يرى الناقدالمصري أن المشروع الروائي للكاتب يتسم بالتجدد المستمر، ففي كل نص تزيد مساحة اللعب الفني أكثر، بطريقة تخص منطق السرد ذاته، وحيله وتقنياته، ومزجه بين التسجيلي والتخييلي، وجدله بين السياسي والفني في رواية بديعة ومتماسكة بنائياً، مصحوبة بشغف، وأسى حقيقيين، والأدهى أنها محملة بخيبات لا نهائية تخص عالما نقاومه بالانتصار للمعنى والجمال والسخرية من العالم.

محمود الورداني يسخر روائياً من العالم وقسوته

يسري عبدالله

 

على باب الخيمة التي لم يدخلها جمال الصاوي تنتهي رواية محمود الورداني الجديدة «باب الخيمة»، الصادرة في القاهرة حديثاً (دار العين- القاهرة)، لتثير في متلقيها عشرات الأسئلة حول طبيعة الاستبداد، ومن المؤسسة الصحافية الكبيرة ودكاكين الصحافة المنتشرة وتنظيم الصوت والضوء الشيوعي السري تبدأ الحكاية، التي تتشكل من ثلاث وحدات مركزية تتخذ عناوين فرعية دالة: «الصوت والضوء/ البهجة مع سبعاوي/ نوبة فوبيا». وكل عنوان يعبر عن بنية قادرة على أن تؤدي وظيفة داخل المسار السردي للرواية، فالصوت والضوء اسم التنظيم الشيوعي الذي انتمى إليه البطل المركزي في الرواية جمال الصاوي الصحافي المتورط في السياسة بحكم الانتماء الطبقي والانحياز الأيديولوجي، فأبوه كمال الصاوي أحد الشيوعيين الذين اعتقلوا مراراً وأُفرج عنه عقب تقديمه طلباً يعضد فيه نظام الحكم، وهو ما يصنع حاجزاً بين الأب والابن. وفي «البهجة مع سبعاوي» يحيل الكاتب إلى شخصيته المركزية «الشاعر عبدالرحمن سبعاوي» رفيق البطل في رحلتهما إلى ليبيا، التي تقتضي الذهاب إلى سرت ومقابلة القذافي.

وفي «نوبة فوبيا» يستخدم محمود الورداني تعبيراً أثيراً لديه «نوبة»، وقد وظّفه من قبل في روايته «نوبة رجوع»، ويستخدمه هنا على نحو مغاير، حيث يحيل إلى الفوبيا التي هيمنت عليه واقترنت بمخاوفه من وشاية سبعاوي به، وتسليمه إلى السلطات الليبية. ويتوزع المتن السردي على الأقسام الثلاثة على نحو دال، فالقسم الأول يتشكل من عشر مقاطع، تتناقص في القسم الثاني لتصبح سبعة مقاطع، ثم تصير في القسم الثالث أربعة مقاطع فقط، وكأننا أمام ثلاث حركات موسيقية تتمايز تدريجاً.

ثمة سارد رئيسي يهيمن على فضاء الحكاية، ويوظف الكاتب ضمير الغائب في السرد، بما يتيح له قدراً من المباعدة الفنية بينه وبين بطله، جاعلاً من بطله المركزي جمال الصاوي مركزاً للسرد، ورابطاً تقنياً بين الحكايات الفرعية المختلفة في الرواية، فالصاوي رابط ما بين يوسف مطاوع وعبدالرحمن سبعاوي، وكلاهما يتصارعان على مناطق النفوذ الثقافي في مصر والعالم العربي، وهما شاعران قريبان من السلطة كل بطريقته، و «توفيق الشيخ» مدير مكتب الجريدة الكويتية بالقاهرة والذي يتفرغ لدلال البضة واستنفاد الموضوعات المنشورة وكتابتها من جديد، ومطاردة المحررات الصحافيات والتهام طاقاتهن أيضاً، ليبدو الشخوص جميعهم مثل خليط مدهش، لا يقدمه الكاتب وفق زوايا نظر أحادية، فلا نظرة مثالية هنا، فسبعاوي مثلاً يبدو كريماً محباً لرفيقه «جمال»، منقذاً له أحياناً، على الرغم من كل التشوهات التي أصابته، ويوسف مطاوع رئيس التحرير للمطبوعة الثقافية «المستقبل» والرجل القريب من السلطة لا يخلو من موهبة كبرى واستثنائية في نصوصه الشعرية الأولى.

ثمة جدل بين السياسي والفني في القسم الأول من الرواية «الصوت والضوء»، وهي واحدة من البنيات الأساسية في كتابة محمود الورداني الذي يجيد صوغ الواقع السياسي جمالياً، ويشير بلا صخب إلى التحولات السياسية والاجتماعية، وإلى الإطار العام للسياق السياسي/ الثقافي: «لم يكن تعيين جمال الصاوي بمؤسسة «آخر خبر» الصحفية أمراً سهلاً على الإطلاق، على الرغم من أن أباه أفنى ما يزيد على ثلاثة عقود من عمره في خدمتها. في البداية رفض جمال أن يعمل في صحيفة حكومية، وكان متأثراً بالأفكار اليسارية التي راجت بين الشباب في الجامعات أثناء دراسته في كلية الإعلام منذ عام 1976. لحق جمال أيضاً ببدايات ظهور ثم ازدهار الأجيال الجديدة من شباب الصحوة الإسلامية،..» ( ص24)، طارحاً ذلك كله عبر المواقف السردية المعروضة، وليس خطاب السارد الرئيسي وهو يحكي، مثلما نرى في المشهد الدال لإهانة «وداد/ زوجة جمال الصاوي على يد الطبيب الملتحي، لا لشيء سوى لأنها لا ترتدي غطاء الرأس!.

في «البهجة مع سبعاوي» يبدو سبعاوي شخصية شديدة الثراء فنياً، كما أنه يمثل مركزاً للسرد في هذا االقسم، وتبدو علاقة «جمال» به شديدة التعقيد أيضاً، فيحيلان معاً إلى نماذج إنسانية تتجاوز فرديتها الخاصة لتحيل إلى ذوات جماعية مرتبكة ومعقدة أيضاً. يعتمد هذا القسم على المزج بين الواقع والحلم، الحقيقة والمتخيل، ففضلاً عن الإشارات الواقعية إلى جغرافيا سردية متعينة «ليبيا»/ الفندق، هناك توظيف لتقنية الحلم المسكون بالسخرية، من قبيل:» غلبه النوم. حلم أنه يجلس مع القذافي وسبعاوي وأمامهم حمام سباحة خال من الماء، غير انه كان ممتلئا بنسوة يرتدي بعضهن مايوهات بكيني، والبعض الآخر يرتدي أفرولات عسكرية ذات رُتب على الأكتاف، وعلى أجسام عارية تقريبا، وتبدو أثداؤهن، بل وبطونهن تعاند الأفرولات خارجة من مكامنها. وفجأة بدأ الجميع في الغناء بصوت عال. بدا لجمال أنها أغان حماسية، فالفرقة الموسيقية كانت مختفية في مكان ما، لكن أصوات الآلات النحاسية بالذات كانت تلعلع بألحان من نوع والله زمان يا سلاحي، والله أكبر ويا أهلا بالمعارك...». (ص161).

وفي «نوبة فوبيا» يمتزج الحلم بالسخرية، ويشكلان معاً التيمتين الأساسيتين في هذا القسم، وتتواتر السخرية على نحو مطرد في الرواية، خاصة في جلسات تدخين «الحشيشة» و»لف» السجائر، وتأخذ بعداً أكثر وهجاً في القسم الثالث، حيث تنتج السخرية المعنى السردي، وتصبح دافعة للتساؤل، وآلية للبوح أيضاً: «يعني يا جمال بعد كل هذا العمر، أقابل واحداً حماراً مثلك يحلم بي أنا والقذافي وحارساته المرتديات مايوهات بكيني، في حمام سباحة من دون نقطة ماء واحدة، ثم «يعمل دماغ» فيراني عميلاً للمخابرات الليبية، وجئت من القاهرة ضمن مؤامرة محكمة لتسليمه!». (ص204/205).

ثمة امرأة مغوية تلوح ثم تختفي في نصوص الورداني المختلفة، قد تكون حاملة الجرار في روايته «موسيقى المول»، أو قد تكون دلال هنا في «باب الخيمة»، دلال التي رفضت بإباء يليق بامرأة أن تستجيب لإغراءات مدير مكتب الجريدة التي تعمل فيها، وترحل عنها وعن عالم جمال أيضاً، الذي مارس الحب معها، ويظل باحثاً عنها حتى يلمح طيفها في ليبيا، غير أن زمن الوصال يبدو أنه قد فات.

يتسم المشروع الروائي للكاتب محمود الورداني بالتجدد المستمر، ففي كل نص تزيد مساحة اللعب الفني أكثر، بطريقة تخص منطق السرد ذاته، وحيله وتقنياته، ومزجه بين التسجيلي والتخييلي، وجدله بين السياسي والفني في رواية بديعة ومتماسكة بنائياً، مصحوبة بشغف، وأسى حقيقيين، والأدهى أنها محملة بخيبات لا نهائية تخص عالما نقاومه بالانتصار للمعنى والجمال والسخرية من العالم.

 

جريدة الحياة