"تيوليب". أنطقُها، كما كانت تنطقها هي، على غير ما تجري به ألسنة الناس: (توليب). إسمٌ لزهرة نبات زنبقي، وأنا مشهور بالهوس تجاه الزنابق، ولعل ذلك هو ما اجتذبني – بدايةً - إلى تلك الفتاة ذات الحجم الضئيل، التي كانت تجلس في (بوفيه) الكلية، بمحرم بك، لدقائق معدودة، ولا تجدها بعد أن تنتهي من احتساء الشاي. وكانت تتحرك في الممر بين مباني أقسام الكلية العتيقة بخفة ساحرة، كأنها تتطاير.
ولم يكن معظم زملائي في دوائر الدراسة والنشاط الطلابي يعرفونها، وأخبرتني باسمها زميلةٌ حاولتُ أن أعرف منها المزيد عنها، فقالت إنها لا تتواصل مع أحد، لدرجة أن القسم الذي تدرس فيه لم يكن معلوماً لكثيرين. لذلك، لم أفلت الفرصة حين لمحتها مع شايها، وكنتُ أوزع نسخاً من صحيفة مطبوعة صادرة عن اللجنة الثقافية بالكلية، فتقدمتُ منها مبتسماً، وقدمتُ لها النسخة. مدت يدها وأخذتها مني، مبتسمة، وتمتمت بالفرنسية تشكرني.
لست أدري لم تسرَّب إليَّ وقتها شعور بأنني أتطفل على عالمها الخاص، وبضرورة أن أنصرف فوراً، فأحنيت لها رأسي، وغادرت مجلسها.
لكن صورتها في جلسة البوفيه القصيرة لم تفارق ذهني.
وجدتُني أنشغل بها أوقاتاً كثيرة، حتى ظننتُ أنني وقعتُ في هواها. وفوجئتُ بدقات قلبي تتسارع حين وجدتُها تقترب مني في المكتبة. كانت تبتسم، وتسأل إن كان يمكنها أن تعطلني لدقيقة واحدة. وجلستْ، قبل أن أرُدّ، في مقعد مجاور. تحدثت عن الصحيفة بما لا أتذكره، وربما بما لم يكن يهمني أن أسمعه وقتها، إذ كنتُ مكتفياً بمراقبة أي تفاصيل لانفعال تظهر على وجهها وهي تتحدث، فلم أتبين شيئاً. ولما انتهت كلماتها، وقفت، ومدت كفها تصافحني، وقالت: أنا تيوليب .. رابعة رياضة خاصة .. وشبه مقيمة في المكتبة!
ومرَّتْ شهور طويلة دون أن أراها. إختفتْ تماماً، حتى من المكتبة. ثم أدهشتني بظهورها المفاجئ في مطعم بمحطة الرمل. وجدتها تقف أمامي وبيدها لفافة ساندويتشات، وكنت منهمكاً في التهام ساندويتشاتي. سألتني دون مقدمات: ما رأيك في إفطار تحت قدميّ سعد زغلول؟!. وتحركت خارجةً من المطعم، فلحقتُ بها. مشينا مسافة قصيرة بخطوات نشطة، ولم تقل إلاَّ: خريف الإسكندرية مبهج.
كانت تأكل بسرعة، وقالت وهي تلوك طعامها: أنا (دبلرت) مرة أخرى. قلت: أنا رسبتُ مرتين. قالت: رسبتُ في أربع سنوات!. وكنا قد انتهينا من إفطارنا، فلمْلَمَت الأوراق والأكياس والمتبقي من الساندويتشات، وصنعتْ منها لفافة محكمة، سارت بها إلى صندوق مخلفات قريب، ألقتها فيه. وعادت تجاورني على مقعد الحديقة غير البعيد عن قاعدة تمثال لرجل يشير منذ سنوات طويلة إلى مياه الميناء الشرقية، كأنه يرى فيها ما لا نراه. وعادت تدهشني وتقول: أعجبتني، وأنت تستدعيه في قصيدة تحاور فيها عبد الناصر، سمعتها منك في أمسية بالصالون الثقافي لنادي سبورتنج. أحببت أيضاً طريقة إلقائك!.
ثم هبَّتْ واقفةً، وقالت: سنلتقي ثانيةً .. أصبح بيننا عيشٌ وفول!.
ولم تكن، حتى، تبتسم وهي تغادر المقعد عند قدمي سعد زغلول، في هرولتها، أو تحويمها بالقرب من سطح الأرض، لتتماهى في الفراغ كندفة سحاب بيضاء لا عمر لها.
غير أن أغرب مفاجآتها كانت قرب امتحانات آخر العام الجامعي 69/1970.
كنتُ بحالةٍ يُرثى لها، وأنا أعيش فوضى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، حتى لا يزداد عدد مرات الرسوب مرَّةً، ولأتخرَّج ولأتخلصُ من زمن التلمذة، وأنهي اعتمادي على أبي، وأساعده في رعاية الأسرة. كنتُ أقيم في حجرة فوق سطح الطابق التاسع عشر والأخير من بناية كبيرة، وكان أصدقائي الأقربون يصفونها بأنها (جوار الله)، وإن سأل أحد عني قالوا له (إنتقل إلى جوار ربه)، أي عاد لمسكنه.
كانت دقاتها على باب حجرتي خافتةً، فلم أستجب لها حتى تأكدتُ من أن ثمة من يدق بابي برقة مستغربة. فتحتُ، فرأيتها، فابتسمتُ. قالت: كأنك كنت تتوقع هذه الزيارة .. لم تندهش. قلتُ: تعودتُ على مفاجآتك. قالت: لا تريد أن تعرف كيف وصلتُ إليك؟. قلت: ذلك يفسد المفاجأة. قالت: هل نجلس؟. قلت: مرحباً. ولم أجد نفسي بحاجة لأن أعتذر عن تواضع المكان الذي أعيش فيه لأستذكر محاضراتي وأكتب قصائدي، فقد اقتحمته تيوليب، ووجدت لنفسها مكاناً بين مكوناته. وهيَّأتُ لها مقعدي الهزاز، أهم ما أمتلكه. جلستُ أمامها على حافة فراشي المزري. جلست وراحت تهتز، وتركت على الأرض بجانبها حقيبة جلدية كبيرة. قالت: الشعراء يتبعهم الغاوون .. وأنا من أهل الغيّ!.
وأطلقتْ أول ضحكة صغيرة مسموعة، لا أنكر أنني طربتُ لها. ودارت بعينيها تتعرف على ما بحجرتي البائسة. وعلَّقتْ: مظهرك في الكلية يوحي بأنك من (براجزة) القوم!. واستطردت تسأل: من يعتني بك هنا؟. قلت: عمِّي وأسرته .. هو بواب العمارة. قالت: صراحتك آسرة!.
ثم ضحكت ثانية وهي تقول: ولا بد أن ثمة ابنة العم التي تنتظرك. وشاركتها ضحكتها: بالفعل، كما في الأفلام!.
أشارت إلى الحقيبة، وقالت إن عليَّ أنا أن أفتحها وأخرج منها لفافة، لأنها لا تريد التوقف عن التأرجح في الكرسي. فامتثلتُ لما أشارت به. واهتمتْ بأن تؤكد: اللفافة فقط. فأخرجتُ اللفافة، وأعدت إغلاق الحقيبة. تساءلتْ: لا أتوقع أن يكون لديك أدوات مائدة، فالأطباق تصعد إليك عامرة، وتنزل خاوية .. حسناً .. تصرف .. إفتح اللفافة ودعنا نأكل، فأنا جائعة فعلاً.
وانتهت الوليمة التي فاجأتني بها تيوليب.
كانت روحها تتسرب إلى داخلي على نحو ساحر، وكنتُ مستنيماً لذلك.
وبعد أن أعلنت اعترافاً بأنها أكلت بشهية لم تصادفها منذ سنوات طويلة، راحت تثرثر في أشياء متفرقة، فسألتني عن الأوراق التي أعلقها على جدران الحجرة. قلت لها هي لخرائط تصنيف نباتات، ومسارات لدورات فسيولوجية، وهي أمور ينبغي عليَّ أن ألمَّ بها من أجل الامتحانات، فأجعلها لا تفارق عينيَّ، بالرغم من كراهيتي الشديدة لها. وسألتني: لماذا لم تتخصص في الرياضيات أو الفيزياء. فلما أجبتها: لا أطيقهما، ضحكت بصوت عالٍ وهي تصفق، ثم تحول صوتها ساخطاً حزيناً: أنا أيضاً صرتُ أكرههما .. أخذاني من حياتي، وأورثاني قلقاً دائماً.
واحتلت الجهامة ملامح وجهها، فتلاشى حضورُها الجمالي الفريد.
تركت المقعد الهزاز، وافترشت الحصير فوق أرضية الحجرة، جالسةً. فتحت الحقيبة، وأفرغت محتوياتها فيما بيننا، على الحصير. كانت لفافة من أوراق صحف قديمة، مصنوعة بإهمال، كأنه مقصود، تغلِّفُ كرَّاستين مدرسيتين. قالت: فكرتُ أن أرفقهما برسالة، وفضَّلتُ أن أحدثك بنفسي. لذلك، بحثتُ عنك حتى وجدتُك إلى جوار ربك!.
وهالتني بساطة نطقها للكلمات، وهي تقول: لو سارت الأمور بلا تعقيدات، فسوف نعود لنلتقي، وقد نتزوج، فالمرة الوحيدة التي خطرت ببالي فيها فكرة الزواج كانت بعد أن عرفتك!
واهتمت بأن تطيل النظر في عينيَّ اللتين كانتا تفضحان فوضى عارمة تجتاحني. واستطردت: وإلى أن تتضح الأمور، فاعتبر هذه الأوراق مهراً، أقدمه أنا لك!
ولم تنتظر رداً، فرفعت الكراستين باتجاهي، فمددتُ يدي وأخذتهما. وكان أمراً طبيعياً أن توضح لي، فانطلقت تحدثني عن (معادلات المجال) التي وضعها ألبرت أينشتاين عام 1915؛ وهي عبارة عن عشر معادلات، تُعدُّ الأساس لنظرية النسبية العامة، وتصفُ ما يطرأُ على الجاذبية من تأثر، جرَّاءَ تقوُّسِ الزمكان، مع كل من المادة والطاقة.
واستبد بها الحماس، فكانت شفتاها ترتعشان وهي تواصل حديثاً عن مسائل تعلم هي جيداً أنني لا أحمل لها أي مودة: هي مقاربات علمية مذهلة، إنشغل بها العالم منذ أبدعها أينشتاين حتى الآن، ولكن بابها لم يغلق بعد، فلا تزال تحمل الكثير من الأسرار وشفرات الولوج إلى عوالم لا صلة لما نعيش به وعليه الآن بها.
وسألتني: هل تتذكر حالك حين يهبط عليك شيطان الإلهام، لتكتب قصيدة؟. جثم عليَّ ذلك الشيطان لسنوات، فتركتُ كلَّ شيئ واستسلمتُ له، فراح يدلف بي إلى مداخل خفية لمعادلات المجال، ويساعدني على استولادها، وعلى أن أنقدها، لأعيد صياغتها على نحو لم يسبقني إليه باحث آخر، كما تأكد لي من متابعة الدوريات العلمية.
قدمتُ لها كوب ماء، فشربت كل ما به.
سألتُها، معبراً عما كان يدور بذهني: كان يجب أن تسعي لنشر ما توصَّلتِ إليه. ردَّت: فعلتُ، وأرسلت مختصرات، تمهيداً لإرسال الأعمال كاملة، غير أن عدم حصولي على البكالوريوس، على الأقل، جعل المجلات التي راسلتُها لا تأخذ الأمر بجدية، فكانت تعتذر. حتى زملائي في قسم الرياضيات، تشكك بعضهم في قواي العقلية!
وسألتني: هل تشككتَ؟. نفيتُ بهزة رأس، وكنتُ صادقاً تماماً وأنا أقول: ولا للحظة واحدة. عقَّبتْ: وأنا أصدقك .. أخيراً عثرتُ على من يؤمن بي .. لتذهب كلُّ المخاوف إلى الجحيم!.
وحين غادرت حجرتي، التي كانت خادمات الأسر في البناية يستخدمنها كمغسلة، رحتُ أنتظر مفاجأتها التالية، وأتخيل موقع ووقت حدوثها، فطال انتظاري. وحسبتُ أن باستطاعتي مفاجأتها، وسعيتُ لأجد طريقاً ومعلومات تأخذني إلى تيوليب، فلم أجد أحداً في قسم الرياضيات يعرفها، ونظر إليَّ موظف سجلات شئون الطلاب مستغرباً وأنا أسأله عن عنوانها، بعد أن رشوته بعلبة سجائر، وقال: لم تعرف الكلية اسم تيوليب هذا على الإطلاق. فهل كانت تيوليب، منتقدة معادلات أينشتاين، وهماً. هل ظلت في خيالي تلك الفتاة التي تتبخر في بوفيه الكلية بمجرد أن تنتهي من الشاي؟. وماذا عن الكراستين؟. والكرسي الهزاز الذي أراه كل ليلة، تقريباً، يهتز في حجرتي التي افترشت تيوليب حصيرها؟!
وحاولتُ التماسك، وأنا مطمئن إلى ما لديَّ من برهان على أن تيوليب ليست وهماً، فهي التي طلبتني للزواج، بل وقدمت لي المهر. نعم. المهر. الكراستان. كنت أتحسس لفافتهما بين كومة ملابسي، كل يوم، فلما عدتُ إليهما بعد الصاعقة التي أنزلها على رأسي موظف شئون الطلاب، لم أجدهما. إختفت الكراستان من حجرتي .. غرفة الغسيل، التي أعلنت تيوليب فيها مشروع زواجنا.
إذاً، فهل أكتفي من ذلك كله بحكايةٍ أرويها لأصدقاء لا يتشككون في أن فتاة أضاعت شبابها في استحداث معالجات لمعادلات تأثير تقوس الزمكان على قوى الجاذبية، قد أحبتني؟!