النوم الحزين للشخصيات الأولى، ثم نوم الكسالى الفلسفي، وأخيراً التمرد والسخرية، إزاحة عالم المهرجين تماماً، وكأنه لم يكن.

«ألبير قصيري والسخرية»

تمجيد الهامش رداً على تهافت الحداثة

محمد عبد الرحيم

 

«أهنئ نفسي كل يوم لأنني تخليت عن كل شيء. امتهان عمل، أياً ما كان هو العبودية. والمجد؟ الحقيقة، لم يكن لدي أي طموح فيه. تحتاج لروح حقيرة لتمني الشهرة في عالم غبي إلى هذا الحد. استعراض موهبة المرء أو أن تبدو مجيداً؟ أمام مَن؟ هل يمكن أن تخبرني؟». (ألبير قصيري).
على الرغم من قِلة مؤلفاته، وشهرته بأنه أكبر كاتب كسول في العالم، أو (إله الكسل)، ستظل أعمال ألبير قصيري (3 نوفمبر 1913 ــ 22 يونيو 2008) صورة حيّة لتجسيد حياة المجتمع المصري الأكثر عمقاً وصدقاً من كتابات كثيرة ادعت أو حاولت جاهدة أن تصل إلى هذه الدرجة من الصدق والوعي الفني. فقد اكتشف مبكراً ومن خلال كتاباته الأولى أن الأمر محكوماً عليه بالفشل، وأن لا سبيل سوى السخرية من كل شيء، فما الجدوى رغم مظاهر الحضارة الهشة أن يضيع الفرد تماماً ويصبح مجرد أداة أو أن يصبح الشعب مجرد كتلة من المجاذيب الموهومين. ومن هذه الرؤية التي أصبحت وجهة نظراً تأصلت في أعماله اللاحقة، خلق قصيري كائناته، وأعطاها بلا جعجعة صوتها الأكثر تأثيراً، وفعلها الأسمى، كرد فعل على كل التفاهات والموبقات، بل والخيالات التي قد تراود الحالمين الأكثر تفاهة. ومؤخراً صدر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة كتاب بعنوان «ألبير قصيري والسخرية … التهميش إجابة على الحداثة»، تأليف باسم حنا شاهين، وترجمة راوية صادق، حيث يحاول مؤلفه استعراض عالم قصيري ورؤيته لمشروعات والمقولات الكبرى، والتي بالطبع تثير السخرية الآن، لكن الرجل اكتشفها منذ أربعينيات القرن الفائت. ربما الهدوء والكسل، بل وقداسة التعطل في ظل نظام لا يعرف سوى استعراض ذاته، هما سمة قصيري ومخلوقاته، فالرجل من القِلة التي عاشت وفعلت ما تكتبه، فلا يمكن فصل هذه المخلوقات عن صاحبها.

في صحة التحديث

تتناقض صورة القاهرة التي كتب عنها قصيري في الأربعينيات وصورة المخلوقات الهائمة التي كانت تسكنها، فالميادين التي تتشابه وميادين أوروبا، تتنافى وشحاذيها المنتشرون في الحواري والأزقة، عالم الظل هذا هو الحقيقي، وهو ما كتب عنه قصيري بعد ذلك عن تلك المدينة الإسمنتية الخانقة، حيث تدور الأحداث في ما بعد تبعات السبعينيات، كما في رواية «ألوان العار». ومن منطلق مقولة قصيري في روايته «العنف والسخرية»: «فلا ينبغي أخذ العالم على محمل الجد، فهذا هو ما يبتغونه». وبذلك تصبح الشخصيات بعيدة عن أي ثورة أو معارضة، فهناك حالة من الازدراء الكلي، ليس لقوى السلطة فحسب، بل أيضاً للخطابية بوصفها ضرورة في التعبير اللازم لمحاربة هذه السلطة، فالشخصيات ضد كل من الخطاب السياسي وخطاب الاحتجاج في الوقت نفسه، لأنهم بذلك سيأخذون ما يحدث على محمل الجد، وهو ما تريده السلطة تماماً. وبذلك لا يتبقى سوى السخرية والضحك، باللجوء إلى التافه والمجاني.

عن المجتمع المصري

يستعرض المؤلف في فصل هام اختلاف قصيري عن غيره من الكتاب الفرانكفونيين، كأنرديه شديد وجوج حنين على سبيل المثال، فقد ارتبطت الكتابة لديه بنشاط القراءة، وليس كما حنين بإرادة سياسية، أو كما أندريه شديد بتساؤل لغوي. فقد قرأ قصيري في سن مبكرة للشعراء والروائيين الفرنسيين، لاسيما بودلير، الذي كان له أكبر الأثر عليه وعلى كتاباته ورؤيته التي تبلورت في ما بعد.

أما في ما يخص المجتمع المصري وصورته لدى قصيري، فقد اتفق قصيري مع حال الذين كتب عنهم، وإن انطلق المر من تناقض أدى إلى الشعور بالتهميش، بداية فهو يكتب بالفرنسية، يعيش في حي برجوازي ويكتب عن الشعب المصري، بمعنى أنه يعد كاتباً (شعبياً) يصنع أدباً في لغة عصيّة على مَن يصفهم. من ناحية أخرى يتميز قصيري عن معاصريه، سواء الذين يكتبون بالعربية أو الفرنسية بوجهة النظر التي يعالج بها موضوعاته، فهي بعيدة تماماً عن المقاومة أو الشجب، وقد اتخذ من السخرية أداة فعالة لكسر حالة الواقع وتأثيره، كما في أعمال محفوظ ويوسف إدرس على سبيل المثال. فمحفوظ سيصور المعوزين في ظلم وبؤس، ويتيح المجال لتساؤلات دينية وسياسية، بينما قصيري عن طريق السخرية والتهكم، كطريقة وجود لفهم العالم، يصور واقعاً مختلفاً على النقيض.

متبطلون مختلفون

لم يحتف كاتب بحالة التبطل أو الكسل أكثر من ألبير قصيري، ويفرد المؤلف فصلاً عن حالة الاحتفاء هذه، كأنها المواجهة الحقة للعالم. بداية من العامل، والكسول ثم صاحب الفلسفة في النهاية. فحالة التبطل خيارات مختلفة لمن يمارسونها، بداية من النوم الحزين للشخصيات الأولى، ثم نوم الكسالى الفلسفي، وأخيراً التمرد والسخرية، إزاحة عالم المهرجين تماماً، وكأنه لم يكن. وما دام عالم قصيري عالم هامشي، فكل ما تسكنه هي شخصيات متبطلة، وما يميزها هو وضعها المختار، حتى الشخصيات المحكومة بقيم السوق (العمل) فهي دوماً في تبطل عابر، ومرجو إلى أقصى حد ــ ولا ننسى شخصية الكردي في «شحاذون ومعتزون» وكيف لكونه الوحيد يحتل مكانة الموظف الحكومي، فهو الوحيد أيضاً الذي يتحدث بخطابات وشعارات رنانة عن العدالة والعمل البطولي الخارق، والمتمثل في إنقاذ حبيبته من بيت الهوى ــ حالة التبطل المنشود هذه يختتم بها قصيري الرواية نفسها، وقد تحوّل الضابط نور الدين في النهاية إلى متبطل مشارك لجوهر أستاذ الفلسفة جلسته عللى المقهى، فما العمل أمام موت مجاني لجموع البشر في لحظة ــ يقصد القنبلة الذرية ــ أي نضال مرجو، وأي شعارات أو تفاهات يمكن أن تقال إزاء حياة إنسان. ولكن هل تغيّر الأمر؟ وهل أصبح العالم أكثر تقدماً ووعياً؟ الإجابة عن قصيري منذ الأربعينيات. وفي الأخير، ورداً على سؤال قصيري لماذا تكتب؟ يجيب قائلاً «حتى لا يذهب إلى العمل مَن قرأ لي في اليوم التالي».

 

باسم حنا شاهين: «ألبير قصيري والسخرية: التهميش إجابة على الحداثة»
ترجمة راوية صادق
المركز القومي للترجمة، القاهرة 2017
187 صفحة.

جريدة القدس العربي