"كشك الأورام" مجموعة قصصية حديثة للروائي المصري المبدع سعيد نوح، صدرت عن دار بتانة للنشر بالقاهرة؛ وقد حازت المجموعة تقديرا أدبيا؛ لبحثها عن التجريب في وظائف الراوي، والتشكيل الجمالي لعوالم الحدث، وبنية الشخصية؛ وأرى أنها تشكل حلقة متفردة في مشروع سعيد نوح الإبداعي، وعالمه الخيالي الذي يؤكد فاعلية النماذج المستدعاة من اللاوعي الجمعي، والمراوحة بين الشخصيات الافتراضية الفنية، أو السينمائية، وأشباهها في الحياة اليومية التي يصورها النص السردي؛ وهو ملمح ما بعد حداثي، يؤكد ما أشار إليه فاتيمو من التداخل بين عالمي الفن، والواقع خارج الأطر الحاسمة في كتبه نهاية الحداثة.
وتتفاعل العوالم الجزئية التي تشكل الحدث، دون مركزية في مجموعة سعيد نوح؛ فنماذج الذاكرة الجمعية تختلط بالفني الافتراضي، والكوني، واليومي / الواقعي، فضلا عن الانطباعات الحسية الداخلية للشخصية؛ وأرى أن شخصيات الذاكرة الجمعية – في عالم سعيد نوح – تأتي ضمن خطاب سردي تأويلي للحدث، وللشخصية، وفي سياق تعددية العوالم التي تستنزف بنية الواقع، أو تعيد تشكيله ضمن تفاعلية جمالية واقعية، وكونية، وداخلية في آن.
ولأن قصص سعيد نوح تقوم على تعددية العوالم، واحتمالية الحدث، والواقع اليومي، فإن معرفة الراوي بالحدث، والشخصية لم تكن مركزية أيضا؛ فقد يسائل طرائقه في الإدراك، والتفسير، أو يقيم حوارية مع الشخصية، أو تتعارض رؤاه، ورؤى الشخصية التي يفترض أنه يمثلها؛ ومن ثم يسهم خطاب السارد في السخرية من بنيته الذاتية، أو التشكيك في مركزية معرفته بالشخصية، أو تأكيد صيرورة الحدث التي تؤجل بنية متوالياته السردية المنطقية باتجاه احتمالية الشخصيات، والأحداث، ومنظور الراوي نفسه.
*تفاعلية العوالم الجمالية / النسبية في الخطاب السردي:
تكتسب العوالم الجزئية الحسية، والكونية، والثقافية، والفنية فاعلية جمالية في المشهد الواقعي، وتعدديته الاحتمالية في خطاب السارد في المجموعة؛ ففي قصة كيوبيد الساحر يتتبع السارد فاعلية مجازية، توحي بتجسد مدلول الخطيئة المستدعى من التراث فيما وراء علاقة شريف بفريدة، فضلا عن التجسد التشبيهي التأويلي لشخصية تشبه صورة الشيطان، وأخرى تجسد نموذجا تشبيهيا تفسيريا ممثلا للصور الرؤيوية طبقا لتصور نورثروب فراي؛ وهي متعارضة بنائيا مع الشر في سياق تفاعلي، وكوني، تتجلى فيه العناصر الطبيعية، والمشاهد الجمالية التشكيلية في صيرورة سردية تفكك مركزية الحاجز بين الأشياء، وأعمال الفن، والشخصيات الفاعلة؛ يقول السارد:
"بعد ابتلاع عصير الليمون داخل بطون الخيول التي تتمدد على سطح السجادة، تحاول الخيول التهام الثلج الذي كان ينظر للنار المشتعلة بين عيني شريف، وعيني فريدة، وعيون الخطيئة". ص 8، ثم يشير السارد إلى كاتب مهووس بلحظة إيروتيكية يسخر من الاهتمام بصورة الثلج في المشهد؛ ومن ثم تستبدل التفاعلية بين العوالم الجزئية مركزية الحدث في القصة.
إن علامات العمل الفني مثل الخيول تستنزف الأطر، وتدخل كفاعل جزئي جمالي في السياق الواقعي / الكوني / الذاتي؛ مثل النار المجازية، والتجسد الجمالي / الثقافي لمدلول الخطيئة، فضلا عن قصة الحب الملتبسة، والمؤجلة بين شريف الفنان، وفريدة البسيطة الهامشية.
ويستدعي السارد شخصية كيوبيد الأسطورية، وأطفاله بينما يعيد التساؤل حول جدوى إضافتهم للمشهد القصصي.
إن أصوات الماضي تظل على هوامش المشهد الجمالي التفاعلي؛ لتسهم في صخبه المحتمل، وتؤكد احتماليته، ومحاكاته الجمالية لعلامات التراث، أو سخرية هذه العلامات نفسها من تكرارها التشبيهي الآخر في تعددية لحظة الحكي، وتفاعليتها.
ويؤكد السارد التناقض النيتشوي التأويلي ما بعد الحداثي لبنية الحدث؛ فالحب، والتشكيل الفني للتكوين، وللحدث في وعي الشخصية يقترن بالتفكك المحتمل، والرعب الاحتمالي المؤكد لاقتران الفراغ بالعالم الحسي في حدث لا ينفصل عن علامات التراث الثقافي، وأصوات الماضي الطيفية.
ويمزج السارد بين فاعلية النماذج التفسيرية، والجمالي، والكوني في قصة ألعاب خرافية، وهندسية لشجرة تقف في عين الشمس، وتشير عتبة العنوان إلى الاندماج الجمالي بين شخصيات الفن، والمشهد الطبيعي، والاستبدالات الممكنة بين الشخصيات، والأحداث، والعلامات الكونية في صيرورة السرد؛ وكأن السارد يشير إلى التعقيد الجمالي الطيفي للعالم فيما وراء الظواهر، والتجسدات الجزئية للأشياء، والعلامات، والأصوات؛ إذ راوح السارد بين حب شريف، وفريدة، وعودة الصخب الجمالي الشكلي لصراع عائلتي روميو، وجولييت عند شكسبير؛ وكأن تاريخ الفن يطل من المشهد الطبيعي، ويسهم في احتماليته؛ وهو ما يذكرنا بمتحف أندريه مالرو الخيالي، وفاعلية علامات الفن فيما وراء الصمت.
ويستدعي السارد شخصية صبحي المتلصص، وتفاعله في خلفية المشهد مع القوى الطبيعية الكونية، فضلا عن تشكك السارد في وضع النهاية؛ إذ يظل الحدث افتراضيا، ومتحولا في مسارات جمالية عديدة، تطرح التساؤل عن الحضور الواقعي للشخصية، والتباسه بتشبيهات الماضي.
ويتداخل كل من الهامشي، والمهيمن في قصة كشك الأورام؛ إذ تشير بنية عتبة العنوان نفسها إلى الكشك الذي تطلبه شخصية البطل الهامشي، والورم الذي أصيب به المهيمن في المشهد القصصي؛ وكأنهما يلتقيان في بنيتي التشوه، والتفكك المحتمل؛ إذ خرج البطل من السجن بعد سبع سنوات قضاها في السجن بسبب مشاجرة كان قد قُتل فيها شخص كان يحاول إبعاده عن ابن عمه، وقد تعرض وجه البطل للحرق، وتشردت عائلته، وجاء؛ ليستخرج تصريح كشك، فأجابه المسؤول بالتأجيل، ثم تعرض الأخير للمرض.
إن تأجيل كينونة البطل / الهامشي، قد اختلط بتفكك الآخر المهيمن؛ وكأن بنية الحاجز بينهما تنفك قي صيرورة الجسد، ورمزيته، وارتباطه بالواقع، والعوالم الفنية الجمالية معا؛ فقد أشار السارد إلى تشابه دموع البطل مع دموع نجيب الريحاني في فيلم غزل البنات.
لقد استدعى السارد طيف الريحاني من العوالم الفنية الافتراضية، وراوح بين صورته، وصورة الشخصية ليفكك مركزية حضورها الواقعي؛ وكأنها تنفلت من بنية التشوه باتجاه شخصيات الفن، وعوالمه الاحتمالية في المشهد.
وبصدد الصور النماذجية في نصوص الأدب، والشعر، يشير نورثروب فراي – في كتابه تشريح النقد إلى تشكل النسق الأدبي من الصور المتصلة بدلالات فكرية، وقد تتشكل تلك الصور من عالم رؤيوي سماوي، أو عالم من الاستعارات الكلية، ويمكن لكل شيء فيه أن يكون مطابقا لكل شيء آخر.
(راجع، نورثروب فراي، تشريح النقد، ت: د. محمد عصفور، منشورات الجامعة الأردنية بعمان، 1991، ص – ص 171، 172).
إن نسق الصور النماذجية – في خطاب نورثروب فراي – يتصل بأخيلة الأدب في ارتباطها الاستعاري بالذاكرة الجمعية، والتراث الثقافي؛ وسنلاحظ هذه الأنساق، والصور الرؤيوية في خطاب سارد سعيد نوح في تجانس المشهد الكوني المحتمل، أو في تأجيل بنية تشوه الكينونة، أو في تعليق صخب الصراع في حكايات الماضي، وأصواته، ويعيد سارد سعيد نوح تشكيل هذه الصور النماذجية بصورة تفسيرية تشبيهية لشخصيات ملتبسة بتجسدات الفن، والواقع معا.
*تفكيك مركزية الراوي:
قد تتعارض رؤى كل من الشخصية الفنية، والسارد تعارضا يؤكد التوجه ما بعد الحداثي في الاختلاف داخل البنية، والصوت من جهة، أو استنزاف صيرورة السرد لنهاياته الحاسمة، وبنى متوالياته من جهة أخرى؛ فالشخصية قد تمارس نوعا من السخرية إزاء أخيلة الراوي، وتشبيهاته، أو يطرح الراوي نفسه أسئلة ذاتية باتجاه خطابه الأول، تؤكد النزوع الافتراضي الاحتمالي للسرد القصصي في نصوص مجموعة سعيد نوح؛ وهو ما يؤكد التجريب في وظائف السارد، وعلاقته بالشخصية، وتأجيل معرفته، أو طرح الأسئلة حول مركزية هذه المعرفة، وما تحمله من هوامش دلالية احتمالية.
يوازن السارد بين خطابه عن الشخصية، وخطاب الأنثى / المتخيلة، ومدى مقاومتها لمعرفته، ورؤيته حول كينونتها في قصة يلزمهم طبيب نفسي؛ فخطاب السارد يجسد البطلة / الأنثى كامرأة تصنع خبزها من ثلج يسقط، أو شمس حارقة، أوهي تصنع أرغفة الأوهام لأحلام قلبها.
يجسد السارد رمزية البطلة، وحالة انتظارها في سياق سرد شعري، يوحي بالتناقض بين الامتلاء، والفراغ، بينما تخرج الشخصية الفنية عن سلطة انطباعات السارد، وأخيلته، وشعريته، وتتساءل عن تدخله في أحداث قصتها، أو تأويلها، وتخييله لخبزها، وربطه بصورة الثلج الطائر، ثم تعترض على تشبيهه للمائدة بعد حضور رجلها المنتظر.
وتذكرنا بنيتي الانتظار، والعودة المحتملة بغياب تموز، وعودته في الربيع في أسطورة عشتار، وجمالياتها المستعادة في رمزية النص القصصي.
ويؤكدد النص التعارض البنائي، والانشطار الداخلي المحتمل في بنيتي السارد، والشخصية؛ إذ تعيد الشخصية رواية الحدث، بينما يفتتحه السارد، ثم يواصل إكماله بلغته الشعرية التي تعارضها البطلة مرة أخرى، وتتساءل حول علاقتها بكينونتها، وببنية الحدث، ورمزيته.
وقد تختلط بنية الحدث القصصي، ومتوالياته بالصيرورة السردية المتجاوزة لمركزية انتظام الحدث في نسق من المتواليات الوظيفية في قصة بانت سعاد؛ فقد تحول الفرح إلى مشاجرة عبثية، ثم اختباء، ومطاردة، وحدث إيروتيكي يجمع بين الواقعي، والحلمي.
لقد امتزج الواقع بالفن منذ بدايات النص، وأسهمت الصيرورة في إعادة تشكيل البهجة في سياق المطاردة، والظلمة، والهروب؛ فقد استبدل الفرح بأثره الجمالي الذي يعارض بنيته الأولى؛ إذ تحولت متوالية الرقص البهيج إلى متوالية للصراع الجسدي الذي ظل مؤولا للشخصية في إشكالية التناقض الداخلي بين الخوف، والرغبة.
*التحول الجمالي للشخصية الفنية:
الشخصية الفنية - في مجموعة سعيد نوح – تجمع بين الحضور الواقعي، والتحول الجمالي التمثيلي المحتمل، أو تحيا في عالم افتراضي في وعي الآخر؛ وهو ما يذكرنا بتصور فرجينيا وولف حول السيدة براون في مقالها السيد بينيت، والسيدة براون؛ فالسارد ينسج تاريخا افتراضيا للأنثى الصامتة بجواره في مقعد الأوتوبيس في قصة كان يجب عليك قبل أن تحتل المقعد الأخير؛ ومن ثم يتجلى وجودها الظاهراتي في وعيه المبدع بشكل تأويلي، يقوم على الأخيلة، والتوقعات، والانطباعات التي تؤسس لخصوصية تمثيلية للشخصية، تقع في مسافة بين الأنا، والآخر، وتنبعث الآثار الجمالية للجدة في وعي السارد / البطل في قصة إرث 2؛ فتفاصيل حياتها اليومية، وأخيلتها، ومعتقداتها توشك أن تستبدل صورتها المصحوبة بشريط أسود، وتمتزج علامة صندوق الموتي باستشراف صور الموت، والحب ضمن طقوس آلية تخفي قدرا من التعارض البنائي الذاتي في عالم الشخصية الفنية في قصة إرث 1؛ فالطقس الجنائزي يمتزج بذكرى التعاطف، ويستحيل إلى حب آلي آخر محتمل.
وتنتقل شخصية السيد ك من موقع المطارد المهيمن إلى موقع الضحية في قصة قاتلة السيد ك، وتتفاعل أنساق القوى الرمزية في النص، وتسهم في تحوله الجدلي من الجلاد إلى الضحية، ويؤول السيد ك السيدة س من داخل اشتعال نار استعارية ممزوجة بعلامة الثلج بينما يحن هو - في لحظة انهياره الرمزي– إلى نار بنفسجية.
إن التجلي الأول للنار يوحي بمدلول الهيمنة، أو برغبات الجسد اللاواعية، بينما تنبثق النار البنفسجية الثانية من حالة التفكك، أو غياب الجسد مثلما يومئ فرويد في تصوره لغريزة الموت، وارتباطها باللاعضوي؛ ومن ثم توحي أخيلة النار – في القصة – بالتناقض، والتبديل، أو الصيرورة التي تفكك مركزية الشخصية.
ويرى باشلار - بصدد تناقضات صورة النار - أن صورة النار ترتبط بجدلية الطهارة، والدنس؛ وهي توحي بالشر، والخطيئة، وصورة الشيطان، وتوحي – في الوعي الجمعي – بالقضاء على الشر، وإنتاج الخير؛ وبخاصة فيما يتعلق بالأرض.
(راجع، غاستون باشلار، النار في التحليل النفسي، ت: د. نهاد خياطة، دار الأندلس ببيروت، ط1، سنة 1984، ص 93، 95).
هكذا تشير نار التجسد إلى هيمنة جسدية رمزية تستدعي قوى الشر، والخطيئة من التراث الثقافي في نص سعيد نوح، بينما تقترن صورة النار الأخرى بالغياب والتطهر في وعي السيد ك؛ وكأنها نار جنائزية، تفكك منطق الهيمنة السابق.
*العالم الافتراض الفني في نسيج الواقع:
يستعير السارد – في مجموعة سعيد نوح – بعض الأدوار التمثيلية لفنانين؛ مثل نجيب الريحاني، وزكي رستم كتشبيهات تلج الشخصيات الواقعية في العالم اليومي نفسه، والذي ينطوي على أطياف العالم الفني الافتراضي في آن، كما يوحي اسم ستوديو الفرح / معبودة الجماهير بعنوان الفيلم السينمائي؛ وكأن أجواء الماضي الفني تنبعث في السياق الواقعي، وشخصياته.
يقول السارد في قصة بانت سعاد:
"ثم ضحك ضحكة تشبه ضحكة زكي رستم في أفلامه، عند ذلك أقسم المعلم أن يفك المدعو حماد عدته ... حاول الكثير من الناس إصلاح ذات البين. لكن ضحكة أحمد كان لها وقع الصدمة على الجميع". ص 40.
إن صورة الضحكة الاستعارية تراوح بين أطياف العالم الافتراضي السينمائي، وتشبيهاته المحتملة في الواقع اليومي، ودلالاته الجمالية التمثيلية.