على الكرسي الخلفي، أتوسد ظهره مستلقيا على بساط من السعادة والاطمئنان وحدائق الأمان، بين لحظة وأخرى أغرق أنفي في لباسه لتمتص أنفاسي رائحته التي لا أشبع منها، بل تزيدني جوعا كلما استنشقت منها أريجا عليلا ينعش خفقي. تسير بنا الدراجة النارية في سكون وكأنها بدون محرك نحو الولي سيدي يحيى، يأخذني إلى حضرته للنزهة والاستمتاع بما جادت عليه الطبيعة من بهاء المناظر، وخاصة تدفق مياه عينه الصافية المتلألئة كالفضة.
لم تكن عينه تغفل عني لحظة. وفادته على مدرستي دائمة ومتواصلة مخافة مكروه قد يصيبني من معلميي أو زملائي، أو ألحقه بنفسي في لحظة طيش أو تهور. كل المدرسة تعرفه: المعلمون، التلاميذ، الحجرات، أشجار الساحة، وربما حتى أسراب الطيور على أفنانها تعرفه. لا أتعرض كباقي زملائي لأوار العقاب الذي يتفنن في إبداعه معلموي، ليس تجنبا للتصادم مع أبي، ولكن لمكانتي المميزة التي أحظى بها في نفوسهم. فأنا عندهم تلميذ محبوب ، يفتخرون بانتمائي إلى فصلهم لنتائجي الجيدة التي لا تعرف لغة التراجع، وهي لغة لا يتكلمها أبي وإلا تطاير الغضب من شفتيه وصفيحتي كفيه الساخنتين. وإحرازي الرتب الأولى، لم يكن ذهبا تمطره السماء ولا فضة، لكنه حصاد عمل دؤوب يبذره في أرضي، فهو لا يرضى بالنزر اليسير يطرق باب تعلّمي، لهذا تراه دوما يوجهني ببريق الإغراء إلى المطالعة، خاصة قراءة القصص التي يقتنيها لي أو تلك التي أستعيرها من المدرسة. تعودت قبل النوم أن أتلو عليه عناوين الجريدة، فيشرح لي الكلمات والعبارات ويصحح ما يتلكأ في قراءتي، ولما يلمح التثاؤب يغزو عيني، يطلب مني الانصراف لأنام.
تلتقط أصابعي من خزانته الصغيرة كتابين قرأت عنوانيهما بسهولة: "البؤساء" لفيكتور هيغو "فتاة غسان" لجرجي زيدان. تفحصتهما نظراتي ورددت شفتاي: متى أكبر حتى أقرأهما. لم أحس بحضوره إلا عندما طفقت كفّه تتمسّح بشعري وهو يقول:
- ستكبر ولدي وتقرأهما.
بهذا كان مستواي الدراسي يرتقي، لكن، ذات مساء التقط سمعي كلمات فاه بها سي حسن:
- ابنك نجيب، لكنه بين الفينة والأخرى يغيب في شرود...
ليس لأبي نظير. يمنحني الحياة بحضنه الأمومي، يدثرني بحبه ويشملني بفائق الرعاية، ينام بجانبي إذا مرضت، ولا يفارقني حتى أستعيد عافيتي، يزرع في قلبي الفرح لما يكفهّر إحساسي وتمطر سحبا سمائي... وعندما يجن الليل، لا يغمض لي جفن حتى أسمع صرير المفتاح يجهر بإياب أبي، فيطرد أشباحا تفجر في قلبي خوفا مرعبا من مكروه قد يصيب أبي. أصدقائي يفتخرون بأمهاتهم وأنا أفتخر بأبي.
لم أفهم، لماذا تفجرت بعض دموعي ذات يوم، لما التقطت عيناي أبي من بعيد وهو ممسك بحقيبته الصغيرة، عائدا من سفر ألهب في نفسي أحاسيس متباينة من الشوق والخوف والكآبة. عدوت نحوه أسابق الزمن حتى ارتمي عليه أعانقه وألثمه، بحرارته المعهودة يضمني إليه، وبأصابعه يمسك وجهي يتفحصه وهو يردد:
- لم تبكِ..؟ من ضربك..؟ هل أصابك مكروه؟
نجلس في مكان فيه عشب ونبات، يقدم لي عصيرا وقطعة حلوى، وبمنديله يمسح العرق المتصبب من جبيني، وهو يردد عبارات المديح والفخر بأدائي في المباراة. وبعد استرداد أنفاسي، يتكلم صمت مفاجئ، لكنه يكسّره باستفهامه:
- قال لي سي حسن بأنك تشرد كثيرا في القسم، ما يشغل بالك ولدي؟
أتغافل عن الرد عليه، فيسترجع الصمت وجوده من جديد ليدوم هذه المرة طويلا، أظن أن كلينا يعرف الجواب، والموضوع يبدو أكبر مني، أو خطا أحمر يفرض نفسه علي، أو شيئا من هذا القبيل...
رغم حبّي الكبير لأبي، كشفت لي الأيام أني ميت بالملموس بعد أن أصبت بطلقة، وجثتي الصغيرة لا أزال أراها إلى الآن بأم عيني ونبض قلبي، وهي تتخبط بجناح واحد في جرح غائر ينزف بداخلي دون انقطاع، أما القاتل فهو أبي نفسه. وقد تكون الطلقة أصابت صدر أمي أيضا، فسقطت صريعة هي الأخرى مثلي.
najyb3@hotmail.com