عرف الفنّ السينمائي منذ نشأته فناّ تجدّداً كبيرا وتحوّلاًت بحسب مساراته التاريخية ساهم فيها تطويره لصيغ اشتغاله على أوجه الواقع والتاريخ والذاكرة. لقد استثمرت السينما تحولات الواقع بكل جزئياتها وتفاصيلها انتقادا من هذا الفن للحاضر الملموس وبحثا منه عن آفاق منشودة وتحسيسا بما يفيد لتحقيقها.
ومن بين هذه البلدان التي انشغلت سينماها بما يعاش فيها تونس التي مرت بمنعطفات سياسية شكلت لها صورة شكَّلت وطنيا وعالميا، هذه المراحل سجلت حضورها في ذاكرة كل التونسيين، وتحققت ذاكرة وجدت فضاءها التعبيري في الفنّ السينمائي الدي وثق تاريخ ووقائع سياسية وما له علاقة بإنتصارات وانهزامات شعب مرّ بمراحل سياسية أثرت في جميع المجالات وأثرت ايضا عربيا وعالميا لهذا السبب اخترت السينما التونسية ومناقشة علاقتها بالذاكرة السياسية.
شكلت المنعطفات السياسية مرحلة حاسمة في حياة الشعوب والمجتمعات وفي مجالاتها الثقافية والاجتماعية وقد عكست الفنون صورا لهذه المنعطفات لتكون ذاكرة كل الشعوب ومن بين هذه الفنون الفن السينمائي الذي قدم تمثيله الخاص لواقع البلدان والتحولات السياسية عالميا ووطنيا، سجلت حضورها في الفنون لتكون ذاكرة كل الشعوب ومن بين هذه الفنون الفنّ السينمائي الذي قدّم بنية واقع البلدان والتحولاَّت السياسية التي مرّت منذ مراحلها الأولى إلى يومنا هذا، فمن ناحية أولى تعيد السينما تشكيل علاقتنا بالحياة ومن ناحية ثانية تشترك مع السياسة في إدارة لما هو عام من حياتنا وفي حياتنا.
الذاكرة الإنسانية هي ذاكرة ترتبط بكلّ بكل ما يتعلّق بما سبق وكلّ إنسان له طريقته في طرح ذاكرته أو توجهها بحيث يمكن أن يكون لماضي أسعده أو أحزنه، والفنّ هو الذي يخلّد ذاكرتنا وتاريخنا فمثلا تعتبر السينما ذاكرة كلّ الشعوب تذّكرنا بما مرّت به الإنسانية من محطات وإلى ما وصلت إليه الآن سواء كانت من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية كلّها أحداث أثرت على الإنسان بما هو وجود مادّي وفكر وحضور خاص لأحداث سياسية حدّدت مصير شعوب ومجتمعات وتعتبر السياسة ظاهرة قديمة قدم الإنسان والذاكرة والذاكرة هي توثيق وتسجيل لكل هذه المراحل التي كانت لها مكانة هامّة. لهذا السبب تعدّ السينما فضاء الأحداث السياسية بامتياز وذاكرة الإنسان وما يهمّنا في هذه المداخلة تمثّل السينما ذاكرة الشعوب لأنّها الوسيلة المثلى لتذكير المجتمعات بتاريخها.
فالفنّ السينمائي دائما في قلب الأحداث وفي قلب الواقع سواء كانت أحداثاً سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية حاضرة رغم كل شيء في الفنّ السينمائي وخالدة خلود الصورة السينمائية وكما قيل وعبّر عنه: فالسينما مطالبة أمام واقع بأن تكون في قلب الأحداث ليس بالأسلوب التوثيقي والتسجيلي فقط بل بجميع أساليبها المعروفة خاصّة وأن كل نظرة تقدّم حالة معيّنة.
لهذا فالفعل السينمائي لا يصوّر إلا ما هو كائن لكلّ الأحداث التي تعايشها الشعوب سواء كان في المستوى العالمي أو على المستوى الوطني، لهذا تعدّ مرآة الواقع وأكيد ليس هناك واقع دون التحوّلات السياسية والتفاعل معها إيجابا أو سلبا لأنّ هذه التحوّلات انعكست في جميع الميادين وجدت ضالتها في المجال السينمائي التي كانت مرآة هذه المجتمعات واستحضارا لتاريخ حافلا وثريا بتطّورات عاشتها المجتمعات بظروف معينة وأساليب معينة شكّلت وبلورت صورتها على الصعيد الوطني والعالمي ما جعلنا نتساءل:
هل بمستطاع السينما أن تكون بمنأى عن السياسة؟ إذا كانت السينما التونسية مسيّسة حتى النخاع فإلى أيّ مدى نجحت لتكون ذاكرة التونسيون بامتياز؟ وهل يمكن تصوّر السينما التونسية دون مضمون سياسي؟ وإذا كانت السينما التونسية في بدايتها مسيّسة حتى النخاع، فإلى أيّ مدى نجحت في التأسيس لاستقلاليتها؟ وهل من الضرر أن يكون الفن السينما على علاقة بالسياسة؟ متى تصبح السياسة خطرا على الفن؟ ومتى يُصبح الفن ضرورة للسياسة؟ وغيرها من الأسئلة التي قد تتبادر إلى الأذهان والتي سنحاول الإجابة عنها في هذه المداخلة.
شكلت المنعطفات السياسية مراحل حاسمة في تقديم بنية الواقع التونسي وهذه التحوّلات التي مرّ بها الشعب التونسي بدءا بالاستقلال إلى ثورة الربيع العربي سجلّت حضورها فنّيا عبر السينما وأصبحت معها السينما أو الصورة السينمائية وسيلة السياسي للتأثير في الشعب ووسيلة السينمائي للتعبير والنقد والتوثيق ما يعني أنّ الفيلم السينمائي وثيقة لتاريخ السياسة ونقدها بهدف بناء مستقبل سياسي أفضل ووثيقة للفعل الإبداعي السينمائي في آن واحد.
تعدتبر السياسة ظاهرة اجتماعية والسينما تعبير عن الظواهر الإجتماعية أو كما يقول الباحث مصطفى أبو علي: "السينما فنّ جماهيري إلى أبعد حدّ بمعنى أنّها قادرة على الإتصال بالجماهير، قادرة على أن تتحدّث بلغتهم، قادرة على أن تنقل الواقع إليهم".
كما يُعَدُّ التفكير في علاقة السينما التونسية بالسياسة ضربا من التفكير في علاقة السينما بالحداثة السياسية من ناحية لأنّ السينما كما يقول الباحث الفرنسي دومينيك شاتو: "فن الحداثة ولد بفضلها ومعها الفنّ السابع يوقظ إشكال القلق نفسه، ويثير إشكال الحماس نفسَه كذلك".
مرَّت الأحداث السياسية في تونس بعدّة مراحل شأنها شأن بقية بلدان العالم، حيث بلوّرت صورته وطنيا وعالميا وهذا ما انعكس في السينما التونسية التي قدّمت هذه الأحداث بكل مراحلها، من مرحلة المقاومة ضد الاستعمار والاحتلال تليها مرحلة الاستقلال وبناء الدولة الحديثة المتمثّلة والمختزلة في الزعيم الحبيب بورقيبة الزعيم الواحد الأحد والمجاهد الأكبر والأب الروحي الذي خرج بتونس من فترة المقاومة إلى مرحلة بناء الدولة الحديثة حيث تسمى هذه المرحلة بمرحلة السينما المدّعمة من طرف الدولة كفيلم الفجر لعمار الخليفي الذي صوّر مراحل المقاومة وسرد لنا فترة مرور المجتمع التونسي من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة الاستقلال، والتحرّر ويعدّ هذا الفيلم من أولى الأفلام التونسية ويُقصد بعنوان الفيلم العهد الجديد، وفجر السينما التونسية وفجر لسياسة أريدت لها أن تكون حداثية وفق ما أكده الباحث التونسي الهادي خليل من خلال قوله: "هكذا انخرط المخرج عمر الخليفي في معسكر السلطة عن طواعية وفي المشروع التحديثي البورقيبي لكن دون أن يكون مجرد بوق دعاية للنظام البوقيبي مثلما ما يقال ذلك بكل بساطة".
وهو ما يعني اهتمام الحكومة التونسيّة في تلك المرحلة بالثقافة السينمائية الجديدة الداعمة لإبراز صورة النضال التونسي أيام الاستعمار الفرنسي، فبرزت هذه المرحلة أيضا في فيلم آخر لعمر الخليفي بعنوان الفلاّقة الذي سرد مراحل المقاومة وما عاناه المقاومون للوصول إلى مرحلة الاستقلال، وقد عبّر عنه الناقد التونسي محمود الجمني من خلال قوله: "ما بين سنوات الإستقلال وإلى غاية بداية الثمانينات عرفت السينما التونسية أكثر من منحى مشترك في فيلم واحد"، فنجد مثلا سينما النضال الوطني، التي برزت خاصة في أفلام عمار الخليفي الفجر، والفلاقة والتي تبرز دور الدولة في دعم السينما فكانت أعمال عمار الخليفي سينما السياسة الرسمية، وسينما الزعيم الرمز، من هنا كان فيلم الفجر طريقة في تفسير وضعنا في العالم، بداية خروج شعب من لحظة الاستعمار إلى لحظة الاستقلال، هي سردية السلطة قبالة سردية الفلّاقة بكل ما تعنيه كلمة فلاّقة من تمرّد على السلطة وحضور خارج أطرها الرسمية.
جاءت المرحلة الثورية والمعارضة لجيل جديد من المتمرّدين والمعارضين يعتبرون من أهل العصيان والثورة والتمرد على السياسة والنظام القائم آنذاك من أمثال النوري بوزيد، ورضا الباهي، وحمّودة بن حليمة وعبد اللطيف بن عماّر: مرحلة أجهضت صورة الدولة الحديثة وصورة الزعيم المثالي باني الدولة الحديثة لتبرز لنا مرحلة جديدة من مراحل الاعتقال والتعذيب والسجون الذي عرفه شباب تونس من المعارضين لسياسة الدولة فجاء على سبيل المثال الفيلم الوثائقي حنضل لمحمود الجمني، والفيلم الروائي صراع للمنصف بربوش ليسرد لنا معضلة التعذيب التي انتهت إليها الدولة الحداثية وفيلم العتبات الممنوعة لرضا الباهي أكثر الأفلام تحد لنموذج الزعيم والأب المحرّر والقائد والمجاهد الأكبر.
و تلت هذه المرحلة مرحلةُ التحوّل المبارك مرحلة السابع من نوفمبر التي انتهجت نفس مسار سابقتها كانت تغيير في العنوان لكن المضمون واحدا فمصير كل من يعارضها السجن والتعذيب والاعتقالات هذا ما سرده فيلم صفائح من ذهب للنوري بوزيد الذي تعرض بدوره للسجن بسبب توجهاته الفكرية اليسارية هذا الفيلم يروي معاناة يساري اعتقل وعذّب ودفع عشر أعوام من عمره من أجل تحرير الآخر، فلا الآخر اعترف بجميله ولا الدولة سامحته ما يعني أن الفيلم سرد الصراعات الفكرية التي مرّت بها البلاد التونسية بين يميني ويساري في ظلّ سياسة الدولة آنذاك وما آلت إليه كل واحدة حتى فيلم الحلفاوين أو كما يسمّى عصفور السطح الذي يعد فيلماً اجتماعياً وعلى الرغم من حداثته النسبية إلا أنّه كان مسكوناً كالعديد من الأفلام التونسية بمشكل السياسة والسلطة ومشروعيتها وممارساتها ومن هو أحق بها، فالسلطة هوس جماعي يخترق الأفراد ويشغل الجماعات والمجتمعات وليست شأناً وطنياً بل هوسا عالميا ففيلم الحلفاوين سجلّ بعض المواقف السياسية أو من ممارسات الساسة على الشعب نذكر موقفا سياسيا على سبيل المثال:
موقف الممثل صليح (محمد ادريس) الذي محى من الحائط القائد الأوحد وكتب مكانها الشعب باعتباره مصدر كل سلطة وهو ما أدَّى إلى إيقافه من قبل أعوان الأمن وسجّل ثورة بعض الطلبة الشباب على الوضع ووثق ظاهرة الخوف التي عانى منها التونسيون وفيلم صمت القصور للمخرجة مفيدة التلاتلي التي سردت الحقبة الأخيرة للبايات والسياسة التي انتهجوها وما عاناه خدم القصر من استعباد جنسي وحفلات ليلية واهتمام بمتعهم دون الاهتمام باحتياجات الشعب أو ما يعانيه من أزمات على جميع الأصعدة وبعد سنوات من مراحل سياسية مرّت بها البلاد كأني بنبوءة فريد بوغدير تتحقق بأن يكون الشعب مصدر كل سلطة، تنبأ في فيلمه الحلفاوين لثورة وانتفاضة شعب تعب من السكوت والخضوع والخوف ليثور في 11جانفي 2011 لتأتي المرحلة الأخيرة مرحلة التمرّد والثورة.
احتفلت السينما التونسية بالثورة وأحداثها وما عكسته من حرية للتعبير، هاته الثورة التي سمّيت بثورة الياسمين أو ثورة الربيع العربي التي فتحت حرّية التعبير أمام الفنان والسينمائي أبواب الإبداع وهذه الحريَّة إكتسبت إلا بعد الثورة لأنّ سياسة الدولة لم تكن تسمح لأي نوع من الحرية بل كل انتقاد للواقع التونسي يواجه الإعتقالات والتعذيب والترهيب والسجون وكل أنواع العنف.
تناولت الأعمال الفنية لاسيّما السينمائية منها بعد الثورة تفاصيل ما عاشه الشعب التونسي في الفترة التي سبقت اندلاع شرارة الثورة ومحاكاة لما رافقها من ظواهر سياسية واجتماعية وثقافية وحرصت على إبراز معاناة الشباب في مجتمع نخره الفساد والسلطة المستبدة مبرزةً تجاوزات السلطة الحاكمة والمؤسسات العمومية وكشفت الأفلام التونسية فيها عن جوانب مثيرة لما عاشها الشعب التونسي بكل فئاته الاجتماعية وفئاته السياسية.
هكذا برزت "الثورة" في الأعمال السينمائية التونسية لتصوّير حدث الإطاحة بالنظام الذي شكّل منعرجًا في حياة الشعب التونسي من بينها فيلم "على حلة عيني" للمخرجة ليلى بوزيد الذي تناول قصة شابة تونسية ترغب في الانضمام لفرقة موسيقية مستقلة ما أقحمها في صراع مع السلطات التونسية بسبب مضمونها ووثقت كاميرا المخرج التونسي الشاب مراد بالشيخ، عبر فيلم "لا خوف بعد اليوم"، تفاصيل الثورة التونسية وشجاعة أبناء بلاده في إسقاط النظام الحاكم وكسر حاجز الخوف.
وكان للسينما الوثائقية أيضا نصيب من نسمات الحرية، فجاء فيلم "كلمة حمراء" للمخرج إلياس بكار الذي تناول كيفية التحرّر التدريجي لاكتساب "حرية التعبير" في شوارع تونس العاصمة والمدن الداخلية وفيلم رضا التليلي "ثورة غير درج" (ثورة إلا 5 دقائق)، و"تالة حبيبتي" للمخرج الشاب مهدي الهميلي، "غدوة حي" للطفي عاشور، و"زيزو" لفريد بوغدير، كلّها أعمال تناولت الثورة وتأثيراتها السياسية والنفسية في الشعب التونسي والعالم العربي. وسجّل فيلم محمد الزرن "ارحل" حيثيات الثورة وما عاناه الشعب من "ظلم واضطهاد وتهميش " وخوف فيلم وثق كل ر ممارسات الساسة في العهد السابق الذي لم يكن فيه مكان للكلمة الحرّة.
لتكون السينما التونسية ذاكرة كلّ التونسيين ذاكرة لكلّ المنعطفات السياسية ولكلّ أحداثها وتفاصيلها وثّقت وسردت لنا مراحل المقاومة ثمّ الاستقلال ثم بناء الدولة الحديثة ثم مراحل الاستبداد والاستفراد بالحكم، مراحل الاعتقالات والتعذيب الذي تعرّض له كل من عارض ممارسات الساسة أنذاك ومواصلة نفس السياسة مع بن علي الذي انتهج سياسة الصمت الإجباري التي عاشها كلّ التونسيِّين في ظلّ حكمه وصولا إلى ثورة 2011، كلّها مراحل سجَّلت حضورها في السينما التونسيَّة.
وبذلك بدت السينما التونسية ذاكرة سياسية بإمتياز، ينما سجلت أهّم محطات مصيرية سياسية في حياة المجتمع التونسي هذا ما عبّر عنه وأكدّه الأستاذ والناقد التونسي الهادي خليل من خلال قوله المهم أن السينما التونسية قد أثبتت خلال فترات مصيرية من تاريخ بلادنا السياسي والاجتماعي أنها قادرة على الصمود والتحدي وقادرة على التعبير.
شكلت المنعطفات السياسية مراحل مهّمة على المستوى العالمي وانعكست على المجتمعات وفي جميع الميادين خاصّة في المجال السينمائي بحيث أصبحت المراحل السياسية تُمثِّل جوهر المضمون السينمائي ما أسس لوجود سينما سياسية وعلى سبيل المثال التعبيرية الألمانية التي تعدّ التيار الأول أو المدرسة الأولى في تاريخ السينما العالمية وثقت معاناة الشعب الألماني إثر ويلات الحرب العالمية وإنعكاس الدمار النفسي والاجتماعي والاقتصادي ما جعل المجتمع يعيش حالة من السوداوية والتشتت والقلق والخوف: فقد جاءت التعبيرية انتقادا لسياسة جعلت من المجتمع يعاني.
أماّ الواقعية الإيطالية فقد سردت تفاصيل معاناة المواطن الإيطالي إثر انهزام إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، وإنعكاساتْ السياسة التي أثرت على المجتمع سلبيا وعصفت به وعرت معها السياسة الفاشية التي سيطرت على كلّ جوانب الحياة ومن الأمثلة الكثيرة حتى أنّ بعض التجارب العالمية اتخذّت من السياسة تيّاراً فنّياً سمّي بالسينما السياسية أو السينما الثورية في روسيا (التحاد السوفياتي سابقا) التي أرست أسسها على يد مخرجين كبار مثل سيرغي ايزنشتاين ودزيغا فيرتوفو وغيرهم الذين اتخذوا من هذا النوع مبحثاً وجودياً وفكرياً تناوله السينمائيون والمفكرون لتعبّر السينما عن قلق الإنسان ومعاناته من هذه السياسات وانتهاكاتها.
فمع السينما أصبحت المراحل السياسية مادّة ومعطى للبناء السينمائي، ومعطى للبناء الفكري ومعطى للبناء النقدي لأنّ السينما تُعدُّ ا الفضاء التعبيري الأكثر حرّية والأكثر جرأة متجاوزين كل مظاهر القمع والعنف والخوف الذي أصاب العالم بل أصبح تحدّ لقدرة الفناّن على التحرّر من كل أشكال السلطة وأصبحت لا سلطة فوق سلطة الفنّ وجسدت السينما كلّ التحوّلات السياسية التي كانت جوهر ومادّة فعلها الإبداعي ونقدها بهدف إصلاحها بحيث تحوّلت هذه المراحل مع السينمائي إلى لغة فنّية وأداة تعبيرية يمرّر من خلالها السينمائي أفكاره وهواجسه ووطموحاته. وأصبحت الصورة السينمائية القوّة التي يخترق من خلالها الفنّان كل الحواجز التي تفصله على حقيقة واقعه وعن حقيقة نفسه.
وبما أّن السينما هي المكان الوحيد الذي تتقاطع فيه وحوله كل الممارسات الفنّية التي أصبح التاريخ السياسي معها موضوعاً ومفهوماً وصيغة تعبيرية في العملية الإبداعية التي عملت على كسر الحواجز القديمة واعتبرت المراحل السياسية في السينما العالمية أو السينما التونسية مادّة معظم التجارب السينمائية لأنّ كل مرحلة سياسية تاريخية لها مؤثراتها وانعكاساتها في جميع المجالات وآثارها على المواطن، فلم تكن هذه التجارب سوى رمزٍا للتوتر وقلق المجتمعات من هذه الظروف بل على العكس كانت إشكالية السينمائيين أساسا في ما يمثله حضور هذه الظروف وتأثيرها ليست مجرَّد توثيقا لهذه المراحل مادّيا أو لما حصل في كل فترة ما وهذا ليس هاجس السينما التونسية فقط بل هاجس السينما العالمية التي كانت هي أيضا انعكاسا لما عانته الشعوب من اضطرابات أثرت على مظهرهم وأحلامهم وتصوّراتهم.
برزت الأفلام السينمائية ذات المضامين السياسية تحمل من القلق والسوداوية ومن بشاعة المراحل السياسية التي خلفت الحزن والانهزام والتشتت ما جعلهم يصرخون من رحم المعاناة فالسينما وثقت كل التجاوزات التي مارسها السياسيون والتي عانى منها ليس الشعب التونسي فقط بل شعوب العالم ولكن في أزمنة متفاوتة انعكستّ في الأعمال السينمائية التي لم تهتم بتجميل الواقع ولا بتشويهه بل بتوثيق الأحداث بهدف إصلاح هذه الممارسات. لهذا كانت السينما ذاكرة الشعوب وتاريخها وخير شاهد على ما مرّت به وثّقت كل المراحل السياسية عبر الصورة التي مثلت منعطفات مصيرية في التاريخ العالمي لظروف التي عايشتها المجتمعات في العالم.
سجلّت السينما التونسية المراحل السياسية التي أثرّت في الشأن العام ليصبح تاريخنا السياسي هو المادّة التي يعمل عليها الفنّان والخامة التي تحمل الأفكار متجاوزين كل الحدود ليقدّمه السينمائي للفعل الإبداعي وتصبح وسيلة السينمائي التي تروي تاريخنا السياسي وما عايشه المواطن التونسي في كل هذه المراحل هي المنعطفات السياسية ذاتها جوانب لما عايشته معظم بلدان العالم وأعتبرت هذه المراحل الأدّاة المنفذّة للأفكار السينمائي العالمي أو السينمائي التونسي. هذه المراحل دفعت بالفنّان للغوص في أعماق ما عاناه الشعوب في خضم هذه السياسات وتشكيلها سينمائيا لتصبح المراحل السياسية مدرك للمعرفة السينمائية ورهان البحث السينمائي ولغة الصورة السينمائية التي رصدت كلّ ما عايشه المجتمع التونسي بصفة خاصّة في السينما التونسية.
هذا ما شكّل جسور التواصل وهمزة الوصل بين السينمائي والمشاهد، لهذا يمكن القول بأنّ السينما التونسية هي سينما سياسية أو مسّيسة حتى النخّاع لأنّ جانبا كبيرا منها يعدّ ذات مضامين سياسية سواء كانت بالتمجيد أو بالنقد أو بالتمرّد والثورة أو بمعنى أدّق كانت السينما التونسية ذاكرة سياسية بامتياز. وهذا النوع من السينما التي لها علاقة بالسياسة لم يكن شأناً فنّياً وطنياً فقط بل كان أيضا شأن إبداع عالمي.
جعلت السينما من هذه المراحل التاريخية السياسية مادّة طيعّة لفعلها الإبداعي سواء كانت هذه المادّة وظفت لخدمة السلطة وتمجيدها أو لنقدها والتحرّر منها والتمرّد عليها متجاوزين كل مراحل الخوف والقمع والترهيب التي عانى منها الشعب التونسي والتي رافقتهم طويلا.
شكلّت المراحل السياسية مادّة الفعل الإبداع السينمائي العالمي والوطني وذاكرة الشعوب ونقطة التحاور والتفاعل والتشارك وأداة تواصل بين السينمائي والمشاهد. شكّلت هذه المراحل علاقة الأثر وتأثير وتصبح الصورة السينمائية عمل بحث دائم وذاكرة تاريخية تلامس الفكر وذاكرة جمالية تلامس العين ذاكرة متجدّدة بتجدّد المراحل وهذا هو غاية الفنّ هي خلق معادل معنوي يلامس الفكر ومعادل جمالي يلامس العين وهذا التفاعل بين السينما والسياسة على خلق صورة فنية تعادل بين المعنى والدلالة، بين الفكر والجمالية هذا ما عبّر عنه كاندنسكي بقوله: فإن الغاية الأسمى للصورة الفنّية هي خلق معادل معنوي ومادّي ينشط فيه الفكر والوجدان وتتحقق به تلك الرغبة في تجاوز الهنا والآن نحو عالم المتعة الجمالية واللذة الروحية" بحيث لا وجود لصورة سينمائية دون واقع، ولا وجود لواقع دون أحداث سياسية ما يؤكد العلاقة بين الواقع والسينما علاقة أبدية وأزلية فكلّ منهما يغني الآخر بخصائصه لتكون صورة ثرية ذات بعد فكري وجمالي.
هذا التداخل بين السينما والواقع الذي لا ينفصل عن الأحداث السياسية تمثّلت في العلاقة المعرفية والجمالية التي تتجلى في التعبيرية البصرية التي تتمظهر في الوقوف على العلاقة بين ما هو سينمائي وبين ما هو واقعي، هذا التبادل بين السينما والواقع أعطى ثراء للصورة السينمائية على المستوى الثقافي وبعدا رمزياً على المستوى الفكري وبعدا جمالياً على المستوى الفنّي لأنّ غاية السينما التونسية ليست تشويه الواقع من خلال عرض هذه المراحل بل على العكس يستثمر كل تحوّلات الواقع بكل جزئياته وتفاصيله بهدف إصلاحه وتحسينه وإيجاد حلول لها وهذا ما يصبو إليه كل مبدع تونسي وعالمي لأنّ كل عملية إبداعية تبدأ مع الإدراك الحسّي للواقع والواقع لا ينفصل عن الأحداث السياسية:هكذا تكون السينما ذاكرة الشعوب والسينما التونسية في جانب منها ذاكرة سياسية بامتياز.