يرسم القاص العراقي مناخاً حياً لحياة من يقضي عمره في المنفى فيجد نفسه على حافة العمر وهو لم يزل يحلم بالعودة إلى وطنٍ صار مستحيلاً، فيصاب بمرض الوحدة السابق لأغماضة العينين، من خلال سرد متأني ولغة رشيقة تهمس جملها همساً، يشكل بنيتها السائق الذي ينقل المغتربين إلى المستشفى الذي نرى بعينيه من خلال الرواي العليم.

كرسي مارلون

حـيـدر عـودة

 

1

نحو الجهة المقابلة لمتجر عربي مازال مغلقا، رفع سائق الأجرة رأسه وهو يهم بإرجاع ِ خرطوم مضخة البنزين إلى مكانه ويغلق غطاء بنزين سيارته بإحكام، ثم يعاود النظر إلى رجل بغدادي كبير السن، يرتدي معطفا رماديا وبنطلونا أسودَ ويداعب خرزات مسبحته في مشهد يكرر نفسه كل يوم، مثل حياة ثانية يعيشها بسرية. يقطع الشارع صباحا رافعا رأسه إلى الأمام، كأن يدا خفية تدفعه باتجاه واحد. يمرُّ على متاجر عربية تنتشر على طول جانبي الشارع الرئيسي في المدينة، يطالع حروف أسمائها العربية البارزة وإعلانات الأسعار المخفضة. ثمة مطاعم أيضا ومحال حلاقة وبعض المقاهي. يتوقف قرب إحدى المتاجر، ثم يروح ويجيء مثل نمر في قفص. حركة سيره تبدو متماهية مع حركة أصبعيه في إيقاع واحد وهي تفلت خرزات المسبحة لتسقط على بعضها البعض في نهاية الخيط المربوط بها. يكرر الحركة، وقد يتبعها بهمهمة خافتة من بين شفتيه، ثم يدير رأسه في التفاتة متقطعة كلما مرّت سيارة مقتربة منه أو مبتعدة، كأنه ينتظر شخصا ما.

2

ينطلق سائق الأجرة بسيارته التي تشبه حَدَبة سُلحفاة وهو بداخلها يدور على نفسه بإيقاع بطيء مثلها. يفكر في تلك الحَدبة، كأنها الحياة وهي تطوي الصور والأحداث ثم تحفظها مثلما يحفظ موظف الأرشيف ملفات الناس، فتمر أزمنة مرصوصة في شاحنات تطوي المحيطات وتعبر الطرق الوعرة، غير معنية بنشرات المناخ وأخبار الحرائق. وتعدو خيول قوية من حوله وتتقافز الأرانب السريعة قبل أن تدهسها المركبات على طرق الحقول الترابية. ثمة مركبات صغيرة تمرُّ أيضا، يقودها أناس أنيقون يتوجهون لأعمالهم اليومية في قلب المدينة، غير عابئين بمنظر الطرق المتشابكة بحدَّة وانعكاسها على واجهات البنايات الكبيرة. تتراجع سيارته، فهي لا تأكل من الأسفلت كثيرا، ولا تقوى على السير بالخط الأول. مازال مأخوذاً بصورة الرجل الذي يتأمل حياته وقد بدت مثل خيط دقيق سرعان ما يتلاشى في نهاية الغروب، مثلما يتلاشى خيط دم في الماء. أيُّ حياة عاشها ذلك الرجل؟ وكيف انتهى وحيدا في مدينة واسعة وموحشة كهذه؟ حياة تشبه شطيرة البيتزا، تبدو من الوهلة الأولى كأنها قطعة واحدة، ما أن تأخذ قطعة منها حتى تُقطع إلى أجزاء، مثل حياة ساقة الأجرة تبدو مقطعة أيضا دون أن يشعروا بها، تخفق قلوبهم بالفقدان والسأم وهم ينجذبون إلى لغة مشتركة بلا وعي، متوهمين أن أوطانا بعيدة يمكن أن تُستعادَ بعد أن طووا آخر ذكرياتهم فيها.

3

منذ ثلاثة شهور وهو يستيقظ مبكرا، بعد أن عمل في شركة لنقل مرضى الحالات الخاصة. يتوجه بسيارته لنقلهم من أماكن سكن متفرقة إلى المستشفيات أو العيادات المتخصصة، بالإضافة لرحلة ساحل "لاهويا" شمال المدينة لمرة واحدة في الأسبوع، بينما بقية الأيام ينشغل معهم في مراجعات وعلاجات هنا وهناك. يبدأ بالسيد وليد مسعود الذي وصل المدينة منذ عام، ويقيم في سكن خاص بكبار السن في مدينة "إلكهون"، يتحدث الرجل ببطء وينصت بعيون مفتوحة تنغلق بين الحين والآخر، كأن غيمة من صباح شرقي بعيد ما زالت تعلقُ بجفنيه. يُلقي على السائق التحية بلهجة مصرية ريفية: "كِيفَك يَخُوي؟" فيرد عليه مبتسما: " كويِّس". ظنه مصريا أول الأمر، إلى أن أخبره لاحقا أنه عاش أربعين عاما في مصر، يعرف حاراتها ويتذكر لياليها. كان ذلك عندما هاجر من بغداد في بدايات الستينيات ولم يعد إليها أبدا. يسأله السائق: "هل قرأت رواية "البحث عن وليد مسعود؟"، يرد عليه وهو يضحك: "أنا دا هو وليد"؛ فيضحكا معا. بعدها يصمت ويلف نفسه بلحاف خفيف حمله معه، ساندا رأسه جهة النافذة وينام. يتوجه بالسيارة شمال غرب المدينة، وخلال ثلاثين دقيقة أو أكثر قليلا، بسبب الزحام المستمر يصل إلى السيد "كارلوس" المكسيكي، الذي يستطيع أن يقول: "صباح الخير" بإنكليزية تخرج خجولة وخافتة قبل أن يطرق برأسه دون أن يبوح بشيء ما، ويظل نائما طوال الرحلة التي تستغرق أربعين دقيقة. ثم يتوجه إلى أقصى الشمال الشرقي لنقل السيدة "كارين" وابنتها ذات الستة عشر عاما، المصابة بالفشل الكلوي. في كل مرة تركب فيها معه تكون صامتة، إلى أن تنزل من السيارة، مع أنها بين الحين والآخر تتحدث بلغة إسبانية مع ابنتها وهي تأكل سندويشات الرزّ الممزوج باللحم المفروم والصلصة الحارة. بعد خمس وعشرين دقيقة باتجاه الجنوب الشرقي يصلون إلى ساحل "لاهويا" المطل على محيط "الباسِفك"، وبعد الإنتهاء من الإجراءات الروتينية للتأكد من هوية المرضى والمرافقين من قِبل استعلامات المشفى يصعدون إلى الطابق الثاني، حيث الصالة المخصصة للتأمل التي يوجد فيها ما يقرب الثلاثون مريضا، يجلسون أو يتحركون أو يحدقون في منظر السماء المتصلة بالمحيط، وفي منظر تكسِّر الأمواج على الصخور قبل أن تمتصها الرمال، ثم تعود تلفظها من جديد. تبدو الصالة كصحراء معلقة على قمة جبل غير مرئي، يستعيد المرضى فيها ذكرياتهم وصورهم الأولى، والأحداث المروعة للتخلص من آثارها عبر التأمل في مشهد البحر وغروب الشمس، كأنهم ينزعون جلد أيامهم القديمة ويرتدون أخرى أقل قسوة منها. صوت البحر الذي يصدح من مكبرات صوت صغيرة الحجم وزعت على أركان الصالة أو ثبتت في السقف يمنحهم نوعا من اللذة والاسترخاء. تمتد الصالة على مساحة المشفى وقد أحيطت بنوافذ زجاجية متصلة مع بعضها وتطل على جهة البحر. يدخل السيد "كارلوس" أولا بخطوات سريعة نوعا ما، ثم سرعان ما يتخذ مكانا له قرب إحدى النوافذ ويظل يحدق في المدى الأزرق من أمامه. أما السيدة "كارين" فتترك أولا ابنتها في غرفة خاصة، أُعدت لتنام فيها، ثم تدخل لوحدها، تقضي بعض الوقت بالغناء بإسبانية واضحة أو تتحدث مع المرضى. بينما السيد وليد يتقدم بهدوء وارتباك كأنه يمثل على المسرح للمرة الأولى، ملتحفا بلحافه الخفيف، ويتوجه مباشرة إلى إحدى الزوايا البعيدة عن الضوء. عادة ما كان يبقى في المكان لمدة ساعة واحدة على الأقل، خشية أن يقرر أحد المرضى أن يعود لسبب أو لآخر. يقضي الوقت متجولا داخل المشفى الذي يشبه بيوت الأثرياء، ثم ينتهي عند مكتبة غرفة الضيوف في الطابق الأرضي. يطالع الكتب والمجلات المرصوفة بعناية على رفوف طويلة، يتفحص عناوينها بسرعة، ثم يعود ويجلس عند إحدى الطاولات. سقطت عيناه على كتاب مفتوح أمامه، التقطه وأخذ بتصفحه دون اهتمام. كان الكتاب يتحدث عن تاريخ المشفى، وفي الجزء الأخير منه، ضمَّ صورا للمدينة في أزمنة مختلفة. أما الصورة الأخيرة في الكتاب، فكانت بالأبيض والأسود لرجل بدين في الثمانين من عمره، يجلس على كرسي وثير في شرفة عريضة ويحدق في البحر الواسع أمامه. تحت الصورة كُتِبَ التعليق الآتي: "مارلون في إحدى جلسات التأمل للعلاج من مرض الوحدة، الذي كان يعاني منه أشد المعاناة في سنواته الأخيرة. التقطت هذه الصورة قبل وفاته بعام واحد، حين أوصى بتخصيص بيته هذا مكانا لعلاج المصابين بذات المرض أو الأمراض المشابهة". أعاد الكتاب لمكانه وقرر أن يكمل جولته حول البيت. كانت السقوف قد رصفت بالقرميد الأحمر، ومن الداخل أسندت بجسور خشبية متقاطعة ومتداخلة ببراعة، بينما طليت الجدران باللون الأبيض وزينت الممرات والمداخل بصور المدينة القديمة ولوحات تصور الطبيعة والبحر، وبعض مشاهد الحياة اليومية قبل أكثر من أربعين عاما.

4

  • البطاقة الخاصة بالضيوف وخرج متوجها نحو مركز المدينة، حيث تعج الشوارع بالكثير من الناس والسياح القادمين من خارج المدينة، أو من الدول القريبة، أو من أوروبا والخليج العربي. ثمة متاجر صغيرة لبيع الأعمال الفنية لفنانين مشهورين، ومحلات أخرى بواجهات زجاجية عالية لبيع السجاد الإيراني الفاخر، فيما توزعت متاجر صغيرة للملابس والمجوهرات، وانتشرت مطاعم الأكلات البحرية والمكسيكية والإيطالية على طول الشارع الرئيسي، الذي ارتفع عن مستوى سطح البحر. وصل إلى مقهى يدعى "ليفينك روم"، طلب كوب قهوة صغير وجلس في الخارج. فكر في صورة الرجل الجالس على الكرسي في ذلك الغروب الساحر، حيث لم يكن يظهر منه في الصورة سوى خيط من ضوء نحيل تركه الغروب يدور حول ملامحه بدقة، اليدان تستقران على مسندي الكرسي دون أن تمسكا بهما، ثمة نقطة بيضاء رسمت على عينه اليسرى، تتصل بنقطة أخرى مفترضة في أفق مجهول أمامه، كأنها لحظة اكتمال تأمل يوم آخر من الحياة، يستعيد فيه ما يستطيع تذكره. ثمة شيء مختلف في ملامحه، الابتسامة المميزة التي تشبه ابتسامة اطمئنان لامرأة لا تفكر في الغد كثيرا وقد تلاشت مع عتمة خفيفة سقطت على نصف وجهه وحالت دون أن يتبينه جيدا.

"من يكون يا ترى؟" ردد مع نفسه.

5

انقضت ساعات التأمل للمرضى، وعاد قبل الساعة الخامسة بعشر دقائق – وهو الوقت الذي تنتهي فيه الجولة- وانتظرهم عند مدخل المشفى المزين بسندانات كبيرة، مليئة بأنواع مختلفة من الزهور الشوكية. ما زال يفكر في صورة الرجل الغارق بالظل، تملأه رغبة الوقوف في ذات الشرفة والجلوس على الكرسي نفسه، ربما أراد القبض على شعور مشابه، أو رغبة في تصديق الحدث. خطى نحو الباب متظاهرا بنسيان شيء ما، ثم صعد إلى الطابق الثالث، حيث كان يجلس مارلون على الكرسي الوثير في الشرفة نفسها. وصل في لحظة غروب ساحر، تشبه تلك التي أُلتقطت فيها الصورة، تخيله يجلس جلسته تلك، حاول الاقتراب أكثر، لكن باب الشرفة كان مقفلا، مما اضطره للوقوف والنظر إليه من نفس زاوية الصورة، لم يكن الكرسي فارغا، بل وجد تمثالا للرجل وهو يجلس كما في الصورة تماما، كأنه لم يتوقف عن تأمل المنظر أمامه ولم يشفَ من وحدته أبدا. وقبل أن تنتهي الدقائق العشر، خيل إليه أن رأس التمثال استدار نحوهُ وقد ابتسم ابتسامة كتلك التي شاعت كثيراً على أغلفة المجلات وشاشات التلفاز ذات يوم. لم يخطئ في معرفته هذه المرة، نزل وهو يشعر بجسده يتكسر، كأنه نسي شيئا ما قرب التمثال؛ شيئا يشبه دهشة قديمة، أو غصّة عميقة. كان المرضى الأربعة قد خرجوا وصعدوا في السيارة، ثم نزل هو أيضا وانطلق بهم: المرضى ينتظرون تأملا جديدا والسائق يفكر في استدارة رأس التمثال وابتسامة الوجه، التي لا تشبه سوى ابتسامة الممثل مارلون براندو.

6

بعد ثلاثة شهور، كان يتجول بسيارته في المدينة، يتوقف لأناس يلوحون له بأيديهم في الشارع ليحملهم إلى محطة القطارات الداخلية، أو إلى المطاعم والأسواق. يحدق في النهار من تحت حدَبَة سلحفاته هو أيضا، مستعيدا مشهد الرجل البغدادي وحركة أصابعه تداعب خرزات أيامه.

وصل إلى محطة الباصات، ثم ركن سيارته في الموقف المخصص لسيارات الأجرة، منتظرا دوره. بعد ساعة من الانتظار حمل رجلا عجوزا وأنزله قرب بيته شرقا، وقبل أن يقرر العودة إلى المحطة توقف بسيارته وأخرج رأسه قليلا من النافذة، متطلعا جهة الجبال التي تحيط بالمدينة مثل حراس أبديين. فكر في صورة رجل بغدادي آخر ينتظر كل صباح أن تستيقظ المدينة كأنه يعيش حياة ثانية ولم تعد سرية بعد. كانت ثمة ريح خفيفة تدور من حوله، كأنها تحاول دفع سيارته بعيدا، شعر حينها بلمسة أخيرة كان ينتظرها منذ وقت طويل، كأنها ابتسامة مطمئنة لمارلون وهو يدير رأسه نحوه.

 

سان دييغو/كاليفورنيا 2017