حذارِ ...
ليس كل ما له غلافان كتاباً!
إنه نتاجٌ شبيهٌ بالحالة البلازمية، بمويجاتها التي لا تزال قوانين الطاقة والحركة المسيِّرة لها تُلحق تشوشاً بعقول الفيزيائيين، من جيل لآخر ..
صحيح أن الناشر أعطاه اسمَ جنسٍ (كتاب)، ورضخ للسائد والشائع فحاول أن يُصفِّدَه بغلافين، ولكنه كتابٌ (نَفَطَ) بين يدي صاحبه، الذي رآه يتدفق كلما أسلم قيادَه، مُختاراً، لساحر ة يتقازم تحت قدميها جنُّ سليمان، هي (الشابكةُ) أو الإنترنت، وابنها الفيس بوك؛ فلم يفعل مالكُ الحقل النفطي الفيسبوكي غير أن يستدرج السردَ المتدفقَ، الذي أسقط تماماً زمن الورقة والقلم، وأعلى شأن (لوحة المفاتيح).
حسناً أيها الناشر .. هو كتابٌ، وله غلافان يحملان اسمك، لكنه غير كل الكتب ..
قد تبدأ بقراءة هذا التحذير، فأنت قارئ (كلاسيكي)، تبدأ من البسملة على أول صفحة، وتنتهي عند (الحمدله) في نهاية الكتاب .. لكنك بصدد كتاب لا يعترف بصفحة بداية وصفحة نهاية .. كل الصفحات بدايات، وكلها نهايات.
ليست ثمة صفحة بقائمة محتويات لا يعترف الكتاب ولا مؤلفه بترتيبها. كما أن ما تجدونه من عناوين جانبية، قد تتسم أحياناً بالغباء، هي ليست أكثر من آثار تطورية، ورثها الكتاب عن أسلافه القدماء، تماماً كعظمة العصعص التي تذكرنا بآبائنا من القردة العليا أو السفلى!
كُفُّوا أيها القراء عن انتظار الكاتب يرتب لكم ما تقرأوه .. رتبوه أنتم بأنفسكم، أو اتركوه مبعثراً، وفق أمزجتكم وما ترتاحون إليه ..
وهذا كتاب يستجيب لذلك ..
يمكنك أن تقرأه من آخر صفحة، وتميل إلى صفحة بوسطه، ثم تعود لصفحة في ربعه الأول ..
ولا تزعج نفسك بما حاول نقاد كلاسيكيون متجمدون الإيحاءَ به من ضرورة وجود (وحدة عضوية)، أو (محور عام)، وغير ذلك من أفكار تعيش الآن نزعها الأخير .. وعلى كل حال، فأنت إن انتابك الحنين للبحث عن وحدة عضوية، فإنك ستجدها، ولكن اعلم أنك ستضحي بجزء من متعة عفوية السرد الفيسبوكي، الذي (يبدو) محايداً، وبريئاً كرضيع ..
إذ يهم هذا العمل الذي يسميه الناشر كتاباً أن يُمتعك، متوسلاً بمصادر متعددة متنوعة للمتعة، أهمها متعة أن تشارك بعملية (كولاج) لمشاهد وأحداث عشتها، وقد تكون شاركت بصنعها، وقد أخذت ملامحُها تشحب من هول ما يعتمل في كل أنحاء العالم، وليس في بلادنا فقط، من تحولات وتحورات تجعل وجه العالم اليوم لا يشبه تماماً ما تركته عليه قبل أن تدخل فراشك بالأمس.
ومن مصادر المتعة أيضاً: تناقل المعارف، فقد بتنا لا نصبر على قراءة كتاب كامل، وحسبنا أن الوسائط المرئية تغنينا عن القراءة. كما أن (النميمة) ممتعة، لا جدال. هل يمر عليك يوم دون أن تشارك، بغير قصد طبعاً، في نميمة، ولو صغيرة؟. إننا نحن البشر مجبولون على النميمة. والنميمة من آليات صنع التاريخ البشري، كما يزعم كتيِّبٌ أوشك أن أنتهي منه الآن. كما أن فن القص إن هو إلا النميمة عينها، مقننة، بل متعاقد عليها، بعقد غير مكتوب، بين القاص (النمام) والقارئ، يتعهد فيه الطرف الثاني بالاستسلام التام للطرف الأول، من أجل متعة القيل والقال!
هذا جانب مما أردت أن أحذر منه من يقدم على فتح هذا الكتاب اليوم، ليبدأ من صفحة 95، ويعود ليفتحه غداً عند صفحة 3!
لماذا؟!
من الذي جعلني أنحرفُ فأصير كاتباً ؟
لماذا لم أعرف مهنة أخرى تعرف النوم الطبيعي ؟
ألم يكن ثمة سبيل إلى مهنة أتركها ورائي وأنا أغلق باب مسكني عليَّ ؟
مهنة لا تدخل معي إلى فراشي ؟!، ولا تدخل قبل ملعقة الطعام إلى فمي، فتفقده المذاق ؟!
أنظر الآن إلى عمال يحفرون خندقاً طويلاً ليمدوا خطوط الغاز الطبيعي .. ينتهي يومهم الشاق، فيغادرون إلى بيوتهم .. وفي الليل، يروحون في نوم عميق لم أعرفه منذ سنوات طويلة ..
إيه يا عمنا !
جاي دلوقت تقول لماذا ؟!
كان من زمان!
تجديد الخطاب الديني !
تعبير شديد الالتباس.
تجديد يعني إحلال جديد محل قديم. فنحن نقول: مثلاً: تعمير، وتعني إدخال العمران إلى حيز لم يعرفه. ولا تحتمل كلمة تجديد أي رائحة لكلمة (تعتيق)، مثلاً، أو استدراكاً أو استثناءً، وإلا كان بها شيئ من معنى كلمة (تأفيق). !فهل يجرؤ أحد على (إبعاد) قديمٍ عتيق و(إحلال) جديد، بغير تأفيق ؟!
وكلمة الخطاب أيضاً واضحة الالتباس: فالخطاب هو كل صيغة لغوية تستخدم في عرض وتوصيل أفكار، بما في ذلك القرآن، والحديث، وسائر موروثاتنا من الأسلاف المجتهدين، مهما كانت أهمية إسهاماتهم. وارتباط كلمة الخطاب بصفة الديني تؤكد ما ذهبتُ إليه.
فماذا سيجدد من يريدُ أن يجدد ؟!
أشياءٌ لا نلتفت إليها .. أو نلتفت إليها ولا نأبه لها !
هي أشياء كثيرة، منها حقيقة أن (اضطراب بناء اللغة) يعكس عدم استواء التفكير، وقصوراً في الإبداع المتصل باللغويات.
ونبسط الأمر على هذا النحو:
من خلال مسارات عصبية، تنتقل (إشارات) الأفكار إلى مراكز التعبير عنها في الدماغ، فتترجمها إلى لغة، مستخدمة (محصول) الفرد من الكلمات، بالهيئة التي استقرت في دماغه، من حيث البناء والضبط.
قد تكون الأفكار (أكبر) و(أشد توهجاً) من المحصول اللغوي.
قد تكون الأفكار أضأل، بينما المحصول اللغوي متماسك.
في الحالين: لا تكتمل دورة حياة الأفكار، ويخيب الإبداع.
وعلى فكرة، لا يقدم دورُ (مصحح اللغة) إلا رتوشاً، لا تفلح في إخفاء أوجه القصور، في الإحساس باللغة، أو في قيمة الأفكار.
المبدع الحقيقي: مُفكرٌ ساحرُ لغة!
لو. أقولُ (لو) تهيأ لنا نشاطٌ حقيقي من نقاد ذوي قدرات خاصة، لتبدتْ تماماً سوءات خريطة الإبداع في مصر، ولعلمنا أن أكثر من ثلاثة أرباع ما (تُخرجُه) مطابعنا يعاني مثل هذه الاضطرابات، التي تجعله لا يتجاوز قيمته كورق وحبر!
"سيدنا" الذي في (الحسين)!
تبدأ الحكاية حين تيسر لي، بطريقة أو بأخرى، وفي ظروف لا أتذكر تفاصيلها الآن، أن كنتُ في استقبال زميلٍ بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية، وكان مبتعثاً إليها بنظام (القنوات)، حيث يتحدد أستاذان مشرفان على الرسالة، ويسافر الطالب إلى أمريكا مرةً من أجل جمع بيانات الرسالة، ثم يعود إلى مصر، ويجري أبحاثه، بإشراف أستاذه المصري، ثم يحمل نتائج الدراسة ويعود مرة أخرى إلى أمريكا، لتخضع النتائج لعمليات تحليل ونمذجة باستخدام أحدث كومبيوترات ذلك الوقت (كان عندنا في المعهد جهاز يحتل حجرة!)، وتنتهى رحلته مع الدكتوراة بالعودة إلى مصر، وإعداد الرسالة، ولا أعتقد أنها كانت تناقش في مصر، وإنما يكون مجموع نتاج هذه العملية المكوكية هو المسوغ لمنحه الدرجة العلمية.
جاء صديقنا، إذن، وفي حقيبته الأوراق النهائية التي لا تحتاج لأي جهد إضافي، غير تجليدها، لعرضها على جهات الاختصاص العلمي الإدارية، لتمنح الطالب درجته. وأعتقد أنني كنت مشاركا في استقباله بمطار القاهرة، لأستلم منه أغراضاً (خاصة جداً) كنت أوصيته بجلبها لي، سراً، وكانت بيننا درجة كبيرة من المودة.
كان بين المستقبلين عمٌّ لصديقي الكريم، أصرَّ على إكرامنا بدعوتنا للعشاء المفتخر في مطاعم (الحسين)، ولنصلي ركعتين حمداً على عودة (الدكتور) سالماً غانماً ..
ولم يكن أحد ليرفض هذا العرض الكريم، وانتهى بنا الأمر ملتفين حول مائدة على رصيف مطعم كبير. وانشغلنا في التعامل مع الطعام الفاخر، فلما انتهينا، اتجهنا إلى السيارة لنتخذ طريق مغادرة القاهرة.
وما إن وصلنا إلى مكان السيارة في شارع جانبي حتى سمعنا صرخة مدوية من العم الطيب، ورأينا بأعيننا حقيبتها وقد فُتحت عنوةً ..
وكان من الطبيعي أن نبحث أول ما نبحث عن حقيبة الدكتوراه، وكانت حقيبة فخمة، والشيئ الوحيد الذي التقطه اللص من السيارة.
المهم .. تجمهر العشرات حولنا، للفرجة لا أكثر. وبعد أكثر من ساعتين على اكتشاف السرقة، وكنا حائرين، نجلس على الرصيف أمام السيارة المنكوبة، عاجزين عن أي فعل، واقترح أحدهم إبلاغ الشرطة. وبعد دقائق، اقترب منا شخص ملفوف بالريبة، وتحدث مع العم صاحب السيارة، ناصحاً بعدم إدخال البوليس في العملية، لأن ذلك معناه ضياع أوراق الدكتوراة إلى الأبد.
قال إنه يعرف (سكة أخرى)، فانطلقنا معه.
غاص بنا، سائرين، في أزقة شبه مظلمة، لا تكاد تتسع لأكثر من ثلاثة مشاة متجاورين. وسرنا زمناً طويلاً، وانتهينا إلى بناية شبه متهدمة، تعج بالكلاب النابحة. دخل بنا (الوسيط) فيها، وقادنا إلى حجرة داخلية بلا سقف، شحيحة الضوء، حتى أننا لم نتبين وجود (سيدنا) - كما نعته الوسيط - متكئاً إلى وسادة فوق حصير على الأرض.
لم نلبث أن اعتدنا على ضوء المكان، واتضحت لنا ملامح سيدنا، بلحية رمادية مدببة، و(زبيبة) كأنها كرة من حبيبات مجمعة من (زبل الحمام). ودخل إلى صميم الموضوع. عشرة آلاف جنيه، حالاً، وقبل الخروج من المكان، وإلا فإن الأوراق، التي نقل له أتباعه أحاديثنا عن أهميتها ونحن في حيرتنا الشديدة عقب اكتشاف السرقة، ستُحرق.
لم تنجح معه أي مفاوضات، إلا عندما حصلنا على موافقته على أن يغادر عم صديقنا صاحب الرسالة المكان، برفقة بعض أعوان (سيدنا)، ليعود بعد أن يجري بعض المكالمات الهاتفية، ويقابل شخصاً يحضر له المبلغ المطلوب.
وقد حدث ..
وعادت الدكتوراه إلى صديقنا المسكين، الذي استدعت حالته الاستعانة بأطباء أمراض نفسية وعصبية لمساعدته في اجتياز اضطرابات صحية كادت تعصف به.
قصة (شبه) حقيقية .. تدخلتُ فيها لضرورات إنسانية أخلاقية حاكمة، وأخرى فنية.
أشياءٌ صغيرةٌ .. حُضُـورٌ قوي !
لبعض الأشياء الصغيرة التي أحتفظُ بها بين (مقتنياتي) شخصيةٌ تتمتع بحضور قوي.
من هذه الأشياء الصغيرة قوية الشخصية، قطعةٌ من الهيكل الكلسي للشعاب المرجانية.
كانت كبيرة الحجم، وتكفلت عوامل عديدة، بينها حب استطلاع، وربما عدوانية بعض أطفال الأسرة والمعارف، بتقليص حجمها، لكنها ظلت محتفظة بوجودها، بالرغم من أنني لا أطلُّ عليها إلا في فترات متباعدة.
أفكرُ أحياناً في أن سر بقاء هذه القطعة من الشعاب التي أُخليتْ من مراجينها هو أنها ليست مجرد قطعة من الكلس، وإنما هي تاريخ. هي سجلٌّ نشأ بهذا النمط المعماري الفريد، بإشراف هندسي من حيوان غاية في البساطة والضآلة والعبقرية، هو المرجان البحري.
وقد يتجاوز زمن تكوين هذه القطعة مائة سنة، راح المرجان خلالها يجمع جزيئات الكربونات من ماء البحر، ويتعامل معها كيميائياً وبيولوجياً، لينشئ هذه العمارة الهائلة، التي كان يسكن في كل ثقب منها (مرجان)، وثيق الصلة بغيره من المراجين: يأكلون سوياً، ويتخلصون من فضلاتهم سوياً، وإن هاجمهم مفترس انسحبوا إلى ملاذاتهم الأنبوبية سوياً.
إنها ليست قطعة من الشعاب.
إنها تاريخ من العلاقات والحكايات.
والتاريخ المسجل في حكايات كحكايات المراجين لا يضيع.
كلام الفضائيات
راجعوا أحاديث البرامج التليفزيونية، والمقالات الصحفية، التي تتعرض للمشهد المصري الآن، لتكتشفوا أن أكثر من 90% من المتحدثين والكتّاب لا يأتون بجديد، بل يعيدون إنتاج أفكار مطروحة، ومقولات ترددت كثيراً، ويجتهدون في أن يظهروا وكأنهم يقولون درراً !. والأسوأ من ذلك كله، أنهم يحرصون على أن يظهروا وكأنهم يمتلكون كل الحقيقة. والأشد سوءاً أن الجمهور لا يهتم بتبين الطيب من الغث، لغياب العقلية الانتقادية وآليات الفرز.
رقمنة
من الاستخدامات السيئة للتكنولوجيا العصرية، رقمنة الموسيقى
أختفت تقريباً الأصوات (الأنالوج) الطبيعية، وتحول كل ما يصل إلى أسماعنا من غناء وموسيقى إلى نظام الديجيتال، ليخترق آذاننا برنينه المعدني المسطح المفتقد للأحاسيس والمشاعر الإنسانية
وأفدح ما تمخض عنه هذا النظام الأغاني الشائعة باسم المهرجانات
ولأغاني المهرجانات أبعاد كثيرة، وأهم ما يمكننا أن نقف أمامه هي أنها ربما تكون بمثابة الجدار أو الحاجز الصوتي، يقيمه من يمارسها إنتاجا واستماعاً من الشباب ليبتعدوا خلفه عن عالم الكبار الذين يروهم قد أفسدوا كل شيئ.
هـ. ج. ويلز وأنا ...!
أصدقائي يعرفون تماما أخلاقي، فلا مظنة غرور.
اقول هذا بمناسبة اكتشافي أن هـ.ج. ويلز، رائد الخيال العلمي، وشخصي الضعيف، نتفق في أكثر من ناحية :
= هو أديب وأنا أديب
= هو كاتب علمي وانا كذلك
= هو خريج كلية العلوم، وأنا كذلك (كلانا درس البيولوجيا).
= هو مؤمن بداروين، وأنا احترم آراءه وأستمتع بكتاباته، وخاصة نظريته في النشوء والارتقاء
= هو تشيع لنظريات داروين وحولها إلى فكر سياسي اجتماعي، فدعا إلى التخلص من البشر الأدنياء، والمرضى، والمشوهين، والمجانين، بالإضافة إلى الملونين والسود، واليهود، أملاً في أن يصفو العالم، ويتقدم بعد أن يتخلص من المنغصات والمشاكل التي يصنعها كل هؤلاء !
وأنا لم أصل إلى هذه الدرجة من التشدد، ولكني فقدتُ تعاطفي الإنساني مع كل من أراد ويلز التخلص منهم.
= هو كفر بالديموقراطية، لأن هؤلاء الأفراد يسيئون استخدامها، تماما كما حدث، ويوشك أن يتكرر في مصر الآن. وأنا تلح عليَّ الآن فكرة أن على البشر أن يبحثوا عن صيغة أخرى، غير الديموقراطية.
بقي اختلاف بيني وبينه، هو كاتب عظيم، وأنا كاتب متواضع .. وهو كاتب خيال علمي فذ، وأنا لم أقترب من هذا الصنف من الكتابة، إلا في رواية قصيرة (تفضلت "الكلمة" بنشرها).
تأملات ستينية !
أنتمي لجيل مرَّت به أحوالٌ شديدة الوقع ..
كان مولدي في العام 1948 .. سنة (النكبة) !
بدأ وعيي يتفتح مع اشتداد عود ثورة 52 وترسخ وجودها، وتحول قائدها جمال عبد الناصر من مجرد (كولونيل) ثائر إلى صاحب نظرية جديدة في التطبيق الاشتراكي، وارتفاع مد الفكر القومي العربي، وتحقق أول وحدة عربية في القرن العشرين (مصر وسوريا) بقيام (الجمهورية العربية المتحدة)
غنيت في (القسم المخصوص) في المدرسة الابتدائية في مسرحيات صغيرة ضد الطغيان والاستبداد والعهد الملكي البائد.
حفظتُ نص (الميثاق الوطني) في المدرسة الإعدادية.
غنيت مع عبد الحليم للسد العالي.
واصلت طريقي في التعليم، برغم تواضع مستوى أسرتي المادي، حتى تخرجتُ في كلية العلوم، ولم يبلغ مجمل نفقات تعليمي جزءاً مما أنفقته أنا شخصياً على الدروس الخصوصية لأحد أبنائي، في مادة واحدة.
تحمستُ للفكر الاشتراكي، وانضممتُ في نهاية المرحلة الثانوية إلى (منظمة الشباب الاشتراكي)؛ وربما كان الهدف (المضمر) من ذلك هو الحصول على أول بذلة أرتديها، وتمضية أيام طويلة في المعسكرات، حيث الطعام والترفيه أفضل ألف مرة مما كنت أجده في بيتنا !
استفدتُ، واستمتعتُ بـ (السلع) و(الخدمات) الثقافية التي بدأت الدولة الاشتراكية تقدمها لنا، فكنت أقتني وأقرأ شهرياً أربع مجلات وأربع كتب ثقافية دورية، على الأقل، وأشاهد عرضاً أسبوعيا لإحدى فرق مسرح التليفزيون، في مسرح (سيد درويش)، أعلى التياترو، وسعر التذكرة تسعة قروش.
ضربتني النكسة في نهاية عامي الجامعي الأول. كابرتُ ورفضتُها.
التحقتُ لبعض الوقت بكتائب خدمة الجبهة، بالرغم من اضطراري للعمل صيفاً لأغني أسرتي عن تحمل مصروفاتي.
بدأتُ أنشر قصصي القصيرة في الدوريات المحلية والعربية
مات عبد الناصر فور تخرجي في كلية العلوم 1970.
التحقتُ بالجيش في أكتوبر 1970، في وحدة للحرب الكيماوية، في تشكيل قتالي شارك في عمليات حرب أكتوبر 73.
إنتهت خدمتي العسكرية في نوفمبر 1974، وعدتُ إلى الحياة المدنية محملا بأحلام رومانتيكية (عبيطة)، عن وطن منتصر، ينتظر منه أبناؤه أن يحتضنهم ويعوضهم عن سنوات قاسية مرت بهم حتى اجتازوا قناة السويس.
قتل (السادات) هذه الأحلام بسياسة انفتاح (عبيطة)، أيضاً، ضيعت ملامح مجتمع كان يأمل في التقاط أنفاسه وترتيب أحواله المعيشية على نحو عادل.
إنتهى السادات مقتولاً، كنتاج طبيعي لسياسات مجنونة.
حاولت، كغيري من ملايين المصريين، البحث عن (حل فردي)، بعد أن تخلى الوطن عنَّأ، وأفسح ساحاته للصوص وسلمهم مفاتيح خزائنه. فشلت كل محاولاتي للعمل في الدول العربية. السبب: الحنين إلى الوطن !!
شهدت مصر زمناً من أحلك أزمانها، امتد لأكثر من ربع قرن، تربع (الجنرال) مبارك على كرسي السلطة، وكأنه التصق به، حتى أزاحته غضبة شعبية جارفة، فسقط نظامُ حكمه، وظهرت مع السقوط سوءات مجتمع عايش البؤس سنوات طويلة.
..... فهل آن الأوان لنعود إلى حضن وطن لا يرفضنا ؟!
الفصل الكهربي للبروتين ...
في خريف 1976، كنت نموذجاً متكرراً مئات الآلاف، إن لم يكن ملايين المرات، للشاب المصري الذي عايش تقلبات حادة مرت بوطنه، آخرها مشاركته في حرب انتصر فيها جيش بلاده، وهو أحد مقاتليه؛ فلما وضعت الحربُ أوزارَها، إرتكب القائمون على شأن الوطن (أوزاراً) لا تغتفر، وأضاعوا ما تحقق في أكتوبر 73 في متاهات مباحثات زلقة، إنتهت إلى معاهدة مهينة؛ ثم تلاحقت أوزارُهم، فبدلاً من أن تستفيق البلاد وتمضي، ككل البلدان التي خاضت حروباً وخرجت منها منتصرة، أو حتى منهزمة، تعيد ترتيب بيتها الداخلي، وتعتني بمواردها البشرية، تعليماً وثقافةً وغذاءً وحياةً اجتماعية نظيفة، تسودها العدالة، إذا بها تمرُّ بحالة من (الخَـرَف) العام، تفرغ فيها رئيسُها لتدليل ذاته ومداعبة مناطق الشبق السياسي فيها، حتى فوجئ وهو يستحلب لذته ذاتياً برصاصات تخترق نياشينه التي منحها لنفسه، وترديه قتيلاً.
وكنتُ قد أنهيتُ مدة خدمتي العسكرية (ألإجبارية)، وهي سنةٌ امتدَّتْ – من أجل استعادة كرامة الوطن التي لم يكن لي يد في إضاعتها – لأربعة سنوات. وعدتُ إلى الحياة المدنية وكأنني عائد إلى حياة مختلفة، فقد كنت اعتدتُ الحياة العسكرية، إذ كانت ميزاتها المادية أكثر من ميزات الحياة المدنية، فقد كنتُ أجد الطعام سهلاً، طيباً إلى حدٍّ ما، ولا حاجة لي بملابس كثيرة، فأنا طول الوقت في (الأوفر-اول)، ولا أحتاج لمصروفات كثيرة، فحتى السجائر – وكنت وقتها أدخن – كنت أحصل على كفايتي منها من خلال ما كان يقدمه سلاح (التوجيه المعنوي) للجنود من مواد ترفيهية، بينها السجائر؛ إضافةً إلى أنني، طوال السنوات الثلاث الإجبارية، كنت أصرف راتبي من الوظيفة المدنية (وقدره 17 جنيها مصرياً)، إضافة إلى (مستحقاتي) بصفتي (رقيب ه. ع. مستبقٍ)، وقدرها 18 جنيها مصرياً. أي أن دخلي الشهري كان نحو 35 جنيها، وهو الراتب الأساسي لدرجة المدير العام في الحكومة في ذلك الأوان!.
ويجبُ أن أعترف أيضاً أن التواجد في الجيش طوال هذه المدة ولدَّ لديَّ ارتياحاً إلى حياة الصحراء، وكان (الملجأ)، أو (الدُشمة) التي أقيم فيها هي مكتبي وخلوة تأملاتي، وفيها كتبتُ العديد من المقالات والقصص القصيرة، نشرتُ بعضَها في مجلة الجيش، أيضاً، وهي (مجلة النصر)، بدعم من أحد المشرفين على تحريرها، الصديق الراحل، الشاعر الجميل العذب (مصطفى الشندويلي)، الذي كان (يرتب) مكافأة نشر لي قدرها (3 جنيهات كاملة) عن كل مقال أو قصة!.
إذن، فقد (لفظني) الجيش، بعد أن (أكل لحمي)، إلى العراء. عراء اقتصادي، إذ فقدتُ أكثر من نصف مجمل دخلي السابق، وعدتُ (عالةً) على أسرتي الفقيرة، التي يعولُها موظف حكومي صغير بالدرجة السادسة، وكان عليَّ أيضاً أن أوفر تكاليف حياتي الشخصية، كشاب في السابعة والعشرين، متعدد الاحتياجات، يعاني قصوراً حاداً في الموارد والإمكانيات، ويمارسُ أحلاماً مُضَيَّعةً، لا أمل في تحقيقها، في حياة خاصة، يعاود فيها طوراً جديداً في حياته التي (توقفت) لأربع سنوات، بحساب الزمن العادي، أما بحساب استهلاك الروح والجسد، فتقترب من أربعين سنة.
كنت، فعلاً، أفاجئُ نفسي في حالة (شائخة) في كثير من الأحيان. وأنا أدين بالفضل لظروف عملي، كاختصاصي بحث علمي، بالدرجة الثالثة، في المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد، بالأنفوشي. استمتعت في المعهد، معظم الوقت، بزمالة راقية، مشبعة بالمودة، وفرت لي جوَّ أسرة بديلا عن أسرتي التي كنت لا أعايشها إلا لألقي بجسدي في فراشي، بعد انتصاف كل ليلة. وساعدني المناخ العلمي على الاحتفاظ بلياقتي الذهنية، أو بالأصح على أن أستعيدها، بعد أن استنزفتها سنوات (البيادة)؛ وتصادف أن التحقتُ بقسم علمي كان معظم أفراده زملاء دراسة، وأصدقاء الشباب الأول، في قسم علوم البحار، بكلية العلوم.
كنت أقضي معظم ساعات نهاري في المختبر، أو متسكعاً في المختبرات الأخرى، في فترة التفتيش عن موضوع يصلح لأن أسجِّل فيه لدرجة الماجستير، التي لم ألبث أن بدأتُ دراساتها التمهيدية النظرية، واجتزتُها بنجاح. وانتهى أمري بي لأن تكون دراستي حول تصنيف أسماك عائلة التونة في الساحل المصري للبحر المتوسط.
كنتُ سعيداً بدراساتي العملية، التي كانت تتيح لي أن أبقى في مختبري حتى قرب منتصف الليل أحياناً، كما كانت توفر لي الطعام الجيد في بعض الأيام، إذ كنت أشتري، على حساب ميزانية الأبحاث، عينات الأسماك من السوق، وبعد أن (أشتغلها)، أرسلها إلى (شواية) أسماك قريبة من موقع المعهد، ليلتف حولها كل (السهرانين)، وكانت سمكة واحدة من بعض أنواع التونة، تكفي لسد جوع خمسة منا!.
ولا بأس في أن أكشف لكم عن خطتي العملية في تصنيف الأسماك، إذ كنت أستعين على إحكام تحديد النوع بطرق عدة: دراسة الخصائص الخارجية للنوع (الموفولوجيا) – دراسة شكل الهيكل العظمي والجمجمة ونظام توزيع الأحشاء الداخلية – دراسة محتوى المعدة – بالإضافة إلى التصنيف الكيميائي، بتحديد نمط توزيع الأحماض الأمينية المكونة لجزيئ البروتين، وهو نمط مميز لكل نوع، وينطبق ذلك على كافة الكائنات الحية، لا الأسماك فقط. وكانت دراسة هذا النمط تستدعي توفر جهاز كهربي يفصل هذه الأحماض، واسمه (جهاز الفصل الكهربي: إلكتروفوريزيس)، ولم يكن متوفراً في مركزنا البحثي في ذلك الوقت.
وكنت حريصاً على الاتصال بالحياة الثقافية والأدبية في الإسكندرية، وخاصة قصر ثقافة الحرية، حيث كانت نشأتي ونشأة جيلي الأدبية، في نادي الشعر (الأحد من كل أسبوع)، والقصة (الإثنين). ومن أبرز الوجوه في نادي القصة بذلك الوقت، أديبة (علومية)، هي الدكتورة حورية البدري، وكانت لما تزل معيدة بقسم النبات، في ذلك الوقت، وكنت أطلعها من حين لآخر على أحوال بحثي في أسماك التونة. وكانت على علم باحتياجي الشديد إلى ذلك الجهاز.
وتصادف أن كنت في زيارة لمبنى كلية العلوم، في يوم من ذلك الخريف – 1976 – مشاركاً في إصدار مجلة ثقافية للكلية، وكنت أوشك على مغادرة المبني العتيق في (محرم بك)، وفوجئتُ بصديقتي الفاضلة الأديبة حورية البدري تنادي عليَّ، وتستوقفني، وتدعوني للصعود إلى قسم النبات، قائلةً إنها وجدت من لديهم خبرة بالفصل الكهربي للبروتين، ومن المهم لي أن أقابلهم.
إستسلمتُ لها آملاً في سبيل إلى انتهاء مشكلتي في دراستي التصنيفية للتونة، لأقابلها، خبيرة تصنيف النبات، التي تجدونني في الصورة، أجلس إلى جوارها مسترداً هيئة الآدميين، بعد نحو سنة، لا أكثر، من زمن ذلك اللقاء التصادفي، مع حورية البدري، في باحة كلية العلوم.
لكَ إفريزُك .. و لي إفريزي !
تأتي من حين لآخر شواهد تؤكد على غفلتنا.
كنت بالأمس بصحبة أحد أصدقائي المبجلين، وهو من علماء الجيولوجيا البحرية.
تطرق الجديث بيننا إلى سيناريو الجزيرتين والترسيم وكوبري الحاج سلمان.
حدثتُه عن فكرتي التي تدور حول أن السيناريو هو في حقيقته إعدادٌ للمسرح الإقليمي والعالمي لزمن ما بعد النفط، وأهم مشاهده البحث المسعور عن موارد طبيعية بديلة.
لم يكن يعرف شيئاً عن (الميثان هيدرات)، وقود المستقبل، الذي يتكون في مناطق الأفاريز القارية للبحار والمحيطات.
والإفريز القاري لساحل البحر الأحمر السعودي متسع جداً، بينما هو ضيق جداً عندنا.
يعني أن احتمالات تواجد الميثان هيدرات في إفريز السعودية شبه مؤكدة، بينما نحن فقراء فيه.
هنا، رجعتْ به الذاكرة إلى مأمورية بحثية في البحر الأحمر، على ظهر سفينة أبحاث ألمانية، شارك صديقي فيها، وقال إن الألمان كانوا يستخدمون أجهزة الاستكشاف بتركيز شديد في تلك المناطق الإفريزية، ويجمعون عينات قاعية بكثافة، ولا يقولون لأحد شيئاً عن هذا النشاط!
نشرتُ منذ سنوات، في مجلة (البيئة والتنمية) تقريراً عن الميثان هيدرات، عنوانه (إنتبهوا). لا أحسبه وجد صدىً.
إن السيناريو الذي عشناه حتى النخاع في الأسابيع القليلة الماضية، لا هدف له إلا الترسيم، للتأكيد على إبعاد (اليد المصرية) عن إفريز السعودية.
مزدوج الجنسية
لمن يكون ولاء مزدوج الجنسية ؟
وهل يمكن أن يزدوج الولاء ؟
المؤكد أن (الحنين) للوطن الأم غير (الولاء) له؛ فيمكنك ان تظل طول عمرك تحن لوطنك، وقد تزوره بشكل دوري، لزيارة الأقارب، والاطمئنان إلى (الأملاك)، مثلاً. لكن، إن وقفت على محكِّ الاختيار بين خدمة تؤديها لوطنك الأم، وأخرى لوطنك البديل، الذي أعطاك ما لم يتيسر للأول، الفقير، أن يعطيك مثله، أو حتى أقل منه، فماذا يكون اختيارك؟.
مفاتيح فكرية جديدة ...
لا أستسيغُ كثيراً من المصطلحات الأدبية والفلسفية والفنية المستحدثة.
وكنتُ أحسب أن السبب في عزوفي عنها قصور في ترجماتها، إلى أن تمكنت مني فكرة أنها عاجزة عن أن تستوعب حاضر الحضارة البشرية شديد التقلب.
كانت تلك المصطلحات تخرج فيما مضى من بطانة مذاهب فلسفية شقت سطح الحياة كردود أفعال لأحداث جسام، أفقدت الناس ثقتهم في قدرة العقل البشري على إدارة أمور الحياة على سطح الأرض؛ فليس ثمة من يشك في أن سلاسل الحروب الإقليمية والعظمى، التي شهدها القرن العشرون، ليست إلا ضرباً من الجنون، مهما اختلفنا حول دوافعها ونتائجها. فأن يلجأ الإنسان إلى (القتل والتدمير) انتصاراً لما يعتقد أنه (حق)، لا يخلو من تناقض فج!
ومن تلك الأحداث الجسام أيضاً القفزات غير المسبوقة في عالم التكنولوجيا؛ وتراجع الموارد الطبيعية بعد عقود طويلة من استنزافها طلباً للرفاهية، الأمر الذي خلق مناخاً عاماً من عدم الاطمئنان إلى المستقبل.
خلاصة القول أنني أرى أن مذاهب ورؤى قرنٍ مضى باتت قاصرة عن أن تكون (مفاتيح فكرية) يستقبل بها البشرُ الربع الثاني من القرن 21، الذي سيشهد تقلبات لم تخبر البشرية شدتها وقسوتها من قبل، نتيجة اتساع الهوة بين الفقراء المتخلفين، وهم الأغلبية، والأغنياء المتقدمين.
يحتاج العالم إلى مفاتيح جديدة، يجتمع فيها الفكر الفلسفي بالتكنولوجي بالمناخي باللوجستي.
هل ترى (المتوسط) ؟. هل ترى (الأحمر) ؟!
يمكن اعتبار مصر شبه جزيرة تمتد سواحلها للبحرين الأحمر والمتوسط آلاف من الكيلو مترات، إضافةً إلى 4 بحيرات تطل على المتوسط، وبحيرتين داخليتين، ثم نهر النيل.
وتُفاجأ بأن المصريين يأكلون أسماكاً تنتجها مزارع سمكية تنافس الزراعة على الأرض، ويتحكم في أسعارها تجار جشعون!
إن معظم المصريين لا يعرفون، حتى، أسماك البحر ومنتجاته الأخرى من قشريات ورخويات، فإن تيسرت لهم أسماك فهي من المياه العذبة والمزارع.
ولن تستطيع المزارع أن تفي باحتياجاتنا من البروتين السمكي مع تزايد تعدادنا، فعلينا إن سارت الأمور على ما هي عليه أن نتوقع تصاعد أسعار أسماك المزارع أكثر وأكثر، فالإنتاج محدود والطلب متزايد، والضمائر، مع الرقابة، معدومة.
فما السبب في أننا (لا نرى) بحارنا؟!!
إن الاعتماد على الجهود الأهلية الفردية في أنشطة الصيد البحرية لن يجدي، فالصيد البحري أصبح صناعة عصرية، تعتمد على معطيات تكنولوجية عالية في نواحي الاتصالات والرصد وأدوات الصيد وسفنه.
لقد بدأنا بداية طيبة، وكانت لدينا شركات للمصايد، أتذكر منها شركة المصايد الشمالية، وكانت تعمل في المياه الدولية، وهي التي غيرت ثقافة الطعام عند المصريين وأدخلت عليها الأسماك البحرية، وكان الناس يحصلون على إنتاجها من أسماك (الشاخورة)، مثلاً، بقروش زهيدة.
فجأةً، إنهارت الشركة، وبيع أسطولُها كـ (كهنة)!
لماذا لا نلتفت لبحارنا؟.
أثناء عملي في معهد علوم البحار كنا نشارك في تحقيقات مع سفن يونانية تصطاد في مياهنا المتوسطية الغربية، وقد أدى نشاط تلك السفن إلى تدمير مخزون طبيعي من الأسفنج الذي يزدهر نموه في تلك المياه.
لماذا لا نشجع الاستثمار في أنشطة الصيد في مياهنا الإقليمية وأعالي البحار ؟
هل إغلاق هذه الأبواب مقصود، لصالح غيلان المزارع السمكية؟!
لدينا قسمان علميان لعلوم البحار، في جامعتي الإسكندرية وقناة السويس، ومعهد قومي لعلوم البحار، ومئات العلماء، وآلاف الأبحاث، ومخزون هائل من الخبرات، وكل ذلك مُهدرٌ، لا يفيد في عمليات إنتاج الطعام البحري من سواحلنا التي لا نستحقها!
عجوز مستنير يأكل الفول في ترام الرمل ..!
يدهشني من وقت لآخر أبطال الحياة اليومية من آحاد الناس، من صنف هذا العجوز الذي جلست إلى جواره في ترام الرمل ظهر اليوم.
كان يجلس إلي جواري فلم أر من ملامحه إلا خط وجهه الجانبي، وبروزاً كبيراً، أحسبه ورماً، في منتصف جبهته، وشعراً مهملاً، وملابس شديدة التواضع. كان يضع على كف يد رقاقة معدنية بها طعام، ويأكل باليد الأخرى.
بدأ حديثه كمن يعتذر عن بساطة طعامه من الفول المدمس، وحسبته سيمضي مثرثراً فيما لا طائل منه، فأدهشني برؤية عميقة لمسائل الغذاء، هي مكون أساسي لجانب من هذه المسائل.
قال: ماله الفول؟. أحسن من الهمبورجر.
قال أيضاً: الهمبورجر جاء إلينا من بلاد الشمال .. من بلاد الجليد، حيث الناس يأكلون الهمبورجر بما فيه من دهون لتدفأ أجسامهم، ورحنا نحن نقلدهم، ربما مأخوذين بالتسمية (همبورجر)، ونحن لا نعرف معناها، فهي نسبة إلى مدينة ألمانية هي هامبورج. ما لنا نحن وغذاء أهل الشمال؟.
وكان يتخلل حديثه بعض كلمات بلغة عربية فصيحة سليمة. ولم يكن يبدو مختلاً أو معتوهاً.
أنا واثق من أنه - كما قلت له - رجل مثقف، فقد تطرق إلى مسائل عميقة تؤرق العالم بطريقة بسيطة مدهشة، وهو واع لما يقوله.
لو كان هذا العجوز المستنير بقي ملتزماً الصمت لما أحس به أحد، ولكنه لما تحدث (رأيتُه)، وأدركت أنه واحد من البسطاء الذين يسعون في الحياة، دون أن يلتفت إليهم الآخرون.
تحالف قوى الشعب العاملة ..
من التساؤلات التي لا أكف عن تأملها وأنا أراجع أحوال التجربة الاشتراكية في ستينيات القرن الماضي، بصفتي ناصري الهوي: كيـف تأتَّى لجمال عبد الناصر أن ينحت ويُطلق مقولة (تحالف قوى الشعب العاملة) ؟! .. هل كان حالماً ؟
إنه الحلم المستحيل، فقد أثبتت الأيام أن تلك القوى العاملة، التي كان يريد لها أن تتحالف، لا تجتمع على حال إلا التناقض، ولا على صفة إلا ثقافة القبح والتكالب على الفتات والاستعداد لتوفير ظهورها لمن يركبها.
أخيراً .. أمام عربة الفول !
من معالم الحياة الاجتماعية/ الاقتصادية/ السياسية في مصر الآن انتشار عربات الفول المدمس في كل مكان.
بدأت علاقتي بهذه العربات بالتأفف من منظرها العام المتردي، ومستوى نظافة كل شيئ فيها، من البائع حتى أوراق لف الأرغفة المحشوة بالفول المدمس.
ولما فرضت العربات نفسها، وأصبحت ظاهرة، لم تعد مستغربة.
وكانت بداية تعاملي معها بالتقاط لفافة فول لآكلها في الطريق، أو جالسا في مقهى. وكنتُ أراقبُ المتحلقين حولها وأمامهم صحائف الفول والمخلالات وشرائح الطماطم، وأتساءل، هل يأتي يومٌ وأخوض هذه التجربة ؟
أتي اليوم بالأمس، الثلاثاء، في نحو العاشرة صباحاً، وأنا خارج من باب مستشفى التأمين الصحي في (طوسون)، والجوع مستبدٌ بي. عبرتُ الشارع لجهته الأخرى، فوجدتُ تظاهرة عربة فول بجوار سور السكة الحديد، خط أبي قير.
والغريب هو أنني فكرتُ أن أحداً لن يراني، فالمكان بعيد جداً عن أن يتواجد فيه من يعرفني؛ ولست أدري لم فكرتُ في هذا؛ غير أن الدافع القوي الذي أدخلني إلى (حلبة الفول المدمس) هو الجوع.
وكان صاحب العربة فتى نشيطاً، متحمساً لعمله، منظماً، يجيد استخدام زبائنه، موزعاً عليهم جميعا لقب (باشا)، وهو لا يعلم أن باشا في التركية تعني (الشبشب(!.
طلبتُ طبقاً، فأعده لي من الفول الساخن، أحمر اللون، ممزوجاً بالطحينة البيضاء، والزيت، والكمون والملح، وأضفتُ أنا إليه قطعاً صغيرة من الطماطم، وعصرتُ نصف ليمونة، ثم أضفت قطعتي (فلافل). يا للهول !
وفر لي البائع شوكة، لكنني لم أستعملها إلا في تجهيز الخليط الديناميتي، واستخدمتُ أصابعي وقطع الخبز في (التغميس)، الذي بدأ في ارتباك واضح، ثم لم يلبث أن انتظم، ولم تعد أشياء تقع مني على الأرض!
كان ما شعرت به من متعة بعد هذه (المغامرة) المدمسة يعود أولاً لكسري حالة التخوف من الاقتراب من العربة، وثانياً، لحالة الشبع التام بطعام أحسستُ به لذيذاً، ومختلفاً تماماً عن الفول (الرسمي)، على مائدة البيت، أو في السندويتشات التقليدية.
وطول الوقت، لم يكف البائع عن تسميتي بالباشا، حتى أخذ مني قيمة الفاتورة: أربعة جنيهات ونصف الجنيه !
يستحقون الازدراء ...!
قابلتُ في مشواري الشاق في دروب الحياة الثقافية نوعيات مختلفة من البشر .. كثيرٌ منها نقي السريرة طيب المعدن، وكثيرٌ أيضاً في طابعه الخِسَّةُ ..
فأما النوع الأول، فلي منهم أصدقاء خلصاء. وأما نماذج النوع الثاني متدنية السريرة، فكانت تمارس ناحيتي أشكالاً من التجاهل والإهمال، دون أن تحاول حتى أن تتعرف على ما أكتب وأنتج، ولا غرابة في ذلك، فكلهم نصف موهوب أو ربع مثقف ....
لم أتأثر كثيراً بسلوكيات الأدنياء، وإن كنتُ تأذيتُ منها، فقد كان بأيديهم، كموظفين ومسئولين إداريين في بعض الهيئات الثقافية، أن يفوتوا عليَّ فرصاً أنا أحقُّ بها ممن يحصلون عليها؛ وكنت طول الوقت قادراً على مواجهتهم، وأنا ماضٍ في طريقي، أعمل بجد ومثابرة، بينما هم يتساقطون كمناشف دورات المياه!
أقابل كثيراً منهم الآن، وأجدني أقابلهم بما يستحقونه من ازدراء، فهم لا يستحقون شفقةً.
أنا (أبطال) قصصي ..!
قرأ مجموعتي القصصية، ورفع سماعة التليفون ليحاسبني على بعض ما بها من وقائع وأحداث، متصوراً أنني (بطل) كل القصص!
وهذا شأن متكرر، يعرفه معظم كتاب القصة والرواية.
يا صديقي .. أنت بتصوراتك هذه تُضفي عليَّ قدرات ليست فيَّ، ولم أمتلكها كلها في يوم من الأيام، فكاتب القصة إنسان (كذَّاب) (خبَّاص)، بائع أوهام، وإن كان متمكناً من حرفته فهو (أكذب) و(أخبص)، ويستدرج قارئه فيوقع معه على عقد ينص على أن يتيح الطرف الثاني (القارئ) للطرف الأول (القاص) الفرصة لأن يخدعه، ويبيع له أوهاماً.
هذا ملخص للعلاقة بين الكاتب والقارئ.
ويمكن أيضاً تشبيه القاص أو الروائي بمن يبني بيتاً، يأتي بأحجاره من محاجر يمتلكها هو فعلاً، أو من محاجر افتراضية، ويأتي ببعضها من محاجر آخرين، أو من بيوت هجرها أصحابها أو تهدمت.
إن تجربة الكتابة هي (معايشة)، وليست (عيشاً) ..
وهذا ما لم أقله لصديقي في التليفون، لأنه كان (مصدقاً) بشدة أنني (أبطال) قصصي كلها!
حامد جوهر لم يحصل على درجة الدكتوراه ...
أخبرني بذلك صديقي الدكتور مصطفى فوده، مؤسس المحميات الطبيعية في مصر، في لقاء معه مساء أمس ..
كان فوده قريباً من جوهر في سنوات حياته الأخيرة، وهو من أخبره بعدم حصوله على درجة الدكتوراه، التي ذهب إلى "كمبردج" من أجلها ..
والدكتوراه، لمن لا يعرف، نوعان: الأولى في (فلسفة العلوم - Ph. D) والثانية - الأعلى - في العلوم (D. Sc.)، وقد مُنح جوهر الثانية، دون أن يمر بالأولى، بعد أن قدم للجامعة 12 بحثاً جديداً عن أحياء البحر الأحمر، وبلغت قيمتها العلمية درجة رأت معها جامعة كمبردج العريقة أنها ترقى لمرتبة الدرجة الفاخرة، أعلى تكريم علمي للعلماء الحقيقيين ..
برافو ... عليَّ ...!
أزعمُ أنني أجيدُ اتخاذ القرارات الفورية .. خبرة متراكمة، لا أكثر.
من هذه القرارات، قرار اتخذتُه وأنا أمام الميكروفون، في ندوة لمناقشة كتاب صدر لصديق قديم.
كانت الندوة في مركز الإبداع، وكان يديرها أحد أساتذة جامعة الإسكندرية، وكان أستاذا في (الجغرافيا)، وواحد من الذين تلوثوا (جينياً) في الحظيرة المباركية، والكتاب عن الحياة العلمية في الجامعات الإنجليزية، وقت أن كان المؤلف يدرس لدرجة الدكتوراه في (الفيزياء).
إيه اللي لم الجغرافيا على الفيزياء ؟. شبكة تبادل المنافع الفطرية.
كنت عايشت تجربة إعداد نص الكتاب قبل طباعته، وأزعم أن أحداً في القاعة لم يكن ليعرف عنه أكثر مما أعرف، بمن في ذلك مدير الندوة، بتاع الجغرافيا. وجِئتُ أشارك في (الاحتفال) بكتاب طيب، ومؤلفه صديق، وأنا (مذاكر) كويس أوي!
ولما جاء وقت المداخلات، طلبتُ مداخلة، فسمح لي السيد المدير، فوقفتُ لأتحدث، وبدأت أفتح ورقةً كتبت فيها ملاحظات قصيرة لمقاومة النسيان، فإذا بالسيد المدير (يضبطني) أعد ورقتي، ويعترض، مطالباً عدم الحديث من ورقة، وحدد لي وقتاً قصيراً جداً، أظنه 3 دقائق، وبلا ورقة.
نظرت إلى صديقي المؤلف الجالس إلى جانبه، فلم يبد أي رد فعل.
قلت لمدير الجلسة: أنت تحتكر الكلام طول الوقت، بدون وجه حق، وتدلي بآراء خاصة حول الكتاب، وبعيداً عنه، ولا أحد يستطيع إيقافك، مع أن المدير لا يقول رأياً، وإنما ينسق بين الآراء.
فأصر، في عصبية على دقائقه الثلاثة، وبلا ورقة. هنا، أعلنت انني لن أتحدث، إحتجاجاً على أسلوب المدير القميئ. وابتعدتُ عن مكان الميكروفون.
العجيب أنه بعد انتهاء اللقاء، اقترب مني كثيرون، أكدوا على صحة موقفي، وأبدوا لي أسفهم من أسلوب المدير بتاع الجغرافيا الذي تحدث عن أشياء كثيرة غير الكتاب، لأن الكتاب كان يحكي عن مختبرات الفيزياء.
ألا أستحق أن أقول لنفسي (برافو)؟!
المركز القومي للترجمة .. إصلاحٌ وتهذيبٌ!
لوحات مظلمة مهداةٌ إلى الغائب "طلعت الشايب" .. أطفأوا مصابيحك!
===
(2)
زيارة لإدارة فنون الترجمة في الديوان العام لوزارة المالية!
------
دخلتُ صباح اليوم مبنى هذا الديوان للمرة الأولى، وللحقيقة، فقد فوجئتُ بنظافته، وبالكم الهائل من (الطاقة الإيجابية) التي تهبط على زائريه فتغمرهم وتهدهد أرواحهم.
لم أبذل مجهوداً يُذكرُ للوصول إلى إدارة (فنون الترجمة) في مبنى الوزارة، فهي إدارة معروفة جداً، تسوقك إليها لافتات أنيقة، وخطوط ملونة، إن اتبعتها، بمساعدة اللافتات، وجدتُ نفسك أمام باب سحري، ما إن تتجاوزه حتى تسمع بأذنيك، وكأنك تحلم، عبارات الترحيب بالعربية الفصيحة، والإنجليزية، والفرنسية، والفارسية، واليابانية، والألمانية، والصينية، والعبرية، والفرعونية!
هل تشك، الآن، في أنك في بيت ترجمة أصيل؟!
صحيحٌ أنني لم أجد مقعداً، ولم يستقبلني موظف متأنق بربطة عنق غالية، ولكني لم أشعر بأي غرابة، بل لم أكن بحاجة لبشر في الإدارة، فقد تكفل الـ (إيه-آيُّــون) بكل شيئ ..
لاشك أنك بحاجة لأن أفسر لك معنى (إيه-آيون) .. إنها وحدات الذكاء الاصطناعي (AI) .. وضحت؟!
لا تثريب عليك، فأنت لم تزر، مثلي، إدارة فنون الترجمة في مبنى ديوان وزارة المالية! . لم تحظ بمتعة التخاطب بملامسة سطح بلازمي شفاف، ما إن بدأتُ حواري معه حتى تدحرجت عليه محتويات ملفي الشخصي، فيما يتصل بنشاطي في الترجمة، ومعاملاتي المالية المترتبة عليه.
تصاعدت وردات ملونة، رسمت تهنئة لي، تقول: نشاط طيب، نرصده لك منذ سنوات.
قلتُ بصوت مسموع: شكراً. رد صوت أنثوي بديع: لست بحاجة لأن تشكرنا.
لم أعرف كيف أبدأ في طرح المسألة الرسمية التي جئتُ من أجلها، ومع ذلك، انطلقت عبارات بلازمية بتتابع يتيح لعينيَّ متابعتها.
كانت تقول: نعلم ما جئت من أجله. لا شأن لنا بوجود إدارة مرتعشة في المركز القومي للترجمة، لا تعرف ما الإدارة الحديثة، ولا تجيد مخاطبة المترجمين الأصلاء، مثلك، بل تمارس معهم نوعاً من الإرهاب الإداري، فترفع في وجوههم فرمانات مثيرة للشفقة، كانت سائرة في القرن الثامن عشر، صكها ناظر المالية الأول محمد لاظوغلي باشا!
قلت في أسىً واضح: وكيف تتركوننا فريسة لأناس من خارج الزمن؟!
قال الصوت فادح الأنوثة: يرفضون الاستجابة للزمن، وتتحكم فيهم دوافع نفسية، بحكم كونهم كائنات (موظفة) خالية من أي رائحة لموهبة، معادية لكم، أنتم المترجمون، الذين تتحملون مختارين أمانة اللحاق بعجلة التطور.
وانتهى الزمن المحدد لي مع النظام الإيه-آيوني، فرفعتُ له إصبعيَّ الإبهام في كفيَّ، معاً، وغادرت، مستعيناً باللافتات والأسهم الملونة ..
كيف وجدتُني خبيرَ مناخٍ؟!
لم أدرس المناخ إلا لِماماً، ضمن مادة علوم البحار الفيزيائية، في مرحلة البكالوريوس، ثم كمقرر صغير، درَّسه لنا أحد ضباط القوات البحرية، في الدراسات التمهيدية للماجستير، بقسم الدراسات البيئية، بمعهد الدراسات العليا والبحوث، بجامعة الإسكندرية.
وكانت لي اجتهاداتي المتواضعة في تتبع المعركة الوجودية المصيرية التي لا تزال تدور وقائعها حتى الآن، بين أناس يعيشون معنا في هذا العالم، ولا يأبهون بما يطرأ على مناخه من تغيرات فادحة، تنذر بكوارث لا قِبل للبشر بها، بل إن بعضاً منها وقع بالفعل، ويقع بين حين وآخر، وأناس يهتمون بهذه المسألة، ويحاولون إعلاء صوت العقل.
وكان تتبعي لهذه القضية من أجل أن أعد مقالات قصيرة (أنتجت منها العشرات) تتصل بالمسائل المناخية، نشرتها في أكثر من دورية ثقافية عامة. غير أنني أدين بخبرتي المتراكمة بالمسائل المناخية للكاتب والمترجم الكبير، الأستاذ (طلعت الشايب)، الذي غادرنا منذ أيام قليلة، رحمه الله.
كلفني طلعت الشايب بترجمة ثلاثة كتب وثيقة الصلة بنواحي مختلفة من قضية المناخ. كانت البداية بكتاب أعطيتُ له عنواناً هو (تبعات المستقبل - إقتصاديات عالمٍ يحترُّ)، وهو ترجمة (روحية) للعنوان الأصلي للكتاب. وكما هو واضح، فإنه يتناول عرض آراء مختلفة حول جدوى الإنفاق العالمي من أجل (إصلاح) أحوال المناخ الكوني. وبالطبع، فإن الكتاب ينتصر للجانب المظاهر لضرورة مواجهة تدهور أحوال المناخ، مهما كانت تكلفتها الحالية، لأن كلفة الخسائر التي يمكن أن تترتب عليها مستقبلاً مرعبة.
أما الكتاب الثاني، فكان عن تحديات تغير المناخ في القارة الأفريقية. وهو كتاب غاية في الأهمية بالنسبة لنا نحن (ألأفارقة من غير ذوي البشرة السوداء)، فالقارة الأفريقية معرضة لتغيرات مناخية شديدة، ستكون آثارُها مزعجة، ولا يمكن إغماض الأبصار عنها، فسوف تكون لها ترديداتها المؤثرة في سائر أنحاء القارة.
أما الكتاب الثالث، والذي صدر منذ شهر تقريباً، فهو (مناخ ما قبل التاريخ)، وأعترف بأنني لم أكن أعرف شيئاً عن المناخ، ولا عن تاريخ الحياة على سطح الأرض، قبل أن (أعايش) هذا الكتاب حتى النخاع، وأنا أترجمه. إننا لا نرى إلا تحت أرجلنا. ولا صلة لنا بتاريخ الحياة على الأرض، وهو يمضي في (دورات) شبه ثابتة متكررة، تخضع خضوعاً تاماً لأحكام المناخ، الذي يقضي باندثار حضارات وبزوغ أخرى، وانقراض أنواع من الكائنات الحية وسيادة غيرها، ويحرك الكتل البشرية غرباً وشرقا وشمالا وجنوبا، ويخلط الأجناس، وينقل الخبرات .. الخ. فالمناخ هو (قانون) الأرض!
ســـنةٌ فيـســــــبوكِيَّـــةٌ !
أحمدُ الله كثيراً على أنني (أدركــتُ) الفيس بوك، وأزعمُ أنني من مجيديه، وقد أفدتُ منه كثيراً، كإنسان يحرص - قدر الإمكان - على التواصل الاجتماعي، وكمشتغل بالكتابة؛ وقد أنقذني من هجمات موجات الاكتئاب، على النقيض مما يدعي به أطباءٌ نفسيون من أنه يحفزها.
وما أكتبه الآن يقومُ على فكرةٍ، توسَّــمتُ فيها الطرافة، وهي أن أسترجع أحداث ثورة 25 يناير، بمراجعة مُـرْسَـــلاتي، أو (البوسطات – Posts)، لأنها انعكاس مباشر للأفكار، في صفحتى بهذا المحفل الدينامي البديع، على مدار سنة فيسبوكية، من 25 يناير 2011، إلى 25 يناير 2012. وبالطبع،
فثمة الكثير من الشئون والإشارات المضمخة بـ(الذاتية)، لن أمسها، فهي لا تهم القارئ، وإنما سأعالج ما اعتقدت في موضوعيته، ويتصل بالثورة التي كان الفيس بوك ميدانها الأمامي !.
في الساعة الواحدة والثلث، ظهر يوم الثلاثاء 25 يناير 2011، أرسلت أخبرُ أصدقاء الفيس بوك بأن العدد رقم 557 من جريدة (القاهرة)، الصادر صباح ذلك اليوم، فيه - على صفحته الأخيرة – مقالي المعنون "رسالة النار .. الاحتجاج احتراقاً !"، وفيه أقول، إن حادثة (محمد البوعزيزي)، الجامعي العاطل، بائع الخضروات الجائل في بلدة (سيدي بو زيد) التونسية، لن تكون نهاية مسلسل حوادث الاحتجاج بإحراق الذات. وينتهي المقال بتساؤل : ترى، من سيكون مرسل الرسالة التالية ؟.
وفي الثاني من فبراير، أرسلتُ أقولُ: كنا نعاني جنرالاً واحداً، فأصبحوا ثلاثة!. وعلقت صديقتي الشاعرة (هبة يونس) : من هؤلاء الثلاثة؟. وتعجبت من سؤالها، ولكني أجبتها: مبارك وسليمان وشفيق!. ودعوتُ في الرابع من فبراير إلى (الكف عن عادة تاريخية مذمومة : تقديس الحاكم). وتعبيراً عن الدهشة التي عشناها أمام هذا الحدث المداهم المفاجئ، كان يجب أن ألاحظ، بتاريخ 5 فبراير: (معنى ما حدث، ويحدث، وسيحدث، هو أن النظام المنهــار كان هشـــاً جداً .. كان مخــوَّخاً!)، وأن أودع الحزب الوطني، إلى غير رجعة: (الحزب الوطني .. باي .. باي!). في اليوم التالي، أرسلت دعوة إلى محاكمة شعبية للفساد والمفسدين، وقلت: قد تكون الحكومة جادة في ملاحقة الفساد والمفسدين جنائياً، ولكن خبرتنا مريرة ببطء الإجراءات القانونية، وأحوال المحاكم والقضاء في مصر، مع سطوة رأس المال وقدرته على تجييش المحامين من محترفي إنقاذ المفسدين، وممن يجيدون البحث عن ثغرات في نصوص القوانين، على نحو ما جسده عادل إمام في أحد شرائطه .. شكوك تاريخية يغذيها زمن طويل من افتقاد الثقة؛ فلا ينبغي أن يحول ذلك دون إجراء محاكمة سياسية شعبية لرموز النظام المنهار.
وفي 7 فبراير، طلبت من الثوار أن يضيفوا إلى مطالب الثورة تنظيف الصحف المملوكة للدولة من أذيال لجنة السياسات وعملاء وزارة الداخلية .. نريد استرداد هذه الصحف!. ونوهتُ، في اليوم ذاته، إلى مقالي المنشور في موقع (ميديل إيست أون لاين)، وعنوانه: 1968 .. عندما ثار شباب العالم. وفي اليوم التالي، كانت دعوتي إلى ما أسميته "ثورة الإسبراي" (عرفت فيما بعد بالجرافيتي، وانتشرت الرسومات وصيحات الاحتجاج على الجدران – من فضلك، راجع دراستنا عن جداريات الإسكندرية في عدد ديسمبر 2011 من مجلة إبداع)؛ وتلخصت الدعوة في كلمات: أنبوبة إسبراي لكل مواطن نملأ بها جدران مدننا - نكتب كلمة واحد: لا نريدك معنا! وفي اليوم ذاته، تحدثت للشباب، متخوفاً:
يــا شــــــبـاب .. أرفضـــــوا الآبــــــــاء! وكنت أتمنى لو كان للحركة الثورية الشبابية في ميدان التحرير القدرة على تحقيق ذلك؛ ولكن الآباء التهموا حركة الشباب، وأقصوهم خارج المشهد. وفي الخامسة والنصف من يوم 11 فبراير، كان لي رأي: خطأ تاريخي لعبد الناصر، تعيين السادات نائباً، وخطأ تاريخي أفدح للسادات: تعيين حسني نائباً .. متى تنتهي أخطاؤنا التاريخية؟ وكان هذا الرأي نقطة أساسية في مقالي : (عمرٌ ضاعَ)، الذي كتبته يوم 14 فبراير، ونشر بعد ذلك في (اخبار الأدب).
ويستوقفني، في 17 فبراير، شريط فيديو، مع تعليق بسيط: طرحت عائلة طفلة يابانية ذات خمسة أعوام، اسمها "نينا"، على اليوتيوب، شريط فيديو لها وهي تتحدث لوالدها، وتشرح له ما يحدث في مصر، وتقول ببساطة وبراءة إن المظاهرات والاحتجاجات مستمرة في ميدان التحرير، وسط القاهرة، منذ أسابيع، بهدف إسقاط نظام الحكم، إلا أن مبارك يخيب أمل شعبه ويرفض التنحي! شريط آخر تداوله الفيسبوكيون في نفس الوقت، لرئيس الوزراء، الأسبق، الفريق أحمد شفيق، في حوار ساخن جداً على الهواء امتد لأربع ساعات، وأداره ريم ماجد ويسري فوده، واستضاف: د. أحمد كمال أبو المجد، ود.عمرو حمزاوي، ونجيب ساويرس، والروائي علاء الأسواني، والإعلامي حمدي قنديل. وكان لهذا الحوار تأثيره في ما تلى من تطور متسارع للأحداث.
ومن أهم (بوسطات) مارس :
- أتيلييه الإسكندرية ينظم أول حدث ثقافي بعد ثورة 25 يناير، ويستلهم روحها، في مؤتمر عنوانه : ثقافة المستقبل/ مستقبل الثقافة؛ ويتخذ شعارا له كلنة (كايروس) اليونانية، ومعناها (اللحظة المواتية)، التي إن لم تقتنص ضاعت، وضاع معها كل شيئ.
- إشارة وردت في موقع شركات تجارية عربية بالإنترنت إلى أن المتهمين علاء وجمال مبارك تلقيا 5% من قيمة عقد تصدير الغاز المصري لإسرائيل.
- شريط فيديو لأحد المتأسلمين السياسيين، أثار موجة استياء بقولته عن (غزوة الصناديق)، وتبجحه بأن (البلد أصبحت بلدنا)!.
- شروط تأسيس الأحزاب مجحفة للشباب والفقراء المتطلعين للمشاركة في الحياة السياسية، فهم لا يتحملون تكاليف إثبات صحة توقيعات المؤسسين ونشر أسمائهم في صحيفتين كبيرتين. لماذا لا يتم ذلك في موقع بالإنترنت، تحدده الإدارة المسئولة، وتعطي حق الدخول إليه لوكيل المؤسسين، نظير رسم معقول، لينشر الأسماء بهذه الطريقة العصرية، التي كانت أداة الشباب أصحاب الثورة، حتى لا يحرموا ثمار جهودهم.
ومن محصول شهر أبريل :
- خبرٌ مستفز منشور في موقع (ياهو) بتاريخ 4 أبريل، عن عزم أحد الممثلين البدء في تصوير فيلم يحكي السيرة الذاتية لمبارك!
- بيان مستفز، صادر في 13 أبريل عن مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية، يبدي فيه الأمناء (استغرابهم) لاحتفاظ سوزان ثابت بـ 143 مليون دولار من أموال المكتبة في حسابها الشخصي.
تعليق : لماذا لم يتقدم (أمناء) المكتبة ببلاغ للنائب العام عن عملية السطو التي تمت على أرصدة المكتبة، بدلاً من اكتفائهم بالاستغراب، وحرصهم الغريب على تجديد الثقة بمدير ســكت على سرقة أموال المكتبة؟
تعليق: فإن كان ما تم قد حدث في غفلة من المدير، فالغفلة لا تليق بنائب رئيس البنك الدولي السابق في مسألة مالية - أرجو من المجلس العسكري الموقر أن يتدخل ويوكل المراجعة الكاملة لمجمل أحوال المكتبة للجنة عدلية فنية متخصصة .
تعليق: هل يمكنكم تصديق رجل له خبرة دولية بالشأن المالي، ومسئول عن مؤسسة ثقافية عظيمة، عندما يقول أنه لم يكن يعلم شيئا عن فساد سلطوي ظل يضرب أرصدة مؤسسته سنوات طويلة؟ .. كيف نصدق؟. يا ناس .. لا نريد أن نعود إلى الصمت على من يفترضون فينا الغباء، وينتظرون منا السكوت .. سيعودون بنا إلى الوراء، ما داموا قابعين في أماكنهم، يرقدون على بيض يفقس مزيدا من الفساد!
تعليق: خدم (العيلة المباركية) منتشرون في مواقع كثيرة .. يرتدون أقنعة، ويتجملون، ويظهرون غير ما يبطنون؛ وبعضهم يحرق الأرض تحت أرجل الثورة، على أمل أن يعود أصحاب النعمة، ويعودون هم للخدمة.
- الحوار الجاري الآن بقيادة (الجمل) يتجاهل المثقفين خارج أضواء القاهرة، وهو بذلك ســادرٌ في خطيئة النظام السابق .. لم نسمع في الدائرة المختارة إلاَّ الأفكار ذاتها، التي يرددها أصحابها هنا وهناك ويملأون الدنيا بها ضجيجا، فكأن مصر تتلخص في حلقة لا تتغير من مثقفي القاهرة .. من حقنا في الأقاليم أن نشارك ..
أوردت رويترز من أديس أبابا في 19 أبريل: اثيوبيا تبقي مصر بمعزل فيما يتعلق بسد على نهر النيل. قال وزير الموارد المائية الاثيوبي ان بلاده لم تبلغ مصر عزمها بناء سد ضخم على نهر النيل وان البلدين لم يبحثا القضية على الرغم من مخاوف من نشوب نزاع بينهما.
تعليق: أقترح اتهاما إضافيا لمبارك وعصابته: إهمال مسألة نهر النيل والموارد المائية، فهو أخطر من مجرد إهدار أموال، مهما بلغ حجمها، لأنه إهدارٌ للحياة وللمستقبل في مصر، وعواقبه وخيمة، لا يعلم مداها إلا الله. هذا بلاغ للناس .. وللنائب العام.
- خبر: عن موقع ميدل ايست أونلاين: (جائزة النيل) تجرف جائزة مبارك. مجلس الوزراء المصري يستجيب لمطالب المثقفين ويلغي أكبر جائزة في البلاد تحمل اسم الرئيس المخلوع، ويعوضها بأخرى تليق بكرامة مصر.
تعليق: هذا خبر طيب، وثمرة من ثمار يناير. فملعون من يعاود هذا السلوك القبيح ويخلع اسم الحاكم على جوائز مصر ومشروعاتها، فلا فضل لأحد في إنجازات، وإنما الفضل كله للشعب. بل إنني لأدعو إلى التخلص من مظهر قبيح آخر، هو فرض صورة الحاكم علينا في الدواوين الرسمية والميادين .. لا نريد فرعونا أو إلها أو نصف إله، وإنما مصريا كفؤاً، نختاره ليقود فريق العمل زمناً، ثم يمضي لحاله، مشكورا محترما.
ومن أهم ما شغلني في مايو، تكوين مجموعة في الفيس بوك أسميتها (مطاردو الفساد)، تمنيت لو يتوفر عليها فريق من الأصدقاء المتحمسين، فلم يستجب كثيرون. ومن القضايا التي أثرتها، عمولات السلاح. أرسلت في آخر مايو:
- هناك مسألة مسكوت عنها وعليها .. لم يقترب منها أحد .. وها أنا أفتح على نفسي عش الدبابير وأقترب منها: صفقات الأسلحة لمصر، وعمولاتها؟ .. من استفاد من هذه العمولات، التي هي في كثير من الأحيان سرقات مقننة .. من نهب عرقنا ودماء شهدائنا؟ .. إفتحوا لنا الملفات وإلا كنتم من الشياطين الخرس!
وفي الرابع من يونية، نشرت جريدة المساء تفاصيل محاولة الاحتيال والتدليس التي قامت بها سوزان ثابت للاستيلاء على قصر العروبة (بالمستندات .. قصة شراء سوزان مبارك قصر العروبة وتوكيل التنازل عنه)، ومن المثير للريب أن يتم التعتيم على هذا الخبر، وتتخاذل الدولة عن محاسبة المحتالة!
تعليق: إلى الذين لا يزالون يتعاطفون مع (العائلة الناهبة) .. ما رأيكم؟ .. عملية نصب (مشفية) .. (ما تخرش الميه) .. ولا أجدعها نصاب محترف .. يا ريت نعرف مين مهندس هذه العملية؟ .. أعتقد أنه يحمل صفة وزير. عملية نصب واحتيال مقرونة بتزوير في أوراق رسمية. يا رب سلحفاتنا القضائية تشد حيلها شوية!
تعليق ثان: تخيلوا معي .. امرأة أعطوا لها لقب السيدة الأولى. تحولت إلى ناشطة اجتماعية وسياسية وثقافية وشخصية مجتمعات دولية، وكانت حريصة على تثقيف الناس من خلال مشروع للقراءة .. ثم .. تقوم بعملية نصب واحتيال وتزوير لتأخذ قصرا من قصور الدولة، وتنشر الفساد في كل موقع تحل به .. أي تركيبة نفسية شيطانية هذه؟
واستوقفني في أخبار يونية أيضاً أن (بن اليعازر)، وزير الدفاع والصناعة الإسرائيلى الأسبق، والعضو الحالى بالكنيست الإسرائيلى، والمسئول عن قتل الأسرى المصريين فى حرب 67، قال: بكيت على مبارك .. وحذرته من الثورة فقال: لسنا تونس)!
كما استوقفني في الثاني من يوليو خبر يقول: (كشفت الشرطة البريطانية «سكوتلانديارد» أن علاء مبارك نجل الرئيس المخلوع ضبط في مطار هيثرو الانجليزي «عام2010» وهو ينقل قطعة أثرية ذهبية مغلفة بالبلاستيك في حقائبه الدبلوماسية في قضية شهيرة يعرفها كل السياسيين البريطانيين). وأتمنى أن يتم تعقب أعمال نهب الآثار، وأعتقد أننا سنضبط سرقات لا حصر لها، من هذا النوع.
وفي يوليو أيضاً، نشر موقع ميدل ايست أونلاين: مفكر تونسي يدعو إلى إلغاء الشريعة الإسلامية!.المفكر هو محمد الطالبي، ويرى أن الشريعة ليست تنزيلاً من الله بل هي أمر اخترعته ديكتاتورية الفقهاء. وننتقل إلى الكويت، لتفاجئنا امرأة عربية كويتية برأي لافت للنظر أيضاً، إذ اقترحت استعادة نظام الجواري إرضاء لمجتمعها الذكوري، ثم عادت واقترحت البحث في تصنيع خمر إسلامية!
وفي 11 يوليو، أورد 3 بوسطات متتالية :
- الثورة فرس جامح، ونحن نفرض عليها أن تسير متعكزة؛
وهي فكر مختلف، ونحن نجره جرا إلى قوالب مجمدة تصنعها أمخاخ ضربها قصور الشرايين. - ارتكب الشباب خطأً تاريخيا بأن تخلوا عن ثورتهم، وسلموها للآباء القتلة!
- إلى كل الشاكين والمتشككين والباكين والناحبين والناعبين والمولولين والمتحسرين .. برغم كل شيئ، مصر تعيش بعضاً من أروع وأبهى أيامها .. أيام ثورة .. والقادم أحلى
وفي العشرين من يوليو، أجد من يشاركني الرأي في ممر التنمية الذي يروج له الدكتور فاروق الباز. مقال علمي مهم منشور في الاهرام اليوم – صفحة قضايا واراء – عنوانه: تنمية وتعمير الصحراء المصرية .. ومالا يدركه الباز. يعارض ممر فاروق الباز. وفي العدد ذاته خبر يقول: ميناء (السخنة) يستقبل 3 حاويات يابانية ملوثة بالإشعاع !
تعليق: بـــلاغ للنائـــب العام - يدل وصول هذه الشحنة من المخلفات اليابانية المشعة على أنها عملية اعتيادية - ويدفعنا ما رأيناه من تضخم حجم الفساد وطبيعته السرطانية إلى التشكك في وجود عمليات أخرى مماثلة، يدفع ثمنها الفادح مواطنون أبرياء في بلادنا .. فهل نرى استجابة بمراجعة أنشطة استيراد مثل هذه الحاويات، وسجلات الشركات التي شاركت فيها، أم نستمر في التغاضي وكأن الأمر يحدث في كوكب آخر ؟
وفي أهرام 24 يوليو مقال للشاعر الكبير فاروق شوشة يحاول الكشف عن لغز القناصة قتلة شهداء الثورة، عنوانه: في معضلة القناصة! علقت عليه في موقع الأهرام : (مقال مهم جدا لفاروق شوشة عن احتمال أن يكون القناصة قتلة شهداء الثورة فرق خاصة من الحرس الجمهوري، وأنا في تعليقي على المقال أضيف احتمالا آخر ورد في شهادة الأديب عبده جبير المنشورة في العدد الحالي من جريدة أخبار الأدب – رجاء مشاركة الأصدقاء في الحوار وتشـــيير الموضوع).
في اليوم التالي، مدفوعا بالدعوة لمطاردة الفساد، كانت الـ(ستاتاس): ســــؤال بــرئ جــداً، والله العظيــم، ولصالــح الجميـــع، وانتصـــاراً للشــفافيــة (اللي تعبت معانا)، هو: هــل يمكن إعـــلان إقــرارات الذمــة الماليـــة لكل (رجالات) الدولة، الآن؟ مشكلتنا مع (رجالات) الزمن المستأصل أن الثروات كانت تتضخم في الخفاء، وأن اللصوص كانوا يتسترون على بعضهم .. فهل لدينا الشجاعة لنظهر ما لدينا (ع المكشوف)، أم أن بيننا من لا يزال يستحب الظلام؟! هل أنتظر من يجيب على سؤالي؟
وقد بدأت في 31 يوليو تسجيل مشاهد تخيلتها ستتحقق في المستقبل القريب، وأطلقت عليها مشاهد ظلامية، تجسد مواقف منتظرة للفاشية الدينية، منها:
- مشهد مستقبلي (1): رجل يمشي مع زوجته في الشارع، وهي سافرة الوجه .. سيارة فاخرة تقترب، عليها شعار ديني عظيم - ينزل منها أربعة ملتحين أشداء، في سراويل قصيرة، يمسكون بخيزرانات، ينهالون بها على الزوج؛ يتجمع بعض الناس (مجرد حب استطلاع)، يصيح أحد الملتحين قصير السروال: ليبرالي نجس!
- مشهد مستقبلي (2): قناة (السماحة) الفضائية تذيع، حصريا، في منتصف نهار الغد حفل تقطيع أيدي وأرجل. يعقب الحفل دائرة حوار، ويعلق عليها أفقه المحللين. لا تفوتكم. قمة الإثارة!
- مشهد مستقبلي (3): عربات خاصة للملتحين بالمترو، مكيفة الهواء، وأخرى، بلا هواء، لغير الملتحين من الليبراليين وأشباههم!
- مشهد مستقبلي (4): العلاوات الاجتماعية مقصورة على من استبدلوا الزي الإفرنكي الأعجمي بالجلباب القصير وأطلقوا اللحى. قرار جمهوري.
- مشهد مستقبلي (5): إلغاء مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، ليحل محله (دائرة الاستخارات القومية)!
- مشهد مستقبلي (6): بالرغم من أن أجهزة تكبير الصوت من (المحدثات)، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وإمعانا في العمل على أن يموت الليبراليون وأشباههم بغيظهم، تقرر تزويد كل مسجد وزاوية، حتى وإن تلاصقت جدرانها، بمزيد من المكبرات، ونفضلها مجسمة (ستريو)، على أن ترفع درجة الصوت فيها إلى أقصى درجة، على أن تتاح لكل من يريد أن يطلق صيحات الحق من خلالها، مهما قيل عن قبح صوته، فإن صوتا قبيحا يرفع الأذان لهو أفضل عند الله من صوت أي ليبرالي متخرج في الكونسرفتوار.
- مشهد مستقبلي (7): العائلات المصرية الليبرالية تحرص على توفير الحماية لبناتها خارج البيت، وأحيانا داخله، بعد تفشي حوادث (السبي)، بعد إعلان فتوى جواز سبي الحريم الليبرالي، وقد نشطت فرق السبي في الآونة الأخيرة، حتى أن سوقاً لعمليات بيع وشراء السبايا الليبراليات قد راجت في الآونة الأخيرة، وبعد أن كانت تجرى معاملاتها سراً، ينتظر أن تسمح لها الحكومة بالتداول في البورصة.
- مشهد مستقبلي (8): تتجه النية إلى مراجعة خطط أبحاث اكاديمية البحث العلمي والمراكز البحثية التابعة لها، وجميع مراكز البحث العلمي النوعية في أرض الكنانة، لتطوير السياسة البحثية، وتوجيهها إلى مجالات أصيلة، تأكيدا لصحيح الموروث، مثل: البحث في الاختلافات النوعية لأبوال النياق، لمعرفة الخواص الدوائية لبول كل نوع منها؛ ودراسة التأثيرات السيكوفيزيقية للرقية والعلاجات الروحية ومطاردة الجان.
- مشهد مستقبلي ظلامي (9): يتردد في أروقة سادة الحكم الجدد أن النية تتجه لإصدار مرسوم رئاسي يحدد، أولاً، معالم الليبرالي؛ وثانياً، يوضح الإجراءات التي يجب أن تتبع لاعتباره (مرتداً)، ثم يخير بين أن يقام عليه الحد، أو يغادر إلى أيٍّ من بلاد الكفرة الملاحدة.
- توجيه ظلامي من المستقبل المصري المنظور: "على عناصرنا المتمسكة بعرى الدين القويم تدمير أي واجهة محل ملابس زجاجية فيها (أصنام) المانيكانات، فإن كانت البضاعة المعروضة ملابس داخلية، فالإحراق أولى بها"!
في الرابع من أغسطس، جمح خيال أحد المحامين في محاكمة رموز النظام المنهار، فاستجبت لذلك وقلت: لا يجب أن نهون من شأن فكرة المحامي الذي شكك في وجود مبارك، وطالب بإثبات شخصيته جينياً. كل شيئ جائز. أعد دراسة عن السي آي إيه، وأصابعها تلعب في كل شبر، من القطب إلى القطب، وعملاؤها متنوعون، من جامعي القمامة إلى رؤساء الجمهوريات. ماذا سنخسر إن حللنا الـ (دنا) لمبارك وأسرته؟
في 19 أغسطس: (أخاف أن يبدأ الجيل الجديد في تغيير صورة علاقة المودة تجاه الجيش، فتنقلب جفاء، كحالنا مع البوليس، إن تكرر بطش المحاكم العسكرية بالشباب. إبحثوا عن صيغة مختلفة للتعامل مع الشباب، مستقبل مصر، فكلنا في خندق واحد، ولنتحمل ضغوط هذه الأيام الصعبة، إلى أن تمر على خير).
بدأت في 24 أغسطس تسجيل أفكار لكتاب أفكر في وضعه، هو الكتاب الأسود لحكم مبارك، من هذه الأفكار:
- من جنايات مبارك العديدة على هذا الوطن إهماله لخطط تنمية سيناء، كأنه تخاذل عنها عامداً متعمداً؛ ولو كانت تلك الخطط سارت في مسارها الطبيعي لاختلف الوضع الآن
- في الكتاب الأسود لمبارك: أنه أفقـرَ المصريين، وكان وزراؤه يتبجحون بمعدلات نمو وهمية، لا تذهب عائداتها إلى عامة الشعب، وإنما تصب في خزائن الحاشية وطبقة من الخدم خلقها النظام.
- في الكتاب الأسود لمبارك إساءته إدارة موارد مصر البشرية، أغلى وأهم مواردها على الإطلاق، بل لقد كان لا يتورع عن إبداء الضيق بتعداد المصريين المتزايد، مبديا امتعاضه من مطالبهم التي يعجز وإداراته المترهلة، عن تلبية مطالبهم، والغذاء في مقدمتها؛ وأصل المشكلة أن قدراته الذهنية قصرت عن التعامل مع هذه الأعداد المتزايدة، ومعظمها متعلم، أو مدرب تدريبا جيدا، على أنها موارد، في زمن يتكالب فيه العالم على الموارد، سواء كانت طبيعية أو بشرية. واكتفى بإطلاقهم في أسواق العمل العربية، ليستفيد من تحويلاتهم النقدية.
- في الكتاب الأسود لمبارك، تغييبه للشفافية، وحرصه على حجب الحقائق عن الشعب، والسكوت عن وعلى جرائم ومخازي، بحجة المحافظة على عنصر (الاستقرار)، فكان كمريض بخراج ضخم، مملوء بصديد نتن، يخفيه، إما خوفا من (جراحة)، أو استهانة بالخراج الذي تستشري سمومه في سائر الجسم.
- في الكتاب الأسود لمبارك إطلاقه أفراد أسرته الثلاثة، على نحو لم يحدث من قبل، حتى في أسر الملوك، ليمارسوا انشطة وأدوارا ليست لهم، يساعدهم في ذلك جيش جرار من الانتهازيين وممن تتوفر لديهم أخلاقيات ومهارات الخدم، فتدخلوا في شئون كثيرة، أفسدوها، وتهيأت لهم فرص ما كانوا ليحلموا بها لو أن السادات اختار نائبا آخر غير مبارك، فتضخمت ذواتهم، ومنهوباتهم، وأرصدتهم، وعقاراتهم؛ واتسع سقف تطلعاتهم إلى تمديد النفوذ بفكرة التوريث.
- في الكتاب الأسود لمبارك، أنه في سبيل تمهيد الطريق للمنتفعين من أسرته وفريق رجال الأعمال الجشعين المحيط بهم، تهاون في علاقة مصر بالكيان الصهيوني، بل لعله تحالف معه، مستخدماً إياه كخيال مآتة، يرهب ببطشه وقوته أي صوت يرتفع مطالباً بمراجعة علاقتنا به، وانطلق المنتفعون يغترفون من نتائج هذه العلاقة المهينة، التي تشل يد وفكر الحكومة الآن عن اتخاذ أي رد فعل إيجابي ضد تطاولات الكيان الصهيوني علينا. أليس في ذلك السلوك شبهة (عمالة) من رجل (ألصقت) به صفة (صاحب الضربة الجوية)؟
- سخرية الرئيس مبارك من ضحايا العبارة السلام 98
في الخامس من أكتوبر، أعلق على خبر اكتمال الخريطة الجينية للفئران: (إكتمال "جينوم" الفئران! خدمتنا الفئران طويلا كحيوانات تجارب؛ واكتمال جينومها يعني امتداد خدمتها لنا إلى مجال تجريب جديدة في الهندسة الوراثية والعلاج الوراثي. العلم يتقدم، والإنسانية مقبلة على نقلات يستحيل التنبؤ بها في المستقبل المنظور. ألا تستحق الفئران منا الشكر؟ شـــكراً للفئران!)
وأتساءل في منتصف أكتوبر: إن كنا عاجزين عن (رفع) الحد الأدنى للأجور، لعدم وجود تمويل حقيقي، فلماذا سكوتنا عن وضع سقف لهـــا؟! أسأل وأنا أعرفُ الإجابة .. فالسقف سيدُكُّ رقــابَ كثير من كبار موظفي الدولة، وكثير من الهيئات، بأجورهم المستفزة؛ وهم متخذو القرار. فأرجو ألاَّ يضج أحدٌ من المطالب الفئوية، فهي مطالبة بجانب من العدالة الاجتماعية، التي أسقطنا النظام السابق لأنه أهدرها.
وأعود، في اليوم ذاته، لأتساءل، مستدعياً روح رواية (السمان والخريف)، لنجيب محفوظ : كم (عيسى الدباغ) لدينا في مصر الآن؟
عيسى الدباغ، الوفدى الذي ألغت الثورة حزبه وحطمت مستقبله السياسى وقضت على امتيازاته.
لم أكن مستريحاً لنهاية (السمان والخريف)، حيث ألبس محفوظ عيسى الدباغ حالة من التصالح مع الذات، ومع الثورة، ومع واقع مصر الجديد. كان ذلك مفتعلاً. ولا أعتقد أن (الدباغين) الجدد يمكن أن يتصالحوا، فهم طافحون بالغيظ والكراهية للشعب الذي أسقطهم وأزاحهم.
وفي 24 أكتوبر، ألتفت لحادثة لها دلالتها: (في حادثة الرأسمالي المصري الذي قام بتعلية سور فيلته، لفت نظري أن خفراءه أطلقوا اعيرة من أسلحة آلية. هل أجهزة الأمن المصري منتبهة لما يمكن أن يكون لدي أمثال ذلك الرأسمالي من أسلحة؟ وما مصدرها؟ وهل أصبح تسليح الخفراء بنادق آلية؟ والسؤال الأساسي: هل تستطيع الإدارات الأمنية - أصلاً - الاقتراب من امبراطوريات مثل هؤلاء الأشخاص؟).
وفي 26 أكتوبر، وإزاء إحساس متضخم باختلاط الحابل بالنابل في المشهد المصري، أقول: (يشترك في الانزعاج مما يجري في مصر الآن كل من: الذين لا يرون إلاَّ تحت أقدامهم؛ والذين (يرون) جيداً .. وأهم ما يرونه مكاسب شخصية تحققت بآلية التوزيع المختلة التي استخدمها نظام مبارك لتكريس طابور يعمل من أجله، عند الضرورة. والناحيتان طبيعيتان في الصراع الدائر، بجناحيه: الحرية السياسية، والعدالة الاجتماعية). وفي السياق ذاته، كانت (ستاتاس) يوم 29 أكتوبر: (أعود إلى رأي أثبتُّـه هنــا منذ شهور قليلة، وهو أن الثورة كشفت سوء أداء فئتين يفترض أن يقودا جموع الشعب: الإعلاميين، والحقوقيين (محامين وقضاة) - الإعلاميون لامعون تحت الأضواء، ومعظمهم فارغ، متضخم الذات، يفتقر للنزاهة، ويتصارعون ويفرضون علينا الانشغال بنزاعاتهم المهنية، ومعظمها غبي. والحقوقيون، ها أنتم ترونهم يتبادلون (فرش الملاءات) لبعضهم، على نحو ينتقص من هيبة لهم، مرغوها في أوحال نزاعات مهنية، و(شرشحات) نطالعها منهم صباح مساء في الصحف والتليفزيون. عيب يا .. أساتذة ؟!
وأعود في 31 أكتوبر فأسجل رأياً يرصد غياب الدافع إلى تحقيق العدالة الاجتماعية: (من كلمات السر الحاكمة فيما يجري الآن من جدل حول الثورة: (تضارب المصالح)، بين الشخصي والعام. فكثيرون جداً حققوا مكاسب كبيرة، بجهودهم، مستفيدين من مناخ عام لا يراعي عدالة توزيع الثروة الوطنية. فلما جاء (المحــكُّ) - الثورة - تحرك الضعف الإنساني، وعلا وجيبُ الــ(أنــــا) .. وكان الصراع بين المكاسب التي تحققت، مهما كانت أسباب وأساليب تحققها، ومشاركة المجتمع في تحقيق عدالة اجتماعية، تنال، أول ما تنال، من هذه المكاسب، وأبسطها : سقف المدخولات. قلبي مع من يعانون هذه المعضلة).
وفي السياق ذاته، كانت فكرتي التي سجلتها بعد بضعة أيام: (من المسكوت عنه وعليه هذه الأيام أن أحداً لا يفكر في الاقتراب من امتيازات وأوجه دعم ضخمة جداً، يستفيد منها رأسماليون انتفعوا من فساد النظام السابق، من ضرائب وفروقات أسعار الطاقة، ولا أحد يفكر في مراجعة أسعار الأراضي المنهوبة للأفراد والشركات، وبعض بنود إنفاق جهات (سيادية) - أرجو شطب هذه الكلمة المقرفة من مفردات اللغة العربية - ومن كل هذه الأشياء يمكن أن يتوفر ما يحل مشاكل التفاوتات الاجتماعية. فلماذا لا يتحرك أحد؟ أعرف الإجابة، وهي، لأن معظم من يقدرون على التحرك، من شخصيات فاعلة في الساحة هذه الأيام، (مستفيدون) على المستوى الشخصي، فمخصصاتهم المنتفخة لا تزال سارية).
في 6 نوفمبر: صعقني خبرٌ قرأتُه بالأمس: سوزان مبارك اعتمدت في شهر (مايو) الماضي - بعد ثلاثة أشهر فقط من الثورة - قرار مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية بالتمديد لسراج الدين، مدة ولاية جديدة!
أرجو ألاَّ يكون الخبرُ صحيحاً، وإلاَّ يتأكد لي أننا نعبث.
في فجر اليوم التالي، تملكتني حالة تذكر، فسجلت منها: (ذهبنا، ونحن طلبة، نشتكي للمعيد الشاب "أحمد زويل" أن الامتحانات في الساعة الثانية بعد الظهر، حيث حرارة سرادقات اللجان لا تطاق. رد علينا: "المستعد يمتحن حتى في كونك إتش سي إل"! يقصد في حمض الهيدروكلوريك المركز. ولم أنس هذا التعبير، فكنت دائما لا أذهب إلى أي كونك إتش سي إل إلا وأنا مستعد! (من تداعيات ساعات الفجر).
وبلغ بي الضيق، مساء 24 نوفمبر، مبلغه، وأنا أشاهد وجوهاً متكررة في أحد المكلمات الفضائية، فكتبت: (من ضيوف برامج المكلمة الدائمين ضابط مباحث أمن دولة سابق (أسمعه في هذه اللحظات في برنامج توك شو مشهور)، وضابط مخابرات سابق، يحملان الآن صفة خبراء أمنيين، وكانوا ، مع غيرهم، من (كلاب السلطة) في عهد مبارك؛ ويفرضهم علينا الإعلام الآن، متجملين، يستغلون (طيبة) وضعف ذاكرة الناس. وليتهم يقدمون لنا شيئا ذا بال، وإنما يعيدون إنتاج أفكار مستهلكة، قرفنا منها، ومنهم).
وفي اليوم نفسه، قلت، كأنني أصيح: (لماذا الإصرار على نغمة أن ميدان التحرير ليس هو كل مصر؟ وهل القاهرة هي كل مصر؟ وهل القوات المسلحة هي كل مصر؟ وهل الرأس هي كل الجسم؟ وهل لدي من يتشككون في قيمة ميدان التحرير إحصائيات تؤكد تشككهم؟ وهل يستحق هذا الميدان العبقري، بعد كل ما تحقق فيه، أن نشكك في شرعيته؟)
ونشرت المصري اليوم في هذا اليوم خبراً، نصه: استشهدت، مساء الثلاثاء، رانيا فؤاد، الطبيبة بالمستشفى الميدانى بميدان التحرير، نتيجة اختناقها بالغاز المسيل للدموع الذى أطلقته قوات الأمن المركزى ضد المتظاهرين فى الاشتباكات التى استمرت حتى ظهر الأربعاء. وبعد أيام قليلة، وفي 29 نوفمبر، نشرت (بوابة الأهرام الإلكترونية) خبر: بالمستندات موظفون بجمارك السويس يرفضون تسلم 7 أطنان قنابل غاز من أمريكا للداخلية! علقت عليه: جســـر بحري من غازات الدموع لنجدة الداخلية المصرية ضد الشعب المصري .. يذكرنا بالجسر الجوي الأمريكي لإسرائيل في 73 .. ! .. أي عــــار!
تعليق آخر: بلاغ للنائب العام .. من فضلك .. اتخذ إجراءاتك في هذه الواقعة .. فقط !!
طبيبة، على أرض مصرية، وسط القاهرة، تمارس حقها الطبيعي كمواطنة بالتواجد في أي مكان على أرض بلادها (الحرة!) .. وتقوم (متطوعة) بمساعدة أبناء وطنها، يتم اغتيالها بسلاح كيماوي، استورده وزير الداخلية، وأمر باستخدامه واحد من جيش اللواءات العاملين معه، ليصيب هذه المواطنة المصرية العظيمة، ويسلب حياتها، وهي تبدأها! أنا أتهم وزير الداخلية وأتباعه بقتل الشهيدة رانيا، بسلاح محرم دولياً، قتلاً عمدياً.
فاض بي الكيل في 25 نوفمبر من ظاهرة يرتفع صوتها من حين لآخر، فعبرت بالعامية: مستغرب إن ما فيش حد فكر إننا - في الظروف دي - نرجع للملكية - في وجود (الملك) - العيل - أحمد فؤاد - لا أستبعد أن يظهر شلة تافهين - زي شلة آسفين يا زفت - ويطلعوا علينا بشعار: آسفين يا جلالتو!
في الثاني من ديسمبر كان من رأيي أنه: (يخطئ من يعتقد أن دولة دينية ستكون اختيارا مناسبا للشعب المصري، وجانب كبير منه ناله حظٌ وافر من الإفقار والتدهور العام بفضل حكم مبارك المخلوع؛ فإن لم تفلح (الأغلبية الجديدة) في حل مشاكله (وأشك في أنها ستفعل، فلا قدرات ولا خبرات لديها)، فإن حالة (الانقياد الديني) ستتراجع أمام استمرار ضغوط الفقر والتدهور، وستكون مصحوبة بخيبة أمل كبيرة، وربما انتهت إلى مضاعفات خطيرة). وربما كان وراء هذا الرأي امتعاضي الشديد من شريط فيديو لمتأسلم سياسي سلفي، يقول فيه: إن وجه المرأة كفرجها! وزاد طين ذلك الشريط بلة أن تعليقا قد صاحبه، يقول: يمتنع عن المشاهدة غير المسلمين لإنه شيخنا ونحن فقط من له الحق في إنتقاد فتواه وأرائه الدينيه نقدأً بناءً(!)
وبعد أن قرأت دراسة عنوانها (مصر هبة الحبشة!)، في مجلة الكلمة الإلكترونية، التي يرأس تحريرها الدكتور صبري حافظ، رأيت أن ألفت النظر إلى هذه الدراسة المهمة: دراسة مهمة جداَ، أدعوكم لقراءتها، فهي تكشف أبعاداً خطيرة لشأن يتصل بصميم وجودنا كمصريين، وهو مياه نهر النيل، التي بدونها لا حياة لمصر.
ورصدت في 7 ديسمبر: علامة مبهجة - واحد من آلاف الشباب الموهوبين في بلادي - لا يكاد يعرفه أحد، بينما لا عبو الكرة التافهون، والمغنون الناهقون البشعون، يستأثرون بالأضواء، والأموال! هيثم دسوقي - مخترع مصري شاب - شاهدوا الفيلم لتحصلوا على جرعة انتعاش!
وفي 9 ديسمبر، انتشرت نكتة مدوية، فقد صرح واحد اسمه (الشحات) بأن مستوى نجيب محفوظ الفني ضعيف ولغته ركيكة. تخيلوا! ما توقفت أمامه هو: كيف سمح لنفسه أن يقضي (كل هذا الوقت) في قراءة (كل) إنتاج أديبنا العالمي الخالد، ليخرج إلينا بهذه المقولة القاطعة المانعة؟!
وفي العشرين من ديسمبر، ساءني، ككل المصريين، منظر سحل الفتاة وتعريتها على أسفلت ميدان التحرير: "لا ينبغي أن نغض الطرف عن هذه الصورة البغيضة.
مهما كانت (جريمة) هذه الشابة (المصرية) العزلاء، فإنها لا تستحق من هذه الفصيلة (المدججة) بمعدات القتال، من (مغاوير) جيش وطنها، أن ينتهكوا آدميتها ويعروها على هذا النحو المخزي. أطالب بمحاسبة هؤلاء العصبة من الهمج الذين لا يستحقون شرف الانتساب للجندية المصرية. يمكن للتحقيقات والاستخبارات العسكرية ذات القدرات الرهيبة أن تأتي بهم. فإن لم يحدث، وإن لم نقتص لهذه الفتاة المنتهكة، التي هي أعلى شرفاً، وأزكي وطنية من أشباه الرجال الذين اجتمعوا على إيذائها .. إن لم يحدث ذلك، ستظل الرجولة المصرية مخدوشة، وسنكفر بأشياء كثيرة!"
وجلب الاستياء من ذلك السلوك الهمجي تداعيات أخرى، منها: (يجب أن تتسع الدعوة لإنهاء حكم العسكريين لتشمل إنهاء حالة (عسكرة الدولة).
عشرات الآلاف من الضباط السابقين، جيشا وشرطة، يحتلون وظائف مدنية كبيرة، بلا أي مؤهلات. كل ما كان مطلوبا منهم أن يكونوا (عُصياً غليظة)، تحقق (الضبط والربط) في مؤسسات الدولة .. فاستشروا في كل مكان).
وفي آخر أيام السنة، كتبت معلقاً: (أســـوأ خبــر سمعته في نهاية 2011 (إنتخاب) سراج الدين نائباً لمدير المجمع العلمي المصري، في تحدىٍ سافر لمشاعر المصريين، كأن هناك من يكافئه على دعمه المباشر للنظام المباركي والعائلة المخلوعة .. كأن الذين اختاروه مغيبون، لا يدركون أن ثورة قامت على بعد أمتار منهم، وأن ألسنة نيرانها قد طالتهم!)
وفي 11 يناير، أستمر في مراقبة وتأمل مجريات الأمور، وأكتب: (مقالي الجديد عن نوع من (القراد)، لا يعيش إلاَّ في آذان الخفافيش. عيشة تطفل. تفسد الأذن التي يصيبها القراد، فلا تقوم بوظيفتها الحيوية للخفاش؛ فهو (يرى) بأذنيه، عن طريق تحسس الأصوات التي تحيط به. ولا يصيب القراد غير أذن واحدة، فقط، ويترك الأخرى سليمة. ليس ذلك حباً في العائل، ولكن (الطفيل) - الحويط - يدرك أن ضياع الأذن الثانية يعني موت عائله، وموته هو بالتالي.
جانب من مشاكلنا الحالية أن قراداً كثيراً نما وازدهر في أذن النظام السابق.
ولا يزال هذا القراد يناضل من أجل المحافظة على (الأذن الثانية) سليمة .. ليس من أجل سواد عيون النظام، ولكن حرصاً من القراد على مصالحه وحياته.
فإلى الجحيم بالخفافيش، وبكل أنواع القراد!)
وأكتب ستاتاس ثانياً: (كنا نزور، في طفولتنا، أقارب لنا في الأرياف. وكنت أرفض ركوب الحمار، وهي متعة كان يتعارك عليها أخوتي. وسألني قريب ريفي عن السبب، فقلت، ببساطة (حرام). ويبدو أنني كنت رومانتيكياً (من يومي). فضحك الرجل وقال: دي ركايب .. لازم تتركب وإلا تزعل مننا! فصدقته، وركبت الحمار، حتى لا يزعل مني!
للأسف الشديد، أستطيع أن أرى كثيرا من الناس، عبر أحداث سنة الثورة، لا تستطيع أن تنسى أنها .. ركايب! وكانت (زعلانه)، لأن الثورة جاءت لتحررها من راكبيها .. فهي تريدهم .. ولا تزال!)
في الرابع عشر من يناير، أطلقت مجموعة جديدة في الفيس بوك، أسميتها (حكومة ظل)، هدفها المشاركة في إعادة بناء الوطن، واستعادة ملامحه، بالأفكار الجديدة، وفي تجرد شديد، وهي مجموعة نشطة، وساحة حوارات مفيدة.
وأنهي هذا العرض بنص تهكمي وصلني في بريدي الإلكتروني، فنشرته بالفيس بوك، يقول:
آه منكو يا مصريين !
يعني حصل ايه، يعني، لما الواد الغلبان علاء مبارك اتجوز من هيدي، بنت رجل الأعمال مجدي راسخ، اللي اشتغل مع رجل الأعمال محمد نصير، صاحب "فودافون" ؟
وهاستفيد ايه، أنا يا مواطن يامصري يا غلبان، يعني، لما اعرف ان مرات راسخ هي (ميرفت قدري)، وجدها هو ابن خال عثمان أحمد عثمان؛ واخت مرات علاء متجوزة شريف البنا، ابن محمد البنا، بتاع مجلس الشعب؟
ايه اللي انت استفدته، كمواطن، لما عرفت - يعني - ان بنت الجنزوري تكون متجوزة من واحد اسمه مصطفى حيزة، وشغال مدير اعمال حسين سالم ؟
وايه يعني لما مرات سيادة الشفيق فريق، نزيهة الجمال، تبقي عمة خديجة الجمال، مرات جمال مبارك؟ مالنا احنا؟ .. إنشالله ياكلوا بعض!
وايه اللي حصل - يعني - في الدنيا، لما يكون زهير جرانه إبن خالة محمد منصور والمغربى وأحمد عز؟ .. خربت الدنيا؟
وعادي جدا، في رأيي المتواضع، إن منير ثابت، اخو سوزان مبارك، يبقي جوز خالة انس الفقي؟ .. موش كل واحد له خالة .. والخالة لازم تكون متجوزة؟
طيب، وإيه يعنى لما سري صيام، رئيس محمكة النقض، يبقي ابو سري صيام، رئيس البورصة؟ سنة الحياة .. كل إبن له أب! ومنير فخري عبد النور، وزير السياحة، يبقي ابن خالة يوسف بطرس غالي، ربنا يسهل لهم .
والصدف ياما بتحصل - يعني - دي اكيد صدفة بحتة، ان اخت رشيد اتجوزت امين رياسة الجمهورية، اللي في نفس الوقت، اخو قنصل مصر في امريكا. الدنيا أصبحت قرية صغيرة .. تكنولوجيا الاتصالات اتقدمت!
ويشاء ربك ان احمد فاضل، رئيس قناة السويس، إللى الناس عايزه تأممها من تاني (!!)، مجوز ابنه لبنت عمر سليمان. بالرفاء والبنين. الدنيــــا شــــبكة!
اتقو الله بقي وسيبو الناس في حالها. انت ايش عرفك الناس دي كافحت قد ايه علشان تتجوز بعض؟!
يا ساتر منكو يا مصريين!
يا .. نمَّــام ..!
أحياناً تكون (النميمة) محببة.
نعم. وأعتقد أننا لو تيسر لنا الإصغاء إلى المحصول اليومي من ثرثرات البشر لكان جانب كبير منها من باب النميمة.
وهل (الإبداع) القصصي والروائي، إن توخينا الحقيقة المجردة، إلاَّ نوعاً من النميمة، نجمله فنسميه إبداعاً، وهو بالأساس فرد (مبدع) يضع شفتيه عند أذن فرد (متلقٍّ)، وينطلق (يجيب في سيرة) أناس يختلط فيهم المتخيَّل بالحقيقي.
ومن بين أصدقائي (نمَّامٌ) رائع!
لا نكاد نجلس في مكان، سواء كنا وحدنا أو مع آخرين، إلاَّ ويبدأ بتلقائية شديدة، وبدون أدنى مجهود منه، (يجيب في سيرة) أناس أشاركه المعرفة بهم، أو لا أعرفهم ويحسب أنني مهتم بأن أسمع منه أخباراً عنهم، وغالباً ما تكون (حريفة)، إذ يضيف إليها (البهارات) و (المقبلات) من عندياته، لكنها - دائماً - حقيقية، بنسبة 95%!. فصديقي النمام، والحق يقال، لا يكذب .. كثيراً!
هو يعرف أنني في عراك مع مدير مركز ثقافي، فيتبرع بأن ينقل إليَّ أسلوب ذلك الرجل في الحياة، فأعرف منه - مثلاً - أنه استعان بالعلاقات الاجتماعية وصلات النسب ليشق حياته في الجامعة والحياة الثقافية العامة، فتزوج من بيت رمز ثقافي كبير. ولا يخوض صديقي النمام في طبيعة تلك الزيجة التي لا تزال تخدم الرجل في حياته، وأكتفي أنا بذلك، وأرجوه أن يذهب إلى حكاية أخرى، فينطلق يفجر مفاجأة هائلة، مؤكداً أن (رمزاً أكاديمياً وقيادة ثقافية كبيرة) كان يسخر إمكانيات مشروع ثقافي ضخم وضع تحت سطوته، لصالح دار نشر (وهمية) كان يمتلكها من وراء ستار، ليصب جانب كبير من الميزانية السيادية الهائلة لذلك المشروع في جيبه وجيوب خلصائه والمقربين (والمقربات) منه .. ويسألني صديقي النمام: تحب أقول لك أسماء؟ فأرفض .. فما عرفته صادمٌ بما فيه الكفاية.
ترى، كم نماماً ينتشرون في مكاتب إداراتنا الثقافية، وعلى أرصفة مقاهي القاهرة، ويتناقلون أخباراً وأسراراً تشين من تلتصق بأسمائهم، ثم لا يلبثون أن ينفضوا، ليستقبلوا من تناولتهم ألسنتهم بالنميمة بالأحضان والقبلات والترحيبات؟!
لا تصدقوا كلَّ ما ترونه أمامكم، ولا كل كلام (المثقفين) في المقاهي وصفحات الفيس بوك!!!
رأيتُ ليلة القدر !
تأثرتُ جداً بما حدثتني به جدتي (أم عبده)، جدتي لأمي، عن ليلة القدر، خاصة تصويرها كيف تفتح السماء بوابتها، لتستقبل أدعية المؤمنين.
وأتذكرُ أنني ظللتُ لعدة ليالٍ أتسلل إلى (فوق السطح)، وأرقد على ظهري، شاخصاً إلى صفحة السماء، وكانت بها نجوم وكواكب كثيرة، لم أعد أراها هذه الأيام .. لا أعرف لماذا؟.
والمؤكد أن تأثير جدتي أم عبده، التي كنا ندللها أحياناً فنسميها (عجوة)، على مخيلتي كان هائلاً، لأنني كنت، بعد استغراق طويل، أرى بوابة السماء تتفتح فعلاً، وتنساب منها طيور الجنة، بالصورة التي وصفتها لنا، وكان بعضها يحطُّ على وجهي، وأنا مستنيم لسحر ما أرى، لدرجة أنني، في كل مرة، أنسى أن أدعو الله أن يكرمني وأهلي، وأن يعفو عنا جميعاً، كما أوصتنا جدتي عجوة!
وفي آخر مشاهدة لي لبوابة ليلة القدر، سقطت الأمطار، فأصابني بلل شديد، غير أنني لم أتحرك، حاسباً أن المطر خير قادم من البوابة.
ونزلتُ إلى أمي أعطس وأسعل، وارتفعت درجة حرارتي، فقد ضربني الالتهابُ الرئوي.
أقرأ الأعمال الإبداعية من أول عنوانها...
ثمة مبدعون (عتاة) يدركون أهمية العنوان، فيأتون به موحياً، جذاباً. ولا أعتقد أنهم يبذلون جهداً كبيراً في ذلك، فالمبدع الحقيقي يبدو لنا وكأنه يغترف من بئر صافية خفية.
أنظروا، مثلاً، إلى عنوان ديوان أحمد الجعفري الجديد: "قليلٌ من النور كي أحب البنات".
لاحظوا اختياره أن تكون كلمة (قليل) مبتدأ مرفوعاً ليقول إن حبه للبنات لا يحتاج إلا لقليل من النور، وهو ما يوحي بأنه (يمتلك) هذا القدر القليل من النور، لا (يطلبه). ولو كان يطلبه لكان العنوان (قليلاً) من النور ....
ثم استخدام كلمة النور، وليس الضوء، أو أي مصدر إنارة آخر، فالنور يسرب أحاسيس الرقة والأمان و .. الشرعية، فلا شيئ خفي في النور ..
شكراً "فلافي" ..
أصبحنا، أنا وقطنا الجميل المدلل (فلافي) في علاقة تفاهم وصداقة حقيقية. هو ينقذني من أي طاقة سلبية طارئة، وقد أصبح يتفهمني، حتى أنه يعرف معنى بعض كلماتي إليه، وأعرف معاني أصواته المهذبة الخافتة. ينام آمناً بين ذراعيَّ، ويستغرق في نوم عميق طويل، ولا يلبث أن يشعر بأن ذراعيَّ قد تعبتا من حمله، فيتحرك برفق مبتعداً. حساسية فائقة.
وأشعر بالذنب تجاهه، لأن حبنا له جعلنا نحرص على عدم مغادرته البيت، إلا لزيارة البيطري، وقد تعود على الحبس، وهذا يحزنني.
لم يدر بخلدي يوماً أن أكون في علاقة كهذه.
شكراً فلافي !
علمانيون في ترام الرمل
مجتمع ترام الرمل صورة مصغرة للمجتمع السكندري، والمصري عامةً.
جلست صباح اليوم إلى جوار رجل في سني، وجرى بيننا حوار طيب عن الموجة الحرارية التي تضرب مصر الآن، وتبينت أن الرجل واسع الثقافة، ومعلوماته البيئية مرتبة وحديثة.
وبينما نحن نتحدث عن الاختلال المناخي العام في العالم كله، إذا بشيخ ثالث، جالس في المقعد المواجه لنا، يقاطعنا بحدة واضحة، وغير مبررة، قائلاً (بكلماته ذاتها): أهو رمضان جاي بعد بكره .. ح تشوفوا .. وربنا ح يقفل أبواب جهنم علشان رمضان، ويخلف ظنكم!
ولم أكن بحاجة لجهد لأتبين أنه يتحدث عن الآية التي تقرن مقدم رمضان بعدم استقبال جهنم لكفار جدد.
وأخطأت حين أردتُ أن أصوب له فهمه، فقلت له ممازحاً: أنت عجوز مثلي، وتتذكر، أكيد أن رمضان كان يأتي في عز الشتا .. يعني الحر اللي احنا فيه ما لوش دعوة بكون بوابة جهنم مفتوحة أو مقفوله!
فلم يرد؛ وإنما تركنا نعاود نقاشنا؛ ثم عاد فجأة يقول: علمانيين!
نظرتُ إلى جاري الذي ابتسم، وقال لي: أسكت يا علماني!
سعد أفندي خليفة
إن تمت هذه الكتابة فستكون أول محاولة ناجحة للكتابة عن أبي !
حاولتُ أن أكتب عنه أكثر من مرة، مترجماً لشخصيته، بين سائر أفراد العائلة، فلم أتمكن من إنتاج كتابة أرضى عنها، وتليقُ به.
لأبدأ بمشهد نهائي !
جنازة أبي. وأنا أقف تائهاً في المسجد، منتظراً إجراءات صلاة الجنازة، ولم أكن أصلي.
فجأةً، وبعد انتهاء صلاة الظهر، في مسجد الجمعية السنية لتحفيظ القرآن الكريم، في غيط العنب، وجدتُ الأستاذ (باهي القطيشي)، وكان يؤم الصلاة، وهو مأذون المنطقة، ويسكن في البيت المجاور لبيتنا، وبيننا مودة، أخذ يصيح منادياً عليَّ، فسعى بعض الناس فذهبوا بي إليه.
قال: أنت ستؤم صلاة الجنازة!.
لم أستطع أن أبدي أي رد فعل غير مزيد من الارتباك المعجون بحزن حاد. قال يشجعني: المسألة بسيطة .. أربع تكبيرات .. وراح يوضح لي مكونات تلك الشعيرة الجنائزية.
ثم دفعني دفعاً لأتقدم المصلين، فوقفت وأنا مخلخل الكيان، ساقاي ترتعشان، وإذا بي أجد (لفافة) من أنسجة قطنية، مُسجَّاة على حصير المسجد أمامي: إنه أبي!
كان جثمانه في الكفن رفيعاً جداً، وأقصر من طوله الحقيقي.
وكان عليَّ أن أبدأ الصلاة، فبدأتُها، ولا أعلم ما إذا كانت قد جرت صحيحة أم أنني لم أحسن الإمامة، والاحتمال الأخير هو الأرجح، فقد كنت أرفع التكبيرات بصوت مغمور بالدموع، متقطع بنشيج البكاء.
بكيت أمام جثمان أبي كما لم أبك في حياتي.
بكيتُ تعبيراً عن مفاجأتي بكم الحب الذي كنتُ أكنه له، ولم أفلح في التعبير عنه بصورة من الصور الاعتيادية التي يفصح فيها الناسُ عن مشاعرهم تجاه بعضهم البعض. كان يجب أن يموت، وأن يفرضني الشيخ باهي إماماً لصلاة جنازته، ليتسنى لي أن أقول له، بهذا الأسلوب الفريد المستغرب: لقد أحببتك حباً كبيراً يا أبي!
ومع أنني لم أترجم لأبي، إلا أن وجوده في حياتي فرض نفسه على كثير من قصصي، فقد مرَّت شخصيته في قصص: (جمال عبد الناصر)، و(رأيتُ الزعيم وقابلتُه)، وغيرها.
وكان فخوراً بي ككاتب، وإن لم أره أو أسمعه يبدي فخره. وأعتقد أنني ورثت عنه شغفاً بالفن، وربما نسخة من (جينة) موهبة، فقد قالت لي جدتي أنه كان (يفِـنْ) مع (جوز ملكه العوَّاد)، هو يقول كلام، والعواد يدندن!.
وواضح أنه كان شاعراً غنائياً، لحن له (جوز ملكه) كلماته.
كما أتذكر أنه كان صديقاً لجار لنا (نصحي عبد الشهيد)، الذي كان هاوياً للتصوير الفوتوغرافي، وكان يساعده في انتقاء صور طبيعية فنية ليشارك بها في المعارض. وقد شجعه نصحي على مواصلة الدراسة، وكان أبي قد انقطع عنها، والتحق بالعمل (عامل وردية) في شركة الغزل والنسيج القريبة من غيط العنب، والتي كنا نسمع صفارة تغيير الورديات (نوبات العمل)، في السابعة صباحاً، وأنا أستعد للذهاب إلى المدرسة، وفي الثالثة بعد الظهر، وأنا جائع جداً، ومحرج من أن أطلب (غداءً مبكراً)، إن كان أبي يعمل في وردية (من 7 لـ 3)، أما صفارة الساعة 11 فكان من النادر أن أسمعها، لأنني أكون وقتها في سابع نومة.
وكان لنصحي الفضل في أن حصل أبي على شهادة (التوجيهية)، وحصل على وظيفة درجة سابعة في وزارة الداخلية. وكان تحوله من عامل في شركة الغزل إلى (موظف حكومة) انقلاباً في محيط الأسرة.
ملف الرئيس
لرئيس الجمهورية ملفٌ عندي.
ارتبطت كلمة (ملف) عندنا بالمفهوم الأمني، ولكني أقصد ملفاً فيه رصد وتتبع لعلاقتي كمواطن مصري بمن عاصرتهم من رؤساء مصر.
وبادئ ذي بدء، لم يكن لي، بصفتي الشخصية، يد في اختيار أي منهم. كنتُ طفلاً عندما جاء عبد الناصر، ووجدتني أنشأ في أحضان أطوار حكمه المختلفة، بإيجابياتها وسلبياتها. أما السادات، فلا أحد من المصريين اختاره رئيساً، وإنما أتى به (عزرائيل) - آلياً - إلى كرسي الرئاسة بعد أن مات عبد الناصر، ولم يلبث عزرائيل، أيضاً، أن اختطفه، ليأتي بنفس الآلية أسوأ من جلس على كرسي رئاسة مصر في نصف قرن مضى، مبارك، الذي ارتضى أن يقيم كرسيه فوق بالوعة مليئة بالصراصير، سمينة وعجفاء، فلما طالت جلسته، ضجت الصراصير، ووجدت طريقها إلى مقعدته!
ولم أشارك في أي انتخاب أو استفتاء أجراه السادات ومبارك، فقد كان التزوير شيمتهما.
كما أنني لم أشارك في الانتخابات التي أتت بالإخوانجي مرسي، ولم أستخدم عصير الليمون لتقبله درءاً لمجيئ منافسه الجنرال المسطح. كان كلاهما وجهان لعملة واحدة: الفاشيستية !
ولما حلَّ مرسي بالبلاد، تقبلتُ وجوده، فقد أتى به شعبُنا (المؤمن)!. بل إنني تمنيت أن ينجح، ولو بدرجة مقبول، ويقضي سنواته الرئاسية، مهما كان عددها، ويمضي لحال سبيله، لتدور عجلة الديموقراطية في بلادنا، ونعتاد صفة (رئيس سابق) محترم.
لكن الفاشيستي الديني مرسي كان (هاوياً)، لا يجيد، حتى، تسوية بنطاله، إذ رأيناه في صورة مشهورة له يشده لأعلى خشية سقوطه عن وسطه!
وتخلى الشعب (المؤمن) عن الرئيس (بتاع ربنا)، والتف حول (منقذ) عسكري جديد.
لم أشارك في الانتخابات التي جاءت بالسيسي، الذي لا أعرفه حتى الآن، ولا أعتقد أن معظم المصريين يعرفونه، فلا تاريخ سياسي له، بل إنه لم يطرح حتى الآن برنامجاً محدد الملامح لمسيرته السياسية، منذ تخلى عن الرداء العسكري قبل ما يقرب من عامين اثنين. لكنه الآن رئيس شرعي، وهو مجتهد بأسلوبه الخاص، ومن جهة أخرى فلا سبيل لإقصائه إلا عندما يحين المشهد الانتخابي القادم، أو بالتفاف من الشعب المؤمن الوفي حول (منقذ) آخر!.
ورأيي أن ندعه في اجتهاده، آملين أن ينجح، ففي نجاحه خير لنا جميعاً؛ ولا أحسبه يتعمد الفشل، إن لم ينجح.
وليمضي كلٌّ منا في الإخلاص لموقفه من الرئيس: المؤيدون، والمعارضون، شريطة التخلي عن ادعاءات باحتكار الوطنية، والترفع عن صغائر التعامل وتبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة.
المراهقة الفكرية !
تعبير شاع في ستينيات القرن الماضي، الذي شهد إرهاصات تجربة اشتراكية، في منطقة كان مجرد ذكر كلمة (اشتراكي)، أو (ماركسي)، أو (شيوعي)، بمثابة تذكرة دخول معتقل.
لم يكن ثمة غير قليل من المتخصصين لديهم القدرة على التفكير المنهجي في أمور (تحويل) مجتمع مليئ بالتناقضات إلى مجتمع شبه كوميوني!
أعتقد أننا نعيش حالة مراهقة فكرية شبيهة، إذ ينساق أغلبُنا، انسياق مراهقين، وراء أفكار عارضة تشتعل كالفوسفور أمام عيونهم، فيهتاجون، فتنطفئ، فيهمدون.
قليلون هم من يهتمون بتنظيم ملفات أفكارهم في أدمغتهم، وإعداد ملخصات لها، والربط بينها. فما إن ينفتح ملفٌ منها، اندفعوا متوفرين عليه، غاضين الطرف عن عامل تفاعليته مع ملفات أخرى.
كم منا، على سبيل المثال، ربط بين (فورتينة) الجزيرتين، ومشروع كوبري سلمان، وإقامة جسر بين المغرب وأسبانيا عبر جبل طارق، وبين ممر التنمية الذي زرعه في أدمغة بعضنا فاروق الباز؟
كم منا، كمثال ثان، تساءل عن (إعلان) زراعة ملايين أفدنة جديدة، وإقامة عاصمة جديدة، وربط ذلك بما نعانيه من شح مائي؟
ويساعد على استفحال أعراض المراهقة الفكرية تدني الثقافة، حتى بين من يلصقون بأنفسهم صفة مثقف. واسألوا بعض الصحفيين المحترمين عن رأيهم في المناخ الصحافي العام، تجدون فيه مرارة. كما راجعوا، مثلاً، عدد ما كان يسمى (إئتلافات الثورة)، في أعقاب 2011، تجدونها بالمئات، تغصُّ بمراهقين فكريين، يحاولون تغطية ضحالة فكرهم بأصوات عالية وهتافات مدوية ظلوا يطلقونها طويلاً في فراغات لم تعد ترددها!
تُرى: ماذا سيكون (الاشتباك) (التالي) بين المصريين؟!
إشتباكات شبيهة، إلى حد كبير، بين نوعيات بائسة من البشر، أعايشهم في "باكوس"، التي يسميها السكندريون (الصين الشعبية) لكثافة ساكنيها.
كل يوم تنشب اشتباكاتٌ بدرجات متفاوتة من الاحتقان، وتتصاعد أصواتٌ زاعقة، ويخلع البعض قمصانهم، معرين أنصاف أجسامهم العليا، دليلاً على (رفع درجة الاستعداد)، وقد يلوِّح البعض بـ(شومة)، أو مطواة، وأحياناً سيوف من إنتاج الترسانة المحلية. ويكون ذلك مصحوباً بتنويعات من شتائم منتقاة، لم تعد الآذان تنفر منها، بل لعلها تنتظرها، إذ لا تكتمل بهجة الاشتباكات إلا بها، تذبح الشرف، وتصف وتشير إلى كل موضع في أجسام الأمهات والآباء وكافة الأهل.
كـرٌّ وفرٌّ يمتد لساعة أو أكثر، وتدخل لحمامات سلام، وترضية خواطر. ثم .. تنتهي الزوبعة بلا نقطة دم واحدة تراق.
لكن اشتباكات الباكوسيين، والحق يقال، تخلو من أي اتهام بالخيانة أو العمالة أو الارتزاق.
أدعوا أطباء النفس البشرية، وعلماء السلوكيات، إلى دراسة مشهدية لاشتباكات المصريين البسطاء، التي أعتقد أنها لا تخرج عن أن تكون تنفيساً عن ضغوط اجتماعية واقتصادية وجنسية.
الإنسانُ "المُؤلَّلُ" قادم ..!
ما رأيكم في تسمية (عصر الإنسان المؤلل) لتكون ترجمة للمصطلح الجديد Transhumanism؟!
ثمة من يفضل (عصر ما بعد الإنسانية)، أو (عصر عبر الإنسانية) ..
أنا شخصياً أفضل المؤلل، أي المميكن، أو الذي أصبح أقرب إلى الآلات ..
إنه العصر الذي يبشر به مفكرون في العالم، الذي بدأ فعلاً، والذي يأتي بعد عصر الثورة العلمية .. إنه عصر الثورة التكنولوجية، بثقافته المختلفة وسياساته واقتصادياته وأخلاقياته المغايرة ..
وأياً كانت الترجمة التي نفضلها، فها هو مصطلح جديد قد تم نحته، و(أُلقي) إلينا، لنردده، ونتفلسف حوله، ونحن لا دخل لنا به من قريب أو بعيد، فنحن نستهلك الفكر والمصطلح على نحو استهلاكنا لما لا نتتجه من طعام.
"حُرفةُ" الترجمة!
يعرف من أدركتهم (حُرفة) الترجمة - أي (انحرفوا) فصاروا مترجمين، مثلي! - تلك العلاقة العجيبة مع (أشخاص) من يترجمون لهم أعمالهم.
فالمترجم فرد واحد، له ملامحه وذائقته المحددة، وأصحاب الأعمال التي يترجمها متعددون، من مختلف المشارب والثقافات، ولهم طرائقهم المتباينة، وأحياناً شديدة التباين، في استخدام اللغة الواحدة.
وما إن يبدأ المترجم في تحسس طريقه إلى عالم المؤلف، ويتبين طريقته في إخضاع اللغة للتعبير عن أفكاره، تتولد علاقة تفاهم عميق، لا تنتهي إلا بانتهاء المترجم من عمله، وقد أصبح (عارفاً) تماماً بعالم المؤلف، وطريقة تفكيره، ومواطن القوة والضعف في بيانه وثقافته. ومن هنا، فإن المترجم هو أفضل (ناقد) على الإطلاق لكتاب ترجمه.
وأعكف الآن على ترجمة قصة قصيرة لجورج أورويل، صاحب (مزرعة الحيوانات) و(1984)، وغيرهما من روايات مشهورة، ومن غير المعروف عنه كتابة القصة القصيرة، ولكنه كتب هذه القصة إبان عمله كضابط شرطة في خدمة (التاج البريطاني) في الهند، واضطُّرَّ إلى قتل فيل، في ظروف معينة. إنه في القصة يحكي قصة قتل الفيل (وعنوانها : أرديتُ فيلاً قتيلاً)، وفي الحقيقة ينتقد الفكر الاستعماري، ويمارس نوعاً من الاعتراف التطهيري، تخلصاً من إحساسه بالذنب لاضطراره إلى قتل هذا الحيوان (العظيم).
وأنا طول الترجمة (أتحدث) إلى أورويل، وأبدي استحساني لأسلوبه في الحكي، واستخدامه التقديم والتأخير للأسماء والأفعال والصفات الإسمية وصفات الأفعال، وأضبط نفسي من حين لآخر أبتسم، أو (أزوم) مستحسناً.
إنه كاتب (جميل)، وأنا مستمتع بحالتي معه من خلال هذه القصة، وقد نجح بالفعل في جعلي لا أقف ضده لأنه قتل الفيل، فهو يفضح الإستعمار أيضاً، ولا يخالف صورته التي رأيناها له وهو يقف ضد الاستبداد في رواياته.
هذه خواطر كاتب إنحرف إلى الترجمة!
ع القمة !
يعتقد البشر أنهم يحتلون قمة هرم الحياة على سطح الأرض احتلالاً مُطلقاً، وأن غيرهم من الكائنات الحية (أدنى) منهم مرتبةً، وهو أمر يفتقد الصحة في إطلاقه، فالرفعة والتدني نسبيان.
مثال: يضع الإنسان (البكتيريا) بين الكائنات الدنيئة، تأسيساً على افتقادها لما لديه من قدرات، حسبما يرى، متناسياً دورها الداعم لكل صور الحياة الأرضية، ويحتاج تفصيلُه إلى كتب.
لكن يكفينا، في عجلة، أن نشير إلى أن البكتيريا تعرف مبدأ (تقسيم العمل)، أو التخصص الدقيق، وتلتزم به التزاماً تاماً، فالبكتيريا التي تحلل (السليلوز)، مثلاً، لا تعرف غير السليلوز، فلا تقترب من البروتين، لأن له فئة أخرى متفرغة له.
يحاول الإنسان أن يتشبه بالبكتيريا في ناحية تقسيم العمل، لكنه يفشل كثيراً، مهدراً طاقاته وقدراته موارده وأعمار أفراده.
تراودني أحياناً فكرة أن علم التصنيف يحتاج إلى مقاربات جديدة، تعيد النظر في معنى العالي والمتدني، وفقاً للقدرات الحقيقية.
تداعيات سبعينية
موضوعياً، لم تكن الأحوال والظروف التي عشتها منذ الطفولة ترشحني لأن أبلغ السبعين ..
صحيحٌ أن في عائلتنا معمرين، كجدة أبي التي أعتقد أنها قاربت المائة سنة، لكن فيها أيضاً قصار العمر، الذين قضوا نحبهم مبكراً، بسبب الإهمال، كأخي (صلاح)، وكان يصغرني، وقد مات متأثراً بشرب زجاجة (سينالكو) عبَّأها أحد أعمامي، وكان يعمل (نجَّاراً) بالصبغة الكحولية، التي يستخدمها في دهان ما يصنعه من أثاث. وجد الزجاجة على طاولة قريبة، وفي متناول يده، وفي غيبة عيون تراقب، ومدفوعاً بحبه لذلك الصنف من المياه الغازية، فتجرعها كلها، فـ(طبقت على مراوحه)، حسب تشخيص جدتي للواقعة!
وقد سبقته إلى الآخرة أخت كانت تكبرني، ولم أسمع (البيت) يتحدث عن سبب موتها.
كانت وقائع موت الأطفال تمضي على نحو ما تمضي كل وقائع الحياة، ربما بسبب خصوبة النساء بصفة عامة، فقد كانت أمي - رحمها الله - وعلى سبيل المثال تعطي الأسرة طفلاً في السنة، فإن (راح) واحدٌ، فإن ثمة وليداً (في السكة)!
والتهم المرضُ أيضاً أخوين لي، في مرحلتين متقدمتين من عمريهما، فأما الأول، فكان طالباً بكلية الزراعة، وكان الثاني طبيباً متخصصاً في الأنف والأذن والحنجرة، وكان سبب الوفاة واحد: أعطاب في صمامات القلب، بسبب إهمال تتبع ومعالجة إصاباتهما المتكررة بالميكروب السبحي اللعين. كان الجهل يبدأ بالتعامل مع حالات المرض، يعاونه الفقر، وقصور شديد في الخدمات الطبية التي توفرها الدولة لمواطنيها؛ فقد كانت أمي تلجأ إلى مستشفىً حكومي بجوار (كوبري راغب)، إسمه (مستشفى الجمهورية)، وواضح من التسمية أنه أُنشئ بعد الثورة، وبعد إعلان مصر جمهورية، فكانت (تتحاش) - أي تحجز للعلاج - بطفلها المريض، وكانت راضية عن المستشفى، وتحكي الحكايات عن (الوجبات) المميزة التي تقدم للمرضى ومرافقيهم، غير أن تكرار ظهور أعراض المرض كانت دلالة على عدم جدوى ما يتلقاه طفلاها من علاج، وكانت في كل مرة ترجع إلى المنزل محملة بالعلاج، الذي لم يكن يزيد عن زجاجات مملوءة بمستحضرات (راوند) و(حديد) و(زرنيخ)!
والواضح أنني نجوت من الإصابة بتلك الأعطاب، وتمكن جهازي المناعي من قهر الميكروب السبحي، كما تمكن جسمي من قهر (فيروس سي)، الذي أصابني في الخامسة والستين .. وتلك حكاية أخرى ......
(أ. د.) و (أ. د.) ... !
أما الـ أ.د. الأولى، فكان يحملها أستاذ في آداب الإسكندرية، لن أذكر اسمه، وأتذكر أنه كان متخصصاً في فلسفة السياسة.
رأيته بنفسي، أكثر من مرة، في القهوة التجارية، المطلة على كورنيش الميناء الشرقية، يراجع الرسائل العلمية لبعض تلاميذه.
كان يدخل إلى المقهى، بجسمه الشحيم، ممسكا بمقبض حقيبة جلدية حال لونُها، ليجد تلميذه ينتظره عند طاولة مجاورة لنافذة ترى البحر. وقد شهدت تلك الطاولة كل اللقاءات التي تيسر لي، بالمصادفة البحتة، أن أشهدها.
وما إن يتخذ مقعده، حتى يدور حوار قصير جداً بينه وتلميذه، الذي لا يلبث أن ينهض، ويغادر المقهى، بينما يبدأ الـ أ. د. يغالب النعاس، حتى يرجع التلميذ ومعه لفافة لا يتغير حجمها في كل حالة، ويضعها أمام أستاذه، ويطلب من الساقي أن يُحضر زجاجة مياه غازية.
ويفتح الأستاذ اللفافة، لتنتشر منها في سائر أنحاء المقهى رائحة نفاذة، تميز (الكبدة)، ولا يكون من العسير أن أفهم مصدرها: مطعم متواضع على بعد خطوات قليلة، خلف المقهى.
ويأكل الأستاذ، مستعيناً بالمياه الغازية، ساندويتشين، هما الوجبة القياسية التي كان يحضرها كل التلاميذ. وبعد أن ينتهي يمسح أصابعه وفمه بأوراق مملوءة ببقع الزيت كانت تغلف طعامه.
وبعد دقائق قليلة يعود الساقي ومعه فنجان قهوة، ينهيه الأستاذ في رشفات قليلة، ثم تمتد يداه الملوثتان إلى حقيبته المهترئة. يفتحها ويخرج منها (كومة) أوراق، يرتبها، ويبدأ حديثه (العلمي) الذي لم يكن يخلو في كل الحالات من تعبيرات احتداد، يتلقاها التلميذ خانعاً.
ولا يستغرق العمل (العلمي) غير نصف ساعة أو أقل، ليقف ويغادر المقهى، وكأنه لم يكن بصحبة أحد!
ليست في هذه الصورة القصصية أي مبالغة.
أما الـ أ. د. الثانية، فلأستاذي الجميل الحبيب أ. د. يوسف حليم، أستاذ علوم البحار في جامعة الإسكندرية (رحمه الله). كان الرجل يدعو تلامذته ليتناولوا معه وجبة الغداء في نادي سبورتنج، وبعد الطعام، يراجع مع تلميذه فصلاً واحداً من الرسالة العلمية. أي أن كل فصل من الرسالة بوجبة في نادي سبورتنج!
مهارة المزيفين ..
للمزيَّفين، والمُزِّفين، مهارات خاصة، لا تتوفر لغيرهم، في فنون التزييف.
عرفت الأوساط الثقافية في الإسكندرية مُزيِّفاً خطيراً، انتحل صفة (أستاذ مساعد الجراحة في جامعتي الإسكندرية وقناة السويس)، حسب التعريف الذي كان يضعه بعد اسمه المحلَّى بـ (أ.د.).
كان يجالس بعض أدباء ومثقفي المدينة في (القهوة التجارية)، على كورنيش الإسكندرية، وكنت أراه دائماً محتذياً حذاءً كاوتشوك متواضعاً، كما كان هندامه أشد تواضعاً، وأحياناً تجد (ياقة) القميص متسخة!. ولم يكن لديه سيارة خاصة.
تشككتُ فيه من مفردات مظهره، فليس هكذا يبدو الأطباء، ناهيك عن الجراحين، فهم أغنياء، ولا يعقل أن يتخذوا مظهر الصعاليك.
وكان ينشر مقالات علمية وثقافية عامة في كل المجلات العربية، تقريباً. ولم ينشر إطلاقاً في مجلة مصرية. فقد كان حريصاً على الابتعاد عن المجلات المصرية، حتى لا تطاله الشبهات، ومن جهة أخرى، فإن (مردود) النشر في المجلات العربية أكبر كثيراً.
وكنتُ أنا من الكتاب شبه الدائمين لمجلة (القوات الجوية) التي كانت تصدر في (أبو ظبي)، وطلب مني مدير التحرير أن أتحرى صحة شكوى تتهم الجراح المزيف بالزيف.
لم أركن إلى ظنوني، ورأيتُ أن أذهب بنفسي للبحث عن صحة انتسابه لهيئة التدريس في طب الإسكندرية، فلم أجد أحداً يعرفه. وذهبتُ إلى نقابة الأطباء، فلم أجده مسجلا في قوائم العضوية.
والغريب أنني ذهبت بما توصلتُ إليه إلى صديق يعمل أستاذا للجراحة في طب الإسكندرية، فعاتبني وقال (حرام عليك .. الراجل "زميل" محترم)!!!
والغريب أن المنتحل الكبير رفع دعوى قذف وسب ضد احد الصحفيين في مؤسسة دار الهلال، وكسبها، إذ قدَّم للمحكمة أوراقاً ثبوتية تفيد بأنه عضو بنقابة الأطباء!!
وفوجئ الجميع بخبر القبض على اللص المزيف المنتحل، بعد أن أبلغت عنه واحدة من زوجاته اللاتي تزوجهن منتحلاً صفة الأستاذ الجراح. وبلغت به حدة حالته المرضية لدرجة أنه طلب أن يجري الكشف الطبي على ضابط الشرطة الذي هاجمه في منزل أمه المتواضع، وضبط معه حقيبة بها أدوات طبيب.
وقضى المزيف 10 سنوات في السجن .. وخرج .. وعادت ريمه لعادتها القديمه !
أين أنت يا مدثر يا درديري؟!
من الذين أحب أن استدعيهم عبر الفيس بوك: الجندي مجند المدثر الدرديري على، من قنا.
من أعجب الشخصيات التي عرفتها في حياتي.
هو غير متعلم، ولكن ثقافته واسعة، ربما لطول فترة تجنيده، التي تجاوزت ست سنوات.
كان لي حظ أن اشاركه الإقامة في أحد (ملاجئ) السرية. والملجأ، لمن لا يعرفه، عبارة عن حفرة عميقة، بها مصطبة عريضة، هي الفراش للنوم، والمقاعد للجلوس، مغطاة بأقواس حديدية، وفوقها طبقة كثيفة من الرمال. وللملجأ باب، و5 أو 6 سلمات تصعد إلى سطح الأرض.
كان المدثر يتكفل بكل ما يتصل بالمعيشة في الملجأ، من التنظيف حتى إحضار (التعيين)، لي وله، في أوقاته.
وكان يطلق عليَّ اسم شخصية سياسية اشتهرت في ذلك الوقت، هي (يارنج)، أو (جونار يارنج)، مندوب الأمم المتحدة الذي كانت له جولات مكوكية في المنطقة، أملا في حل مشكلة العرب وإسرائيل.
كان المدثر يراني قادماً إلى السرية حاملاً حقيبتي وبها كتبي وأوراقي، فيقول: يارنج جه !
وكان ينظف زجاجة فانوس الملجأ، ويوقده، ثم يترك لي المكان، إن جاءتني (الدلالة)، أي (الجلالة)، فهكذا كان يصف نزول الوحي القصصي عليَّ، تحت الأرض !.
وكان يحكي لي عن أسرار كثيرة يحتفظ بها، منها غرامه بالسيدات العجائز، وبعد كل أجازة يحكي لي غزواته في هذا المجال، وكنت أستمع إليه باهتمام، وأصدقه. ولو كان يعرف الكتابة والقراءة فربما أصبح قاصاً أفضل بكثير من مئات الأقلام التي تسود الصفحات البيضاء !.
كان حلم عمره أن يرى (البحر المالح)، فاصطحبته في إحدى أجازاتنا الميدانية، وما إن رأى البحر وأمواجه، في شاطئ (ستانلي)، حتى أخذ يصيح بجنون (يا بوي .. يا بوي)، وكنت، خلال أيام الأجازة الأربع، لا أستطيع أن أخرجه من المياه إلا مع حلول الظلام !.
يا رب تكون بصحة وعافيه يا مدثر يا درديري يا علي !
مراكش في "جليم" ..
إنفجرتُ، بعد ظهر أمس، وأنا جالس أنتظر الترام في محطة جليم، بموجة من الضحك الهستيري، لم أستطع منعها .
جلس إلى جانبي رجل في مثل سني، وإن كان صوته يدل على أنه، حفظه الله، متين البنيان مكتمل الصحة، وكانت رقعة كبيرة من الجلد الأسود المتغضن تفترش جبهته.
حرص وهو يجلس على أن يلقي التحية بصوت هائل: السلام عليكم ورحمة الله.
وكنت منشغلاً تماماً بمسائل مزعجة عشت فيها الساعات القليلة السابقة، فلم أرد، معتقداً أن غيري سيرد، فردُّ السلام كما يقول الفقهاء فرض كفاية، أي يكفي أن يرد فرد واحد نيابة عن جمع الحاضرين.
لكن أحداً لم يرد، فانزعج الرجل، وعاد يصيح: أعوذ بالله ! .. هل أنا في تل أبيب؟
فلم يعره أحد التفاتاً. فجلس صامتاً.
وطال انتظار الترام، وأنا جالس إلى جواره وشحنتي ضده تتصاعد لحظة بعد لحظة. ويبدو أنه قد شعر بالملل، فأخرج هاتفه المحمول (ملعون من اخترع هذا الهاتف)، وظل يتحدث بصوت عالٍ جداً، وتضمنت ثرثرته أحوالا اجتماعية أسرية، وشتائم، وتهديدات .. وكل ذلك يصبُّ في أّذنيَّ، لدرجة أنني كرهته بشدة، وتمنيتُ أن تتعطل الشبكة، أو تنتهي الشحنة، أو أن يصاب بغصة فيظل يسعل فيتوقف عن اللغو السخيف الذي لا يمكن أن يصدر من رجل يفترش الالتهاب الجلدي جبهته، واتهم ناساً لا يعرفهم بأنهم يهود.
وكنت متبيناً تماماً لكل تفاصيل حديثه المنوع، إلى أن قال وهو ينهي تهديداً زاعقاً:
- على نفسها جنـت "مراكش!
هنا، تضافر كل ما اختزنته ضده من مشاعر عداء وكراهية، فأطلق ضحكاتي الهستيرية التي أثارت انتباه كل الواقفين بالمحطة، الذين كان بعضهم على بينة من دافعي إلى الضحك.
ذكريات مع زويل ....
= وقف معنا (المعيد) أحمد زويل في أحد أيام امتحانات الكيمياء، يرد على استفساراتنا السريعة قبيل دخول اللجان. قلت له: توقيت الامتحان صعب جداً .. من 2 إلى 5 بعد الظهر .. (عز النغرة) !
ضحك مهوناً، وقال: "المستعد لا يهمه .. حتى لو اشتغل في (كونك إتش سي إل) "
ومعناه في وسط من حامض الهيدروكلوريك المركز، وهو من أقوى الأحماض غير العضوية.
ولم أنس هذه المقولة أبداً، وتعهدت نفسي بأن أكون مستعداً عند الدخول في أي عمل، لأواجه أي ظروف، حتى لو كانت إتش سي إل !
وفي العام 2002، اقترح الدكتور أحمد زويل إنشاء جائزة عالمية تسمى (جائزة الإسكندرية للإبداع)، وبعد انتهاء الاحتفال بإطلاقها، في مبنى مركز الحرية للإبداع، فاجأته وهو يوقع لي نسخة من كتابه "رحلة عبر الزمن ... الطريق إلى نوبل"، وقلت له هل تصادف أن عملت في هذه الرحلة في وسط من إتش سي إل؟.
فنظر إليَّ لحظات، وسرعان ما تذكر، وضحك، وقال: ياه ! .. بل في (الأكوا ريجيا)! والأكوا ريجيا هي (الماء الملكي)، عبارة عن خليط من حمضي النيتريك والكبريتيك المركزين.
في ذلك الاحتفال، استوقفني في الكلمة التي ألقاها الدكتور زويل قوله إن الناس (إللي ما معاهاش) - بنص كلماته the havenots - يمكن أن تعمل بحث علمي، للتغلب على نقص الإمكانيات، وفي نفس الوقت، طالب بإطلاق حرية هجرة العلماء من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية، مع العمل على ربطهم بالوطن للاستفادة من نجاحاتهم.
الله يرحمه ..
أنصــارُ الدعوة البوذية !
تصلني نشرة فصلية من جمعية اسمها (سوكا جاكاي العالمية SGI)، وموضوع غلاف أحدث أعدادها (العالم 2030) .. ربما يكون عنوان تقرير الحكومة الذي قدمه رئيس الوزراء منذ أيام مأخوذاً منه !
ويصدر النشرة منتدى تابع للجمعية البوذية، هو (المنتدى البوذي للسلام والثقافة والتعليم).
وأتلقى النشرة منذ بداية ظهورها. لست أدري كيف تحصلوا على اسمي وعنواني البريدي في الإسكندرية؛ واستمرت النشرة الورقية تصلني حتى بعد أن اتخذت الهيئة الإلكترونية وصارت متاحة في (الشابكة)، أي الإنترنت. وأرى في ذلك ذكاءً وحرصاً أكثر منها على (أصدقائها)، فلا معنى لتحمل أعباء الورقية في وجود الإلكترونية إلا إظهار الحرص.
ومن الطبيعي جداً أن يحرص أولئك (الأصدقاء) من آل بوذا على نشر مبادئهم، فهذا حقهم، وهم يفعلون ذلك في النشرة، وبأسلوب غاية في الرقي؛ غير أنهم يهتمون في الجانب الأكبر من النشرة بتناول موضوعات علمية وتكنولوجية، وغير ذلك من منوعات غير بوذية، تستحق القراءة. وانظر مثلاً إلى اهتمام هذا العدد بصورة العالم في المستقبل القريب - 2030.
هل أطمع في أن يجيئ يومٌ نرى (داعش) تصدر نشرة مماثلة، تبث فيها فكرها الداعشي من خلال معالجات جديدة لأحوال العالم وعرض لأخبار العلوم والتكنولوجيا؟!
هل ثمة احتمال لأن (يطور) - لا أشير هنا إلى داروين، أستغفر الله العظيم - الأزهر مجلة من إصداراته المتعددة لتكتسب دائرة قبول أوسع، ويجد فيها القارئ ما يستحق أن يهتم به؟!
لا أعتقد.
ما أعتقد في احتمال حدوثه هو أن تسائلني جهة دينية سلطوية عن تحمسي لنشرة أنصار الدعوة البوذية. وإجابتي هي: أنا أستفيد منها.
فشكراً لأنصار الدعوة البوذية على اهتمامهم بي.
ضايليمَّـا - Dilemma...!
يمكنني أن ألتمس العذر للحاكم الذي يجد نفسه حائرا في (معضلة) الحكم.
هو يعلم، يقيناً، أن (توزيع الثروة القومية) غير عادل، فهناك من مواطنيه قلَّةٌ تمتلك (أكبر) جزء من الوطن، وأكثرية غالبة تمضي حياتها يوماً بيوم.
وكلاهما يمثل (فكَّاً) حاداً، وهو بين الفكين. لا يستطيع إعلان انحيازه الكامل والواضح لأيٍّ منهما.
الأقلية هي السلطة الحقيقية: القوى المحركة في البرلمان - والوزراء الموالون لها، ومعهم كل أجهزة الدولة الإدارية - والإعلام - وقبل كل ذلك، المال الوفير القادر على شراء ما ومن يُشترى.
ولا يملك الحاكم إلا (مغازلة) هذه الأقلية القوية طول الوقت، وتسهيل أمورها، ليدوم شهر العسل بينهما.
فإن انتقلنا إلى الأكثرية المعدمة وشبه المعدمة، فإن الحاكم قد يكون طيب النية في إصلاح أحوالها، لكنه لا يمتلك مفتاح الحل الحقيقي، وهو إعادة توزيع ثروة الوطن، فيلجأ إلى مغازلات من نوع آخر، إرضاءً لبطون خاوية، وقد يستخدم المسكنات؛ لكنه يبقى طول الوقت مركزاً انتباهه عليها، متحسباً لأي بادرات غضب منها، وهو مطمئن إلى أن لديه عُصِيُّه الغليظة، وإن كان لا يتمنى أن يستخدمها.
لا تتركوا العلم حكراً للعلماء وحدهم
هذه مقولة إيزاك أسيموف، عملاق أدب الخيال العلمي، وهو أيضاً أستاذ جامعي في الكيمياء.
كان مقصده الأساسي هو أن يكون ثمة من يراقب توجهات العلم ومردوداته، خاصة من النواحي الأخلاقية، فأنت لا تضمن أن يكون العلماء أنبياء مطهرين على طول الخط.
لكني هنا أستخدم المقولة لأدلل على أن آخر من يمكنه أن يتحدث للناس غير المتخصصين في العلم هم العلماء المتخصصون أنفسهم.
وأمامي نموذج على ذلك: كتابان من إصدار (المكتبة الأكاديمية)، وهي مؤسسة محترمة ذات تاريخ مشرف، أصدرت سلسلة تحمل اسم (عروض) .. وقد يغيب عن القارئ عندما يطالعها أنها عروض لكتب علمية، تذكرنا بمجلتنا العظيمة (تراث الإنسانية) التي خنقناها بدم بارد، ولا نكترث بافتقادنا لبديل لها، فلعل المسئولين يفكرون في إعطائها قبلة حياة.
الكتابان الصادران عن المكتبة الأكاديمية يعرضان لكتابين علميين متخصصين في علوم حديثة، يستعصي الاقتراب منها حتى على دارسي العلوم. وأعترف بأنني لا أفقه في تلك العلوم شيئا كثيراً، ولا أستطيع الربط بين معطياتها، فوجدت في الكتابين العارضين ضالتي، أو هكذا حسبتُ، حتى فوجئتُ بأن العالم الجليل الذي وضع العرضين لم يعرض، وإنما نقل من الكتابين أجزاءً، بأسلوب يشي بأن لا صلة له بالكتابة.
إن عرض الكتب، خاصة العلمية، يحتاج لمقدرة (كاتب)، وليس لتبحر عالم. إن آخر من يصلح لتقديم الثقافة العلمية هم العلماء، ما لم يكونوا بالوقت ذاته (كُتَّاباً).
ولي في هذا السياق كتاب عنوانه (كيف تعرضُ لكتاب)، أنتظر أن تنشره الهيئة العامة للكتاب قريباً ..
أعيدوا لنا قصر ثقافة الحرية
أيها اللصوص الذين سرقوا من تاريخنا الشخصي مهدنا، ومن تاريخنا الوطني ملمحاً ثقافياً عبقرياً منتجاً.. أعيدوا لنا قصر ثقافة الحرية.
سامحكم الله بما نهبتموه من ملايين الجنيهات، وما تحصلتم عليه من مصالح شخصية، لتقترفوا خطيئتكم النكراء بقتل شخصيته الأصلية، وتحويله إلى (خنثى) ثقافية مزرية مقيتة، دينها الواسطة وتبادل المصالح.
لا أعتقد أن تكاليف العمل بقصر الحرية منذ إنشائه حتى اغتياله تزيد عن تكاليف نصف العمر البغيض لذلك الوجه القبيح القائم في نهاية طريق الحرية الآن.
ولا أعتقد أن سيدة فاضلة، كالأستاذة عواطف عبود (البنَّاءة الثقافية) التي أهدت لقصر الثقافة عمرها، قد وصل راتبها الشهري، في نهاية مشوارها المثمر، إلى ربع ما يتقاضاه المدير الحالي، الذي جاء إلى مقعد الإدارة، منتدباً من كلية الفنون الجميلة، عبر آليات، أو شبكة (التعـ .. ويم) الإداري، التي كانت قد بدأت وتأسست بانتداب (شيئ) آخر، هو طبيب أسنان مغمور، كان يعتقد أن أمل دنقل سيدة، ليكون أول مدير لهذا المكان في طوره الخنثوي، حتى قبل أن يتسلمه صندوق التنمية الثقافية من المقاول، فقد كان الطبيب المدير يعالج أسنان أسرة فاروق حسني في الإسكندرية، وكان أستاذا مشرفا على رسالة أكاديمية لأحد موظفي الثقافة ذوي الصلة، كما سارع إلى دعمه نفرٌ من مثقفي الإسكندرية، كان أقل واحد فيهم أجدر بالكرسي الذي يجلس فيه مسلكاتي الأسنان..
فلما ذهب فاروق حسني بزوال سوزان، ترك وراءه رجاله، الذين كان نفوذهم، ولا يزال قوياً، في تلك الشبكة التي أشرنا إليها، فجاء أحدُهم بـ (مجهول) آخر، من (خوجات الرسم)، بلا تاريخ إبداعي أو فكري أو إداري، وذلك لكي (يسترزق) من باب الانتداب (لعن الله من أوجد هذه الكلمة في حياتنا).
وقد انتهي الأمر بهذا الكائن الشائه إلى أن المرء لا يستطيع أن يميز بينه وقسم البوليس القائم إلى جواره؛ فأعظم نشاط في هذا الكائن الخنثى هو النشاط الأمني، حيث لا تجد فيه أكثر من (أمنيين) غلاظ، أقرب إلى البلاطجة، وأشبه بحراس المبالات العامة.
ورأيي أن الحل هو في إبعاد خيوط تلك الشبكة غير النظيفة عن هذا المكان، وإعادته إلى الثقافة الجماهيرية، لعله يستعيد عافيته، ويعطينا أجيالاً من المبدعين والكتاب والفنانين، من أمثال: إبراهيم عبد المجيد ومصطفى نصر وسعيد بكر وأحمد آدم والسيد حافظ وأحمد فضل شبلول وعبد الله هاشم وأحمد حميده والسعيد الورقي ومحمد السيد عيد ومصطفى حامد جاد الكريم وسعيد سالم وأحمد إبراهيم ورأفت صبري وعبد المنعم الأنصاري وعبد العليم القباني وصبري أبو علم وفوزي خضر وعبد المنعم سالم وأحمد السمرة وحورية البدري، وعشرات، بل مئا غيرهم.
طَنَاشٌ!
كنتُ وزميلةٌ فاضلة ننفصل أحياناً عن محاضرة كيمياء، ونتبادل في تجاورنا بالمدرج، رسم هيئات هزلية في هوامش مذكرة الكيمياء الطبيعية، أو كتابة شطحات ساخرة، من صنف أسماء وهمية لكتب تراثية مسجوعة العناوين.
ذات مرة، كتبتُ: "بعد كده ما فيش في علم التطنيش"!
فانفجرت ضاحكة، فتوقف الدكتور يحيى طنطاوي، رحمه الله، ونظر باتجاهنا، وابتسم، ثم عاد إلى شرحه.
كلما فكرت أن أبدأ في تأليف ذلك الكتاب، أتراجع.
أسئلة عمَّار على حسن (الحرجة) ..
15 سؤالاً وجهها مثقف ومبدع وأكاديمي مصري إلى رئيس مصر (المنتخب) .. طالباً أن يجد لها إجابات ..
رأيي أولاً أنها ليست أسئلة (حرجة)، وإنما يصرخ كل منها نحن لا نعرف .. نحن لا نرى .. نريد أن نعرف .. نريد أن نرى ..
ولو كنت مكان الرئيس السيسي لاغتنمتُ الفرصة، وأعددتُ الإجابات .. فإن كان عمار على حسن هو من كتبها، فإنها أسئلة تتردد على ألسنة وفي أذهان عدد كبير من المصريين، الذين تهمهم (سلامة) مصر، ويريدون أن يشاركوا في تأمين حاضرها، والله أعلم بمستقبلها ..
إن المعلومات حق من حقوق الإنسان، يجب أن تكون متاحة له، فإن احتجبت مهما كان التبرير، تصاعدت المخاوف والشكوك ..
يسأل عمار على حسن:
إلى الرئيس .. أسئلة "حرجة" عن تيران وصنافير
بلا مقدمات ولا ثرثرة، هذه أسئلة لا أعتقد أن الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي طالبت بعدم ترشحه للرئاسة أصلا ولم أنتخبه، سيجيب عليها، لكن عليه أن يعلم أنها هي ما يدور في أذهان المصريين الآن، حتى بمن فيهم، من ساقوهم إلى الموافقة داخل مجلس النواب" وكذلك من ينتمون إلى الأبواق الإعلامية التي مهدت ودافعت وبررت ومارست أقصى درجات "الخطيئة السياسية" في تبجح ليس له نظير في حياة أي دولة حتى ولو كانت في مجاهل التاريخ أو الجغرافيا، وكان من يسيرون أمورها يعانون من أمية سياسية فادحة وفاضحة وإلى الأسئلة الواقفة في حلوق الناس أشواكا مسنونة، أو إبرا صدئة:
1 ـ هل انفردت كعادتك بالقرار ووقعت اتفاقا سريا حول تيران وصنافير دون استشارة أحد، ثم أعلنت عن رغبتك فيما أسميته "إعادة" الجزيرتين إلى المملكة العربية السعودية في الاجتماع الشهير الذي عقدته مع شخصيات قريبة من السلطة وأذيع على الهواء، وأحضرت فيه الدكتور مفيد شهاب ليبرر ما واقفت عليه من وراء الجميع؟ أم أن القوات المسلحة والمخابرات العامة والمخابرات الحربية كانت على علم بما يتم منذ اللحظة الأولى؟
2 ـ هل التنازل عن تيران وصنافير مربوط حقا باتفاق أشمل تدخل فيه إسرائيل، وترعاه أمريكا، والهدف منه صناعة حدود بحرية بين السعودية وإسرائيل بما يوجب دخول المملكة طرفا في "اتفاقية السلام" المصرية ـ الإسرائيلية، أو فتح باب لتفاوض بين الرياض وتل أبيب؟ وهل لهذا علاقة بدخول إسرائيل في تحالف عربي تسنده واشنطن ضد إيران ومن معها؟
3 ـ هل وصل إليك أو إلى أحد في السلطة أن هناك تصورا سعوديا، لمرحلة ما بعد النفط، يقوم جزء منه على استغلال كل جزر المملكة في البحر الأحمر بتأجيرها أو بيعها لشركات عالمية أو بناء منتجعات عليها وبيعها لأثرياء العالم؟ وماذا لو دخلت تيران وصنافير بعد تسليمها إلى هذا المسار وبيعت لشركات تقف وراءها إسرائيل ولو من بعيد، أو باعها المالك الثالث إلى رابع يعمل ضدنا؟
4 ـ هناك قوى خبيثة تعمل على إزكاء صراعات داخلية في المملكة لإحداث فوضى عارمة فيها وتفكيكها، لا قدر الله، فهل إن جرى هذا، وهو أمر لا يتمناه أي عربي حقيقي، ستسارع إسرائيل باحتلال تيران وصنافير، ووقتها لن نستطيع أن نفتح فمنا لأن سلطتك أقرت بأنها ليست أرضنا؟
5 ـ هل هناك علاقة بين موافقة إسرائيل على انتشار جيشنا في سيناء لمحاربة الإرهابيين القتلة الفجرة وبين قضية تيران وصنافير؟ وهل أدخلتنا إسرائيل في "حرب استنزاف" ضد الإرهابيين، المتهمة هي لدى كثيرين منا بمساعدتهم وتوجيههم، لنقع تحت ضغط يفضي في النهاية إلى التنازل عن الجزيرتين؟
6 ـ ماذا عن فتح ممر بين الجزيرتين توظفه إسرائيل بعد استلام السعودية لهما في إعطاء دفعة قوية لمشروعها بحفر قناة بين خليج العقبة والبحر المتوسط أو إنشاء قطار سريع بينهما الأمر الذي يعني تدمير وظيفة قناة السويس؟ وكيف يستقيم هذا مع قرارك بحفر فرع جديد للقناة وإنفاق كل هذه الأموال الطائلة عليه لاسيما بعد الإصرار على إنهاء الحفر في سنة واحدة بما رفع التكلفة، ثم الحديث عن مشروعات كبرى على شاطيء القناة؟
7 ـ ما حقيقة ما تردده بعض الأوساط التي تريد دق إسفين بين مصر والسعودية عن ضغوط مارستها الرياض على القاهرة عبر المشروعات التي أطلقتها السعودية في أثيوبيا والتي تقوم على استغلال سد النهضة الذي يضر بنا ضررا بالغا الأمر الذي جعل السلطة في النهاية تمضي في هذا الطريق الذي انتهى، حتى الآن، بموافقة "البرلمان" على اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية؟
8 ـ ما حقيقة ما يقال عن أن السلطة سارعت في دفع البرلمان إلى مناقشة الاتفاقية حين علمت أن المحكمة الدستورية العليا ستقضي ببطلان مناقشته لها عقب حكم المحكمة الإدارية العليا بمصرية الجزيرتين أو ستفرض ضرورة إجراء استفتاء شعبي عليها؟ وهل تخشي إجراء هذا الاستفتاء لأنه سيأتي على النقيض مما قلته من أنك واثق أن الجزيرتين للسعودية وبالتالي يكون استفتاء أيضا على شرعيتك وشعبيتك التي هبطت الآن إلى أدنى حد؟ وكيف تدعو الناس فيما بعد إلى احترام القانون بعد أن ضُرب بحكم المحكمة الإدارية العليا عرض الحائط؟
9 ـ كيف سيجري بعد اليوم الحديث بين قادة الجيش وجنوده عن تقديس الأرض وأن التضحية بالنفس في سبيل حتى ولو حبة رمل واحدة واجب وطني؟
10 ـ إلى متى تظل تعتقد أن ما تقدم عليه، وتتفق عليه سرا، هو عين الحق والحقيقة والوطنية، وأن من يراجعك أو يعارضك أو يستفسر حتى عما فعلت تغضب منه، ويرميه إعلامك بالخيانة؟
11 ـ هل نصدق أنك ستبني دولة ونحن لا نرى حولك إلا المنافقين والمداهنين والملاينين الذين وصل بهم الأمر إلى رمي من يدافع عن أرض مصر بالخيانة؟
12 ـ لماذا تم حجب المعلومات والوثائق التي تثبت عكس ما ذهبت إليه وقررته وفرضته عن أعضاء البرلمان الذين تم حشدهم تباعا في سلسلة لقاءات وشرح القضية لهم بما جعل كثيرين منهم يأخذون موقفهم المؤيد لك عن غير دراية؟ وبعضهم بالطبع يطيعك في كل شيء حتى ولو على حساب مصر العظيمة؟
13 ـ هل حقا أنك أعددت تلك الدراسة القصيرة البسيطة التي انتشرت على الإنترنت وتمت ترجمتها وقيل إنك قدمتها في نهاية دورة عسكرية في أمريكا وفيها تتحدث عن "الخلافة" و"البيعة" ودمج الإخوان وأمثالهم في العملية السياسية؟ وهل هذه الدراسة، لو كانت لك حقا، تعني أن قضية الأرض لا تشغل هذا الحيز الذي يملأ رؤوس الغاضبين من التنازل عن تيران وصنافير؟ وفيما الاختلاف إذن عن تصور الإخوان الذين قامت الدنيا عليهم ولم تقعد لمجرد اتهامهم بالتنازل عن جزء من سيناء؟
14 ـ هل يمكن أن تلمح إلى القرار التالي الذي ستنفرد به، أو تكون قد انفردت بالفعل وستعلن قريبا، حتى نعرفه من الآن؟
15 ـ هل تدرك الآن أن مصلحة هذا البلد تقضي أن تفسح الطريق لغيرك بعد أن ثبت لك أن المسألة أكبر مما تصورت، وكنت قد استسهلتها إلى درجة دفعتك إلى أن تقول في لحظة انتشاء أنك تعرف مشاكل مصر وتعرف كل حلولها أو تعد الناس بدولة مختلفة بعد سنتين فقط من حكمك؟ هل يدفعك ضميرك إلى الاعتراف بأنك وصلت إلى نهاية الرحلة؟
عم (شير شيل) !
من أجمل الشخصيات التي عرفتها في طفولتي، وامتدت صلتي بها في صباي.
كان بمثابة (التابع) لجدي!
واسمه هو تحريف لاسم "تشرشل"، رئيس وزراء بريطانيا إبان الحرب العظمى الثانية، وكان العم (شير شيل) معجباً جداً به، حتى خلع عليه أصدقاؤه اسمه محرفاً.
كان يعمل في (القهوة أم مرايات)، وهي أول ما يقابلك من معالم (غيط العنب)، بعد أن تعبر كوبري راغب باشا. كان جرسوناً، و(تشهيلجياً)، أي يؤدي الخدمات بمقابل .. كل أنواع الخدمات، ابتداءً من (إلقاء) رسالة في صندوق البوسطة، وتحضير مائدة إفطار شهي من فول وفلافل موريس، إلى جلب عاهرة لأحد الزبائن!. وكان ينظف المقهي، ويدير حساباته، ويتخذ من ركن فيه مسكناً. ولم يعرف له أحدٌ أقارب، فكان وصف (مقطوع من شحره) يناسبه تماماً.
وكنتُ أرافق جدي أحياناً إلى مقهاه المفضل، الذي كانت المرايا تكسو معظم حوائطه، فكنت أتعجب أشد العجب من كل هذا الاتساع، وكل هؤلاء البشر المتواجدين بالمقهى. ولازلتُ أتذكر المقهى كلما احتسيتُ مخلوط (السحلب)، أو حتى إذا ورد اسمه في حديث، فقد كان جدي يوصي عم (شير شيل) بإعداد طلبي المخصوص، فيأتيني الرجل بكوب ضخم، مترع بالسحلب، الذي كنتُ آكله لا أشربه، من كثرة ما به من إضافات خاصة، أتذكرُ حتى الآن مذاقها، ولا أستطيع أن أصفه. وكنت، بعد أن آكل سحلب شير شيل وأعود إلى البيت، أطلبُ أن أنام على الفور، فتعلق جدتي قائلة لجدي: إيه .. إنتا عطيت له بنج؟!
وكانت جدتي هي الوحيدة التي تكره شير شيل، لأنها علمت أنه (المراسلة) بين جدي وزوجة أخرى أو عشيقة تقيم في (اللبان)؛ وكان عم شير شيل يضحك بصوت عال عندما تقابله جدتي عند الباب لتأخذ منه أشياء أرسلها جدي للبيت، وتستقبله صائحة: أهلاً بالمعرَّص الكبير!
مرحباً سيناء .. أرجو أن تكوني بخير ..
زرت سيناء مرات عديدة ..
كمقاتل، في 9 أكتوبر 73، مهمتي تأمين وحدتي المقاتلة ضد الغدر الكيميائي الصهيوني.
وكمقاتل أيضاً، في زيارة فريدة برفقة ضابط في وحدتي العسكرية، وهو زميل (علومي) قبل أن يكون (قائدي)، وأتيح لنا أن نصل إلى أعلى نقطة في استحكاماتنا على الضفة الغربية للقناة، لنطل على ضفتها الشرقية. لا أتذكر زمن هذه الزيارة، ولكنه كان قبل أسابيع قليلة من أكتوبر، وكانت القيادة حريصة على أن يزور خط الجبهة أكبر عدد ممكن من الضباط والجنود، ليثبت في أذهانهم مسرح العمليات الوشيكة.
كان الساتر الترابي على الضفة الشرقية برتفع كلما عملنا نحن على ارتفاع (المصطبة)، كما كانت تسمى، وكنا نراقب تحركات العدو من فوقها.
ومن فوق تلك المصطبة، رأيتُ القناة تمتد (إلى أسفل)، وهي التي تحول بيننا وسيناء.
واتتني يومها فكرة رحت أعمقها، وهي: لقد كانت إرادة غيرنا أن نحفر قناة لربط العالم تسهيلا لجهود النهب الاستعماري. لم تكن لنا أي إرادة في حفرها. صحيح أنها أفادتنا اقتصادياً وديموغرافياً، لكنها قطعت اتصال مصر بسيناء. وربما كان ذلك مقصوداً، إذ جرى التفكير والتحضير لحفر القناة، من قبل الفرنسيين أولاً ثم الإنجليز، في مناخ محاولات مبكرة إلى إعادة تشكيل العالم المتخلف وتوزيع قطع كعكته على الدول الاستعمارية.
عرضت هذه الفكرة على صديقي ونحن فوق المصطبة التي تجري من تحتها مياه القناة. ثم سألته: لماذا لا نفكر، بعد الحرب، في ردم القناة ؟!
إستولت عليه الدهشة، حتى أن أول ما قاله لي كان : يخرب بيت جنان أهلك !
لكن الفكرة لم تغادرني، ولم تغادره أيضاً، وأمضينا كثيراً من الوقت نتباحثها بعد أن عدنا إلى موقع وحدتنا العسكرية.
اتفقنا على أن ردم القناة سيكون انقلاباً عالمياً. ورحنا ندرس الفكرة من كل الجوانب، وتوصلنا وقتها إلى أن مجرد التلويح بالفكرة رسمياً، أو تسريبها على أنها (منتج) فكر مجموعة من الدارسين المصريين، يمكن أن يكون ورقة ضاغطة، مثل ورقة رفع سعر النفط، مثلاً، يمكننا أن نحصل من ورائها على مردودات اقتصادية وسياسية ضخمة. وتوصلنا إلى أن أول من سيعارض بشدة ردم القناة (إسرائيل)، فالقناة هي من وجهة النظر الاستراتيجية خط دفاعها الأول ضد أي تهديد مصري لأمنها !.
تلك كانت فكرة من أجل سيناء، التي درستها بيئياً بعد ذلك، نظرياً وحقلياً، واحتفيتُ بها أشد الاحتفاء في دراستي (وصف مصر بيئياً)، التي تجدون صورتين من صورها، تمثلان انقسام سيناء، بيئياً، إلى شمالية وجنوبية، ولكل منهما ملامحه البيئية شديدة التميز، وكنوزه الثمينة من مكونات التنوع الأحيائي.
أكبر سلام باحترام لسيناء، التي تستحق مساحة أكبر من حضن مصر.
تخويخ المعاني وابتذال الكلمات
في صبانا الأول، قيل لنا إن من يردد قولاً دينياً بعينه مائة مرة، يدخلُ الجنة بلا حساب!
وقد فعلتُ، ورحتُ أبغبغُ القول مئات المرات، حرصاً على الجنة، التي لم أكن قد ارتكبتُ، بعدُ، سيئاتي العديدة الكفيلة بأن تبعدني عنها!
إننا نبقر بطون معانٍ حلوة في حياتنا، ونفرغها من أحشائها، لنحل محلها قطناً مشبعاً بالفورمالين، عندما نبتذل الكلمات الدالة عليها بترديدها آلياً على نحو يذبح روحها !.
إن أحداً لا يمكن إلا أن يحب وطنه، وهو ليس بحاجة لأن يقول له آخر: أحبب وطنك .. قل تحيا بلادي!.
إنني، كواحد من عشرات أو ربما مئات الآلاف، مريض بالحنين للوطن (Home Sickness)، ولا أطيق فراقه شهوراً، مع أن أحداً لم يزرع فيَّ فيروس هذا الحنين، الذي لا يمكن أن يعبر إلا عن الحب !
وحتى إن كان قد أصبح يكره وطنه، لسبب أو لآخر، فلن يمنعه أحد من ذلك، ولن يثنيه ترديد (باحبك .. باحبك .. باحبك) - ظاهرياً - عن كرهه جوانياً، فهو لم يصل إلى هذه الدرجة إلا لأسباب قاهرة، كأن يشعر أن الوطن قد أصبح وطن آخرين، لا وطنه هو.
لقد قال المصريون (تحيا مصر)، دون صوت، ودون أن يأمرهم أحد بأن يقولوها، في زمن الاحتشاد بعد النكسة، وقبل أكتوبر 73. كان ثمة محك حقيقي يتطلب العمل من أجل أن تحيا مصر، فعمل الناس، لتعود مصر للحياة.
وبعد أن عملوا من أجل أن تحيا بلادهم، فرَّغَ الساداتُ بنيانهم الذي شيدوه، حباً في مصر، وهو (نصر أكتوبر)، فكفروا بالحب الذي عاشوه، وانصرفوا، يبحث كل منهم عن حبل نجاة شخصي، وقد خاب ظنهم في وطن قدموا له الحب، والدماء، والسنين الغالية، بل وأرواح الأقارب والأصدقاء، فقابلهم بالإعراض، ولم يقدم لهم حباً وإنما جفوة.
إن مصر لن تحيا إلا إن رُدَّت الروح للغالبية العظمى من أبنائها الذين يكابدون الحياة حول خط الفقر. فأنت لا تستطيع أن تطلب من (شبه ميت) أن يُحيي وطناً!
للدكتور أحمد زويل فضل كبير عليَّ
أهملتُ، في السنة الثالثة من الدراسة في كلية العلوم، وقل عدد مرات حضوري محاضرات الكيمياء، خصوصاً الكيمياء غير العضوية، وكان من يدرسها لنا لا يجيد التدريس. وكانت النتيجة أن الامتحانات قد اقترب موعدها وأنا (ميح) تماماً في هذا الفرع من الكيمياء.
ولم أكن وحدي في ذلك، إذ كان هذا هو حال أصدقاء وزملاء كثيرين، منهم أخي وحبيبي (سمير صقر)، وكان رئيس اتحاد طلاب الكلية، وقد تعهد بأن يطلب من (المعيد) أحمد زويل أن يساعدنا في حل رموز الكيمياء غير العضوية.
وقبل زويل، والتزم بعدة جلسات مع مجموعتنا المحدودة، واكتشفت معه أن الألغاز التي كان يطرحها أمامنا الأستاذ الكبير، مدرس المادة، قد صارت حقائق واضحة جداً، وأصبحت أتذكر دروس الكيمياء غير العضوية حتى الآن، بل إنني استفدت من مساعدة زويل في تدريس جانب من الكيمياء لطلاب الصف الثاني الثانوي عند عملي مدرساً في مصرتة بليبيا، عام 1980 ونجحت في الكيمياء، ولم أكن لأنجح لولا مساعدة زويل، الذي أكن له محبة خالصة، اقر في كل وقت بالعرفان له. أعانه الله على المرض، وجزاه عني، وعن الإنسانية التي خدمها بعلمه، كل خير، في الدنيا والآخرة.
لعبة التخمينات ..
إعتدنا، صديقي القاص السكندري، وأنا، أن نفكر معاً بصوت مسموع، إزاء ما نراه من ظواهر وأحوال في أوساط المثقفين والأدباء.
ورحنا، على سبيل التفكه، نخمن ونتنبأ بمسارات أدباء بعينهم، حققوا قفزات، ليس في مجالات الإبداع والثقافة، ولكن في مجالات حصد المناصب الجالبة لما يحسبونه جاهاً، والوظائف التي تدر البترودولار ..
من هؤلاء، شاعران سكندريان، لنرمز لهما (1) و(2)، وشاعر - ربما كان قاهرياً - ولنرمز له بـ (3) ..
والشعراء الثلاثة ذوو موهبة محدودة في الإبداع، وغير محدودة في السعي من أجل احتلال مواقع يظنون أنها ترفع من قيمتهم كمبدعين.
فأما (1)، فبائسٌ، بمعنى الكلمة، ولم ينفعه مقعده شبه الدائم في مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر في أن يكسبه احترام الوسط الأدبي كمبدع، بل إن انشغاله بالمقعد قد قضى تماماً على أي قدرة لديه على أن يستمر في إنتاج المادة الإبداعية. وكنت، أنا وصديقي، نتذكر قولاً له في مناسبة قديمة (خلينا نقب فوق وش القفص)!
وأما (2)، فيشترك مع (1) في القدرة الفائقة على وضع الذات في خدمة آخرين، ليترفعوا معهم .. فقد أدركا أن وجودهما في الإسكندرية لن يساعدهما على إدراك ما يسعيان إليه، فعرفا الطريق إلى (اللوبيات) القاهرية، وأظهرا الولاء لغيلان هذه اللوبيات في عمليات اختيار أعضاء مكتب الاتحاد، ورئيسه، لدرجة أنهما تآمرا أكثر من مرة ضد سكندري آخر طمح أكثر من مرة إلى احتلال مقعد رئاسة الاتحاد.
ولم يكتف (2) باتحاد كتاب مصر، فتشبث بمنصب في اتحاد كتاب من نوع آخر، وهمي بطبعه، وراح يروج له، حتى لف النسيان والخذلان ذلك الكيان الوهمي، الذي صاحبت نشأته موجة الانبهار بتكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها، في العقد الأخير من القرن العشرين، والأول من القرن الحالي.
ونجح (2) في استثمار هذا الجهد الكبير، لا في تجويد إبداعه وزيادة إنتاجه، وإنما في (إقتناص) وظائف بترودولارية.
ونتوقع، أنا وصديقي، في تخميناتنا، أن يكون (2) في حالة (كمون)، وأنه سوف يفاجئ الجميع بقفزة ضد قانون الجاذبية الأرضية، تسقطه في مقعد رئاسة اتحاد كتاب مصر، وهو الأعلم بخبايا دروبه ودهاليزه المظلمة. بل إن توقعاتنا لم تستبعد أن يفاجئنا تشكيل وزاري قادم بأن (2) هو وزير ثقافة مصر!
وأما (3)، فهو شاعر - أو هكذا يُظنُّ - وكنا نراه يتخذ ركنا قصياً في مجالس الأدباء، سواء في اتحاد الكتاب أو خارجه، وظل يـ (تدحلب)! حتى اقتنص وظيفة رسمية في مكاتب الاتحاد. ووضع نفسه في خدمة كثير ممن وردوا على مقاعد أعضاء مجلس الإدارة، وأخيراً، كان (خادماً)، بمعنى الكلمة، لأحد رؤساء اتحاد كتاب مصر، ولم يكن يجد بأساً في أن يراه الجميع وهو يهرول في اتجاه الرئيس، ويتلقف منه حقيبة أوراقه، ويسبقه بها إلى مكتبه أو إلى قاعة الاجتماعات؛ كما شوهد أكثر من مرة يحمل الحقيبة ويسبق الرئيس إلى السيارة.
إننا أما نموذج (إنحنى) كثيراً؛ ولكن تخميناتنا - أنا وصديقي - لم تستبعد أن يصبح ذلك المنحني مسئولاً عن دورية حكومية، ولا تستبعد أن يحتل مقعد من كان ينحنى وهو يتلقف حقيبة أوراقه، وثمة احتمال لأن يدعمه صاحب الحقيبة، ليستعيد من خلاله نفوذه في نقابة فسدت جداول العضوية فيها، ودخلها عديد ممن لا يستحقون عضويتها، وممن تشبه ملامحهم كثيراً ملامح (1) و(2) و(3)!
ولله الأمر من قبل ومن بعد ....
مــاذا لـــو ..... ؟
لو لم أكن كاتباً، لاخترتُ لنفسي وظيفةً بديلةً، غير بؤس الكاتب وفقره ..
- قد أختارُ أن أكون وسيطاً في سوق السلاح العالمي، حيث العمولات تجعلني مواطناً عالمياً، ترمي الدولُ وثائق سفرها تحت قدميَّ، وتفتح لطائرتي الخاصة سماواتها، لأحطَّ حيث ووقتما أشاء. الخائبون فقط هم من يرون في هذه المهنة ارتزاقاً من احتراب البشر. من دفعهم للاحتراب والاقتتال؟ ثم إن الحروب، لمن يعرف تاريخ الحياة على الأرض، كانت عاملاً أساسياً في تشكيل جغرافيتنا الطبيعية والبشرية التي نحن عليها الآن. ألا تستحق الحروب الشكرَ على ما أوصلتنا إليه الآن؟ وهل كانت الحروب لتتم بغير سلاح؟
وأحب أن أطمئن من يهمه أمري بأن نشاطي التجاري، المؤسس لحضارة البشر وجغرافياتهم، لن يُفتضَح، فمن يمتلك كل هذه التلال من أموال عمولات السلاح قادر على أن يمرر صورة ذاتية تحفظ له مكاناً بين وجهاء وطنه وعالمه.
- قد أختارُ أن أكون تاجر مخدرات، شريطة أن أكون تدربتُ جيداً على توقع المخاطر وتحملها. وهي تجارة منتشرة في العالم كله، ويقالُ إنها الأروجُ، ربما مع أو بعد تجارة السلاح. وكوني تاجر مخدرات لن يزيد عدد التجار واحداً، فهم أكثر من أن يدعي أحد معرفة عددهم. وسوف أستجيب لوازع أخلاقي قد لا أنجح في اقتلاعه، فأخصص جانباً من ثرواتي المتراكمة، والمغسولة، في شراء رضا المجتمع، وأنشئ مشروعات خيرية، وربما دور عبادة، وأطلق جائزة كبرى لأفضل الإنجازات الطبية في مقاومة الإدمان، وجائزة أخرى لأفضل أديب شاب.
- قد أختار أن أكون داعية دينياً، أمتلك محطة تلفزة فضائية، شريطة ألا أطلق لحيتي؛ وأمارس أعمالاً تمويلية نفطية دولارية، وأمتلك قصوراً أرضية، لا من أجل المتعة الدنيوية، ولكن لأعتاد سكنى القصور، تمهيداً للانتقال إلى قصري في السماء.
فُكُّوا الـ (قوايش) ..
الأومباشى حسن، المتخصص في التطهير من الغازات الحربية.
لا أنسى ملامحه، وحضور روحه، وخفة ظله.
كان ماهراً جداً في المهمة المتخصص بها، وهي تطهير الأفراد والمعدات إن وقعت (ضربة غاز) .. طبعاً غاز حربي إسرائيلي، لا غازات الأمن المركزي!
أتذكر أنه كان مدرسا بالمرحلة الابتدائية، من بني سويف، وكان شديد النحافة، دائم الابتسامة، مع فوارق مرئية بين أسنانه. وكان يعيد إلقاء النكات القديمة، ويضحك قبل أن تنتهي، فتثير ضحكته الضحك!.
وعندما يجلس لتناول الطعام مع أفراد الملجأ، أو الدشمة، كان يصيح: فكوا القوايش!
كان يبدأ بفك الحزام العسكري الغليظ، أو (القايش)، حتى لا يضغط على معدته، ليتيح لها الفرصة لتمتلئ بالطعام، الذي كان تناوله في جماعة كجماعته يعد سباقاً من سباقات السرعة.
وكنت أتعجب وأسأله: أين يذهب الطعام الذي يأكله؟.
كان أكولاً على نحو لا يتفق مع نحافة شديدة، لا تتفق بدورها مع ما يقوم به من مجهود طيلة النهار.
والمؤكد أن معدل الأيض الغذائي (التمثيل الغذائي) كان سريعاً عنده، فكان الطعام يحترق أولا بأول، ولا تختزن دهون في جسمه.
وكان الأومباشى حسن خبيراً بالنساء. وحكي لي عن تجارب عديدة غريبة خاضها، تغاضيتُ عن مبالغات كثيرة فيها.
والآن، وفي كثير من الأحيان، كلما اقتربتُ من مائدة طعام، أتذكر صيحة الحرب التي كان يطلقها إيذاناً بالهجوم على الطعام: (فكوا القوايش)!
سوق الكتب ...
الكاتب الأمريكي جيمس باترسون: له 17 كتاباً ، ستة للأطفال و11 للراشدين. بلغ عدد النسخ المبيعة منهاخلال 3 سنوات 20 مليون نسخة، قيمتها 500 مليون دولار!
كتاب (حياتي) لبيل كلينتون، جني 19 مليون دولار.
وكتاب مراته الست هيلاري (خيارات صعبة)، جني 14 مليون دولار.
"جنيت" من كتابي للأطفال (الدولفين العجيب) 300 جنيه .. أنفقت 140 جنيها في بطاقتي السفر بالديزل، و50 جنيها تاكسيات .. ودخلت البيت بكيس فاكهة .. ودمتم!
ما الفارق بين (حوار) و(خوار)؟ .. مجرد نقطة!
أذكَّرُكم ونفسي بأسلوبٍ أحبُه في الحوار:
ربما تتحسن أحوالُنا، إن نحنُ بدأنا نستخدمُ (لا أعرف)، حين تعوزُنا المعرفة، ونقول (ربما)، أو )قد)، حين نعرفُ، ونحن نعرف أنه قد يكون ثمة من يعرف أكثر.
حسن ومرقص وكوهين ..!
لو جئنا بهم، ثلاثتهم، وتركنا لهم المجال مفتوحاً تماماً للمناظرة: هل يمكن أن ينتهوا إلى تحديد إله واحد، يتفقون عليه، أم تنتهي المناظرة وقد ازداد كلٌّ منهم يقيناً بأن إلهه هو الأوحد، ودينه هو الأصح والأجدر بالاتباع؟!
الخلافات الدينية أشد قسوة من أي محاولة لاحتوائها، ولا يمكن أخفاؤها، وسيظل (حسن)، طول الوقت، ينفي مرقص وكوهين، ولن يتوقف (مرقص)، إلى الأبد، عن استبعاد حسن وكوهين، وقد يسمح كوهين بوجود حسن ومرقص، شريطة أن يظل أقوى منهما، متحكماً في حياتيهما.
قد يعترض البعض على وضعي الحال بهذه الصورة .. إذن، فكيف يكون؟!
إعتذارٌ واجبٌ ..
أنا مَدين باعتذار لكل من يفكر في إسعادي بما يرسله لي من مواد دعوية، يعتقدُ هو أنني بحاجة إليها ..
أعتذر لأنني لا أحتاجُ لهذه المواد، وربما كان غيري أكثر احتياجاً إليها ..
كما أنني لا أمرر هذه المواد لآخرين، لأفوز بالجائزة ..
إنني، ببساطة، أصاب بضيق شديد من حجم ما يصلني، وأكتفي بإزالته ..
فأنا، يا أصدقاء، أقمت علاقة وطيدة مع خالقي، ربما تكون أوثق من علاقة من أنشأوا هذه المواد في أزمنة مضت ..
كما أنني لا أريد أن أكتسب سمت (الداعية)، فرأيي أن الطريق إلى الله أيسر من أن يجرك إليه أحد ..
إذن، فأنا لا أقرأ، ولا أمرر، أيَّاً من هذه المواد التي يعتقد مرسلوها أنها هدايا ثمينة، وقد تكون، ولكنني في غنىً عنها .. فأنا أسير في طريق مضيئ بنور العقل ..
نيل هاربيسون - أول سايبورج
أيرلندي عمره 34 سنة.
وُلد لا يرى الألوان - العالم عنده (أبيض وأسود(
زرع الأطباء في رأسه هوائيا يستقبل الألوان من العالم الخارجي، ويرسلها في صورة ترددات مختلفة باختلاف الألوان، يترجمها المخ فيتعرف على الألوان في الوسط المحيط به.
للهوائي فائدة إضافية، فهو (يشعر) بما هو (تحت الأحمر) وبما هو (فوق البنفسجي)، وهما نطاقان من الألوان لا يشعر بها البشر العاديون.
للسايبورج نيل هاربيسون صديقة، قررت مشاركته الحياة السايبورجية، فزرعت في يدها هوائياً يستقبل اهتزازات الأرض (الزلازل(.
إنها تشعر بكل الهزات الأرضية، مهما بلغت ضآلتُها (وهي عديدة وتحدث كل يوم تقريباً(.
أما لماذا كان ذلك الاختيار، فلأنها مصممة رقصات، وهي تستوحي رقصاتها من (هزات) الأرض!
طفح الكيلُ ...!!!
جاءني إشعار باحتفال المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة بتكريم سيدة مبجلة، تشتغل بتدريس التاريخ في الجامعة.
ولو كنت أقيم بالقاهرة لذهبت، فأنا مع أي احتفال بمن لهم عطاؤهم، أياً كانت ظروف الاحتفال ..
ولكني أتساءل: ألم يكن الأولى بهذا الاحتفال، وله، أن يكون في وسط أكاديمي تنتمي إليه المحتفى بها؟
كان الأولى أن يكون في مجلس الجامعة التي تعمل بها، أو يتبناه المجلس الأعلى للجامعات، فالاحتفال أخطأ طريقه ودخل مبنى المجلس الأعلى (للثقافة) ..
إن هذا يعود بنا إلى مسألة يعمل المجتمع الثقافي على (تغييبها)، وهي التمييز بين ما هو (تثقيفي) و(تدريسي) ..
إن إنتاج معظم، إن لم يكن كل المهيمنين على الساحة الثقافية هو في حقيقته إما أطروحات حصلوا بها على درجات جامعية (ماجستير ودكتوراه)، أو أوراق بحثية ذهبت إلى لجان الترقية بالمجلس الأعلى للجامعات، للحصول على الدرجات الوظيفية الأكاديمية الفاخرة ..
ونحن نحترم كل هذا (العمل) العلمي، في مكانه، في مدرجات الجامعات ومختبراتها؛ ونرى أن طرحه (في سوق) الثقافة نوع من (عدم الأمانة)، خصوصاً أن معظم البضاعة الأكاديمية المطروحة لم يتدخل صاحبها ليجعلها مستساغة للمستهلك العام
هل نقبل أن يأتي لنا أستاذ علم الأجنة في كلية طب ويطلب نشر وترويج رسالته للدكتوراه، مثلاً؟.
طبعا لا يحدث، ليس فقط لأن المادة (جافة)، ولكن قبل هذا لأن المهيمنين على المراكزوالإدارات الثقافية هم من دراسي المواد الأدبية ..
فتجدهم يحتفلون بأصدقائهم وزملائهم الذين لا تأثير لهم في (الحياة الثقافية) بأقاليم مصر كلها، مع احترامنا الشديد لأهميتهم العلمية الفائقة .. فتجد حفلات تكريم، وندوات تتناول كتبهم التي أولى بها دور النشر الجامعي .. ولا تقتصر الندوة الواحدة على صاحب الكتاب، ومتحدث مصاحب، ولكن عدة مصاحبين من ذوي الأسماء المذيلة بالألقاب العلمية المبجلة.
ولعلني لا أكون خرجت على الموضوعية كثيراً، وأنا أتحدث عن شأن تغيب فيه الموضوعية، إن أشرت إلى أنني ترجمت للمركز القومي للترجمة ستة كتب، خمسة منها علمية، في شئون البيئة والمناخ، ولم يفكر أحد في مجرد الالتفات إلى هذا المجهود، الذي أفخر به، في حين تأتيني كل شهر تقريبا دعوة لندوة عن كتاب أدبي (في الفلسفة غالباً .. لماذا؟!)، يديرها رئيس المركز، أستاذ الفلسفة، ويتحدث فيها طاقم من الألف دالات!
وسبب عدم الالتفات إلى جهدي هو أنني أنتقد ما أعتقد أنه معوج في أي جهة ..
هل يفكر المجلس الأعلى لثقافة (كل مصر) في إقامة حفل لتكريمي، مثلاً، لبلوغي السبعين، ولإصداري 63 كتاباً، حتى الآن، ولمجهودات أسهمت بها في الحياة الثقافية، عبر مؤتمر أدباء مصر في الأقاليم، وتبني الدعوة لنشر الثقافة العلمية، ورئاستي لتحرير سلسلة كتب فيها، أصدرت 24 كتاباً في 3 سنوات، وهو جهد غير مسبوق في تاريخ الثقافة المصرية؟!
معذرة .. فقد طفح الكيل وأكاد أصيح صيحة نور الشريف في نهاية فيلم سواق الأتوبيس...!!
نماذج بشرية
أعود من حين لآخر لأتأمل دفتر أحوال ثورة 25 يناير
أتوقف كثيراً أمام عامل الضعف البشري والحرص على المكاسب الشخصية، خاصة في الأيام الأولى للثورة، قبل أن تحسم الأمور بإزاحة مبارك الملعون
كثيرون ممن نراهم الآن في بؤرة الضوء كانوا في تلك الأيام، يتحسسون مواقع أقدامهم، ويترددون، وقد افتقدوا أي وسيلة للإحساس بحجم الفعل الثوري، بينما هم عائشون، حتى النخاع، في مواضعات الزمن المباركي
شاعر كبير (جداً)، سمعته يتحدث في برنامج إذاعي يقول إنه لم يكتب عن الثورة إلا بعد أن اتصل به أحد أقربائه من (قبلي)، وقال له ليه يا خال ما قلتش شعر في الثورة لغاية دلوقت؟ قال (الخال): فمسكت القلم وكتبت! أي أنه لم يكن ليكتب لولا أن ذكَّرَه قريبه بأن هناك ثورة. وجاءت قصيدته عن الميدان صورة مهزوزة من قصيدة أمل دنقل الشهيرة: أغنية الكعكة الحجرية. ومع ذلك، ظل يتنقل بها هنا وهناك، ولم يلبث أن ارتدى ثياب الثوار، بعد أن وضحت الرؤية تماماً، وهلَّ هلال الثورة !
أحد (نجوم) المثقفين، كان يعمل في مؤسسة ثقافية ضخمة، طال جلوسها في حجر الأسرة والسلطة المباركيتين، راح في الأيام الأولى للثورة ينتقد سلوكيات المشاركين بها، في استعلاء واضح، في حرص على أن يبدو خارج الصفوف، بل لقد كان في مداخلاته الفيسبوكية أقرب إلى التشكك في إمكانية نجاح الفعل الثوري. ثم تغيرت الأحوال، وخرج من المؤسسة، فعاد مرتدياَ ثياب المعارض الحكيم الذي يقرأ التاريخ ليقيس به أحوال الواقع.
هناك أفراد كثيرون كانوا واضحين مع أنفسهم، ولم يقبلوا الثورة لأنها كانت تعني احتمال ضياع مدخولات ضخمة ومكاسب عينية هائلة، ومن هؤلاء عشرات الآلاف من المستشارين الحكوميين ووكلاء الوزارات، أسهموا في إرباك الفعل الثورى وتعطيله.
لا عجب، إذن، أن تمر الثورة بما مرت به من آلام مخاض لا زالت مستمرة حتى الآن، لأن هذه النماذج البشرية لازالت متواجدة، وفاعلة.
رشا الإرهابية .. !
ليس الإرهاب وليد أيامنا السوداء هذه، وإنما ترجع بدايته إلى سنة تانيه حضانه !
قضت رشا حياتها الدراسية قبل الجامعية كلها، من رياض الأطفال إلى الثانوية العامة، في القسم الفرنسي من المدرسة التي كانت (ليسيه الحرية) .. الآن، لا هي ليسيه، ولا تعرف - لاهي ولا أي بقعة أخرى في مصر - الحرية !
قبل أن تتآلف رشا مع أترابها، كانوا يغيظونها، خاصة لأنها كانت سمينة نوعاً، وقليلة الحركة.
فقررت أن تنتقم منهم. فماذا تفعل؟
كانت تتابع حلقات تلفازية فيها قدر من العنف، فهداها تفكيرها الإرهابي إلى إعداد مسحوق ترش به كل الأولاد والبنات، فيختفون، وتبقى هي وحدها تنعم بعطف الآنسة العظيمة فايزة سنبل، مديرة القسم الفرنسي.
في فترة استراحة منتصف اليوم، حصلت رشا على بعض أصابع الطباشير، قامت بطحنها، ثم تسللت إلى سطح أحد مباني المدرسة، لتنفذ عمليتها الإرهابية الأولى، والفريدة في تاريخ الإرهاب العالمي.
عند سور السطح، أطلت على الساحة التي يجري فيها الأطفال، وأخرجت سلاحها السري، وراحت ترش طحين الطباشير، فتحمله الريح الضعيفة وتنشره ليتساقط فوق رئوس (الأعداء) بغير أن يشعروا.
إنتهت المهمة، واستدارت رشا نازلة، بسرعة تُحسد عليها، قبل أن تضبطها مباحث أمن الليسيه !
وكانت وهي تنزل الدرج تتخيل ساحة المدرسة وقد خلت لها، لكنها فوجئت بأترابها يملأون كل شبر فيها، بل إن الولد نفسه عاد يطاردها، مصراً على الإمساك بخديها، في (هزار) ثقيل !
خبير سلوكيات إجرامية معاصرة !
على الأقل، في نطاق دائرة مسكني، بمنطقة (باكوس)، التي تُكنَّى بالصين الشعبية في الإسكندرية ..
الدائرة عبارة عن (بِتري ديش) - وهو طبق زجاجي تُربى فيه الميكروبات بالمختبر - لتربية وتنشئة أحط خلق الله من البشر .. لا تعليم، لا ثقافة، لا أخلاق، لا دين (أو دين للمناسبات) وللحلفان بأنه (ح يطلع دين أمه!!!)، مع أصوات قوية عالية كريهة، لكنها تنبئ عن بنيان سليم القلب.
في كل يوم، وأحياناً عدة مرات باليوم الواحد، تتصاعد تلك النباحات، لتصك آذاننا بشتائم تلوك بتلذذ مقيت أسماء أعضاء جنسية، للأمهات خصوصاً، وكل أنواع السباب بالدين، ومنه ما يوجه للذات الإلهية بوضوح تام.
لا أعرف إن كانت تحدث تشابكات بالأيادي أم لا، فأنا لا أحاول أن أطل على ما يجري .. ولكني أظل طوال أزمنة أشواط المعارك أنتظر أن تتصاعد صيحات تعلن عن سقوط قتيل أو أكثر، أو - حتى - إصابات بجروح من السيوف المشرعة، وأن أسمع )سارينة) سيارة الإسعاف، فلا يحدث شيئ من ذلك ..
إنه نوع مستحدث من الإجرام، هو في حقيقته وحقيقة ممارسيه (ظاهرة صوتية)، يراد بها تصدير الإرهاب، وترسيخ السطوة، دون خسائر حقيقية، طال انتظاري لها!
لوطيٌّ ومُلاطٌ به ..
أرسل لي صديق شريطاً مصوراً للصف الأخير في مسجد، حيث نرى شيخاً حريصاً على أداء (الفريضة) في المسجد، برغم تهالكه، فيؤديها جالساً.
أمام الشيخ يصلي صبيان ركعات السنة.
تمتد يد الشيخ، أثناء ركوع أحد الصبيين، وترفع أصابعه طرف سترته، وتتحرك متحسسةً شرجه.
لست مندهشاً من ذلك، فأنا أعلم تماماً أن (اللواط) مكون رئيس في الحياة الاجتماعية (والاقتصادية أيضاً) في تاريخنا المجيد التليد، وأن (الغلمان( كانوا من مغانم الحروب، وهم أيضاً من هدايا الجنة.
أنا مندهش، فقط، من (توقيت) تصوير المشهد .. هل كان مصادفةً؟، أم أن من صوره كان يعلم أن تلك عادة لدي المصلي المتهالك اللواطي؟
كما أن الصبي الذي لِيطَ به لم يبدر عنه أيُّ رد فعل!. هل كان حرصه على إتمام صلاته أهم من أن يكون ثمة من يداعب فتحة شرجه؟ أم تراه لواطياً سالباَ، وربما يكون مما ملكت يدا الشيخ المصلي اللواطي؟!.
وهل اللواط ينقض وضوء اللوطي والملاط به ؟
هزمتُ السيد (C) ..!
الحمد لله. هزمتُ الفيروس (سي)، عبر رحلة علاج استمرت نحو سنة.
والصورة للتقرير النهائي، يشير إلى أن نتيجة التحليل العددي للفيروس عندي هي (سالبة)؛ وقد سبق أن تحققت هذه النتيجة نفسها في ثلاثة تقارير سابقة، خلال مدة العلاج.
أفخر بأن علاجي تم من خلال مشروع قومي عظيم لمقاومة هذا الغول المفترس، الذي لا يزال يتربص بالمصريين ويستنزف جهدهم وعافيتهم وقدرتهم على العمل والإنتاج والإبداع.
هذا المشروع لا يقل أهمية عن أي مشروع قومي عرفته مصر؛ فما قيمة أن تنشئ مؤسسات إنتاجية، مثلاً، بغير بشر مكتملي العافية يعملون بها؟!
والمشروع عصري بمعنى الكلمة، يستعين بوسائل الاتصال الحديثة، ويستجيب لأي نقاط ضعف تظهر خلال مسيرته، فيستدرك أي أخطاء أو نقص؛ وهذه علامة جيدة تحسب له.
وقد أحببتُ أن أكتب هذا المرسال (البوست)، وأرفق صورة التقرير، تواصلاً مع أصدقاء نبلاء، كانوا على علم بأزمتي، ولقيتُ منهم كل دعم.
كما أرفقه لكي يطمئن نفرٌ آخر، سامحهم الله، توقفوا، حتى، عن الاتصال بي تليفونياً، حاسبين أن الهاتف ناقل للعدوى!
كان أحدهم، وهو دائم طلب الخدمات، يستقبلني بحفاوة بالغة، أو مبالغة، في كل مرة أقابله، ولو مرتين في اليوم الواحد، و .. بالأحضان والقبلات. بعد أن علم مني بإصابتي، كان يتهرب حتى من مصافحتى، ويبتعد مدعياً أنه، هو، (بردان)!
أشكر أسرتي الصغيرة أن حدبتْ عليَّ في هذه الأزمة، التي لم تكن تهمني إلا في كونها تجعلني عاجزاً عن العمل بالمعدل الذي اعتدته.
وأعود فأكرر شكري لأصدقائي النبلاء، ولا أشكر المتباعدين عني، وليظلوا بعيداً عني.
كما أشكر (وطني) مصر، أن هيَّأ مشروعاً علاجياً قومياً على نحو يثبت أنه قادر على أن يكون وطناً مبدعاً، إن أراد ..
تداعياتُ الرحلة مع السيد (C) !
أكتب، لعل أحداً يكون بحاجة إلى ما مررتُ به من خبرة، في تجربتي مع الإصابة بفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي، أو السيد (C)، كما أحب أن أسميه، احتراماً، فقد تعلمتُ أن أحترم عدوي، ولا أستهين به، طالما لديه قدرات هجومية فائقة، أملاً في التمكن منه وقهره. وهذا أول (درس).
لم يرد ببالي، ولا ببال كل من مررتُ بهم من أطباء أن سبب شكواي هو السيد سي. فقد كنت أشكو وهناً متزايداً.
حسبتُ أن المشكلة في إصابة قديمة بالاكتئاب، فتوجهتُ إلى طبيب للأمراض النفسية، هو من وضعني في المسار الصحيح، فقد لاحظ أن نتائج تحليل لوظائف الكبد غير طيبة، فطلب مني إجراء تحليل يثبت أو ينفي الإصابة بالفيروس، وهو تحليل كمي، ويسمى (بي-سي-آر)، فأجريتُه، وكان (إيجابياً).
وجهني الرجل إلى المشروع القومي لمقاومة وعلاج السيد (C)، وهو غير المتخصص بالأمراض الباطنة؛ بينما كان أستاذ في الأمراض الباطنة، يعمل بمستشفى الجهاز الهضمي في (فلمنج) بالإسكندرية، يرتب لنفسه رحلة تردد على عيادته الخاصة، ويعطيني رقم هاتف (سري)، لأحد سماسرة عقار العلاج!
بدأتُ بتسجيل حالتي عبر موقع المشروع في الإنترنت، وهي عملية بسيطة جداً.
تطلب الأمر بعض الانتظار (نحو 3 أشهر)، ليأتيني الرد، وتبدأ الرحلة، بالعرض على لجنة رئيسية في الإسكندرية، وإجراء تحليلات في مختبرات المشروع، ثم التحول إلى لجنة فرعية، بدأتُ أصرف عن طريقها عقارين، منهما (سوفالدي)، شهراً بشهر، لمدة ستة أشهر!
بعد شهر من بداية العلاج، أجريتُ تحليلاً للبي سي آر، كان سالباً، والحمد لله. وتحليل مماثل بعد 3 أشهر من العلاج، جاء سالباً، أيضاً؛ ثم تحليلاً في نهاية رحلة العلاج، كان سالباً بدوره، والحمد لله.
بدأت فترة علاج وقائي، بفيتامين (هـ)، ودواء آخر، لمدة ثلاثة أشهر، انتهت بتحليل أخير، جاء سالباً، لرابع مرة، وهو ما نشرتُ صورته في بوست سابق، وعليه إشارة (S.V. R.)، أو Sustained Verological Results، أي نتائج تحليل فيروسي يُرتكن إليها.
عانيتُ أحياناً من سوء تنظيم، مرده بالدرجة الأولى إلى تزايد عدد المرضى، وانزعاجهم الشديد من إصاباتهم، وضيق أماكن التعامل مع المترددين على لجان المشروع، خاصة في مستشفى جمال عبد الناصر.
لكن، بصفة عامة، كانت الأوجه السلبية الإدارية يتم تداركها وتصحيحها أولاً بأول.
أعتقد أنه من المهم جداً ألا يُترك مشروع لديه كل هذه الخبرة من (النجاح) بأن يتراجع، وينبغي أن يدعم بكل وسائل الدعم؛ وأدعو الرأسماليين المصريين الجشعين البخلاء أن يتبرعوا لمشروع مقاومة هذا الوباء الرهيب، فهو يصب أيضاً لصالحهم، فقد يكون من بين من (يستعبدونهم) من مصريين مرضى به.
طِبتَ يا وطني!
معنى أن تكون (إحترافياً) ..
وعكس الاحترافي (الفهلوي). وأنا مارست الفهلوة لتسعة أشهر، في اشتغالي بتدريس الكيمياء في مصراتة.
صحيح أنني درستُ الكيمياء، لكنني لم أمارسها إطلاقاً كعمل، وإنما كنت أعمل بالشق الثاني من التخصص، وهو علوم البحار. فلما ضاقت السبل، إندفعتُ إلى عالم الفهلوة، الذي بدأ بشراء (شهادة خبرة) مزورة، وانتهى بفشل ذريع في التعايش مع وظيفة لم أمارسها، ولم أتهيأ لها.
والحمد لله أن هذه الفهلوة التاريخية لم يكن لها خسائر كثيرة، فالفهلوة حين تصير أسلوباً تذبح الثقة.
ما رأيكم، دام فضلكم ؟!
ما دمنا جميعاً، كأشقاء عرب، تربط بيننا (وشائج) التاريخ واللغة والدين وأشياء أخرى، ولا تفرق بيننا إلا المصالح الخاصة، فإنني أقترح مشروعاً أساسه تكنولوجيا الواقع الافتراضي، التي تلغي المسافات، وتجعلك تصعد إلى سطح القمر، وتشارك رواد الفضاء الحياة في محطاتهم السابحة بعيداً عن الأرض.
لماذا نجشم أنفسنا مشقة وأخطار بناء كوبري يربطنا بالسعودية، لتسهيل حركة الحجيج ؟
إن تكنولوجيا الواقع الافتراضي يمكن أن تعطينا برامج افتراضية للسفر إلى الحجاز، وأداء مشاعر الحج، توفيراً لحركة السفر بالطيران، ونفقاته التي تتزايد عاماً بعد عام، والأولى بها خزانات الدول الفقيرة التي يخرج مواطنوها بأموالهم القليلة التي يقتطعونها من قوت يومهم، للإنفاق على الخزينة السعودية.
لقد أقام مسلمون فقراء في بعض الدول الأفريقية نماذج مادية مصغرة للمنشآت المقدسة، واستخدموها فعلاً في أداء مناسك الحج؛ وسواء كان ذلك قد تم بهذا القصد، أو على أنه (تدريب) على أداء المناسك، كما أوضح بعض المعلقين على الخبر والصور، فإن ما تم هو (إستجابة) طيبة لتسهيل الحج، وتقليل نفقاته.
والحج الافتراضي استجابة أخرى، نسخِّرُ فيها التكنولوجيا نفسها التي أعطتنا وسائل للسفر طيراناً في الفضاء، بعد أن كان (رجرجةً) فوق ظهر بعير، والتي أعطتنا كل إمكانيات إنشاء التوسعات في مواقع مناسك الحج، لاستيعاب مزيد من ملايين المتعبدين، وبلايين الدولارات.
فهل نرفضها وهي تعطينا قدرات هائلة على الحياة في تجربة الحج، دون أن نغادر فُرشنا؟!
ويمكن لعلماء دين أفاضل، متفتحين على روح العصر، ان يشاركوا في توفير كافة جوانب صحة الحج الافتراضي، بحيث يعايش (الحاج الافتراضي) التجربة كاملة، بدءاً من الإحرام، حتى العودة إلى الوطن، والسجود على أرضه يقبلها.
فإن نجح المشروع، لا بأس من أن تأخذ المملكة السعودية، وحدها، حق احتكار إعداد برامج وأدوات الحج الافتراضي، والمتاجرة بها !
(بانتظار ردود أفعال الوهابيين)!
شد حيلك يا (جوجل)!
أنا لا أستخدم (جوجل المترجم)، ولكني أحترمه.
أدرك تماماً قيمة أن يتوصل العقل البشري إلى (أتمتة) عملية صعبة، شديدة التعقيد، هي النقل من لغة إلى لغة، أو الترجمة، التي لا يزال الجهد البشري يعالجها بكثير من المشقة.
إنني أتمنى أن نتمكن نحن البشر، قبل انتصاف هذا القرن، من تطوير هذه الأتمتة، تيسيراً لعمليات الترجمة. وأعتقد أن ذلك سيتحقق، إن آجلاً أو عاجلاً، فقد بدأنا، وها هو (جوجل) يحاول أن ينقل، بالرغم من كل سوءات ما ينقل!. لكنها خطوة (طفلة) تُحسب للبشرية في مسيرتها الحضارية.
إن تحقق هذا (الحلم) بالترجمة الآلية فسوف يكون انقلاباً بكل معنى الكلمة، إذ ستنتفي الفواصل بين الشعوب تماماً، وتنتقل الأفكار والمعارف و(يقرأ) سكان الأرض بعضهم بعضاً.
لكن .. وآه من هذا الاستطراد .. هل ستتمكن الآلة من نقل (روح) اللغة، على نحو ما يفعل المترجم البشري (المُجيد)؟!.
سِتِّي (أم السيد)
هي جدة أبي، أم أبيه (السيد خليفة)، رحمهم الله.
عاشت حتى عاصرتُها وأنا طفل في سن الوعي، حتى أنني أدوِّنُ الآن ذكريات عنها. وأحسب أنها ماتت وقد قاربتْ التسعين.
كنت طول الوقت أتعجب: كيف يرضى جدي أن تعيش أمه في تلك الحجرة شبه المظلمة، في الطابق الأرضي من (بيت العائلة)، وكيف تعيش وحدها.
وبالرغم من هذا التعجب، الذي يوحي بأنني كنتُ مهتماً بها، فقد كنتُ أشارك أبناء عمي وأطفالاً من الجيران معاكستها متصايحين: أم السيد .. أم الغولة! وكانت ترد علينا بسباب غليظ ينال من أمهاتنا، وتظل وقتاً طويلاً تشكونا بكلمات مبهمة توجهها لشخص تراه ولا نراه.
ثم حدث ما جعلني أكف عن معاكستها، بل أبعد المعاكسين عنها ..
كنت أقتربُ، متلصصاً، من حجرتها، فسمعت صوت جدي.
إقتربتُ من الباب، وتيسر لي أن أنظر للداخل، فوجدتُها وجدي جالسين على الأرض. وكان (الولد السيد)، كما كانت تناديه، يُطعم أمه من لفافة يضعها في حجره.
كانت تحادثه كما لو كان طفلاً. تنهره وتنصحه بأن يفعل ولا يفعل. وكان هو يستجيب، ويقبل يديها من وقت لآخر، ويمسح فمها، ويسألها إن كانت تريد أن تشرب فيسقيها.
واكتشفتُ أن هذا المشهد يتكرر كل يوم، تقريباً.
تغيرت نظرتي لجدي، وأحببته أكثر.
وتبينتُ أن كل من في البيت على علم بما رأيتُ وأصبحوا يرونه أمراً اعتيادياً، وكان استجابة لرفض (ستي أم السيد) أن تأكل إلا من يد (الولد السيد)!
أفيــون ..
نكذب على أنفسنا حين نسمي (العداء الديني) (فتنة طائفية)!
ونحن مصرون على هذه الكذبة.
وحقيقة الأمر هي أن نصوصاً دينية، إسلامية ومسيحية، ترسِّــخُ (الإقصـــاء) !
المعتدلون يحاولون، أحياناً، تحقيق التعايش ..
المتطرفون يعيدون إنتاج هذه النصوص، على مر العصور، للتخلص من (الآخر) !
ولما كان (الدين أفيون الشعوب)، وهذه حقيقة مهما كان موقفك من قائلها، فإن هذا الصراع لن ينتهي، مهما التقى الشيوخ والقساوسة وتشابكت أياديهم أمام عدسات المصورين !
لا تكف عن التسبيح بحمدي!
نفرٌ من المبدعين، فتح الله عليهم بالشهرة والرواج، مع أن تجاربهم الإبداعية ليست عبقرية. تجدهم على الدوام لا يرضون إلا بإقحام أنفسهم في البؤرة .. أي بؤرة. وهم يعتقدون أن (من حقهم) أن يظل الضوء مسلطاً عليهم، لا يغادرهم، ويسعون إليه، بل يطلبونه ممن حولهم.
وأعتقد أن من صفات المبدع الأصيل التواضع.
إن الضوء يسعى للمبدع الحقيقي، وليس العكس.
سِكك ..
قال أبوه لأبي: خليه يدخل مع (زيزو) المدرسة الأزهرية .. التعليم الديني يفتح سكك أكتر ..!
وكنت وقتها منبهراً برفيق الطفولة زيزو، الذي كانت لديه جرأة فائقة لاقتحام أي مجال، خاصة مجال (معابثة) البنات!
كنت أوشك أن أصاحبه رحلة التعليم الفاتح لمزيد من السكك، غير أن أبي اختار لي (التعليم غير الديني).
واستمرت صلتي بزيزو قائمة بحكم الجوار، حتى نهاية المرحلة الثانوية، فسافر هو إلى القاهرة ليلتحق بكلية دار العلوم، والتحقت أنا بعلوم الإسكندرية. ثم كان التجنيد الإجباري، وذاب كلٌّ منا في أمواج بحار مختلفة.
وفجأةً، وجدته يتصل بي، عارضاً عليَّ مساعدته في (سبوبة) للدروس الخصوصية.
كان من أوائل من افتتحوا مراكز الدروس الخصوصية في الإسكندرية، حيث استأجر دكانين، أزال ما بينهما من جدران، وأعد المكان لاستقبال طلاب الثانوية العامة. ولما زرته في هذا المركز، وجدتُ لافتات ضخمة تبشر الطلاب بالدرجات النهائية في اللغة الإنجليزية، إن هم طلبوا دروس الأستاذ زيزو.
ولما قابلتُه، سألتُه كيف يدرس اللغة الإنجليزية لطلاب الثانوية العامة، وهو (الدرعمي) المتخصص في الأدب العربي. وفاجأني بأنه يعمل في التربية والتعليم مدرساً للغة الإنجليزية. وأتبع ذلك بقوله: نحن جيل المعجزات يا صديقي!
ولم يكتف زيزو الدرعمي بتدريس الإنجليزية، إذ تفرعت به (السكك)، فامتلك متجراً للأدوات الدينية، من سِبح ومباخر وغيرها، مع الكتب والشرائط الدينية؛ كما مارس (الترتيل) في سرادقات العزاء، وسمعتُ أنه أصبح مقرئاً مُعتمَداً في إذاعة محلية!
وكان فيما سبق يسعى إليَّ إن أنا تباعدتُ، وانقطعت أخباره عني تماماً منذ نحو عشرين سنة. ترى، لم تذكرتُ هذه القصة الآن؟!
- مجلس إدارة اتحاد كُتَّاب مصر ...
مجلس إدارة اتحاد كُتَّاب مصر أعضاء زملاء أجلاء محترمون.
وه أيضاً (غير ذلك)!
وغير ذلك تعود على صنن لهما ممثلون بين الأعضاء المحترمين:
الصنف الأول: سبق أن تحدثنا عنه، وأسميناه (أعضاء فوق البيعة)!
إنهم يشبهون ما يتركه لك بائع الخضروات (فوق البيعة)، أي زيادة على الميزان. وذلك لأن هؤلاء الأعضاء يدخلون المجلس من باب العيب الخطير قانون الاتحاد، المتمثل في عدد أعضائه الثلاثين، الذين يتم تجديد نصفهم سنوياً، فيكون على من يدلي بصوته في انتخابات التجديد أن يختار 15 مرشحاً. وأتحدى أن يكون ثمة ناخب يعرف 15 مرشحاً معرفة تجعله يعطي لهم صوته وهو مطمئن إلى كفاءتهم واستحقاقهم عضوية مجلس إدارة نقابة تجمع كتاب مصر. فتكون النتيجة أن يختار الناخب من يعرفهم، ولنفترض، في أفضل الحالات أن عددهم 10، ويكون عليه - لكي يصح صوته - أن يختار معهم (فوق البيعة) خمسة أعضاء لا يعرفهم. إذن، فهناك دائماً بين أعضاء مجلس الإدارة عشرة أعضاء من صنف (فوق البيعة)!
الصنف الثاني: أسميه (القمل)!
فأنا أشبهه بسمكة اسمها (قملة الدولن).
ليس لديها أي قدرات لتعيش حياة البحر .. لا حركة ولا قدرة على تحصيل الغذاء.
وإنما لديها (ممصات)، تجعلها قادرة على الالتصاق بأجسام أسماك أخرى، كالأقراش، أو بالدولنات والحيتان. ويكون التصاقُها، غالباً، قرب - لا مؤاخذة - المؤخرات، ليسهل عليها التقاط مخلفات الكيانات الضخمة التي تلتصق بها، والتي تتركها ملتصقة لتقوم بعملية تنظيفها!
مجلس إدارة اتحاد كُتاب مصر أعضاء من هذا الصنف، طفوا ملتصقين بحيتان وأقراش المجلس، الذين سمحوا لهم بالالتصاق، وطفوا بهم معهم، ليقوموا لهم بأعمال خدمية، وليظلوا في الظل، مستعدين دائماً للاستجابة لأوامر من يلتصقون بهم!.
أينما ولَّيْتَ وجهَك فثمَّ وجهُ السي آي إيه !
نشرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، في 14 أبريل 2007، في موقعها بالإنترنت، وثيقةً هي عبارة عن عرضٍ لكتابٍ من تأليف الكاتبة البريطانية "فرانسيس ستونر سوندرز"، وعنوانه (الحرب الباردة الثقافية – المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب)، صدرت الطبعة الأولى منه عام 1999، بعنوان (من الذي دفع للزمار؟)، وقد صدرت ترجمة عربية له عام 2002، عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة؛ ويوثق للعلاقة بين المخابرات الأمريكية ومؤسسة فورد، ويوضح بالشواهد الواقعية، والمقابلات الشخصية مع عناصر المخابرات، كيف تتخذ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مؤسسات التمويل كغطاء لأنشطتها السرية. كما جاء في دراسة بعنوان (مؤسسة فورد ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية)، للبروفيسور "بيتراس جيمس"، أستاذ الاجتماع بجامعة بنجامبتون في نيويورك : (تستخدم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية المؤسسات الخيرية كقنوات فعالة لتوجيه مبالغ كبيرة من المال لمشروعات الوكالة، دون تنبيه المتلقين إلى مصدرها. وقد سمحت الوكالة لتلك المؤسسات أن تقوم بتمويل مجموعات من الشباب، والنقابات العمالية، والجامعات، ودور النشر، وغيرها من المؤسسات الخاصة، بما يخدم برامج العمل السري للوكالة؛ وتُعـدُّ مؤسسة فورد واحدة من أهم المؤسسات التي اضطلعت بأدوار كثيرة، متعاونة مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية). ويضيفُ البروفيسور جيمس: (ومن خلال التعاون الوثيق المستمر بين المخابرات الأمريكية ومؤسسة فورد، يجري تأمينُ العديدَ من فرص العمل لعملاء المخابرات المركزية داخل مؤسسة فورد؛ فمن القواعد الهيكلية الأصلية أن هناك علاقة وثيقة وتبادلاً للموظفين، على أعلى المستويات، بين وكالة المخابرات المركزية ومؤسسة فورد، وكان من ثمرة هذا التعاون الهيكلي نجاحُ عملاء المخابرات في الوصول لوسائل الإعلام، وموجِّهات الفكر، تحت الغطاء القانوني لمؤسسة فورد).
تدوير سياسي Political Recycling
التدوير، بيئياً اهتمام عالم اليوم، وهو منجاتنا من مغبات وخيمة للتلوث الذي أصبح عنواناً على كوكبنا.
والتدوير، ببساطة، هو تجميع المهملات والمخلفات من مواد استهلاكية، صلبة وسائلة وغازية، والفصل بينها، أو استخدامها مجمعة بدرجة أو بأخرى، في إنتاج موادٍ جديدة تنتمي لنفس النوع أو الأنواع الأصلية، أو تكون مغايرة. ومن أهم المواد التي تخضع للتدوير بدرجات مختلفة من النجاح: الورق والأخشاب والبلاستيك، والمياه ..
غير أن التدوير قد امتد هذه الأيام، وخاصة في مصر، إلى عالم السياسة، حيث تختنق الأجواء المصرية بمخلفات ونفايات من أفكار وأقوال، يقوم بجمعها (زبالون)، من كتَّاب وإعلاميين وسياسيين، ناهيك عن رجل الشارع، ويقومون بتدويرها، ليتهيأ لهم أنهم أنتجوا أفكاراً جديدة، وحقيقة الأمر إنما هم قد قاموا بتدوير بالات من قصاصات الأوراق المتسخة بأحبار المطابع، ومئات الأمتار المكعبة من الأقوال الركيكة والأفكار المسروقة بالأصل، فيكون الناتج من تدويرها (إفرازات) كريهة اللون والرائحة، ولا يقدر أحد على تذوق طعمها.
فاحذروا آلات التدوير المنتشرة في كل مكان ...
أنفاق التنمية ...
أعتقد أن أنفاق قناة السويس، التي يجري حفرُها الآن، هي أهم مشروع قومي عرفته مصر.
ستغير هذه الأنفاق أشياء كثيرة ..
ستُحدثُ انقلابات (جيوبوليتيكية)، وفي ظرف جيلين أو ثلاثة أجيال ستصبح سيناء منطقة جذب للسكان، بما يترتب على ذلك من انتشار أوسع للعمران وللأنشطة الاقتصادية (تجارية - صناعية - زراعية)، فسيولة حركة السكان مسألة غاية في الأهمية، وقد كانت قناة السويس تقلل من هذه السيولة إلى حد بعيد.
وأتوقع، بما لديَّ من ثقافة سياسية متواضعة، أن تنقلب نظرية الأمن الإسرائيلي رأساً على عقب، فقد كانت إسرائيل تركن إلى وجود قناة السويس كعائق يقيد حركة الجيش المصري. وكنت قبيل الحرب في 1973 أزور الخطوط الأمامية من حين لآخر، وأنظر إلى جنود الاحتلال يتمشون على الضفة الشرقية، وأقول في نفسي: لقد صنعنا القناة بأيدينا لتنفعنا، غير أنها أصبحت عائقاً يحول بيننا واجتياح جيش الاحتلال، بل واجتياح إسرائيل نفسها إن تطورت الأمور.
الآن، ستمثل الأنفاق الجديدة (دملاً) في مؤخرة إسرائيل، ولن تقف إزاءه مكتوفة الأيدي، وعلينا أن ننتظر ردود أفعال منها، وألاَّ نأمن جانبها. وأعتقد أن الجيش الإسرائيلي سيغير برامج تدريبه الآن، واضعاً في اعتباره ما تضفيه محاور الأنفاق على القدرات القتالية للجيش المصري.
وهنا، لا أملك إلا الاعتراف بأهمية ما تم من تطوير لأسلحتنا الجوية والبحرية، وأنت إن تأملتَ نوعية ما استجد في هذا المجال تجده في حقيقة الأمر رسالة إلى إسرائيل لتفكر ألف مرة قبل أن تقدم على سلوك غبي.
إن الأنفاق من الأشياء القليلة التي تبهج القلب في هذه الأيام شديدة الوطأة على حياتنا، برغم أن العمل فيها يجري في صمت، وسرية مستحبة.
إن أنفاق قناة السويس الجديدة هي التي تستحق أن تسمى (أنفاق التنمية)، وليس ذلك (الممر) المشبوه!
"عزومة" جروبي ..!
عثرتُ بين أوراقي القديمة على ملف منسيٍّ، تآكلت أوراقه بفعل الرطوبة والبكتيريا، و(سميكة) الورق .. ذلك الكائن الحي شبيه السمكة، الذي تجده بين صفحات الكتب القديمة ..
والحقيقة هي أنني عثرتُ على (قطعة من حياتي)!.
مُزيقاتٌ تحتوي على ما يشير إلى مشروع تدوين يوميات، تتناثر بها خواطر ترصد بعض الوقائع الاستثنائية التي عشتها أو عايشتها، في الشهور الأولى من عام 1973 ..
أكتفي هنا بوريقة تحمل تاريخ 6 أبريل 73!
عمرها 45 سنة ... يا ربي!!
مدون بها، بالقلم الرصاص، كلمات كتبت على عجل (تدخلت فيها بأقل ما يمكن، لأحتفظ لها بالسياق، ولأكمل من التهمته السميكات من حروف) ...
"أكتب في ضوء شحيح ..
"وصلنا الموقع منذ ساعات قليلة ..
"كانت مفاجأة رائعة .. شكراً للتوجيه المعنوي ..
"فجأة، ونحن قرب الكيلو 50 القاهرة/ السويس، صدر أمر بالتوقف ..
" إلتزمنا جانب الطريق، وقد انتاب بعضنا القلق، إذ حسبنا أن ثمة (احتمال) لإغارة مفاجئة من طيران العدو ..
"لم يدوم (آسف .. وقعت وقتها في خطأ لغوي) .. لم (يدم) القلق طويلاً، إذ فوجئنا بسيارة (صندوق)، عليها اسم (جروبي)، تمر بمركبات (القُول) متمهلة، ويمشي إلى جانبها أفراد من العاملين في جروبي، يميزهم الزي الخاص بهذا المحل الأرستقراطي المشهور، في وسط القاهرة، تسبقهم رائحة طيبة لطعام شهي ..
"كانت المفاجأة: لفافتان من خبز طيب، إحداهما محشوة بشرائح لحم مشوية!
"كان يضمهما صندوق ورقي ملون، مطبوع عليه: هدية جروبي لأبطال الجيش الثالث...
"إنتشر البِشرُ بين الأفراد، الذين كانوا ينتظرون (التعيين) التقليدي، وقد استبد بهم الجوع. إلتهموا الساندويتشان (خطأ ثانٍ .. معذرة) في دقائق قليلة ..
"قبل أن نفيق من (هول) مفاجأة جروبي، عاجلنا بواحدة أخرى .. عربة أخرى تمر بنا، توزع علينا لفافة قرطاسية: آيس كريم!
"آيس كريم جروبي على طريق مصر السويس الصحراوي!
____
تعليق أخير: أعتقد أنني مدين، منذ 45 سنة، بكلمة شكر لجروبي، الذي لم تسعدني الظروف إلا بالتلكؤ على رصيفه في وسط البلد!
وسَّـــعوا للشبكة !
اليوم. في الإسكندرية - مصر. أبريل 2016 حدث أن:
- كنت واقفاً بين جمع من أهلنا الطيبين البسطاء، في صف، للحصول على المواد التموينية التي تدعمها الحكومة، وتقدمها للشعب البائس، وأنا أحد أفراده.
- تبدأ عملية الصرف، عن طريق بطاقة ممغنطة (نفرح بتسميتها بالذكية) - ربما من كثرة ما نعاينه من غباء إداري حكومي - توضع في جهاز اتصال طرفي، هو جزء من بنك معلومات وزارة التموين (كومبيوتر صغير يدوي).
- يحدث أن يتلكأ الجهاز من شدة التحميل عليه، وضعف قدرات الشبكة كلها.
- تلكأ الجهاز كثيراً، والموظف بارد جداً، وربما يكون هو قد وجد وسيلة لتعطيله، لسرقة الوقت.
- إزداد عدد المنتظرين في الصف، وتبعثروا، كعادتنا نحن المصريين العشوائيين، ففوجِئتُ بصوت عالٍ، واثق جداً من نفسه، يقول:
- يا جماعه .. بلاش زحام .. وسَّعوا .. خللوا الهوا يدخل للشبكة !!!
واستجاب الناس على الفور، ووسعوا للشبكة !!!!!!!
وأنا: الكاتب العلمي، الذي انقطع قلبه وهو يناصر الثقافة العلمية، ويُصدر سلسلة كتب في الثقافة العلمية، ويؤلف كتباً فيها، واقف بين أهلينا الذين وجدوا الحل في (التوسيع)، ليدخل الهواء، لينعش الشبكة، ليصرفوا الزيت والسكر والأرز !!
أفكارٌ آسرة ..
لم أُقسر قلمي يوماً على كتابة فكرة عبرت بذهني، مقالاً أو قصةً.
كانت لديَّ طول الوقت قناعة بأن الأفكار التي لا تستحق الاهتمام تتطاير كفقاعات صابون، تلتمع قليلاً ولا تلبث أن تذوب في الهواء، أما تلك التي تستحق الكتابة فهي التي تأسرك، وتظل تلاحقك، حتى (تأتيها)!
رعاية الصداقة
يغفلُ بعضُ الناس عن رعاية ما يرتبطون به من علاقات الصداقة، فتترهل وتتفسَّخ ويضربها الوهن، ولا تلبث أن تسقط، كعود نبات شق سطح التربة ثم تساقطت أوراقه، فلا يلبث أن يذبل ويسقط.
ثمة صداقات (خاصة) تخرج عن هذه القاعدة، وغالباً ما تكون تاسست في سنوات التنشئة، وحالت الجغرافيا وصروفُ الدهر دون استمرارها عبر التواصل، غير أن العلاقة لا تلبث أن تتجدد ذاتياً فور أن يحدث التلاقي، كأنها كانت في حالة (سُبات).
وقد عرفتُ كل أحوال الصداقة. وذقتُ مرارة وأسف عدم تبادل رعايتها من أطراف أخرى، مما اضطرني إلى مقابلة الإهمال بإهمال، فماتت صداقات كنت أحسبها ستدوم. كما أنني أعرف أصدقاءً ينقطع حبل تواصلنا لسنين طويلة، وما إن نلتقي، أو حتى نتهاتف، حتى يجري الحديث بيننا كأنه لم ينقطع يوماً!.
إذن، فلابد أن تكون الرعاية متبادلة، كالحب. ولا يغيب عنَّا أن للصداقة كلفتُها التي يتوجب على الطرفين الاستعدادُ لتحملها، من وقت وجهد وفكر، وربما مال.
إن صداقة طيبة يمكن أن تكون حبل نجاة، أو غرفة عناية مركزة، أو ضوءاً رفيقاً مؤنساً في فضاء موحش مظلم.
في وداع صبري أبو علم ...
ذات مساء سكندري مُواتٍ، بالعام 1965، أي منذ نصف قرن تقريباً، غادر مجموعةٌ من(الصبية) قصر ثقافة الحرية، بعد انتهاء ندوة الإثنين (اللقاء الأسبوعي لنادي القصة)، واتخذوا طريقهم إلى ميدان محطة السكة الحديدية (ميدان الجمهورية)، ليتفرقوا فيه، بعد مساء حافل، كل إلى بيته. من هذه المجموعة: مصطفى نصر، ومصطفى حامد جاد الكريم، وعبد الله هاشم، وسعيد بكر، وصبري أبو علم، وأنا، وآخرون تسربوا من شقوق الزمن. وبالمصادفة البحتة، ظل صبري ومصطفي حامد يسيران معاً، يعتقد كلٌّ منهما أن زميله يجامله بالسير معه حتى يصل إلى بيته، فيتركه، حتى وصلا فعلاً إلى بيت، قال مصطفى: هنا أسكن. وقال صبري: وأنا أيضاً. وكان مصطفى إبن مالك العقار، وصبري يسكن في شقة بالطابق الأرضي، وبين الأسرتين مودة، والإبنان لا يعرفان أحدهما الآخر !
كنا نتقارب في السن، حول السادسة عشرة، وإن كان صبري يكبرنا بسنوات قليلة، وكان عاثر الحظ في الدراسة، فتعثر لسنوات، الأمر الذي دفعه إلى الالتحاق بالقوات البحرية، فانتقل مع أمه إلى الإسكندرية، بعد وفاة أبيه؛ وكانت الأسرة تقيم في طهطا.
إنها ذكريات خمسين سنة، تتلاحق وتتقافز في أركان ذاكرتي بعد انتهاء الرحلة بالنسبة لصبري، إذ رأى أن يتخذ لرحلته مساراً آخر، يذهب به إلى بعيد.
إختلفتُ مع صبري أكثر من مرة، وكنا نلتقي أثناء الخلافات، وكأننا غير مختلفين، برغم أن حدة الخلاف تكون كبيرة أحياناً. لكن الخلافات كانت موضوعية، ويتخللها حوارات حولها، مباشرةً أو بالتليفونات؛ وكانت في معظمها ترجع إلى تباين الطباع، فأنا أكثر تحفظاً، برغم ادعائي غير ذلك في ما أكتب، وهو مقبل على الحياة بلا أي حاجز (أو رادع، ربما)، كثير الحركة، وكان ذلك يمثل بعضاً من تلك الخلافات، فقد كنت أرى أنه يخسر وقته في فضاءات الإسكندرية، بلا طائل - من وجهة نظري - وأن الأفضل أن يطيل الاختلاف إلى مكتبه ومكتبته، ليقرأ ويكتب أبحاثاً وشعراً، أو على الأقل، يسجل سيرته، التي هي سيرة نصف قرن من عمر الحياة الثقافية، شهد خلاله الوطن أحدَّ تحولات مرت به، وكان هو مشاركاً بها، وشاهداً عليها، أو متابعاً لها، على الأقل. ولا زلت حزيناً لأن صبري لم يترك سوى ديوانين صغيرين، وبضع مقالات متفرقة.
وأحياناً أشعر بأنه كان على حق، فأن (تعيش) الحياة أفضل من أن تكتبها، وكان صبري أبو علم حفيَّاً بالحياة، وكان مفتاحه إلى قلبها البساطة التي تقترب من مشاعر طفل، والصراحة الشديدة، التي كانت تثير الدهشة، وربما التقلقل، في بعض الأحيان. غير أنني لم أره أو أسمعه يكذب مرةً واحدة. رجل لم يكذب لنصف قرن، على الأقل !.
كان مسكن صبري في شارع الغرياني، بمحرم بك - قرب جراج ترام المدينة - في الطابق الأرضي من البناية، تصعد إليه بنحو عشر درجات سلمية؛ ويبدأ بممر على جانبه الأيمن المطبخ، ثم دورة المياه، ويتسع الممرُّ إلى صالة شبه مربعة، يفتح فيها بابا حجرتين، واحدة لصبري، والأخرى للسيدة والدته، التي لم أرها إلا جالسة في الصالة، وبجوارها طاولة صغيرة، عليها أدوات ولوازم الشاي.
كانت تعد لنا الشاي أكثر من مرة، حسب طول السمر الليلي، ولم نكن نشعر بأنها تتعب، أو لم نفكر في ذلك، كما أنها - من ناحيتها - كانت طيبة كريمة صافية النفس، غاية ما يرضيها أن تسعد بسعادة (طفلها) الوحيد وهو بين أصدقائه الذين يحبهم ويحبونه، ويفتح لهم بيته، صالوناً أدبياً ثقافياً، سرعان ما اجتذب إليه عشرات من الأدباء والفنانين التشكيليين وعموم المثقفين. وكانت عند انتهائها من إعداد الشاي تدقُّ بالملعقة دقتين أو ثلاثة على طرف الصينية المعدنية، فيقوم صبري ويخرج من حجرته الخاصة، محل الصالون، ليعود بالصينية، وأحياناً تكون مصحوبة ببعض المخبوزات البيتية.
ولا تزال (دقات الصينية) محفورة في ذاكرتي حتى الآن، لأن الشاي والمخبوزات البيتية كانا يأتيان في وقت يكون الجوع قد تمكن منا، وقد أمضينا وقتا طويلا في حوارات حارة، (على بطن خاوية)!
كان ذلك الصالون عجيب الشأن. فنحن أمام أسرة صغيرة جداً، دخلها محدود جداً، وفضاؤها الحيوي في المسكن لا يتحمل استضافة أعداد تصل أحياناً لأكثر من خمسة في الليلة الواحدة، تقدم لهم ضرورات الضيافة، مهما كان تواضعها، أكثر من مرة. ومع ذلك لم يتوقف أحد أمام أي من هذه التفاصيل، بل كان ذلك الصالون (الذي يبدو فقيراً) غاية في الغنى، وقد ارتاده، وتفاعل معه، وتأثر به عدد لا بأس به ممن طفوا على سطح الحياة الثقافية والإبداعية في مصر، ومن السياسيين، ومن الصعاليك، أيضاً، فقد كان صبري، على نحو ما، صعلوكاً نادراً.
كان جانب كبير من رواد صالون صبري أدباء ومثقفين من الناشئة، وبعضهم حظى بخطوة في طريق النشر، كالشاعر الراحل عبد الصبور منير. لكننا كلنا كانت لنا تطلعات آخذة في التبللر والتميز، وقد وجدنا في الصالون ضالتنا لنلجأ إليه من أجل التواصل الفكرى وتبادل القراءات والآراء حول بدايات كتاباتنا.
وتخونني الذاكرة إن حاولتُ أن (أحصر) أسماء المترددين، بانتظام أو على فترات؛ ولكني أتذكر أن صبري بأسلوبه السهل الممتنع، إجتذب عدداً من زملائنا طلاب المدرسة العباسية الثانوية، وكان بعضهم من جيرانه، فانضموا إلى الصالون. وكان صبري يتصرف كأنه طالب ثانوي مثلنا، وهو كذلك، إذ كان لا يزال يكرر محاولاته للنجاح في الثانوية العامة.
وكنت أتعجب، كيف لفتىً على هذه الدرجة من الألمعية وسعة الثقافة يعجز عن تحقيق ما يحققه طالب ضيق الأفق محدود الذكاء، فيحصل على شهادة تذهب به إلى الجامعة. والحقيقة هي أن جانباً كبيرا من سبب هذه الورطة، التي كان صبري لا يعتبرها ورطة، ولا يميل للإشارة إليها، هو عدم توفير الاهتمام الكافي لتحقيقها. بدليل أنه عندما أعطاها قدراً يسيراً منه، بدافعٍ أو بآخر، حصل على الثانوية العامة، والتحق بكلية الآداب ليدرس الأنثربولوجي، وهو لما يزل بعد مشتغلاً بالقوات البحرية، برتبة رقيب أو رقيب أول.
وذات صيف، واتتنا فكرة تكوين (جمعية فلسفية)!. أقل من عشرة شبان تحت العشرين يقررون تأسيس جمعية فلسفية، بلغ بهم طموحهم، ولا أقول أبداً حماقتهم، لأن يسموها: "البحث عن الحقيقة" !. كانت الجمعية تجتمع في كافيتيريا صيفية في (لسان السلسلة)، أمام موقع مكتبة الإسكندرية الآن، كانت الجامعة تقيم سلسلة منها على امتداد الشاطئ، ويعمل فيها طلابها صيفاً، وأنا شخصياً عملت جرسوناً فيها قبيل أن أنهي دراستي الجامعية.
كان من بين الباحثين عن الحقيقة في تلك الجمعية: صبري، ومحمد السيد عيد، ومصطفى حامد جاد الكريم، ومحمد زهدي، وأسماء أخرى تغيب عن ذاكرتي الشائخة الآن، وأنا. وكان الناس من حولنا يلعقون عبوات الآيس كريم، ولا يكفون عن شرب المثلجات، ونحن منهمكون في مناقشة تقديم الدكتور بدوي لترجمة كتاب لكامي. وكانت المناقشة لا تنتهي باستنفاد طاقتنا الحرارية، والإسراع إلى منازلنا للأكل والراحة، بل كنا نتواصل بتبادل الخطابات البريدية، تحمل أفكارنا، وإبداعاتنا، وآراءنا المتبادلة.
يا واد يا بطيئ .. !
زمان، غنت سعاد حسني لحسين فهمي (يا واد يا تقيل)
الآن، المطلوب هو (البطء) !
وهذه دعوة صارخة لتوخي البطء والبحث عنه، في إعلان لطبيب عن سلعته، يتضمن صورة لسلحفاة برية، ثم رسماً كروكياً للعضو الذكري، والخصيتين الملحقتين به، يجمع بين مكونات الإعلان طبيب في ميامي بالإسكندرية، مهمته الانتصار للبطء، ليكتسب الذكر البشري سرعة السلحفاة.
ولا نستبعد أن طبيب المبطئين يذيع في عيادته نسخة من سعاد حسني تقول يا واد يا بطيئ!
أنا أحترم الطب والأطباء، شريطة أن يحترم الأطباء الذوق العام، ولا تتحول ملصقات الدعاية لنشاطهم الإبطائي إلى ما يشبه إعلانات أنشطة المشعوذين، والمطاعم من طبقة أم حسن.
وأنا لست متزمتاً، فها أنا أسهم، بصورة أو بأخرى، في الترويج لمهارة هذا (الميكانيكي) الذي يعبث بصندوق تروس حركة مشاعر الرجال فيصبحوا مبطئين صالحين.
لكن الإعلان خادش للحياء. هابط كملصق يحتل فراغاً يمتلكه كل البشر.
وأنا أشك في أن تكون لنقابة أطباء الإسكندرية صلة بإعلانات أعضائها، اللهم إلا إذا كانت صلة (جباية)؛ أما إثارة انتقاد واستنكار الرأي العام، فلكل أن يمضي في اجتهاده، ولسنا نعرف كيف يمكن للدكتور أسامة غطاس، أن يعلن عن نشاطه وماذا يضع مكان السلحفاة إن هو تحول من سرعة القذف إلى علاج الارتخاء، وصولاً إلى قوة الانتصاب !
رايح فين يا حجيجه ؟!
فجأةً، إنتبهتُ، وسألتُ جاري: محطة إيه دي؟!
رد عليَّ بسؤال أزعجني أكثر: إنتا رايح فين يا حجيجه ؟!
قفزت، واتجهتُ إلى الباب مسرعاً، ونزلت.
كانت المحطة: (سيدي بشر).
ركبتُ قطار الضواحي (خط أبي قير) من محطة (السوق) القريبة من بيتي.
كان مقصدي محطة (سيدي جابر)؛ فاتجهتُ إلى الرصيف العكسي، وركبت القطار الذي كان واقفاً بالمحطة، كأنه كان ينتظرني، وأنا غافل تماماً عن أنني (ماشي بالعكس)!
وفي سيدي بشر، ركبت القطار في الاتجاه الصحيح إلى سيدي جابر، وأنا في حالة ذهول ورعب، فها أنا أعيش حالة بينة من عرض خلط الاتجاهات !
تذكرتُ أنني كنت أجيد تماماً تدريبات (الملاحة الليلية) في صحراء دهشور !
كويس .. (تذكرت) !
حلم لن يتحقق
ظللت لأكثر من ثلاثين سنة أمرُّ، في طريقي إلى مقر عملي، في معهد علوم البحار بالأنفوشي، بجوار قلعة قايتباي، بوِرَش صناعة السفن واليخوت واللنشات، في مدخل الطريق إلى المعهد والقلعة، وأهمها ورشة (الدجيشي)، حيث ظللت أتابع بناء يخت فيها لأكثر من سنتين، حتى رأيته مكتملاً
وظل حلم يراودني أمداً طويلاً، أن أغتني وأمتلك مثل هذا اليخت، وأعيش عليه، لا أكاد اغادره إلى اليابس.
كان حلماً حقيقياً، ولكني لم أعمل على تحقيقه، فلا مهارات لديَّ تعينني على ذلك ..
خطة حكومتي للأسبوع القادم ...
طبعاً بعد (بإذن الله)، حتى لا نغضب أحداً ..
خطتي الأسبوعية التي وضعتها لدولتي التي أحكمها، والمكونة من فردين غيري، و(إمارة) استقلت حديثاً، مكونة من ابن وزوجته، وحفيدين:
غداً: الثلاثاء: زيارة صباحية لأخصائي التأمين الصحي لصرف دواء. أحجز دوري عند حوالي العاشرة صباحاً، وأتسكع في النادي حتى موعد الأخصائي عند الثالثة، فأصرف الدواء.
قبل الحجز، أمر على سوق الأسماك، وأوصي أحد أصدقائي من بائعي الأسماك الغشاشين السفلة بأن يعد لنا وجبة غداء من الأسماك المتوفرة، وأعطيه الثمن وأجرة الإعداد؛ وأمر عليه بعد صرف الدواء، في حوالي الرابعة عصراً، فآخذ الطعام، وأعود للبيت، لأكون في استقبال الإمارة في لقاء الثلاثاء الأسبوعي.
ملاحظة: تواجد الأخصائي غير مضمون. إحتمال انشغال عمرو في عمل طارئ وتأجيل اللقاء الأسبوعي.
الأربعاء: استيقاظ عند الظهر. إفطار. تكاسل وفيس بوك، ولعب (بي-جيويلد)، ومراجعة النشرات الدورية في الإيميل، والكتابة لساعة أو ساعتين. البحث عن فيلم يستحق المشاهدة، والمفضل: عبد السلام - عبد المنعم - عبد الفتاح - إسماعيل ياسين. تكاسل ثانٍ. غداء. قيلولة. تكاسل وفيس بوك. سهرة عمل بعد عشاء خفيف. زاناكس. نوم.
ملاحظة: موجة اشمئناط بلا سبب تثير الفوضى في هذا التراتب المقيت.
يا ربي .. إنني، كحاكم لهذه الدولة، لا أستطيع - حتى - أن أكمل وضع خطة (مؤكدة، بعد بإذن الله) لأكثر من يومين ..
من يكتبُ الثقافة العلمية ؟!
من تجربتي المتواضعة في التعامل مع الثقافة العلمية، كاتباً ومُحرراً، أجد أن أهم مشكلة تحول دون انتشار هذا النوع الحيوي من الثقافة، هو أن من يكتبه ليسوا كُتَّاباً.
قد يكونون أكبر المتخصصين في مجالاتهم، ولكن (موهبة) الكتابة الثقافية، غير العلمية، تنقصهم.
وبرغم ذلك، يجري وراءهم الناشرون، لأنهم جهلة، لا معلومات علمية لديهم، ويخرون سُجَّدّاً تحت أقدام اللقب العلمي، ولا يدركون أنه بلا موهبة، وأن ما يكتبه لا يختلف كثيراً عن (الأوراق) التي يلملمها من هنا وهناك، لينشرها في مجلات علمية متخصصة، ومن أجل الترقية.
وبالطبع، فإن الأمر يختلف عند اقتران موهبة الكتابة بالتقعر العلمي (أحمد زكي - عبد المحسن صالح - أحمد شوقي - محمد المخزنجي، وغيرهم).
كان نهاد شريف، رحمه الله، رائداً لأدب الخيال العلمي العربي، وهو دارس للفلسفة.
ألف الشاعر محمود الأزهري كتابا علمياً مهما، عن (حيوانات المختبر)، وكان يقرأ عنها بتركيز لأول مرة وهو يستعد للكتابة؛ وأنتج كتاباً بديعا في سلسلة الثقافة العلمية، وهو الأزهري المتخصص في الشريعة، لكنه شاعر، يعرف (فنون الكلام واللغة).
ستستمر غربة الثقافة العلمية في بلادنا بسبب سوء الفهم.
الفائقون
أعتقد أن أهم ما تثيره حكاية الشاب الصغير الذي يقول بأنه اخترع أسلوباً ييسر استعمال الإنترنت بسرعة كبيرة، وعلى نطاق واسع، وبغير الاعتماد على مصدر قوى، هو أن (الفائقين) موجودون بيننا، في كل المجالات، ووجودهم لا يشبه تواجد المعادن النفيسة مدفونة في تلال من الحجارة والرمال، فهذه سيأتي يوم وتجد من ينقب عنها ويستخلصها، وإنما هو وجود محكوم عليه بالضياع في مستنقعات الإهمال واللامبالاة.
وتثير الحكاية أيضاً - بين ما تثيره من شجون - مسألة العقول المهاجرة التي تتجه غرباً حين لا تجد من لا يؤمن بقدراتها بين بني جلدتها. وحتى في هذه الحالة فإنها لا تجد من يتصل بها ويحاول استمالتها حتى لا تقطع صلتها نهائياً بالوطن المُهمِل المُهمَل.
إن أي منصف لا يملك، إزاء هذه الأحوال المؤسفة، إلا أن يتعاطف مع خيار مغادرة الوطن إلى حيث يتوفر الاحترام والرعاية و .. الاستثمار. وهو خيار لا بديل له إلا العدم.
ناصحٌ أمينٌ !
زمان، كانت الشكاوى مجهولة المصدر، التي يجبن صاحبُها عن ذِكرِ اسمه، يوقعها بـ (ناصــح أمين) ..
وهذه كلمات ناصح أمين، شديد الالتصاق بالشارع المصري، في مدينة كانت محترمة ونظيفة، وكوزمزبوليتانية، هي الإسكندرية .. الآن أصبحت نتنة، وسخة، شوارعيه!
أعرف الأحياء الشعبية المكدسة بالبؤساء معرفةً جيدة.
أقابل في الشوارع، وعلى النواصي، وفي المقاهي والأسواق ووسائل المواصلات العامة، صبياناً وبناتاَ وشباباً، هم نماذج متكررة لملايين موزعون في جميع أنحاء (المحروسة)!!
هؤلاء جميعاً هم (مشاريع) بلاطجة ولصوص. يدهنون رؤوسهم بزيوت على هيئات مستغربة، ولا تجد في جيب الواحد منهم جنيهاً كاملاً، على تدنيه وتفاهته. وهم يسرقون، لا من أجل الطعام، ولكن لشراء المخدرات.
سوف تمتلئ الشوارع بمرضى الهلوسة والفصام.
ليست الخسارة منحصرة في ضياع هؤلاء، وهم ثروة تعاملهم أسرهم ومدارسهم وحكومتهم كالكلاب والقطط الضالة، إذ يجب أن تضيف إلى الخسارة حجم ما كان بإمكان هذه القوة العاملة العظيمة أن تنتجه، لو .. (لو) .. أنها وجدت من يجيد إدارة الموارد البشرية.
إن كان الأمر لا يهم المسئولين (إجتماعياً)، فالمؤكد أنه يهمهم (أمنياً)، فهذه ملايين من القنابل الموقوتة، والزجاجات الحارقة، لها أعين ترى ما بأيدي الآخرين، ولها بطون جائعة، ولها أحلام مهدرة.
فانتبهوا قبل أن تشتعل فتائلُهم !
"ناصح أمين"
الثقافة العلمية ..
لن ينصلح حال ثقافتنا العربية إلا إن استوت مشيتُها، على ساقين، فهي لا زالت تقف على ساق واحدة، هي ثقافة الآداب والإنسانيات؛ والساق الثانية هي الثقافة العلمية. ولن تتحرك إلا بهما معاً.
وأعتقد أن السبب في ذلك هو أن معظم من يتواردون على إدارة الشأن الثقافي في بلادنا العربية عامةً لا يؤمن بالثقافة العلمية، وضاق أفقه عن أن يتسع لغير الثقافة السائدة. بل إنني أذهبُ إلى حد أن الكثيرين منهم (يكرهون) الثقافة العلمية، لنقص في قدراتهم الذهنية يحول دون استيعابهم للثقافات الجادة، ناهيك عن أن تكون علمية.
وكنت مشاركا في الإعداد لمؤتمر نظمه الإقليم الثقافي لغرب ووسط الدلتا، في أوائل التسعينيات، وعند تقديم اقتراحات بأسماء من يستحقون التكريم من أبناء الإقليم، إقترحتُ اسم الكاتب العلمي الكبير الأستاذ الدكتور عبد المحسن صالح، رحمه الله، ففوجئتُ برئيسة الإقليم تصيح في استنكار بيِّن: (بس، دا بتاع علوم يا رجب!!(.
وخلتني سمعتها تقول:) بس، دا بتاع عيال!!!).
فضاءات جديدة
كانت الغالبية العظمى من مبدعينا، حتى الآن، مخلصة تماماً لميراث ثقيل الوطأة من أصناف إبداع لمبدعين - أباء وأجداد - لم تكن ثقافتهم الداعمة لإبداعهم لتزيد عن (ثقافة كان ياما كان)، مع إخلاص شديد، محمودٍ، لموروثنا.
إن استمرت الأجيال الجديدة على هذه الدرجة من (الإخلاص)، فسيكونون نتاج ماكينة تصوير أوراق.
لا نجاة إلا بالانطلاق إلى فضاءات جديدة، بهواء أنقى وأصح، وعيون ترى ما لم ير الآباء والأجدادُ، وثقافة (مرحباً أيها القادم .. نحن نفهمك) !
ماذا لو كنت من (المعازيم) .. ؟!
)لو)، حرف امتناع لامتناع .. لو كنت بين حبايبنا الحلوين المعازيم الاعتياديين في لقاء الرئيس السيسي بالمثقفين اليوم، لطلبت الكلمة، وقلتُ:
إن انقسامنا يا سيادة الرئيس بين حاجرين على حرية الإبداع والفكر، ودعاة مناصرين لهذه الحرية، هو انقسامٌ وهمي .. دونكيشوتي، بلغة المثقفين الذين يحبون تطعيم حديثهم بألفاظ تزعج كثيراً من المستمعين لهم.
إننا جميعا يا سيدي الرئيس أسرى تراث ثقافي، ونتعارك داخل نفس الخندق؛ ويخلق أو يختلق كلُّ طرفٍ دوراً يكلِّفُ به نفسه.
ولا مخرج لنا يا سيدي الرئيس إلاَّ بتحديث ثقافتنا. فثقافتنا يا سيدي الرئيس (عرجاء)، تسير على ساقٍ واحدة، أو (تظلع) بلغة المتقعرين، في مسار لم يتغير منذ آلاف السنين، وكلنا نمضي سادرين في إخلاصنا لهذا المسار.
راجعوا، يا سادة، ما تدور من أجله مطابعنا، تجدوه لا يخرج عن مسار العرجى، بينما ثمة مسارات أخرى من حولنا لثقافة جديدة، أنتجها أناس يعيشون معنا على سطح اليابس، لا يعرفون هذه الصراعات الضوضائية العبثية بين أناس يغترفون من الوعاء ذاته.
إسأل أياً ممن استضفتهم، يا سيادة الرئيس، عن ثقافته المناخية، أو التكنولوجية، أو قدرات الجرافين وآثاره المستقبلية القادمة، وعن أحوال أولئك الآدميين الذين يقيمون في الفضاء منذ سنة، وعن التصحر الذي يأكل الأخضر، وعن حلول غير تقليدية لمشاكل نقص المياه في العالم كله .. لن يعرفوا، لأنهم يعيشون طول الوقت في ذات المسار الذي يشاركهم فيه من يتهيأ لهم أنهم أضداد، وهم رفقاء مسيرة.
سيادة الرئيس، أعتقد أنك ستصاب بنوع من التلبك اليوم، فقد تعرضتَ لوجبة غير مأمونة من طعام معلَّب.
الأســــتاذ متَّــــــى ...
بعد أن أنهيت المرحلة الابتدائية في مدرسة (الجمعية السنية لتحفيظ القرآن الكريم)، التحقتُ بمدرسة النيــل الإعدادية، وهي من مدارس (الجمعية الخيرية الأورثوذكسية)، والمدرستان متجاورتان، في (غيط العنب)، بالإسكندرية، قريبتان من ترعة المحمودية، قبل قليل من اتصالها بالمينــاء.
كانت السفن الضخمة تأتي من الاتحاد السوفيتي محملة بمعدات السد العالي، فتفرغها في الميناء، فيعاد تحميلها على أساطيل نهرية، تسير في ترعة المحمودية، لتنتهي في النيل، ثم تمضي بها جنوباً إلى أسوان.
كان (الأستاذ مـتَّـــى)، ناظر مدرستنا، ينتهز فرصة مرور هذه المعدات في الترعة، ويفتح لنا بوابة المدرسة، لنمضي في صفوف منتظمة، مع بعض المدرسين، لنقف على (شط) الترعة، نتابع مرور التوربينات الهائلة، التي يحمل الواحد منها (صندلان)، يجرهما أكثر من قاطرة.
لا زلت أتذكر التماع معدن التوربينات تحت آشعة الشمس، والصنادل تتهادى بها، ونحن، مع غيرنا من أهالي المنطقة، نصفق ونهتف، والزغاريد تنطلق، في فرحة حقيقية.
هل كان الأستاذ متَّـى ينفذ أوامر ألزمته بما فعل؟ لا أعتقد، لأن تلاميذ المدارس الأخرى لم يكونوا يحظون بما كان يوفره لنا.
هذا هو (الأستاذ متَّـــى)، ناظر مدرسة النيل الإعدادية، التابعة للجمعية الخيرية الأورثوذكسية !
أنقل لكم من ترام الرمل ...!!
سمعتُ في الترام، منذ أيامٍ قليلة، طرفاً من حوارٍ بين رجلين متقدمين في السن، كالتالي:
- كان ثورجي .. السادات رماه ف السجن
- تدخل بيته تلاقي الكتب مرميه في كل حته ..
- كانوا بيقولوا عليه شيوعي ..
ثورجي، وكتب = شيوعي !
كانت صفة شيوعي موازية لشاذٍ جنسياً، وتكفي لأن يتوجس الناسُ ممن يوصف بها، بغير حاجةٍ لتفكير أو مراجعة.
في زمن تجنيدي، كان (ملجأي) هو الوحيدُ الذي تجد فيه كتباً ومجلات وأوراقاً وأكثر من قلم، في أي وقت. دخله قائد السرية ذات يومٍ، وأخذ يقلِّبُ في كتبي وأوراقي، متصنعاً المودة؛ وعندما طُلِبَ منه تقريرٌ عني، لألتحق بكلية ضباط الاحتياط، بعد سنة قضيتُها كجندي، علمتُ أنه قال إنني شيوعي؛ فاستُبعِدتُ.
لا يمكن أن تكون ضابطاً شيوعياً، ولكن جندي شيوعي (تمشي)!
على فكرة، لا تزال صفة شيوعي تستخدم على هذا النحو، في بعض الأحيان، بالرغم من انحسار المد الشيوعي المنظم، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
لص الأتيلييه
من أغرب ما صادفني في الحياة الثقافية في الإسكندرية، سرقةُ لوحات بعض الفنانين التشكيليين من مراسمهم في أتيلييه الإسكندرية.
كان اللص بمثابة المدير الحقيقي للأتيلييه، وهو عامل شاب، ورث وظيفته عن أبيه، وكان رجلاً طيباً، على صلة طيبة جداً بكل أعضاء الأتيلييه، وكانت جديته في عمله تصل أحياناً إلى درجة من الحدة.
ورث الإبن أيضاً عن أبيه مفاتيح مراسم الفنانين التشكيليين، لتسهل له مهمة متفق عليها مع هؤلاء الفنانين، وهي عرض اللوحات المختزنة في هذه المراسم، إن جاء (زبون) ليشتري منها. والحقيقة التي يسكت عنها وعليها الجميع هي أن معظم مراسم الأتيلييه ليست إلا مخازن، بمعنى الكلمة، مكدسة بأعمال الفنانين، كما تتكدس مخازن تجار البقالة بصناديق المعلبات وأجولة الحبوب!.
وهؤلاء الفنانون يمتلكون مراسم أخرى يمارسون فيها أعمالهم الفنية، لكنهم يحتفظون بمراسمهم في الأتيلييه كمخازن، لا أكثر، تتميز بأنها بلا مقابل، تقريباً، وفي فيللا بمنطقة حيوية وسط البلد، في سكة الزبائن!
ويبدو أن اللص قد استشعر أن هؤلاء الفنانين، وهو يعرف قدر سعتهم، ليسوا بحاجة إلى مزيد من الأموال، وربما فكر أيضاً في أنهم لايعرفون ماذا يوجد بمخازنهم، فبدأ نشاطه، وراح يبيع لوحاتهم لصالحهم، في بداية عمله، فلما رسخت قدماه في سوق اللوحات، كان له زبائنه، وكان يبيع لهم اللوحات لحسابه الخاص!
أخيراً، إنتبه أحد أصحاب المخازن إلى أن بضاعته تتناقص، فأبلغ الشرطة، فسيق اللص إلى العدالة، وسُجن!
على فكرة: لا يزال كثير من المراسم، أو المخازن، مغلقاً، لا يكاد ضوء النهار يدخله ساعة في السنة، ولا يزال مالكو المخازن يتأخرون في سداد إيجارات مخازنهم (الملاليم) للأتيلييه، الذي ينتظر دعمهم، فهو مؤسسة محدودة الموارد، وأحياناً تعتمد على كرم أفراد بعينهم، يعرفهم كل من له صلة بالأتيلييه، بينما المستفيدون (تجارياً) من المكان قد رسموا ونحتوا آذانهم: (ودن من طين وودن من عجين)!
متنطِّعٌ !
حدث ظهيرة اليوم أن قابلت شخصاً، علاقتي به تتلخص في كلمات:(أتذكَّرُ اسمه بصعوبةً عند كل مقابلة!).
مررت به، وكان جالساً في مقهىً، فأصر على دعوتي لفنجان قهوة (ع السريع كده)!
جالستُه. تبادلنا (إنتا عامل إيه؟ .. إنتا عامل إيه؟).
لمح مظروفاً شفافاً في يدي، أضع فيه نسخة من ترجمتي لكتاب هـ. ج. ويلز (نظام عالمي جديد). سأل: إنتاج جديد؟. مبروك! أُمَّال فين نسختي؟
ومد يده، بغير استئذان، وأخرج الكتاب من مظروفه. قال: ترجمة؟! .. برافو والله .. برافو ..!
لم أملك إلا أن أشكره ...
وراح يتصفح الكتاب. وظهر الامتعاضُ على وجهه، وقال: (أعوذ بالله .. ما فيش بسم الله الرحمن الرحيم في أول الكتاب؟! .. موش المركز ده في بلد إسلامي؟).
قلت: عندك حق .. لعلهم نسوا .. ولكني أنا بسملتُ وأنا أسلمهم نص الترجمة، وأكيد المسئولين في المركز بسملوا وهم يتسلمون الكتاب مطبوعاً)!
نظر إليَّ متشككاً من نبرة صوتي.
وخطر لي أن أنال من تنطعه، فقلتُ: على أي حال، فالبسملة ربما لا تصح على هذا االكتاب، لأن مؤلفه ملحد!
أفلت الكتاب من يده وهو يكاد يصيح: يا ساتر يا رب .. يا ساتر .. أعوذ بالله!
ورحت أداعب تنطعه أكثر: ولكنه بدأ حياته مسيحياً، وأصبح لا دينياً ..
فارتفع حاجباه، وداعبت أصابعه شعر لحيته الشعثاء، وقال: لا بأس في تحوله هذا .. لا بأس..
وشربت فنجان القهوة، وغادرتُه قبل أن يسعفه تنطعه باتهامي، أنا مترجم كتاب ويلز الملحد، بأنني نقلتُ كفراً .. وناقل الكفر .. كافر!
سيِّدُ المروج البحرية !
لم أتمكن من حضور الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لرحيل أستاذي العظيم الدكتور يوسف حليم؛ وكان موعدُها الأربعاء الماضي، في قسم علوم البحار، جامعة الإسكندرية، وهو أحد مؤسسيه وأعمدته الرئيسية.
كنت أنوي المشاركة في الاحتفال، بل إنني أعددت بعض الأفكار، لأشارك بالحديث في المناسبة، إن دُعيتُ للحديث؛ غير أن موعداً مع أحد أطبائي فرض نفسه في نفس توقيت الاحتفال، فاعتذرتُ لأستاذي من الجيل التالي، الدكتور عبد الغني خليل، حفظه الله.
كان حرصي على المشاركة محبةً للراحل العظيم، شكلاً ومضموناً.
أحببتُه منذ أول محاضرة ألقاها علينا نحن طلاب قسم علوم البحار، في مدرج صغير بقسم الفيزياء، بمبنى الكلية العتيق في محرم بك.
دخل بنا إلى الموضوع مباشرة، في سلاسة واقتدار، كأنه يواصل حديثاً انقطع بيننا وبينه منذ سويعات!. وملأ (السبورة) رسومات لأنواع من كائنات نباتية مجهرية، نراها لأول مرة، واستطاع أن يقنعني أنا شخصياً أنني أعرفها منذ زمن بعيد، فأقبلتُ على مادته العلمية الشائقة التي ترصد العوالق النباتية البحرية، أو الهائمات البحرية (الفيتوبلانكتون)؛ فليست اليابس وحدها الغنية بالحياة النباتية، فالبحار والمحيطات على نفس الدرجة من الغنى، بل قد تكون أغنى. وعلمتُ فيما بعد أنه المكتشف لأنواع من هذه الهائمات تسبب ظاهرة ضارة، هي (المد الأحمر)، في مياه الإسكندرية، وأنها تحمل اسمه.
ولما أورد في محاضرة له أن في البحار والمحيطات مروجاً خضراء، قررتُ أن أسميه (سيد المروج البحرية)!
وبالرغم من هذه المودة التي وجدتها تنشأ عندي له، فلم أقترب منه إلا في حدود (التلمذة). ومن ناحية أخرى، فقد يكون سبب عدم محاولتي الاقتراب مظهره شديد الجدية، التي قد يحسبها من لا يعرفونه جهامةً.
وأخيراً، وبعد سنوات طويلة من تخرجي، رتبت لنا الظروف أن نشترك في نفس لجنة (التزويد والاقتناء)، في بداية التأسيس لمكتبة الإسكندرية؛ وأبدى فرحته بوجودي في اللجنة. ثم التقينا كثيراً، بترتيب وعن طريق المصادفة، في كونسيرات أوبرا القاهرة التي كانت تنعقد في القاعة الكبرى لمكتبة الإسكندرية.
وأخيراً، نشأت بادرة اقتراب فكري أكثر، ودعاني مرات عديدة للقائه بعد تناوله الغداء في (أتينيوس)، وتناقشنا في جهود بُذلت لتسجيل تاريخ علوم البحار في مصر، وناقشني في بعض مشروعاتي الكتابية.
فسلام على روح سيد المروج البحرية، التي لا يراها إلا هو، وخلصاؤه!
من وحي كرة القدم المصرية الراهنة
لنا طريقة لعب فريدة ...
كل من يجد كرةً يركلها، في أي اتجاه. أحياناً إلى خارج الملعب، لتصل إلى ملعب مجاور، ومنه إلى ثالث.
كل من يرتدي فانلة وشورت وحذاء كرة قدم، أو حتى حذاء باليه، ينزل إلى أرض الملعب. يجري قليلاً حتى تتقطع أنفاسه، ثم يتوقف، وينتظر كرةً، ليركلها وهو غير متأكد من اتجاه المرمى.
أحياناً يتيسر لبعض اللاعبين أن يشاركوا اللعبة بملابس رسمية كاملة، ونظارة شمس، ويروحون يتمشون على النجيلة الخضراء، ويتبادلون التحية مع من يقابلونهم من ذوي الملابس الرياضية.
والملاعب بلا خطوط. ويحق لأي لاعب أن يغير موقع المرمى، وهو عبارة عن ثلاث خشبات متحركة، بلا شِباك. كما يحق له الاحتفاظ بكرة خاصة، فكرات اللعب عديدة، يدحرجها أمامه، ويستعرض بها مهارات فقيرة، ويرتكب أفدح الأخطاء مع أي لاعب آخر يجرؤ على أخذ كرته منه، ويسب من يطلب منه تمرير الكرة له، ففرصة التسجيل سانحة.
ولا تسأل عن تحكيم المباريات، فنحن إزاء نمط لا نظير له، يستوجب تحكيماً استثنائياً، يجري من خلال شبكة من كاميرات المراقبة، ترصد كل ما يجري من كر وفر وضربات طائشة.
فلسفة طاقم المراقبة: عفا الله عما سلف. ويستعين الطاقم على أداء عمله بثلاجة كبيرة، مزودة بأرفف كبيرة، ولها أدراج متعددة، شبيهة بثلاجة المشرحة.
طائر البحر
إخترتُ في بداية حياتي المهنية أن أكون أول من يُقدم على دراسة طيور البحر في مصر. كان ذلك بالعام 1975.
كنت مغرماً بها، وتحول غرامي إلى شغف برصدها عن بعد من ملامحها الخارجية، بل واشتريت نظارة مُقرِّبة من أجل ذلك. وتمكنت عن طريق أصدقائي من الصيادين المحليين أن أحصل على عينات من هذه الطيور تقع اعتباطاً ضحية خيوط الصيد.
غذَّى فيَّ هذا الاهتمام قراءتي المبكرة لترجمة رائعة تشيكوف المسرحية (طائر البحر) أو (النورس).
وكتبتُ أول مقالين عن طيور البحرفي اللغة العربية، على ما أظن، نشرتهما في مجلة (الدوحة) - إصدار رجاء النقاش.
ولما أبديت رغبتي في أن تكون دراستي للماجستير عن تصنيف طيور البحر في الساحل المتوسطي المصري، ظهرت علامة النفور والاستنكار على وجه الأستاذ المسئول، وقال لي: ما تعقدش الدنيا .. خلص نفسك حتى لو اشتغلت في الماجستير عن الطماطم .. في الدكتوراه، إلعب كما تشاء !
لازلت أشعر بالحزن لضياع طيوري البحرية مني .. وأيضاً، لأن الطماطم هي الموضوع المفضل للبحث العلمي في بلادنا.
علوم البحار
عند اختيار التخصص في بداية السنة الثالثة، لم أتردد إطلاقاً في اختيار علوم البحار.
كنت منبهراً بعمالقة علوم البحار: حسين فوزي وعبد الفتاح جوهر وأنور عبد العليم (مع حفظ الألقاب، وكامل الاحترام لهم جميعاً)، وكانت لي علاقة خاصة بالبحر، أو تهيأ لي ذلك، فقد كان يهنأ لي أن أتواجد بالقرب منه، فلا أشعر بالوقت. مع أنني لم أتعلم السباحة، وكنت اكتفي بالوقوف في المياه قليلة الغور.
وكانت جدتي لأمي قد حكت لي في طفولتي المبكرة (حدوتة) عن سر ملوحة مياه البحر، ملخصها أن زمرة من الأشرار سرقوا آلة سحرية تنتج الملح، وركبوا سفينة ليهربوا بها، ولم يصبروا حتى ترسي بهم على شاطئ آخر، فراحوا يشغلونها، فامتلأت السفينة بالملح، ولم يعرف الأشرار طريقة إيقافها، فاستمرت تنتج الملح حتى غرقت بهم سفينتهم، ولا تزال تلك الآلة تنتج الملح حتى الآن!
لا أستبعد أن تكون حدوتة جدتي تركت أثراً في نفسي، وكانت وراء شغفي بالبحر.
ومن حكايات البحر التي أثرت فيَّ أيضاً، حكاية جارنا (أبو النور)، وكان شاباً رياضياً، وبطل في السباحة والغطس. وتطوع للخدمة في القوات البحرية، وبينما كان يؤدي عملاً اعتيادياً على سطح سفينة حربية، سقط في الماء، ولم تظهر جثته أبداً. وظللتُ زمناً طويلاً اتخيل مصير أبي النور.
ثم قرأتُ (طائر البحر) لتشيكوف، فاعجبني أن أديبا يستدعي كائناً بحرياً ليدير حوله مسرحية بديعة، وتمنيت أن أفعل كما فعل تشيكوف، وكانت بوادر الكتابة قد ظهرت عليَّ.
وأمضيت السنتين الثالثة والرابعة أدرس مختلف علوم البحار .. فعلوم البحار ليست علماً واحداً، وإنما مجموعة علوم متداخلة متكاملة: البيولوجيا والفيزياء والجيولوجيا والتصنيف والإحصاء والكيمياء.
كانت الدراسة ممتعة، في وجود باقة تاريخية من الأساتذة العماليق. ثم تخرجتُ لأعمل في مجال تخصصي، بالمعهد القومي لعلوم البحار والمصايد.
لقد عرفتُ أسراراً كثيرة عن البحار، غير أن سر ملوحة البحر لا يزال مرتبطاً عندي بحكاية جدتي!
أبناءُ الحنان الصيفيّ
أجيال عديدة يُقدَّرُ عددُها بالملايين من المصريين هم (أبناء الحنان الصيفي).
والحنان الصيفي هو عنوان قصة مهمة كتبها الكاتب الراحل أحمد الشيخ، ترصد ظاهرة سفر الأب، وأحياناً الأبوين معاً، للعمل خارج مصر، وترك الأبناء، لا يرونهم إلا في عطلة الصيف.
وأعتقد أن تنشئة الصغار في غياب أحد الأبوين، أو كليهما، له آثاره النفسية الشديدة على الأبناء. وثمة أبحاث اجتماعية ترصد هذه الظاهرة.
حكت لي سيدة تعمل في إحدى دور النشر الكبيرة في القاهرة عن صديقة لها تركها زوجها وسافر للعمل في دولة أفريقية، وطال غيابه، فعرفت طريقها إلى السقوط. وكان لها ابن يغادر طفولته، هيَّأت له الظروفُ أن يضبط أمه مع عشيقها. وفوجئت الأم بابنها يبتزها، ويستولي على مبالغ نقدية كبيرة، فعرف طريقه هو الآخر إلى السقوط في هوة المخدرات. ثم استولى على مفاتيح سيارة أمه، وانتهي به الأمر إلى سقوطه ضحية حادث تصادم مروع.
هي فاجعة فردية، ولكنها ذات دلالة. كما أن هذه الفاجعة قد وجدت من يحكيها وينقلها، فماذا عن فواجع أخرى طواها الصمت؟.
وبعيداً عن جو الفواجع، يمكننا أن نتوقع جانباً ممن يقومون على شئون المجتمع الآن هم من أبناء الحنان الصيفي، الذين جرت تنشئتُهم في غيبة مناخ أسري متكامل، قد يكون نجح في الوفاء باحتياجاتهم المادية، لكنه فشل بدرجة أو بأخرى في منحهم التوازن النفسي المطلوب لخلق إنسان سوي، يحسن التعامل مع المجتمع.
وأعتقد أن جانباً مما كابدناه مؤخراً، ونكابده، من اضطرابات اجتماعية وسياسية، مبعثه أنماط من غير الأسوياء نفسياً، الذين لم يتهيأ لهم أن يتذوقوا حنان الأسرة إلا في العطلات الصيفية.
الضبع !
جندي قنائي، في شراسة اسمه عند الضرورة؛ وفي غير ذلك، فهو طفل أبله، يمكنك أن تسخر منه، ويسمح لبعض الجنود، على محمل الهزر، بصفع قفاه.
كان يحب أن يجلس ليأكل معي، ويقول لي: باتآنس بيك زي آخويا الكبير ..
وكان يسألني عن أسرتي، وعن دراستي، وعن الإسكندرية.
وكان يرحب بأي خدمات يؤديها لي، حتى إن كانت التزويغ من السرية ليشتري مجلة صدرت حديثاً، أو طعاماً (ملكياً)، نتعشى به سوياً. وكان مطمئناً إلى أنني أحمي ظهره في تزويغته، التي كان يعود منها، في كل مرة، فأعرف من حالة بنطلونه أنه تحرش بالنساء في وسائل المواصلات العامة، فقد كانت البقع الدائرية الجافة تفصح عن طبيعتها!.
وذات يوم، أخذ يرسم لي الضبع خطة محكمة لسرقة بندقية آلية روسية الصنع، وتهريبها إلى قنا.
قال: أولاً، لا نريد الأذى لزملائنا في السرية. سنأتي بها من جندي في وحدة مجاورة أثناء نومه في الخدمة.
قال: سينقلبُ الجو. أقوم بدفنها في الرمال بعيداً جداً فلا يشك بموقع دفنها أحد.
وقال، بعد شهرين أو ثلاثة، وحين تُنسى البندقية الضائعة، نقوم بتفكيكها إلى أصغر وأقصر أجزاء ممكنة.
أما أسلوب النقل، ففي كل أجازة ميدانية، أخرج من السرية ومعي القطعة التي أنوي إخراجها، ومعها ربطات شاش طبي، وعمادات كسر في العظم. وأنتقى موقعاً خالياً في الصحراء، أخرج منه بساقٍ مربوطة بجبيرة كبيرة، وعصا أتوكأ عليها، بينما القطعة المهربة من البندقية في لفافات الجبيرة، التي تنطلي على الشرطة العسكرية، فلا يشكون في، بل يساعدونني لأجلس، سواء في القطار الحربي، أو في قطار الصعيد.
كانت كل تفاصيل العملية عندي، ولم أكن على يقين من أن الضبع قد (فعلها) فعلاً، أو هو يختبرني كأمين على سره، أو ربما كمشارك في (مشروعه).
لكن (الضباع) في الجيش كانت كثيرة. ولا يكاد يخلو بيت صعيدي من قطعة سلاح واحدة، على الأقل.
إلهامي ...!
إلهامي، هو شخصية فريدة، عرفتها في حياتي، وهممتُ أكثر من مرة بأن أكتب قصة عنها، فاستعصت الكتابةُ عليَّ ..
كان جندياً في وحدتي العسكرية، من سكان القاهرة - إمبابة على ما أتذكر - وكان وجهه دائم الابتسامة، مليئاً بالحفر، ربما من تأثير مرض جلدي قديم.
كان أهم نشاط لإلهامي هو ألاَّ يبيت في موقع الوحدة، مهما كان الثمن، فيرشو رقيب أول السرية حتى لا يكلفه بنوبات (خدمة) ليلية، فيتيسر له أن (يكُتَّ)، أو يزوغ، ليقضي ليلته في القاهرة، وتجده في موعد أول طابور متواجداً. وكان يرشو أي شخص يمكنه أن يوفر له (تصريحاً) بالغياب عن الوحدة لأيام قليلة.
كنت أقول له أنت جندي نهاري!
وكان يبتسم. ولم أكن اشك في أنه يكن لي نوعاً من المودة.
تأكد لي ذلك عندما اقترب مني في أمسية من الأمسيات النادرة التي قضاها في الوحدة، وراح يسألني عن كتاباتي، وكيف أختار أبطال قصصي. وفجأةً، قال لي: أنا عندي قصص وشخصيات تفوق خيال أي كاتب.
قلت له: أنت، فعلاً، شخصية أتمنى أن أصورها في قصة لي ..
قال، وأنا مستعد أقول لك حكايات (تشيِّب) !
وراح يحكي لي ما فاجأني، وأجاب على تساؤلاتي حول لياليه القاهرية ...
قال لي: بصراحة .. أنا أنظم طلبات المتعة الجنسية ..
بعد أن أفقت من دهشتي، قلت: قوَّاد يعني ..!
فأعاد هو التسمية، ولكن بالعامية !
قال أيضاً إنه راضٍ عن نفسه تماماً، فهو لا يرغم امرأة على الدعارة، ولا يلبي غير طلبات الراغبين في المتعة، وبأسعار معقولة، ويحفظ للبغايا حقهنَّ، ويصون أسرارهنَّ.
أكَّد لي أن تجارته أشد رواجاً مما يتصور مُدَّعي الأخلاقيات، وأن ظروف الحرب، والسفر للخارج، حولت أعداداً كبيرة من ربات البيوت للارتزاق من هذه المهنة.
أصبحت، بعد هذه المصارحة، لا أعرف ماذا أفعل أو أقول إن جمعتني الظروف بإلهامي. لم أكرهه، ولكني صرت في حيرةٍ من أمري تجاهه .. أغلب الظن أنه أثار لديَّ حواراً جوانياً بين الدهشة من صراحته، والرعب من الحقائق التي توفرت له من (عمله).
وانتهت حيرتي تماماً بضبط إلهامي وشبكته.
تيتو سبق دوللي بكثير ..!
في جولة بمدينة استنبول، انتظاراً لموعد قيام الطائرة، كان معي رفيق رحلة صربي، وبينما نحن نتناول طعامنا، قال لي:
- سأفاجئكَ .. هل تعلم أن (تيتو)، صديق ناصر، لم يكن هو تيتو الحقيقي؟
قلت له: لم نعرف غير تيتو واحداً ..
قال: نحن أبناء يوغوسلافيا السابقة نعلم أن تيتو، الزعيم العمالي الحقيقي، كان بلا خنصر في يده اليسرى .. قُطع في معركة. ودعاه الاتحاد السوفيييتي لأمر سياسي، وبقي هناك بعض الوقت، وعاد تيتو الذي تعرفونه، وقد عاد إليه خنصره.
سألته: وما المغزى ..
قال:لا تعتقد أن استنساخ الكائنات الحية بدأ بالنعجة دوللي .. إنه آلية من آليات المؤسسات الاستخبارية العاتية.
قلت له: على أي حال، يمكن أن يتم الاستنساخ بغير دخول في حكاية خنصر اليد أو إبهامها.
فهل كان ما قدمه لنا ناصر نسخة مُقلَّدَة من جوزيف بروز تيتو ؟!
ملاحظة: كان ذلك الرفيق في استنبول صربياً، بينما تيتو كرواتياً.
هيّا بنا ننقرض
هذه دعوة تقدمها لنا حركة معروفة بالحروف التي تختصر اسمها VHEMT وتُنطق "فيمت"، وترمز هذه الحروف إلى "حركة الانقراض الطوعي للبشر" (Voluntary Human Extinction Movement). وهي ليست منظمة أهلية، بل يمكن اعتبارها توجهاً فكرياً يتبناه نفر من المهتمين بشؤون الحياة على سطح الأرض، ينفون عن أنفسهم أن يكونوا من مبغضي البشر وأعداء النظام الاجتماعي، أو من أنصار المذهب المالتوسي الداعي إلى وجوب ضبط النسل، الذين لا يأبهون لما يحيق بالبشر من كوارث. ويظنُّ الفيمتيون أن دعوتهم إلى التعجيل بانقراض الإنسان هي البديل "الإنساني" لما يتعرض له البشر من كوارث.
وليس لحركة "فيمت" مؤسس محدد، ولكن الذي أعطاها اسمها أميركي اسمه لس نايت، وليس لها رئيس أو متحدث رسمي باسمها. ويدعي الفيمتيون أن عدداً كبيراً منهم كانوا من الدعاة لانقراض الإنسان حتى قبل أن يعرفوا شيئاً عن "فيمت"، وأن لديهم حساً غريزياً بالعدالة، هو الذي يوجههم إلى تحمل مسؤولية هذا الخيار. ويقولون إنهم يُساء فهمهم حين يعتقد البعض أنهم لا بد أن يكونوا كارهين للبشر، وأنهم يريدون أن ينتحر الناس أو يروحوا ضحايا لمجازر بشرية ضخمة. وهم يدعون إلى طريقة أخرى لتقليل أعدادنا، هي الامتناع الطوعي عن إنتاج ذرية، فتنقص أعدادنا تدريجياً إلى أن نتلاشى. ويعتبرون ذلك أفضل الحلول لنا وللكوكب الذي نعيش فيه.
الفيمتيون إذاً هم ضد أي انقراض مقصود لأي نوع. بل إن حركتهم تناهض جهوداً تعمدُ إلى انقراض الأنواع وإبادة البشر، ومنها: إنتاج الأسلحة واستخدامها في الحروب، وإنتاج السموم ومنها البتروكيميائية والنووية، والاستغلال الجائر للموارد الطبيعية والبشرية.
وعندما سُئلوا: هل يخدم أغراضكم ظهور أنواع جديدة من الفيروسات واشتعال الحروب واندلاع المجاعات وتزايد المخلفات السامة؟ كان الجواب أن الحقيقة هي العكس تماماً. فالأوبئة لا تقضي على نوع ما، بل تقويه. البشر على سبيل المثال يفوق تعدادهم 7 بلايين إنسان، ولا يوجد فيروس يمكنه القضاء على كل هذا العدد المنتشر على سطح الكرة الأرضية. وإذا نحن افترضنا أن وباءً ما اكتسح 99.99 في المئة من الناس، فسيبقى منهم 650 ألف إنسان، هم الـ 0.01 في المئة المتبقي، يكتسبون مناعة طبيعية ضد الوباء، ويمكنهم العيش والعودة للتوالد، لتستمر الحياة، وفي أقل من 50 ألف سنة يسترد البشر وجودهم على نحو ما هم عليه الآن. ولكي يبقى تعداد البشر ثابتاً على الوضع الحالي، يجب أن يتعرض 200 ألف إنسان لمرض مميت كل يوم. هكذا، الحل ليس في المعاناة، ولا في الموت، ففيهما أذى.
ومن جهة أخرى، قضى ملايين الناس نحبهم في الحروب العديدة التي مرت بالبشرية، ولم ينقص ذلك من تعداد البشر، بل إن الحروب تشجع كلاً من المنتصر والمهزوم على العمل لاستعادة ما فقده من قوة بشرية.
إذاً، لمصلحة الحياة على سطح الأرض، ليس أمامنا نحن البشر إلاَّ أن ننقرض طوعاً.
الأرباب لا يتحاربون
يوجد في العالم نحو عشرة آلاف ديانة، من بينها 150 ديانة يزيد عدد أتباع كل منها عن مليون (مؤمن)!
جميع المؤمنين يؤمنون بوجود الله، أي أن ثمة 150 إلهاً، على الأقل، موجود، فلماذا لا يتصارع هؤلاء الآلهة أنفسهم، بما يمتلكون من قدرات فائقة، ليضعوا حداً بين صراعات تابعيهم في الأرض، وسعي كل مجموعة تابعين لإله منهم لأن يصفوا أو يتخلصوا من الآلهة غير إلههم، وأتباع تلك الآلهة؟!
إنها حرب جديرة بالآلهة، فهم أصحاب المصلحة الأولى، ويطمع كل منهم أن يكون الإله الأوحد؛ فلم لا تراهم يتحاربون ؟
ألا يشير ذلك إلى حمق العداوات بين البشر مختلفي الأرباب؟. أربابهم مختلفون، لكنهم متصالحون، بينما الحمقى من عبادهم هم الذين يسعون لاحتكار بالإيمان بإله، يوجد إلى جوارة 149 إلهاً آخر، يتمتع كل منهم بقوة قادرة على إنهاء نفوذ أقرانه من آلهة، ومع ذلك لا يفعلون !
الرياح تملأُ الأشرعة الرمادية
ذلك عنوان مجموعة قصصية صدرت لي في سلسلة (المواهب) – قطاع الآداب – المركز القومي للفنون والآداب – وزارة الثقافة – القاهرة – 1986
أو بالأحرى، هو العنوان الذي وضعتُه أنا، وغيره أصدقاء أعزاء إلى (الأشرعة الرمادية) فقط.
والحمد لله أن ظلت (الأشرعة الرمادية) في العنوان، فقد كان ترجمة للروح العامة في المجموعة، حيث كانت مساحة اللون الرمادي قد اتسعت جداً، وتباعد الأبيضُ عن الأسود تباعداً كبيراً، في ذلك الزمن من رئاسة واحد من (صبيان) السادات، فرضه علينا نائباً للرئيس، ثم حوله (عزرائيل) إلى رئيس متخبط، كان كل أمله أن يُعين محافظاً، فوجد نفسه في الكرسي العالي.
لاتزال أشرعتنا رمادية، ويجب أن نسلم بأن اللون الرمادي هو اللون المفضل لجميع الإدارات في العالم، على مر التاريخ، فمن الصعب في الغالب الأعم، أن تدرك عيناك لوناً أبيض صريحاً، أو أسود مؤكداً.
لكن اللون الرمادي لا يرضي كثيراً من الناس، الذين يترجمونه إلى (عكارة)، أو انعدام شفافية. وتتجسد خطورته في أنه قد يودي بك إلى مصايد رمال متحركة، أومناطق (زلقة)، ففي الضباب الرمادي يصعب كثيراً أن تتبين الاتجاه السليم، أو الخطوة القادمة باتجاهك، أو أن تتحسب لقادمٍ ينوي اختطاف خبزك، أو روحك.
هي معادلة صعبة، حقيقةً:
كيف تتحول إلى كائن رمادي متآلف مع البحر والأشرعة ؟!
كائنات الأرياف الجانبية
كانا، في نهاية الندوات، يحرصان وهما يسيران عند الذيل على خيطٍ واهن يربطهما إلى (الكبار) الخارجين من الندوة لقضاء بقية الأمسية في مقاهي الكورنيش ..
في المقهي، كانا يحرصان على التزام المقاعد الطرفية أو الخلفية، ليس فقط تهرباً من احتمال التحرج عند (دفع الحساب)، وإنما - قبل ذلك - لأنهما كانا، ولا يزالان، أضحل من الخوض في أحاديث تدور بين (الكبار)، فيكون التزام المقاعد الخلفية، ومعها التزام الصمت، حتى انفضاض لقاء المقهى.
أحدهما كان يحبو في عالم الصحافة، وكان مقبولاً للجميع، لطيبة بينة في معدنه، وحرصه على أن يعرف وعلى أن يتعلم.
الآخر، وبينهما صلة نسب، قادم من أرياف جانبية (الأرياف التي زحفت عليها المدن الصغيرة، فدهست شخصيتها، بل مسختها، فلم تعد قرىً، وليس بها مقومات مدينة .. وكما دُهست ومُسخت شخصيات تلك الأرياف التي أسميها جانبية، دُهست ومُسخت شخصيات وأرواح ونفوس من كانوا فيها ومن نزحوا إليها ..
وكانت تلك المدهوسات الممسوخات تتحين الفرص للقفز خارج القفص النتن، فكان للإسكندرية نصيب كبير من تلك النماذج البائسة المسكينة المريضة الممرضة (كأنهم من الزومبي)، وتوسلوا لإيجاد جذور لهم، وكان تبادل الزيجات وسيلتهم الأهم.
نشأت علاقة نسب بين الأول والآخر، واختار الأول أن يبدأ مشوار حياته صحافياً، فبدأ في مجلة ساداتية تعاني (الجذام) منذ أسسها (رب العائلة المصرية بطل الحرب والسلام)!
وانتقلت عدوى فيروس زومبي الأرياف الجانبية إلى الصحفي الذي لم يكن شيئاً أبداً، وتعلم أساليب التمسكن وابتزاز العواطف، حتى (إلتصق) في وظيفة دنيا بهيئة ثقافية كبيرة في الإسكندرية.
فعل أي شيئ وكل شيئ، واستعان بخبث وخبرات انتهازية نسيبه في التسرب داخل موقعه الجديد، حتى أتاحت له ظروف نهاية الفترة المباركية، وفيها تحولت تلك المؤسسة الثقافية الكبرى إلى عزبة وتكية، ترحب بمن يبدي استعداده للـ (خدمة). وذلك استعداد طبيعي عند الزومبيين القادمين من الأرياف الجانبية: (أنا بتاعك يا بيه!).
وجاء أوان رد الجميل، فأعطى الصحافي الذي ظل مبتدئاً منذ بدأ (زقة) لنسيبه، الذي كانت لديه مهارات التصاق شبيهة بقدرات (قملة الدولفين)!
ويحسب المراقبون أن المسكينين نجحا، وأنهما أفلتا من مناخ الأرياف الجانبية وأخلاقياته، غير أن الأحوال تتبدل، والأيام دُولٌ، كما أن أخلاقيات الأرياف الجانبية مسألة جينومية، قد يتمكن من يحتفظ بها في جينومه من إخفائها لبعض الوقت، ولكن ليس لكل الوقت ..
ديموقراطية كرة السلة !
كرة السلة لعبة رياضية فريدة، لاعبوها هم أكثر الرياضيين ركضاً، يجري الواحد منهم عدة كيلومترات في زمن أشواط المباراة.
لعبة تظل فيها (سلة) كل من الفريقين المتنافسين معرضة لرميات كل منهما طول الوقت.
يقبل كل من المتنافسين أن تصاب سلَّتُه، ويسعى ليصيب سلة الآخر.
يظل (اللعب) سجالاً .. أصيبُ وأُصابُ، إلى أن ينتهى الوقتُ بفارق إصابات لصالح أحد الفريقين، لا يزيد أحياناً عن نقطة واحدة، تكفل له الفوز.
لماذا لا ننتهج ديموقراطية كرة السلة، فيحاول كل فريق حماية سلته، وغزو سلة الآخر؟.
إن لم يتحقق أسلوب كرة السلة، لن يكون في الملعب إلا سلة واحدة، ولاعب واحد يظل يسجل إصابات بلا فعالية ولا طعم .. ولن يكون هناك (حكام) .. ولن يكون ثمة مشاهدون.
لاعب واحد يمسك بالكرة، سعيداً بذاته، يسمع هتافاً يأتيه من مدرجات خاوية!
رأي ..
أبدأ فأقول أن لا شبهة انحياز سياسي تلتصق بي، ولا مصلحة مادية أو معنوية تسيِّرُ تفكيري وتصنع رأيي، فلا أبتغي من الدنيا، وأنا أغازلُ السبعين من عمري، جاهاً ولا مالاً.
كما أقول إن أحداً لا يمكنه المزايدة في مواجهتي: دوراً وطنياً، وحياةً عملية، وإسهاماً في الحياة العامة.
كما أقدِّمُ أنني لم أمل، طول الوقت، لأن يحكمني رجل عسكري النشأة و(الفكر)، وعلى هذا الأساس لم أشارك في اختيار الرئيس الحالي، عملياً، أي أمام صندق الانتخابات، بل إنني كفرت بحقيقة الحياة الديموقراطية منذ زمن بعيد جداً، ولم أستخدم بطاقتي الانتخابية منذ أن توجهت بها إلى لجنة الانتخابات لأعطي صوتي لنائب الشعب: المرحوم أبو العز الحريري!
لكنني أرى الوضع الحالي بمكوناته الآتية:
= رئيس دخل (الاتحادية) بعد أن طرد منه رئيساً منتخباً، جاء بعد ثورة شعبية عارمة، سرقتها جماعة ينتمي إليها، وصدَّرته فصار رئيساً لشعب يغيب عقله تماماً وهو مستسلم لاستنشاق دخان الدين.
= تمنيتُ (لو) أن المطرود كان أهلاً، أو لديه الحد الأدنى من الأهلية، ليدير شئون البلاد، ويأخذ فرصته في الحكم لمدة دستورية، ثم تدور عجلة الديموقراطية، ونعرف معنى تداول السلطة، ليأتي صندوق الانتخابات بآخر أكثر كفاءةً واحتراماً. لكن المطرود وجماعته كانوا أصغر بكثير من مسئولية حكم مصر، وكادوا أن يجرجروها إلى مزالق مهلكة.
= وأنا أعلم أن كلمة (انقلاب) سيئة السمعة، بالرغم من أننا نستخدمها في التعبير عن الصيحات الجديدة في مجالات التكنولوجيا وعند ظهور نظريات علمية جديدة، لكنها كانت - كفعل - الوسيلة الوحيدة للتخلص من سوء اختيار شعبنا (الطيب)!
= وبالرغم من أنني من المؤمنين بشدة بأن التطلعات (الشخصية) من المحركات الرئيسية لسلوكيات البشر، إلا أنني أستبعد أن تكون هي المحرك الأول للرئيس الحالي، وهو يطرد الرئيس السابق الفاشل. ولا أريد أن أدلل على صحة ما حدث بأن الشعب (وافق) عليه، فمن المستحسن، من الآن فصاعداً، استبعاد أهالينا (الطيبين) من أي معادلة قوى.
= إذن، فيجب - منطقياً، لا هوائياً - الاعتراف بفضل الرئيس الحالي في تخليصنا من مأزقنا التاريخي الذي صنعناه بطيبتنا و .. (دروشتنا)!
= أصبحنا، بعد أن خلع الطاردُ لباسه العسكري، وارتدى الحلة المدنية، وأعلن عدة (استحقاقات) تم تنفيذها، مهما اختلفت رؤانا حولها .. أصبحنا أمام رئيس جديد، فرض نفسه، أو فرضته الظروف، وقلنا له (نعم).
= وأعتقد أن الرئيس الجديد وجد نفسه في موقف لا يُحسد عليه، عبر هو نفسه عنه بقول ذي دلالة، حين أشار إلى أن مصر ليست دولة، وأن أمامها نحو عقد أو أكثر من الزمن لتصير دولة. وهذه إشارة لا تصدر إلا بعد (صدمة) قوية حين تكشفت أمامه حقيقة أحوالنا.
= تكالبت عدة ظروف أمام الرئيس الجديد، الذي لم تكن إقامته في الاتحادية (وردية)، وأصوات التفجيرات الانتحارية لا تتوقف، ومسائل خانقة، كأزمة مياه النيل، تؤرق ليله ونهاره، وشعب يتزايد تعداده، تتخطفه كوابيس نقص الغذاء والمياه وفرص العمل والخدمات الصحية وسوء نوعية التعليم، وغير ذلك.
= صاحب ذلك شكوك أحاطت بقدرات التنفيذيين الذين توالوا على كراسي الوزارات، وضغوط من (المانحين)، عرباً أو مؤسسات مالية دولية، وتبدلات في علاقات مصر بدول مشرق العالم ومغربه.
= فهل كان بمقدور أي (بديل) أن يمضي في مسار مختلف؟
= وهل بمقدور أي (بديل) مطروح في الساحة السياسية الآن، بمن فيهم رموز (الإسلاسيين)، إن افترضنا أن ثمة فرصة أمامهم للعودة، وبمن فيهم أيضاً، المتشحون بالسواد المباركي اللعين، أن يتحمل المسئولية، ويعلن (أجندة) أو (برنامجاً) لعلاج هذه (الدايليمَّا)؟
= لا أعتقد.
= وأعتقد أن الرئيس الحالي سيكون عليه أن يستمر في رحلته بين قمة الجبل وسفحه، محملاً بصخرة المسئولية!
أنت لا تصرخ في وجهي .. هذا قفاي!
أفادتني الدراسة في كلية العلوم كثيراً.
من المواد التي درستها، المصطلح وطرق التجريب (Terminology & Methodology) وكانت تدرسها لنا أستاذة لا أنساها أبداً، اسمها الدكتورة تهاني سالم، تحية لها أينما كانت، فقد كانت سيدة غاية في (الشياكة الشخصية) .. لا أقول شياكة الهندام، ولكن شياكة الروح والحضور الشخصي. وكان شعرها فضياً منسقاً. لم أسمعها أبداً معنفة أو منفعلة، ولم يكن أحد ليستطيع أن يجعلها تتصرف بعنف. غاية في الدماثة والرقة.
وأنا أستعين بما تعلمته منها في هذين الفرعين البحتين من أفرع الكيمياء، في التعاطي مع أي مسألة فكرية، وليس في مجال العلوم فقط. فمن المهم جداً أن تحدد طريقة اقترابك من أي مسألة تتعرض لها، وبغير ذلك يضل عنك سبيلُك. كما أحاول أن أتبين طريقة الآخرين في معالجة القضايا، لأكتشف ما إذا كانوا يضمرون غير ما يبطنون. ويمكنك أن تخرج بالـ methodology إلى مجال استكشاف أسلوب حزب ديني، مثلاً، في التحايل على مسمى، أو مصطلح (الحزب الديني) - وهذه نقطة متصلة بالفرع الثاني: المصطلح - لينجو من قانون الأحزاب في مصر الذي يحظر تكوين أحزاب ذات صبغة دينية. وهكذا ..
أما عن المصطلح، فإن تحديده الصارم في العلوم الطبيعية والتطبيقية يحتفظ لهذه العلوم بأساسها الصلب، فالإلكترون محدد، والأيون له صفاته، والحمض له خواصه، والقاعدة لها خواصها .. مثلاً. وغياب المصطلح أو اختلاف الرأي فيه، في الدراسات المتصلة بالإنسانيات، كالآداب والقانون، يطيح بنا إلى غياهب المتاهات.
إنني أحاول ألا أستغني عن تحديد المصطلحات في تعاملي الفكري، وأتوخاه في كتابات وأحاديث الآخرين، غير أنني كثيراً ما أجد كتابات وأسمع من الأحاديث ما تدور على هذا النحو، إن ترجمناها إلى لغة الكيمياء: ( .. إن الإلكترون ما هو إلا مادة قاعدية لها خواص الأحماض العضوية، وهو بذلك يختلف عن الأيون، الذي يقترب كثيراً من صفات الحمض، ويتحول إلى إلكترونات حرة، إن عالجناه بقاعدة!. إنني لا أبلغ كثيراً في هذه الترجمة. فإن أضفنا إلى ذلك (ضياع اللغة)، بناءً وأسلوباً، أُطفئت أضواء طريق التفاهم !
إننا، أصدقائي، لا نفعل إلا الصراخ في وجوه وأقفية بعضنا البعض.
أنواع الإنسان
أعتقد أن على علماء التصنيف أن يأخذوا برأيي في تصنيفي الجديد لما كان يُعتقد قديماً أنه نوع بشري واحد:
1 - هومو سابينس .. وهو الأصل.
2 - هومو إليكترونيكاس.
3 - هومو ديجيتاليس.
4 - هومو كيميكاليس.
5 - هومو كونصمشيوناليز.
6 - هومو أرابيكاليازي.
والأخير لم يتعرف عليه كل علماء التصنيف، ومع ذلك فهو أقرب الأنواع الستة للانقراض.
كلُّ ذلك البِشر .. كلُّ ذلك الأمل ..!
كلمتي في افتتاح أول مؤتمر ثقافي يتم تنظيمه في مصر، في أعقاب ثورة 25 يناير، بحضور وزير ثقافة الثورة الدكتور عماد أبو غازي. كلمة ذات بِشْــرٍ .. مفعمة بالأمل. فماذا حدث لي الآن ؟!. وماذا جرى للوطن ؟!
أتيلييه الإسكندرية - المؤتمر السادس
مستقبل الثقافة – ثقافة المستقبل
12/13 مايو 2011
صبـــاحٌ ســـكندريٌّ بهيج
في زمــنٍ مصريٍّ جديد
صحيحٌ أن الوطن يعاني أعراض ما بعد الجراحة، بعد أن بتـر أسقامَه، لكنه لن يلبث أن يتعافى منها.
واجتماعُنا اليومَ وغدا هو محاولة منَّـا لمراجعة أجندة الثقافة المصرية، تأمُّـلاً لما نتصوره من ملامحها في المستقبل المنظور، لنعمل على تحقيقه، لنسهمَ في إصحاح بدن الوطن، ونعظمَ من مناعته ضد أشكال الفساد والطغيان، ولنكون جديرين بالعيش في هذا القرن، ولا نستمر هاجعين في هامش الكون، مثلما كان حالنا في القرن العشرين.
لا ندّعي أننا أحطنا بكل جوانب هذه الأجندة؛ ونعتذرُ عن أي تقصير قد يجده ضيوفنا فيما ذهب إليه تصوُّرُنا عن طروحات هذا المؤتمر؛ ولكننا سنكون راضين إن نجحنا معا، متحدثين ومحاورين، في إثارة بعض علامات الاستفهام القديمة والحديثة، وإزالة الأتربة عن جانب من القضايا المسكوت عنها وعليها.
فمرحبـــا بكم، أيها المواطنون المصريون، في هذا الصرح الثقافي الفني التاريخي : أتيلييه الإسكندرية .. وأتمنى لكم مؤتمراً يرقى الأداءُ فيه إلى مستوى أداء الشعب المصري العظيم، في 25 يناير.
في المركز القومي للترجمة
كانت سفرية للقاهرة اليوم طيبة، إنتهت بالرجوع في ديزل (VIP)، مرة .. من نفسي.
قابلت في المركز القومي للترجمة مديره الجديد. كنت أنا أول زائر لمكتبه، في أول يوم، بل أول ساعة له. أعادت المقابلة لي الأمل في أن تنصلح أحوال هذا المركز الخطير.
وبعد هذه المقابلة المفعمة بالطاقة الإيجابية، ذهبتُ إلى إدارة الجوائز لأسترد النسخ من كتابي (المتحكمون بأقوات البشر)، وهو من إصدار المركز نفسه، وكنت قد تقدمتُ به لمسابقة (رفاعة الطهطاوي) التي ينظمها المركز سنوياً، ولم أوفق، فطُلِبَ إليَّ، منذ شهرين، أن أحضر لاستلام النسخ من الكتاب.
فوجئتُ بأن النسخ (أنظف مما كانت)، بل إن واحدة منها بقيت على حالها، مغلَّفةً بالغلاف البلاستيكي الذي تحيط به مكتبة المركز مبيعاتها. أي أن أحداً لم يفحص الكتاب. الأمر الذي يؤكد أن (النية) كانت (مبيتة) لمنح الجائزة لمترجم بعينه.
أنا لا أشكو لأنني لم أفز بالجائزة، فأنا مدرك أن كل جوائزنا الثقافية، تقريباً، سيئة السمعة، وعندما أتقدم لجائزة أضع هذا في اعتباري، وأراهن على أن يحدث خطأ، فيصحو ضمير (حكام) الجائزة. لكن ما يزعجني هنا هو أن اللجنة المنظمة للجائزة كانت على درجة من الغباء، أو لعله (الفجور)، بحيث أنها لم (تفض) غلاف النسخة، حتى، ذراً للرماد في عيني، فتركتني أرى النسخة وقد استرددتها على حالها.
وشاركني قِطِّيَ (فلافي) تعجبي - وهو يفهمني جداً جداً، أنا واثق - فاقترب من النسخة (دليل الواقعة)، بتفحصها، ثم وضع رأسه على الأرض، وهي علامة يعرفها محبو القطط، فهي دليل على الحزن وخيبة الأمل.
6 أكتوبر .. معذرةً يا جميل ...
ظللنا لسنوات طويلة نتساءل: لماذا لم يُكتب عملٌ أدبي ملحمي، يقوم على واحدة من أهم (معاركنا) في حربنا مع العدو الإسرائيلي، على نحو ما أنتج الأدباء الأوربيون والأمريكيون بعد الحربين العظميين الأولى والثانية، والحروب الإقليمية الأخرى التي خاضتها بلادهم ؟!
أنا كنت أنضم إلى فريق يقول بأن هذا العمل، أو هذه الأعمال، لن يكتبها إلا مقاتلون، خاصةً أن مقاتلي أكتوبر كانوا هم خلاصة شباب الوطن، في كافة التخصصات، وشارك في العمليات الحربية - بالفعل - مقاتلون يشتغلون بالكتابة الأدبية، وأنتجو أعمالاً، كتبت على عجل، كما يسجل الفنان التشكيلي أفكار لوحاته في رسومات أولية، حتى لا تفقدها ذاكرته.
وكان رأيي، مع كثيرين، أيضاً، أن العمل الأدبي (الأكتوبري) المُرتجى لن يأتي إلا بعد أن يبتعد الأدباء المقاتلون بما فيه الكفاية عن ظروف المعايشة الفعلية، ليدخلوا في المعايشة الإبداعية.
وظللنا نردد ذلك كثيراً، وطال انتظارنا، ولكن شيئاً بالحجم والقيمة المأمولين، لم يتحقق. أنا شخصياً، ظللت زمناً طويلاً أتخذ من اللواء المهندس باقي زكي يوسف نموذجاً لبطل رواية تربط بين (ملحمة) بناء السد العالي، وملحمة أكتوبر، وكلتاهما - في رأيي - يعود الفضل فيهما لجمال عبد الناصر، فلم يكن السادات إلا مشاركا جاء بعد انتهاء الاجتماع التحضيري، وفي يده بطاقة دخول عرض سينمائي، قد تنفعه عن ضرورة البحث عمن يتحمل مسئولية فشل.
وكان بطل روايتي مهندسا عسكريا، شارك في الأعمال التحضيرية لتحويل مجرى النهر وإقامة جسم السد باستخدام آلات تهيل جبال الصخور والرمال، هي التي أوحت إليه بالآلات التي أهالت الساتر الترابي لخط بارليف. وأحكي من خلال هذا البطل التحولات التي شهدها المجتمع المصري منذ بناء السد، مرورا بالتحولات الاشتراكية، والتصنيع، وعلامات ازدهار بدأت تتضح ملامحها في المجتمع المصري، في كافة نواحي الحياة، حتى أوقفت نموها معركة 67، وما تلاها من موت ناصر، والدخول الميلودرامي للسادات إلى المشهد، ثم أكتوبر وانهيال الساتر الترابي.
غير أن ما أحبطني عن أن أستمر في مشروعي الروائي، وأحبط كثيرين غيري، أنهم فوجئوا بأن المجتمع الذي قاتلوا وفقدوا أصدقاءهم من أجل استرداد كرامته، والذي خرج لتوه من حرب منتصرة، ذهب إلى آخرين، وأهملهم، لحد أنهم غادروه إلى بلاد مجاورة التماسا للقمة العيش.
شعر الأدباء الذين كان يمكنهم إنتاج العمل الأدبي المنتظر أنهم كانوا يشاركون في مباراة شطرنج سياسية متفق على خطواتها مسبقاً، كما أن رئيس البلاد وقادته الكبار لم يكونوا ليسمحوا لبطولات عظيمة بأن تسجل في عمل إبداعي عظيم، فهم فقط من يجب أن يكونوا تحت الأضواء، وهم فقط من يجب أن نسبح بأفضالهم علينا وأن نسك من أجلهم ألقاباً مضحكة خالية من أي روح.
ومن ثم، راحت جهود إبداعية تسجل (خيبة الأمل) هذه، بدلاً من أن ترحب بآمال عريضة في دولة عصرية تخرج من حرب لتعيد بناء اقتصادها وتنطلق في سبيل التقدم.
فمعذرةً أكتوبر، فقد ضيعناك على كل المستويات.
نحن أفضل من يضيع الفرص، لنظل ندور في فراغ ونبكي على ألبان سكبناها بغباء ...
سالم بلهارسيا !
كان جندياً في سريَّة الحرب الكيماوية التي قضيت بها سنوات خدمتي العسكرية.
كان من قرية بشمال كفر الشيخ، لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وفوق ذلك، مصاب بالبلهارسيا!
من جاء به إلى سرية شغلتها الكيمياء؟!
بل، من سمح بتجنيده؟!
وكان قائد السرية يقدِّرُ ظروفه، فكان يظل طيلة يومه، نهارا وليلاً، في (الملجأ)، أو (الدشمة)، وحيداً، دون أن يلتفت إليه أحد.
كل نشاطه هو الخروج وقت توزيع (التعيين)، حاملاً آنيته، تُملأ له بالطعام، ويقفل عائداً إلى دشمته في نهاية أرض السرية. ولو كان مات هناك لم يكن أحد ليلاحظ ذلك، لأيام ..!
بل لقد حدث أن تحركت السرية إلى موقع آخر، ضمن خطة تحريك تمويهي للقوات، وتركنا سالم مع البلهارسيا في الدشمة النائية!
كان الجنود ينادونه سالم بلهارسيا!
وتوقعت منه أن يغضب لربط اسمه بالطفيل الذي أنهك المصريين طويلاً، غير أنه كان يبتسم لمزاحهم معه، ويبدو أنه كان راضياً باهتمامهم به، حتى وإن كان من خلال ربط اسمه بالدودة ..
ولا أستطيع أن أنسى لقاءً عابراً معه، حدث ذات ليلة غير مقمرة، وكنت أتمشى في أرض السرية، فوجدته يبرز أمامي من الظلام. كان ممسكاً بآنية طعامه، وكان يبكي. سألته عن سبب بكائه، فقال: كل يوم يجيبوا العشا (الطبخه السودا) .. ما فيش غِذا يا شاويش!
وكان قد اعتاد مناداتي بيا شاويش، كأنه قائدي الأعلى!
إبتسمتُ، ورتبتُ له ما أرضاه، وألقينا عشاء الطبخة السودا لكلاب السرية، فازورَّت عنه!
بطل القمل والبراغيث !
ربما لا يجرؤ غيري على حكاية مثل هذه الحكاية، التي أعتذر لذوي الأذواق الفائقة عن وقعها عليهم، ولكني أوردها لأنها كانت جزءاً فعلياً من حياة الجندية.
كنا قد انتقلنا بعد أيام من حدوث (الثغرة) إلى موقع قرب مدخل طريق الإسماعيلية القاهرة، مع وحدات أخرى تسببت الثغرة في إشاعة الاضطراب بينها، وكان اسم الموقع، كما كان يتداوله ضباط السرية هو (معسكر الشاردين)!. وكان يحزنني هذا الاسم.
ويبدو أن الاضطراب شمل (الشؤون الإدارية)، فلم يعد الإمداد بالمياه بالمعدل الاعتيادي، فشحت المياه. ويبدو أن ذلك كان مرصوداً من القيادة، إذ أصدر الفريق الشاذلي أمر ميدان يوجه الجنود لطريقة تنظيف أجسامهم باستخدام (نصف كوب ماء)؛ وكان ذلك مثار تندر كثير من الجنود، واحتجاج، فلم يأخذ كثير منهم الأمر على محمل الجد، حتى فوجئوا بأن أجسامهم قد تحولت إلى (مزارع تسمين) للقمل وبراغيث !
ومن خبرتي تلك، فإن قمل الرأس نوع آخر غير قمل الملابس، فالأخير غير معهود لدينا، وهو أشد شراسة، ويتكاثر بسرعة.
وكان أمامنا - نحن الشاردون - متسع من الوقت الفراغ، فكنا نجلس في الشمس (نفلِّي) أنفسنا، ونحصي عدد (مقتنياتنا) من القمل والبراغيث، حتى أن واحداً منا أعد زجاجة صغيرة، كان يُسقط فيها كل ما يُخرجه من رأسه وملابسه من قمل وبراغيث، وظل محتفظاً بها على سبيل التذكار.
وتطور الأمر بأن تساءل أحدنا عن إمكانية أن (نعمل مسابقة)، يكون الفائز بها هو صاحب أعلى رقم مسجل من القمل والبراغيث في جسمه. وأعددنا لجنة تحكيم تراجع إحصاء كل متسابق. وشيئاً فشيئاً، أصبحت المسابقة وسيلة تسلية لنا، وفي نفس الوقت تنظيف لأجسامنا، بغير نصف كوب ماء ومنديل، كما أوصى الشاذلي.
وللأسف، لم أفز ولا مرة واحدة بلقب بطل القمل والبراغيث، لأنني كنت أتبع نصيحة الشاذلي.
هنا تشكَّلتُ .. هنا تكوَّنتُ ..
كلية العلوم في محرم بك
تخرجت في كلية العلوم، جامعة الإسكندرية؛ وقضيت السنة الأولى في مبنى تابع للكلية بالشاطبي، أما السنوات الثلاث الأخيرة، فكانت بالمقر العريق، الشامخ كالقلعة، تصعد إليه بسلم بازلتي، تربو درجاته على العشرين عدداً، في شارع متفرع من شارع محرم بك، غير بعيد عن محطة السكة الحديد، ويعرفه قدامي سكان المنطقة بالعباسية.
أخذتني روعة المقر، بوحداته البنائية الأربع، تتوزع عليها الأقسام العلمية، إضافة إلى مبنى ضخم، يحمل اسم (على إبراهيم)، يضم المدرجين الرئيسيين، وبعض المباني الإدارية، وملاعب لكرة القدم والتنس، وحديقة نباتية عامرة. ولا زلت أتذكر نصيحة جاءت عابرة في استطراد تخلل محاضرة لأستاذ علم الحشرات، الأديب الدكتور يوسف عز الدين عيسى، قال : لكي تتحملوا دراسة العلوم البحتة الصعبة في هذه الكلية، عليكم أن تحبوا كل شيئ فيها، حتى أخشاب مدرجاتها العتيقة !.
وقد أنشأت وزارة المعارف هذا المقر في نهاية العام 1910، ليكون (مدرسة محرم بك الثانوية)، وبلغت تكلفته 132 ألف جنيه للمباني، و96 ألفاً ثمناً للأرض (64 ألف متر مربع). وبعد أربعة أشهر من بداية الدراسة فيه، جرى افتتاحه رسمياً، في 21 يناير 1911، بحضور الخديوي عباس حلمي الثاني نفسه، والأمير عمر طوسون، ورئيس مجلس النظار (الوزراء)، وبعض النظار، ومحافظ الإسكندرية. وتحدث في حفل الافتتاح أحمد باشا حشمت، ناظر المعارف، الذي فوجئ الحضور بتوجهه بالحديث للخديوي : " .. سندعوها من اليوم بالمدرسة العباسية، تخليداً لظهورها في عصرك المبارك !"؛ فقبل الخديوي ممتناً.
ولما اندلعت الحرب العظمى الأولى، تحولت العباسية الثانوية إلى مستشفى عسكري. وبعد انتهاء الحرب، عاد المقر للمدرسة العباسية، في أكتوبر 1919. ولم تلبث المدرسة أن أخليت مرة أخرى، ونهائيا، لتحتل مبانيها جامعة (فاروق الأول) الوليدة، التي استهلت بكليات العلوم والآداب والحقوق والتجارة، وقد بدأت الدراسة بها عام 1942؛ ثم استأثرت كلية العلوم بالمقر كله، بعد انتقال الكليات الأخرى إلى مباني خصصت لها. والآن، وبعد تطور الأقسام المتخصصة، بأنشطتها البحثية والتدريسية، وتزايد عدد أعضاء هيئة التدريس والطلاب، ضاق المبني التاريخي بهم، فتوسعت الكلية بمباني أخرى، في مواقع متفرقة من المدينة : مبنى الكيمياء بطريق الحرية، ومبنى علوم البحار بالأنفوشي، إضافة إلى مبنى (إعدادي) في الشاطبي.
لا أرى جيداً ..!
إلى سيادة (المشير) عبد الفتاح السيسي ...
أفندم ...
أنا رقم 5558050 - رقيب هـ. ع. رجب سعد السيد خليفة.
حكمدار فصيلة سطع كيما - قيـا فـر 6 مش ميكا
تجنيد 10/10/70 رديف 1/9/74
طالـب مكتـــب، يا أفندم ...
جئتُ لأقول لسيادتك، يا افندم، أنني غير مطمئن، ولا أجد أمامي مؤشرات تدعو للاطمئنان ..
فهل سيادتكم، بصفتكم الحالية كرئيس للدولة، مطمئنون لأحوالنا ؟!
هل اقتصادياتنا مستقرة ؟. هل احتياطياتنا النقدية والغذائية مؤملة ؟!
هل إنفاقنا العام في حدوده، بصفتنا دولة في ورطة اقتصادية ؟
هل يمكن أن تتاح لنا درجة من الشفافية، فلا نُترك نتخبط في ظلمات الشك، بحجة الحفاظ على سرية معلومات تمس الأمن القومي، وأن ثمة من هم مؤهلون للتعاطي ومختلف الأمور ؟!
لماذا لا تخضع الدولة، لا المواطنون المساكين، لإجراءات تقشف؟!. إننا، حتى، لا نعرف كم تنفق الدولة من ميزانيتنا التي نمتلكها جميعاً، وفيم تنفقه؟!
مثلاً: هل كانت هناك ضرورة قصوى لحفل باهت متهافت من الناحية الفنية، في مناسبة أعظم يوم في حياتنا المعاصرة: 6 أكتوبر؟!
كم تكلف هذا الحفل؟. أم أنه كان مدعوماً، كحفل القناة، من أشخاص يعرفون أين يذهبون بنقودهم؟!
ألم يكن من الأفضل أن تبحث الدولة، وهي قادرة، عن (أفراد) من جنودك، مقاتلي 6 أكتوبر، وتدعوهم إلى حفل شاي بسيط، تقول لهم فيه: شكراً .. بلدكم لا ينساكم؟!
سيادة الرئيس: نريد لك أن تنجح !
لذلك، طلبت مقابلتك عن طريق هذا الإجراء (الميري)، لأبوح لك بمحبتي، بطريقتي الخاصة، فأنا واحد من كثيرين جداً يريدون لك أن تنجح، ويريدون أن يطمئنوا على حال البلد، وأن (يروا) ما حولهم جيداً.
الخلاء والتكنولوجيا
من أغرب ما قرأتُ، في ملخص لرسالة دكتوراه في علم الاجتماع، أن قريةً في الفيوم لا تزالُ تسير على سنن الأولين، فلا تشتمل بيوتها على دورات مياه لقضاء الحاجة، وإنما يقضي أهلها حاجتهم في الخلاء، في المساء، بتراتب اجتماعي ثابت، إذ يخرج الرجال أولاً، بصفتهم القوامون على النساء، حتى في الإخراء، يليهم النساء مع أطفالهن.
لا أعرف ماذا يحدث في (خلاء) تلك القرية، ولكن المؤكد أنه (نظام بيئي) فريد من نوعه. والمؤكد أيضاً أن له (آلياته) في التعامل مع (المخرجات).
لماذا لا يتمسك كافة الناس (الأشد تديناً) بسنن الأولين، وينهجوا نهج تلك القرية الفيومية؟. لماذا يستخدمون أدوات الصرف الصحي الحديثة التي تنتجها تكنولوجيات ما كان الأولون ليقبلونها، فقد أتت بها الفرنجة؟!
إن التكنولوجيا لا تتجزأ، فهي ليست مجرد (أدوات) تستخدمها، ولكنها أسلوب فكر وحياة، إن اكتفيت بالمادي منه (الأدوات) أسأت استخدامها، لأنك غير متساوق مع الروح العامة للتكنولوجيا. فيا أيها الناس، إما أن تقبلوا التكنولوجيا جسداً وروحاً وفكراً، وإما أن تخرجوا إلى خلاء قرية الفيوم !
صديقي العزيز فلافي ...
أريد أن أكتب عن صديقي الحبيب (فلافي)، ولكني لا أستطيع بسبب انبهاري الدائم بسلوكياته الأرقى والأنبل، وازدياد اقترابه مني، ومن الأسرة كلها، حتى أنه ارتضى أن يتخذنا أهلاً له، ولم يغادر بيتنا، إلا لزيارات البيطري القليلة، أبداً. رضى بالسجن بين أحضاننا، وهو أشد ما يحزنني، فقد كنتُ أتمنى له حياة طبيعية، ولكنه عجز عن التوافق مع (الخارج) - وله حق طبعاً - واكتفى بنا رفاقاً.
وقد صار أعلم بنا من أنفسنا. تظهر عليه ردود أفعال تعكس إحساسه الرهيف بالتغيرات في أحوالنا الصحية والنفسية. وهو يوزع اهتماماته بنا، وفرض علينا، بنعومة فائقة، أدواراً نؤديها له ، بنظام: Lab. Division؛ فماما، مثلاً، أخصائية التغذية. لا يأكل الطعام الطري إلا من كفها، وعندما ينتهي من الأكل يلثم الكفَّ شاكراً. وهي أيضاً المسئولة عن تنظيف دورة مياهه ذات الرمال الماصة للرائحة. وعندما تخرج وتعود، فإن أول شيئ عليها أن تفعله هو أن ترفعه، وتحتضنه، ليمد رأسه ويلثم خدها، معبراً عن فرحته بعودتها للبيت.
ورشا هي أمه الروحية. علاقة نادرة من التفاهم الكامل. وهي التي تتعاون مع ماما في استحمام فلافي، وهي التي أتت به إلى بيتنا، إذ اشترته من دكان في مقابل 400 جنيه. ولا تزال تنفق راتبها تقريباً على فلافي. كما أنها مدربة الأكروبات له.
أما أنا، فلم يخطر ببالي يوماً أن أصادق قطاً، حتى حدث ذلك، والحمد لله، مع فلافي.
بالأمس، تقارب فلافي وحفيدي مالك كثيراً. لم يعد مالك يصرخ منبهراً عند رؤية فلافي، فيجفل الأخير. وحدث تفاهم بينهما بالإشارة والصوت الخفيض. وعندما وقع مالك وبكى، اهتز فلافي، واقترب مني وأنا أحمل مالك، فلما أنزلته إليه، بقي جالساً، وسمح له، لأول مرة، أن يمسح على فرائه اللامع النظيف.
سيسعد مالك بصحبة فلافي، وسينمو وهو مدرك أن دائرة الحياة من حوله فيها مخلوقات (أخرى)، أنقى وأرقى وأنبل.
شكراً فلافي ...
لم نستحم !
لماذا لم يوقِّع هذا (الولد الثورجي)، في تحرير يناير، على هذه المقولة الجدارية الحكيمة:
(التغيير على وساخه يجيب تسلُّخات) !.
كانت الوساخة في كل مكان. ولم نستحم .. غيَّرنا ملابسنا، بغير أن نستحم، فتحولت الأوساخ والقشف إلى تسلخات، لا تصلح معها (مراهم) .. محتاجين (شــــاور) من حمض النيتريك لإزالة الأوساخ المتراكمة في طبقات تحت ملابسنا التي نغيرها، مرة بعد مرة، على وساخة.
يقول المثل البحراوي: من برَّه ها اللا .. ها اللا .. ومن جوَّه يعلم الله!. ويقول الحكيم الصعيدي: من برَّه (طج/ طج)، ومن جوَّه (فاش) و(بج)!
يا أيها الولد التحريراوي الثورجي الينايري: قد تكون بين الشهداء المعروفين، أو المجهولين. قد تكون فقدت ساقاً أو ساعداً أو عيناً. قد تكون رهين الحبس أو الاعتقال.
في أي حال كنتَ، لك التحية، والاعتذار، فقد نبهتنا، ولم نستحم !
إعتــراف يؤكد (جنابة) جوائز الدولة !
فوزي بجائزة الدولة التشجيعية في الترجمة للعام 2011 دليل مادي على (عدم نظافة) لجان تحكيم هذه الجوائز، بصفة عامة !
طبعاً، الحمد لله أن فزت بالجائزة. وأنا فخور بكتابي الفائز (تبعات المستقبل - إقتصاديات عالم يحترُّ)، الصادر عن المركز القومي للترجمة. لكن فوزي بالجائزة كان (حدثاً عارضاً)، ترتب على وجود إنسان له ضمير حي، بين عصابة من (الفتَّجيّة) الأكاديميين المتخصصين في دراسات الترجمة. جاءوا، كالعادة، إلى الاجتماع النهائي لإعلان الجائزة وهم (متفقون) على (واحد منهم) ستذهب إليه (قصعة الفتة) هذه السنة. ومن مناقشاتهم، تبين لصاحب الضمير الحي أنهم لم يقرأوا كتابي، ربما باعتبار أنني قروي عبيط، كامن في خندقي البعيد، في تلك القرية الساحلية المسماة (راقودة). ثار الرجل في وجوههم، وعنفهم. وألقى بأوراقه في وحوههم بعد أن دافع (هو وحده) عن كتابي بشدة. وغادر اجتماع قصعة الفتة التشجيعية للترجمة.
ولأن اللصوص - والفتجية لصوص - هم بطبعهم جبناء، خافوا من ضمير الإنسان الحي، فتراجعوا عن تمرير الفتة لزميلهم، وأعطوها لي!.
أيها السادة .. بلا أدنى مبالغة: كثير من المثقفين والأكاديميين هم من أكبر الفتجية في بلادنا !
هذه شهادتي، وأعتذر بشدة لمصدر معلوماتي - ذلك الضمير الحي - ولكن كان عليَّ أن أداوم أذاني في مالطا .. في هذه (المخروبة) اللي اسمها مصر !
ما ألـذّ فطيــرتنــا .... !!!
افترض طومسون عام 1911 نموذجا للذرة يصورها كفطيرة موجبة الشحنة، والإلكترونات سالبة الشحنة مغروسة فيها هنا وهناك !
تخيلوا (لو) أن العقل البشري (توقف) عند فطيرة الإمام طومسون رضي الله عنه - وأنا هنا أدعو له فعلاً لأنه بدأ واجتهد وأعطى لنا تصوراً - ، ولم (يرفضها)؛ ولم يسع إلى تطويرها، ليصل بالنظرية الذرية إلى آفاق أرحب، جعلت الحضارة البشرية تقفز قفزات هائلة غير مسبوقة خلال قرن واحد من الزمان.
تخيلوا (لو) أن من جاء بعد طومسون من أتباع ومريدين (نقلوا) عنه، ولم يفتحوا نوافذ عقولهم لتفترشها شمس الإبداع !
لا أبالغ إن قلت أننا نحن المتخلفون لا زلنا نحرص أشد الحرص على ألاَّ نأكل إلا فطيرة طومسون، ونتخاصم حول حصصنا من الزبيب المغروس فيها، ونهدر دم من يقول بأن زمن طومسون قد ولَّى !!!
أنظر حولك .. كم "مزجنجياً" ترى ؟!
لا يمكن لأي إنسان، مهما كانت كمية (النشا) التي نُقِع فيها، إلا أن يتفاعل إيجابياً مع شخصية (مزجنجي) التي أبدعها الممثل القدير، بلدياتي السكندري محمود عبد العزيز.
الشخصية غاية في السوء من الناحية الأخلاقية، فهو مروج مخدرات، بل أسوأ، فهو يغش حتى المخدرات التي يروجها، وأسوأ أيضاً، فهو يروج (غناء) فاسداً، لتكتمل منظومته الفاسدة. ومع ذلك، فإن مزجنجي يحتفظ لنفسه بشخصية جذابة تلقى غطاءً على الأعين فلا ترى الفساد الضارب حوله وبداخله.
من أسباب تمكن الفساد في حياتنا وجود مئات الآلاف من المزجنجية في مختلف قطاعات الدولة.
مِخلتي ..!
"صورة قصصية"
تظل (المِخلَة) – المخلاة - عالقة بالمُجنَّد منذ أن يستلمها بمحتوياتها في مركز التجنيد (منذ أن يأمرُك الرقيب قائد طابور المستجَدِّين، كما أمر إسماعيل ياسين ورفاقه: مخالي شِــل)، حتى يُسلَّمها بمحتوياتها عند انتهاء زمن تجنيده. لا ترضى بغير ظهره مستقراً لها، فكأنه جُنِّدَ ليحملها أينما تحركت الوحدة التابع لها، وليحمل معها همَّ صونها حتى لا يعبث بها الجنود اللصوص.
أحياناً تكون المخلة مقعداً له. وقد يستخدمها وسادةً، ليس لأنها تصلح كمقعد أو كوسادة، ولكن طلباً للاطمئنان عليها وعلى محتوياتها. فالتفريط في المخلاة جناية عسكرية، وسُبَّة في جبين الجندي المفرِّط. رأيتُ بعينيَّ جندياً مُستجَدَّاً يحيط قدمه، أثناء نومه، بالرباط الحاكم لفتحة المخلة، فينتبه لأي محاولة فتحها والعبث بها وهو نائم!.
وتورِدُ المعاجمُ معنى المِخْلاَة - أولاً، وفي الأصل - ككيس يعلَّق على رقبة الدَّابّة يُوضع فيه عَلَفُها !. ثم تضيف المعنى الآخر: كيسٌ يحوِي لوازم ومُهمَّات الجنديّ !
ولم أكن أهتم كثيراً بمخلتي ومحتوياتها. كنت أطمئن إلى أنها (موجودة)، وإلى أنني عندما أحتاج منها إلى قطعة ملابس، أجدها. ولعل مرد ذلك عندي كان اطمئناني إلى أن علاقتي بمعظم إن لم يكن كل من خالطُّهم من جنود كانت قائمة على المودة والاحترام.
غير أن مخلتي لم تكن، فقط، للملابس العسكرية والمهمات، ولكنها كانت (رف) كتبي ومجلاتي، و(درجاً) لأوراق الكتابة والأقلام. وكان ذلك الجندي القنائي الطيب الرائع، رفيق (الدشمة) يعرف طريقه إلى مخلتي لينتقي منها مجلة أو مجلتين كان بقية الجنود في السرية يتداولونها معه (خلسةً)، من أجل صور نساء عاريات.
وقبل يوم أو يومين من انتهاء فترة تجنيدي التي امتدت لأربع سنوات، وهي في الأصل سنة واحدة، قال لي الرقيب المسئول عن (المهمات): سأتسلمها منك، شرط أن تكون بكل ما فيها من كتب ومجلات. وقد كان.
الغريب هو الشعور بعد (التخلص) من (صحبة) المخلة لأربع سنوات. شعور بالراحة بعد انزياح عبء، يخالطه قدر من الإحساس بالفقدان !
"القحبــةُ سِـــــتُّ جيرانها" !
تلقيت مكالمة منذ دقائق، علمتُ منها أن مناقشة حادة جرت في اجتماع لمجلس إدارة اتحاد الكتاب المصريين، بين عضو ورئيس المجلس.
تحدى العضو رئيس المجلس أن يثبت بالوثائق أنه حاصل على:
= بكالوريوس الهندسة.
= ليسانس الآداب.
= دكتوراه الآداب.
وأن السيد (الأستاذ الدكتور) رئيس الاتحاد المعظَّم وعد بإحضار الوثائق في الجلسة التالية، ولم يفعل حتى الآن.
لستُ مندهشاً، فخبرتي بالانتحال والمنتحلين طويلة طويلة .. مريرة مريرة. حتى أنني صرت لا أستبعد، مثلاً، أن يكون (أحمد زويل) قد حصل على الدكتوراه ونوبل، انتحالاً، أما الماجستير فأنا واثق منه، لأنه حصل على الدرجة وأنا في السنة الثالثة من الدراسة في علوم الإسكندرية !
لستُ مندهشاً، لأن في مصر (موضة) أكاديمية، هي الباب الخلفي لتسلل لصوص العلم والمنتحلين والمتاجرين بالدرجات العلمية والوظيفية الأكاديمية، وأقصد بها (اللجان الموازية) .. لجان تعطي لنفسها الحق في أن تحل محل لجان المجلس الأعلى للجامعات، في مجال واحد فقط، هو الترقية إلى درجتى الأستاذ المساعد والأستاذ.
أعرف أستاذ فلسفة تمت ترقيته ترقيةً (موازية) من مدرس إلى أستاذ، في قفزة واحدة جبارة، تشبه ألعاب القفز بالزانة !. أترك لكم تخيل (معاملات) و(تعاطيات) و(أسعار) هذه السوق الموازية!
ونحن لسنا في هذه (الخيبة) وحدنا، فالمؤكد أن (التدليس) صفة (كامنة) في الجينوم البشري، تنشط من وقت لآخر.
في منتصف الثمانينيات، جرب فريق من العلماء أن يراجعوا المقالات العلمية المنشورة في ست مجلات علمية ذائعة الصيت، فوجدوا أن بعض المؤلفين وقع في أخطاء الاقتباس والنقل من المراجع بنسبة 15%، كما ضبطوا 16 حالة تزوير علمي، معظمها في مجالي علوم الحياة والطب. ووجد أحد علماء جامعة أديلايد أن 2% من المقالات المنشورة في المجلات المتخصصة بعلوم الحياة، الصادرة في سنة واحدة، تمت إجازتها للنشر بعد إجراء تصحيحات جوهرية أوصى بها المحكمون، وأن بعض هذه التصحيحات جاءت بنتائج مناقضة تماما لتلك التي تضمنتها المقالات في صورتها الأولى!.
وفي عام 1986، نشرت مجلة "Nature" تفاصيل أكبر حملة لمطاردة الغش العلمي، قادها عالمان من معهد الصحة القومي الأمريكي، قضيا أربعة أعوام في مراجعة وتدقيق 129 بحثا علميا منشورا باسم الدكتور جون دارسي الذي كان يعمل أستاذا بجامعتي أموري وهارفارد، والذي اتضح أنه وصل إلى موقعه الوظيفي والعلمي المتميز اعتمادا على بيانات ومواد علمية ملفقة، في تخصص حيوي خطير، هو علم أمراض القلب!.
إن اللصوص والمدلسين، أيها السادة، جبناء بطبعهم؛ لكنهم إن باركتهم مجتمعاتهم بالغفلة والصمت، أصبحوا (وقحاء). ويقول المثل العامي البليغ: (القحبة سِـــتُّ جيرانها( !. فإن وجدتم (قحباء) في أي مكان، فلا تهادنوها، لأنكم إن فعلتم أصبحتْ (سِتَّ جيرانها) .. (سِتُّكُم)، وإنما اخلعوا أحذيتكم، تفر من أمامكم !
فُقدانٌ
كنا جيران سكن. في شارع الرند بغيط العنب.
كنا زملاء في المدرسة الإعدادية.
كان هو الأول على المدرسة في شهادة إتمام الدرسة الإعدادية، وأنا الثاني.
التحقنا معاً بمدرسة العباسية الثانوية، وكانت مدرسة الفائقين.
ظهرت مواهبه الذهنية خلال سنوات الدراسة الثانوية، خاصة في الرياضيات والعلوم، وتجاوزني فيها، وكنا نتنافس في اللغتين العربية والإنجليزية.
كان رفيق (تختة) واحدة في السنة الثالثة الثانوية.
كنا نغادر شارعنا في الصباح، ونجتاز ترعة المحمودية عبر (المعدية)، لنكون في محرم بك، الحي الذي تقع فيه مدرستنا.
أما في رحلة العودة، فكنا غير متعجلين، نمشي إلى ميدان (الجمهورية)، ومنه نأخذ طريقنا إلى كوبري راغب، عبر شارعي (إيزيس) و(راغب)، ونعبر الكوبري، فنكون في (برنا) .. بر غيط العنب.
كنا نلتمس الكوبري في بعض المساءات، لنقف في ممره الجانبي نراقب مويجات المياه القادمة من المورد الأم، فرع رشيد من نهر النيل، متجهة إلى مستقرها الأخير، على بعد كيلومترين أو ثلاثة، في مياه المتوسط.
كانت تلك مساءاتنا الفقيرة، فقد كنا نفتقر، حتى، لثمن كوب شاي على مقهى؛ ولم نكن - أصلاً - نحب جلسة المقهي. كانت وقفة الكوبري تتيح لنا ساعة أو أكثر، نتبادل فيها الخبرات القرائية، والتعليق على أحداث المجتمع، وتبادل الشكوى من أغلال الفقر الأسري، الذي جمع بيننا.
وكان يقرأ كتاباتي القصصية الأولى، ويعلق عليها باقتضاب شديد، فلم تكن له طاقة بتذوق فنون الأدب؛ حتى أنه عندما كتب قصته (الوحيدة)، كتبها عن مفارقة العدد (40)، في قولك: أربعين ميت!. هل تقصد ذكرى الأربعين، أم أن ثمة أربعين ميتاً؟!
ثم انتهت المرحلة الثانوية بنجاح مبهر له، وكاد يحصل على الدرجة النهائية في الرياضيات (وما أدراك ما امتحان 1966 في الرياضيات)، أما أنا، فيبدو أنني قد نجحتُ بلجان (الرأفة).
وكان التحاقُه بالكلية الفنية العسكرية هو الحل الأمثل لأكثر من مشكلة. فلا مجال للإنفاق عليه في الجامعات المدنية، كما أن الكلية كانت دراسة وإعاشة، وكانت ظروف ما بعد النكسة تجعل (الطالب) وهو في السنة الثانية يحصل على رتبة ملازم ثان، لتكون له نفس أقدمية زميله في الكليات العسكرية الأخرى، التي اختصرت مدة الدراسة فيها إلى سنتين فقط.
ورحت أنا أواصلُ مكابدة (القصور الحيوي)، ماضياً في طريقي بكلية العلوم، ونجحتُ، بالرغم من أشياء كثيرة، في أن أجتاز سنواتها الأربعة بنجاح معقول، وأن أحتفظ لنفسي بشغفي بالكتابة، وخاصة القصة القصيرة.
وكنتُ أتابع أخباره، بعد أن (قفز) بأسرته خارج (غيط العنب)، وكان يحقق نجاحاً اعتيادياً في مهنته كمهندس طيران عسكري.
ثم اختفى هو عني، واختفيتُ أنا عنه سنوات طويلة؛ حتى التقينا في نهاية تسعينيات القرن الماضي، بالمصادفة، وحاولنا أن نستعيد صبانا الفقير الحميم، ففشلنا. كانت لقاءاتنا فاترة، ومفردات لغتنا مختلفة، وأفكارنا أشد تباعداً.
وفجأةً، وبينما هو في بيتي، كنا نتحدث عن تخبطات المخبول مبارك، فوجدتُ يتوقف فجأةً، ويسألني، في تشكك واضح، بل في استرابة:
- إوعى تكون من الحزب الوطني !
فابتسمتُ، وقررت أن أطوي صفحة عنوانها (الفقدان).
كوبري راغب ..
واحد من كباري عديدة، مقامة على ترعة المحمودية، التي كانت في زمن مضى من أهم الممرات الملاحية في مصر، إضافة إلى أهميتها كمصدر لمياه الشرب. ويتوسط هذا الكوبري المسافة بين كوبريين آخرين، كوبري محرم بك وكوبري كرموز. ويربط حي (غيط العنب) بوسط المدينة، عن طريق شارع راغب باشا.
وقد أنشأ الإنجليز سلسلة من الكباري على نهر النيل وبعض تفرعاته، لهدف أساسي هو خدمة المجهود الحربي إبان الحرب العالمية الثانية. واستمرت تلك الكباري تخدم حركة النقل والتجارة في مصر، حتى الآن.
والكوبري قطعة هندسية بديعة. هيكله من الصلب، وجسمه مغطى بالأسفلت، في حالة توافق تام مع الطرفين اللذين يتصل بهما، لتمر عليه المركبات المختلفة، بما فيها الترام. وله ممران جانبيان للمشاة.
وكان يُفتح للمراكب الشراعية مرتين في اليوم، فتتوقف حركة المرور فوقه، ويلجأ الناس إلى (معديتين) للانتقال من (بر) لبر. وكان أجر المعدية نصف قرش للفرد.
أما كيف كان يُفتح الكوبري، فإنها هي القصة ...
كان المشرف على الكوبري شخص غريب المظهر. أسود، حتى أننا كنا نسميه (العبد). وكان يرتدي بذلة صوفية رسمية شتاءً وصيفاً، لا تتغير. لكنه كان لا يمانع أن يتسابق الصبية ليركبوا الكوبري قبيل موعد فتحه للملاحة، ليشاركوا في إدارة أداة الفتح، وكانت عبارة عن عمود حديدي يزيد طوله عن المتر قليلاً، متصل بساق خشبية قوية، ترتكز في منتصفها على العمود الحديدي. وتبدأ عملية فتح الكوبري بإغلاق بوابتيه الخشبيتين الكبيرتين، ويبدأ الصبية في دفع الساق الخشبية في اتجاه عقارب الساعة، ويتغير الاتجاه عند إقفال الكوبري، أو فتحه لمرور المشاة والمركبات.
وكنتُ شغوفاً بالمشاركة في هذه العملية، فأتجه إلى الكوبري في موعد الفتح، بعد الظهيرة، ويكون ذلك متزامناً مع موعد خروجي من المدرسة، القريبة من الكوبري. وتغمرني سعادة بالغة وأنا ألف مع صبية آخرين، لا أعرفهم، نعمل باجتهاد شديد، حتى يصبح جسم الكوبري موازياً للشاطئين تماماً، وأقرب إلى أحدهما، بحيث يترك مساحة كافية لمرور المراكب النيلية الشراعية المتجهة من وإلى ميناء الإسكندرية، والمحملة ببضائع مختلفة.
من هذا الموقع مرت قاطرات عملاقة تجر ناقلات عليها (توربينات) السد العالي .. جاءت من الاتحاد السوفييتي بالبحر، ثم سافرت عبر ترعة المحمودية، إلى فرع رشيد، جنوباً إلى أسوان.
ورأيت أنا مرورها، وسجلته في قصة للأطفال.
غير أن شغفي بإغلاق وفتح الكوبري كان يسبب لي مشكلة دائمة مع أمي، رحمها الله. وكانت تهددني كل مرة بأن تنقل لأبي قصتي مع الكوبري.
وكان الوقت الذي أضطر لقضائه فوق جسم الكوبري المفتوح للملاحة طويلاً .. نحو ساعتين. كنا نقضي بعضها في مراقبة المراكب المارة، والبحارة البسطاء وهم يجرونها من على الشاطئ باستخدام الحبال. وكان البحارة يلقون إلينا أحياناً ببعض مما تحمله المراكب من فاكهة أو خضروات.
الآن، فقد كوبري راغب الحياة!.
إنه مشلول .. لا يتحرك فيقفل ويفتح .. أصبح مقفلاً في وجه الملاحة طول الوقت. صار قطعة صلب ترتفع فوق شق تجري به ملاح آسنة، وتحيط به أكوام من المخلفات.
غير أنني، كلما زرت غيط العنب، أحرص على المرور فوق الكوبري، وأتفحص مكان وضع العمود الحديدي، واتمشى في ممره الجانبي، بالرغم من الروائح غير الطيبة المتصاعدة من مياه الترعة الملوثة.
الحمد لله على نِعمِه ظاهرةً وباطنةً ..
كيف لا نحمده ونحن نحظى برعاية عظيمة من أيادٍ كريمة رحيمة.
أيادي تعلمُ يقيناً مدى قيمتنا كموارد بشرية ثمينة ..
إنها تتصارع من أجلنا نحن ..
تأتي زمرةٌ، فتتوسد السلطة وتعلن مسئوليتها، هي وحدها، عن رعايتنا، فنردد مزيداً من الحمد والشكر، لله وللزمرة المتوسدة السلطة.
تتعطل رعاية الزمرة المتوسدة، وتعتذر لنا بأدب شديد: سنتأخر عليكم بعض الوقت، حتى نتخلص من (أوباش) يطمعون في أن يتوسدوا ما سبقنا إلى توسده، فتوسدوا أنتم الصبر إلى حين إسكات الأوباش.
فنتوسد الصمت، وكلنا أمل في أن الوقت قادم، لا جدال، لتأخذ زمرتنا المتوسدة بيدنا إلى آفاق ننعم فيها بطعام وخفير وقاضٍ عادل.
تقلق زمرةٌ أخرى علينا من طول توسدنا للصبر، فتُسرُّ إلينا أننا - نحن الصابرون - موعدنا (الجنة)، وأنها جاءت لتأخذ بأيدينا إليها؛ بل وتشد أيدينا إلى الجنة شدَّاً، حتى تنتزعها من أجسادنا، كأننا لا نريد الجنة فتغصبنا على دخولها !
إننا، كقوم فُطِرنا على النوايا الحسنة، عقدنا العزم على أن نصبر في انتظار زمن حسم الزمرة المتوسدة لموقعتها مع الأوباش، ونعتزم - بإذن الله - أن نرافق المتحمسين لإبعادنا إلى الآخرة، حيث الجنة.
لم نكن نعلم أن قيمتنا، كمورد طبيعي ثري، مهمة إلى هذه الدرجة؛ فالحمد لله حمداً كثيراً بعدد حبيبات رمال صحراء كونه.
التوقيف ..
التوقيف هي الكلمة التي أفضلها عن كلمة (الحبس) ترجمةً لكلمة captivity؛ فهي تحمل معنى توقف أسلوب الحياة الاعتيادي، إرغاماً.
ولأستاذ الأساتذة الدكتور حامد جوهر، رحمه الله، سلسلة من الأبحاث عن سلوكيات بعض أنواع أسماك البحر الأحمر، خاصة (القوابع)، أو الأسماك الغضروفية مضغوطة الجسم التي تعيش عند القاع، بعد إخضاعها للحياة زمناً طويلاً في أحواض التجريب، بمحطة بحوث الغردقة التاريخية.
بينت تلك الدراسة أن التوقيف في الأحواض، بعد حياة طويلة في البحر الطليق، ألحق تغيرات في بعض الظواهر الحيوية للأسماك الحبيسة، مثل معدل ونوعيات الاغتذاء، ومعدل النمو، ونظام التزاوج، والغضروفيات بعامة تضع عددا قليلاً من البيض، وتحتفظ به ملقحاً بداخلها، حتى يفقس ويعطي أسماكا صغيرة قادرة على تحمل الحياة البحرية، فتضعها الأم، فيبدو للعامة أنها أسماك ولود، والحقيقة هي أنها بيوض/ ولود. ونتيجة للحبس، يقل عدد البيض، ويفشل بعضه في السير في سلسلة التطور الجنيني.
بل إن الدراسات الكيماوية أثبتت أن التوقيف يؤثر في محتوي أنسجة الجسم من بعض الإنزيمات، وبعض الأحماض الأمينية. لذلك، تجد فارقاً كبيراً، في الطعم، بين أسماك المزارع، والأسماك المصادة من المياه المفتوحة.
ولا يعني التوقيف، فقط، الحبس في زنازين مادية؛ فالزنزانة يمكن أن يصنعها مجلس نواب فاشل، أو إدارات حكومية تربك حياة البشر ولا توفر لهم الأمن الشخصي، وتفشل في ضمان خبزهم اليومي إلا لشهور قليلة، ولا تجعلهم آمنين على المستقبل المائي لأبنائهم. بل إنك يمكن أن تشعر بأنك محبوس في بيتك، فلكل كائن حي حجم من (المحيط الحيوي) يضمن له حداً أدنى من اتساق كافة وظائف أعضاء جسمه.
وأعتقد أن الكثيرين منا لا يمتلكون كفايتهم من (المحيط الحيوي)، فهم مُوَقَّـفُون بصورةٍ أو بأخرى، وتشبه سلوكياتهم سلوكيات قوابع الدكتور جوهر في احواض تجريب محطة الغردقة.
السعيد الورقي
يندر أن تجد بين الناس من له هذه (التوليفة) الاستثنائية التي يعرفها من عايشوا واقتربوا من السعيد الورقي.
لا أتذكر الآن كيف ومتى كان لقاؤنا، لكن الظن الأغلب أنه تم في قصر ثقافة الحرية، حول طاولة لقاء الإثنين الأسبوعي لنادي القصة، وأعتقد أن التعارف تم تدريجياً، فلم يكن (حادثاً) يتذكره المرء بتميزه بين عاديات الأحداث اليومية.
كان ظهوره على تلك الطاولة التاريخية، التي كانت لا تزال مكسوة بالجوخ الأخضر، إذ كانت طاولة يلتف حولها المقامرون، في ذلك (القصر) الذي كان مقراً ملكياً رسمياً لألعاب قمار الأسرة المالكة وحاشيتها.. أقول، كان ظهوره إضافة مؤثرة جداً في مسيرة الندوة وروادها، ممن كانوا يتحسسون طريقهم في عالم القصة.
كان قد أنجز رسالته التي حصل بها على درجة الدكتوراة، ليلتحق بكلية الآداب؛ وكان بالوقت ذاته يمارس كتابة القصة القصيرة، وله نحو ثلاث مجموعات مطبوعة، حصلت إحداها على جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي في الأدب.
لم تكن فيه جهامة و(نشوية) نماذج أكاديمية أخرى. لم يفقد بساطته، ولم ينقطع عن مشاركتنا اللقاء الودي الجميل في مقهى بشارع الشهداء، كان اسمه مقهي لمعي، حيث كان كتاب القصة يواصلون فيه أمسية الإثنين، ويتحدثون في أي شيئ آخر، غير القصة والأدب، ويلعبون الدومينو، ويدخنون النارجيلة. وكان السعيد الورقي من أبرع لاعبي الدومينو، ومن (أحرف) مدخني الشيشة!
كان يدخن بمزاج عالٍ!. والحقيقة أنه كان يفعل كل شيئ بنفس المزاج، شريطة أن يكون وافق هوىً لديه، فإن لم يوافق، غادره في صمت.
والإخلاص سمة رائعة في الدكتور السعيد الورقي. ففي حين كان أكاديميون آخرون لا يبذلون جهداً في التعرف على تجاربنا الإبداعية ومعالجتها نقدياً، كان هو أيضاً لا يبذل جهداً كثيراً في ذلك، ولكن ليس من باب الإهمال، ولكن لأنه كان ناقداً موهوباً، أضفت عليه الدراسة الأكاديمية عمقاً، وكان هو يغلف كل ذلك بروح من المحبة والإخلاص.
وللدكتور السعيد الورقي خبرات متعددة، استوقفني منها اهتمامه الشديد بالأحجار الكريمة، فهو خبير بها، أنواعاً ونوعيات وأثماناً، ويقتني بعضها. سألته مرةً عما إذا كانت هذه الخبرة مرتبطة بما كان له من خبرة بالجميلات، فابتسم، وردَّ بالصمت!.
وكثيراً ما كان السعيد الورقي يتوارى لأوقات متفاوتة، لكنه سرعان ما يعاود الظهور من تلقاء نفسه، أو مستجيباً لدعوة صديق ليتحدث عن كتاب جديد.
غير أن التواري طال لسنوات عديدة. توارى هو عني، وتواريتُ أنا عنه وعن المناخ العام في المدينة ربيبة الإسكندر. وأنا حزين لهذا التواري المتبادل، والذي لا يمنعني من أن أتذكره طول الوقت، وأشعر بالحنين لمهاتفاتنا الودودة، ومشاركاتنا في أمسيات الإسكندرية الأدبية، وأطمئن من خلال الآخرين إلى أخباره.
دمتَ طيبا يا صديقي الحبيب ..
محمد مجدي دويدار
إن بحثت عن تجسيد للبساطة والتواضع، فهو محمد مجدي دويدار.
زميل دراسة قديم. تخرجنا في قسم علوم البحار (أنا 1970، وهو بعدي بسنة)، ثم جمعتنا زمالة في معهد علوم البحار في الأنفوشي، منذ عام 1974، حتى الآن، توطدت فصارت صداقةً نادرة، كانت من القوى التي أعتصم بها في الشدائد، وعند التماس المشورة الخالصة، والرأي المنزه عن الغرض.
عملنا معاً في نفس المختبر: (التصنيف والتنوع الأحيائي البحري)، وتخصصتُ في تصنيف الأسماك، بينما كان هو أول من قام بتصنيف قناديل البحر في مياهنا المتوسطية، وكانت تلك دراسته التي أعطته درجة الماجستير من جامعة الإسكندرية، ثم سافر إلى فرنسا مستمراً في نفس التخصص، وعاد بالدكتوراه، وبخبرة أعظم في مجال هذه الكائنات التي لازلنا لا نعرف قيمتها في بلادنا. ومجدي هو واحد من أكبر الخبراء في العالم بهذه المخلوقات البحرية التي لا نعرف عنها إلا أنها تلدغ السابحين قرب مياه الشاطئ.
وكنت أشفق على مجدي، فقد كان عليه، معظم الوقت، أن يتمسك بإقامته في (المحلة الكبرى)، وينتقل بينها والإسكندرية معظم أيام الأسبوع، في القطار. جهد خارق تحمله، ولم ينل من عزيمته، حتى حقق دراساته الفريدة، وأصبح متميزاً، بغير ادعاءٍ ولا طنطنة، شأنه في ذلك شأن كبار المبدعين والمفكرين الحقيقيين، يستهويهم الابتعاد عن الأضواء.
وليس مجدي، فقط، هو صديقي، إذ أنني صديق للأسرة كلها، ومن أخلص أصدقائي (دينا) و(عمرو) إبناه، وقد تبادلنا هو وأنا متابعة نمو أبنائنا، وتبادل المودة.
وتنتابني الآن رغبة شديدة في أن أنقل لكم فقرات قصيرة من خطابات مجدي التي أرسلها إليَّ وهو في فرنسا، فهي تنقل روحه السمحة، وتصور مدى عمق علاقة صداقة وأخوة نادرة ....
= "أكتب لك هذه الرسالة على أنغام أغنية ( في يوم من الأيام )، تأتيني من إذاعة القاهرة؛ وذلك لأنني اشتريت مذياعاً به 9 موجات قصيرة .. أسمع مصر باستمرار، يعني أخباركم عندي .. ومبروك على المدرب الأجنبي للزمالك؛ ولكن، لا فائدة .. الأهلي هو الأول!".
= "أهم أخباري، أنني انتقلت إلى مسكن خاص، وتركت الفندق .. شقة صغيرة، مكونة من حجرة ومطبخ (الحقيقة، واســع)؛ والحجرة بها تليفزيون، وهو يفيدني كثيراً في اللغة؛ والإيجار 100 فرنك، شهرياً، فقط. المهم، أنا الآن مستريح جداً عن أيام الفندق، وأطبخ الأطباق المصرية (مسـقَّعة – ملوخية – بامية .. أحمدك يارب!)؛ وأيضاً، الفول المدمَّــس! عثرت هنا، في (فيشي) على بقَّـال يهودي؛ وطبعاً، هو يعرف أن العرب في طريقهم لاحتلال (فيشي)، ثم فرنسا بأسرها، لذا، فقد جلب في دكانه كل ما قد يطلبه العرب !
= "وضع أمامي الدكتور نيفال ثلاثة موضوعات للدراسة، وطلب مني أن أفكر وأختار موضوعاً، وأرسل له، بعد عودتي إلى (فيشي)، بما استقر عليه اختياري. وقد أعجبني موضوع لمسح المنطقة بين (الكوت دازور) و جزيرة كورسيكا، من خلال عينات نجمعها في فترة وجيزة، في شهري أبريل ومايو، فقط. وقد اقترحت، من جانبي، أن نقارن النتائج التي سأتوصل إليها، من دراسة الأسماك الهلامية بهذه المنطقة، بما تحصلت عليه في دراستي للماجستير بجامعة الإسكندرية. وأعتقد أنها ستكون مقارنة لطيفة ومفيدة، بين شرق البحر المتوسط وغربه .. يهمني رأيك".
= "ولكي أثبت لك أنني أفكر فيك، أيضاً، سألت الدكتور نيفال – وأنا أتجول معه في المعهد – إن كان ثمة من يهتم بدراسة الطيور البحرية، لأن لي صديقاً، بالإسكندرية، مجنون بها؛ فأخبرني بأن في باريس معهداً للطيور عامة، بما فيها الطيور البحرية. وأعدك، في أول زيارة لباريس، أن أتحسس لك الأمور، لعلك تشاركني رحلة الهجرة إلى الشمال، وتأتي ممتطياً ظهر رُخٍ!".
= "بعد ذلك، أحب أن أحكي لك عن مرسيليا، فقد نزلت بها وأنا في طريق عودتي إلى "فيشي"؛ وبقيت فيها – سائحاً – يومين. وهي ميناء كبيرة، شديدة الشبه بالإسكندرية؛ ويمكنك أن تصـادف بها بعض الفرنسيين، الذين يعيشون مع أغلبية عربية!. وبيني وبينك – وليس للإذاعة بين الزملاء والأصدقاء – رأيت في مرسيليا، ولأول مرة في حياتي، رجلاً يواجه الحائط، ويبول! كأنني ذهبت إلى فرنسا – خصيصـــاً – من أجل هذا المشهد! وطبعاً، لا لزوم لأن أقول لك أنه كان – كما تقولون أنتم معشر فقهــاء اللغة – من أبنـــاء جلدتنـــا!.
هل يكفيك هذا، أم تريد مزيداً من الحكايات؟ يا أخي .. بما أنك تزعم بأنك أديب، فيجب أن ترسل لي خطابات حقيقية، وليس مجرد تليغرافات، كما تفعل .. يا أخي .. إحك .. إحك أي حاجـــة!".
شكراً يا مجدي ..
إختطاف "فلافي !"
نعم .. تم اختطاف قطنا الجميل "فلافي"، من أمام باب شقتنا، في الحادية عشرة من مساء السبت الماضي.
كنت أفتح الباب لطارق من الجيران، فتسلل "فلافي"، في غفلة مني، وخرج، وأنهيت حديثي القصير مع الطارق، وأغلقتُ الباب، وفلافي بالخارج.
وفلافي يعيش معنا منذ كان رضيعاً، عمره نحو شهر، في يناير 2011، أي أنه في العام السادس من عمره، فهو - بحساب عمر القطط - شيخ كبير.
وبالرغم من حبي الكبير لهذا الكائن الجميل، فقد كنت أشعر بالأسى لأنني أشارك في (حبسه) و(حرمانه).
وقد ارتضى هو ذاته الحبس والحرمان، أو تهيأ لي ذلك، فقد كنا نسعد بتوفير كل متطلباته المتميزة من طعام ورعاية (شخصية) وطبية، ولكن يبدو أن ذلك لا يغني عن أن يراود الكائن الحي الحر الطليق تشكك في قيمة (الخبز) السهل، مقابل التخلي عن حريته وكبت رغباته الطبيعية كحيوان ذكر، تلهبه هورمونات الذكورة في انقلابات التزاوج.
وفي صباح الأحد، استيقظنا فلم نجد فلافي بالمنزل. وكان لذلك وقعه الشديد على رشا، وزوجتي. أما أنا، فقد تظاهرتُ بالتماسك، وابتلعت قرص (زاناكس)، ساعدني على تحمل الصدمة.
لم تذهب رشا إلى عملها، وظلت تبكي معظم الوقت. ورحتُ أنا ألف وأدور طيلة النهار في الشوارع والأزقة المحيطة بالمنزل، وأنا متأكد من أن فلافي، مهما كان إلحاح الحرية والرغبة الجنسية عليه، لا يمتلك القدرة على مفارقتنا، فهو فرد عضوي من الأسرة، بل أحياناً كان يتهيأ لي أننا نحن ضيوف عنده؛ وكان يحرص على مراجعة أي تغيير يطرأ على البيت، حتى إن كان زحزحة كرسي لسنتيمترات قليلة.
كنت متأكداً من أنه لم يغادر البناية، فقد سبق له أكثر من مرة أن تسلل من الباب، في ظروف مشابهة، ولكنه لم يجرؤ على الابتعاد لأكثر من عدد قليل من درجات السلم، ولا يلبث أن يعود، أو نصيح نحن فيه لكي يرجع.
جربت أن أقوم ببعض التحريات، فقال لي شاب من سكان البناية، مثير لارتيابي الدائم، أنه شاهد فلافي قرب باب البيت، وأنه لم يلبث أن خرج وجرى في الشارع. فأحسستُ أنه يخفي شيئا. وعدته بمكافأة كبيرة إن أتى بالقط، فوعد بالسعي في ذلك.
وصحت شكوكي أن فلافي لم يغادر البناية، وأن بعضاً من جيران السوء، وهم يعرفون أنه قطنا، إنتهزوا فرصة إغلاق بابنا دونه عند منتصف الليل، فأخذوه وأخفوه لديهم، على أمل أن (يلعب) به أطفالهم العدوانيون.
ويبدو أنهم قد فوجئوا بخصال فلافي، الذي امتنع عن الأكل والشرب والنوم والتفاعل، ويبدو أنه قد نال ضربة على رأسه من أحدهم، فخافوا أن يموت، كما أنهم استشعروا من حواري مع الشاب المريب، وهم لا يقلون ريبة عنه، أنني بدأت أربط بين التفاصيل، وأعرف أن القط لم يغادر العمارة، فقرروا أن (يتخلصوا) منه، وربما يكون ضمير بعضهم قد أنبه.
وهكذا، وبينما كنت جالساً قرب باب الشقة، وقد فارقتني الرغبة في النوم، إذا بي أسمع مواءً خافتاً رقيقاً جميلاً أحفظه عن ظهر قلب، لا يمكن أن يكون إلا لفلافي الجميل. وفعلاً .. فتحتُ الباب، فإذا بفلافي يدلف داخلاً، عائداً إلى (حضن) محبسه الدافئ، بعد تجربة اختطاف سببت لنا، وله أذىً كبيراً.
وقد أتسمح في الأذي الذي نالني، أما ما حلَّ بهذا الكائن الراقي، الذي يصر على ألاَّ يأكل إلا من يد (ماما)، وبعد أن يتم أكله يقبِّلُ يدها .. أما ما حلَّ به، فهو جريمة تستحق أن ينزل العقاب بمن اقترفها.
كاتب أردني يجرؤ على التساؤل :ماذا لو استقال كل رجال الدين؟
بعد أن عرفت خبر إستقالة بابا الفاتيكان، لم أهتم كثيرا بهذا الخبر، بل ورد في بالي رغبة وأمل في أن يحذو رجال الدين في العالم كله حذو بابا الفاتيكان ويستريحوا ويريحوا، وأخذت أتخيل وأحلم، ماذا سيحدث للعالم لو إستقال كل رجال الدين في العالم؟:
هل ستنهار البورصات العالمية؟ الإجابة: بالطبع لا
هل ستتوقف حركة المطارات في العالم؟ الإجابة: بالطبع لا
هل ستتوقف حركة البناء في العالم؟ ؟ الإجابة: بالطبع لا
هل ستتوقف حركة البحث العلمي والإختراع في العالم؟ الإجابة: بالطبع لا
هل ستتوقف حركة القطارات في العالم؟ ؟ الإجابة: بالطبع لا
هل ستتوقف الإنترنت؟ الإجابة: بالطبع لا
هل سيتوقف دوري الكرة الإنجليزي؟ الإجابة: بالطبع لا
هل سيتوقف ميسي عن إحراز أهداف برشلونة؟ الإجابة: بالطبع لا
هل ستتوقف المصانع عن العمل؟ الإجابة: بالطبع لا
هل ستتوقف الصين عن غزو العالم بمنتجاتها؟ الإجابة: بالطبع لا
هل ستتوقف أساطيل أمريكا عن الحركة في بحار ومحيطات العالم؟ الإجابة: بالطبع لا
هل ستتوقف المزارع في العالم؟ الإجابة: بالطبع لا
هل ستتوقف المدارس والجامعات عن تعليم الطلبة؟ الإجابة: بالطبع لا
هل ستتوقف السيدات عن الإنجاب؟ الإجابة: بالطبع لا
هل ستنتهي الأديان في العالم؟ الإجابة: بالطبع لا
هل سيتوقف البشر المؤمنون عن الصلاة والدعاء لخالقهم؟ الإجابة: بالطبع لا
وبدون لف ولا دوران هل سيتوقف أي نشاط مفيد للبشرية إذا إستقال كل رجال الدين في العالم؟ الإجابة: بالطبع لا
وهل يحتاج البشر وسيطا أو سمسارا أو وكيلا بينهم وبين خالقهم؟ الإجابة: بالطبع لا
إذن ما الذي سيتوقف إذا إستقال كل رجال الدين في العالم؟
هل سيتوقف القتل بإسم الدين؟ الإجابة: بالطبع نعم
هل ستتوقف الكراهية بين الناس بسبب إختلاف الأديان؟ الإجابة: بالطبع نعم
هل سيتوقف لابسو الأحزمة الناسفة عن قتل أنفسهم وقتل الآخرين؟ الإجابة: بالطبع نعم
هل ستتوقف الفتاوي الهايفة من نوع: إرضاع الكبير وزواج الأطفال والزواج من الجن؟ الإجابة: بالطبع نعم
هل سيتوقف أرزقية الأديان عن العمل؟ الإجابة: بالطبع نعم
هل ستنتهي مافيا توزيع تذاكر دخول الجنة والنار؟ الإجابة: بالطبع نعم
هل سيبدأ البشر في إستخدام عقولهم بشكل أكبر؟ الإجابة: بالطبع نعم
هل سيتوقف البشر عن الحصول على الأجوبة الجاهزة والمعلبة؟ الإجابة: بالطبع نعم
هل سيتوقف الخلط بين الدين والسياسة؟ الإجابة: بالطبع نعم
هل سيتوقف بعض رجال الدين عن إستخدام الدين للوصول للسلطة؟ الإجابة: بالطبع نعم
هل ستتحول دور العبادة إلي مراكز إشعاع علمي وإجتماعي بدلا من مراكز بث الكراهية وتخويف الناس من النار وعذاب القبر والثعبان الأقرع؟ الإجاب: بالطبع نعم
هل سيتوقف تفسير أي كارثة طبيعية على أنه غضب من الله؟ وكأن الله خلق البشر لكي يعذبهم في الدنيا قبل الآخرة؟ الإجابة: بالطبع نعم
فرح.ع.ر
الأردن
حدوتة عن نوع (طريف) من الفساد ...
في زمن الجندية (أكتوبر 1970 - سبتمير 1974)، ورد إلى الوحدة جندي جديد اسمه (روبي). كان من فئة المجندين العاديين (بلا مؤهلات)؛ فكانت دهشتي كبيرة حين وجدته ينضم إلى طاقم (مكتب) الوحدة - وكل أفراده من المؤهلات - ولا ينتظم في أي طوابير عملية أو تدريبية.
ولكن الدهشة زالت عندما علمتُ أن الجندي روبي يعمل (مُنجِّداً) !
لقد تلقفه رقيب أول الوحدة، وأخفاه بين أفراد طاقم المكتب، ليستغله في (تنجيد) مفروشات بيته وعائلته كلها؛ فقد كان (الجندي المعلم روبي) مقيماً في القاهرة، وكان مقر الوحدة قريباً منها، فكان الرقيب الأول يسهل له تصريحات الغياب والأجازات والمأموريات، ليقوم بدوره الخطير في إزالة آثار العدوان وتحرير المحتل من تراب الوطن، بتنجيد مفروشات عائلة الرقيب الأول.
ولم يلبث نفوذ السيد روبي أن اتسع، بعد أن توسعت دائرة خدماته الجليلة لمصر، بتنجيد فروشات أسر قائد الوحدة وضباطها، فصرنا لا نكاد نراه في الوحدة إلا نادراً؛ وكان يقول لأصدقائه إنه يأتي لكي يراه، لأنهم (أوحشوه)!
ثم تزايدت جهود روبي باشا من أجل الوطن، عندما شملت خدماته مستويات أعلى من القيادة !
وهكذا، قضى جندي في زمن الحرب كل مدة تجنيده (يخدم) في (إعادة بناء) مفروشات قادته.
نظامٌ ..
لا تبذل الشمس مجهوداً في الاحتفاظ باستقرار نظامها.
لقد أطلقتْ كواكبها، واحتفظت بقوة جذبها لها.
مضت الكواكب تدور في الفضاء، سعيدة بجاذبية الشمس لها، فبدونها لضلَّت في فضاء الكون.
وراحت الكواكب بدورها تتخذ لها أنظمة قمرية، لتدور حولها أقمارٌ، يخضع كل منها لجاذبية الكوكب التابع له، أكثر مما يخضع للشمس .. الأم البعيدة.
فيا لعبقرية وجود (شمس) !
ويا لحنو علاقات التجاذب !
هكذا تتكون النظم.
إرفعها .. إرفعها .. إرفعها
إشتغلتُ نحو عشر سنوات عضوا بلجنة النظام والمراقبة (كنترول) كلية للحقوق. لا أخفي عليكم، من أجل دخل إضافي مستحق، إذ كنت، مع زملائي المنتدبين، بذل مجهودات كبيرة في ضبط اللجان المنوط بنا مراقبتها.
وفي أيام أداء الامتحان، كانت القاعدة العامة هي أن نحو 90% من الطلاب ينوون الغش بطريقة أو بأخرى، ينجح نحو نصفهم فيه، بتواطأ مع ملاحظي اللجان من موظفي الجامعة، وينتظر النصف الآخر الفرصة. وكنت أضبط كل يوم امتحان بين 2 و3 طلاب متلبسين بالغش؛ وكنت أعاملهم بلا رحمة، فأكتب التقرير وأرفق معه مستند الغش، ثم إلى مكتب إدارة الكلية.
وعدم الرحمة راجع إلى تضرري أنا شخصياً من (غشاش قديم) .. زميل تخرج معي في كلية العلوم، وكنت أراه في كل يوم امتحان يجلس في مقعده باللجنة وقد وضع بين فخذية ملف أوراق رتبه قبل بداية الامتحان. وكان يجيد، بمهارة فائقة، نقل ما يريده من الملف، بغير أن يُضبط، بينما أنا وزملاء آخرون ننظر إليه مستغربين، مضيعين بعضاً من وقتنا. ونجح هو بتقدير جيد جداً، ونال موقعاً أكاديمياً، أو شبه أكاديمي، بينما نلت أنا تقدير (جيد).
فإذا انتقلنا إلى مرحلة ما بعد تصحيح أوراق الامتحانات، تجد عجباً. من هذا العجب أن نسبة النجاح الأصلية لكثير من المواد تأتي متدنية جداً. أحياناً 9%، وأعظمها 22%. فنفاجأ بقرارات (رفع) من إدارة الكلية، ليكون نجاح الطالب إذا حصل على 9 من 20، فلا ترتفع نسبة النجاح كما هو المنشود، فيقولون: إجعلوها 8 من عشرين، فلا ترضى الإدارة، وأخيراً، يتقرر أن يكون الطالب ناجحاً إذا حصل على 7 من عشرين، وهي الدرجة التي لا تعطيه أكثر من تقدير ضعيف جداً، فيتحول إلى (مقبول)، بإرادة إدارية، أو سياسية، أو فساداوية.
فكم ترى عدد المسجلين في جداول عضوية نقابة المحامين الذين حملوا الليسانس بدرجة (ضعيف جداً) .. مُعدَّلَة؟!
قبل النفط .. وبعده ..
(منظور شخصي)
إستغرقت الحضارة البشرية نحو ألف سنة لتتساوق والإنقلابات التي طرأت عليها في تحولها من زمن ما قبل النفط، حتى وقتنا هذا، ونحن مقبلون على نفاد الموارد النفطية، خلال فترة وجيزة جداً، بين 50 و70 سنة.
تساوى جميع البشر، تقريباً، في أحوال زمن ما قبل النفط. فلما جاء النفط، خرج مارد التكنولوجيا من قمقمه، وقال (شبيك لبيك) للمجتهدين، فانطلقوا بالحضارة، وقعد آخرون متكاسلين، مشدودين إلى مواضٍ عقيمة، فانتفى التساوي القديم، وانقسم العالم إلى (أول) و(ثان) و(ثالث).
فما هي السيناريوهات المحتملة لعصرٍ بلا نفط ؟!
العالم الأول لا يشغل نفسه بوضع سيناريوهات، وإنما يعيشها. يعيش المستقبل متجدداً، كل إشراقة شمس.
قد يشهد هذا العالم انقساماً إلى (تحت عوالم أولى) .. فئات كعربات الديزل الـ VIP.
أما العالمان 2 و3، فالأقرب لهما، في تصوري، هو الارتداد إلى زمن ما قبل النفط، خاصةً إن ظلاَّ مكبلين إلى المواضي العقيمة، وبعد أن تنتهي أرصدتهما المصرفية لدي العالم 1، إذ لن يكون بمقدورهما، حتى، ابتياع تكنولوجيات المستقبل، وسيعيش الناس فيهما (فوبيا تكنولوجية) أقسى من الفوبيا التي سببتها لهم بدايات القرن العشرين التكنولوجية.
الفحم والنفط
صاحب الفحمُ الإنسان آلاف السنين، يعطيه طاقته الحرارية. واستمر معه، إلى الآن، وستمتد الصحبة إلى ما بعد انتهاء النفط.
لم يخدم الفحم الإنسان في أغراض أخرى إلا قليلاً، وبعد تطور تكنولوجيات أتي بها عصر النفط.
وتزامن ذلك مع نمو متوازن في تعداد التجمعات البشرية، لم يلبث أن انفلت وانطلق كالقذيفة الصاروخية بمقدم النفط.
تفتحت آفاق منافع النفط أما البشر بمعدل فائق، لم يحدث مع أي منتج آخر لمورد طبيعي. كان ذلك متأسساً على طبيعة النفط كمركَّبات هيدروكربونية، تلاعب بها الكيميائيون، فكسروها وفتتوها، وعادوا فشكلوا من فتاتها مركبات أخرى، وألصقوا عناصر أخرى في أماكن ذرات الكربون والهيدروجين، فاتسعت دائرة المنتجات النفطية، لتغطي كل ما استخدمه البشر وعاشوا به خلال معظم القرن العشرين، وحتى الآن، من أدوات المطبخ، إلى كيماويات البناء الحديث، إلى وسائل إعاشة في الفضاء الخارجي، إلى مكونات دوائية، بل وإلى مواد غذائية، فقد استخدم النفط كمزرعة لبكتيريا يمكنها تخليق مركبات بروتينية في وجوده.
وربط النفط العالم. وحرك آلات الحرب. ودعم حركات الاستعمار، والتحرر أيضاً. وحمل الإنسان إلى الفضاء الخارجي، ضد الجاذبية الأرضية.
ها هو النفط يتخلى عن صحبتنا، ويتركنا مع الفحم الملازم لنا، ومع فتوحات تكنولوجية تعدنا بأن وجه العالم سيكون مختلفاً تماماً بعد أن تنضب كل آبار ذلك النوع من الوقود الأحفوري الذي كان اسماً لزمن فريد في سجل التاريخ الطبيعي للأرض، ومسيرة حضارة البشر.
شهادة بالشهادة من ناظر نظَّار الشهادة !
لُكنا كلمة (شهيد) حتى صارت مُبتذَلة.
آخر شهادة بالشهادة من ناظر مدرسة الشهادة كانت لـ (اللي حب ولا طالشي) !!
تخيلوا. حول الرجل المثل الشعبي الهزلي: يا عيني ع اللي حب ولا طالشي، إلى فتوى بأنه شهيد.
وأعتقد أن ذلك رد فعل طبيعي لصكوك الفتاوى الشهادية المجانية الانتقائية التي كانت تُقذفُ بها بعض (فئات) الشهداء دون غيرهم .. فمن ماتوا في التحرير شهداء، أما في محمد محمود، فلا. والعكس أيضاً له زبائن. وقتلى الجيش والشرطة في 25 يناير شهداء، بينما هم (مجرمون) في أنظار (الثوار) والغريب أن الفتاوى اقتصرت على موتى القاهرة، ولم تشمل رحمة الفتاوى من مات في نفس الأحداث في أقاليم مصر. إنها إذن (الشهادة حسب محل الإقامة) !
والحقيقة أن الشهادة، بعامة، تحتاج إلى مصارحة شديدة.
لنفترض أن جيشاً لدولة ما خاضت حرباً، فقدت 50 ألفاً من جنودها فيها. إننا نسحبُ عليهم جميعاً صفة شهيد، بينما يقول الواقع أنهم جميعاً، تقريباً، أجبروا إجباراً، بتراتبات اجتماعية وسياسية، على ارتداء زي الجندية وحمل السلاح، والمؤكد أن نسبة منهم، ولو نصفاً بالمائة، لا يؤمنون بما يحاربون من أجله، ولا يرونه جيداً، ويرون أنهم جيئ بهم ليصلحوا أخطاءً ارتكبها آخرون لا يحملون السلاح ويعيشون في بيوتهم آمنين.
أضف إلى ذلك، طبيعة (القتال) نفسه. فالقاعدة فيه أن يحرص الفرد على سلامة ذاته، فإن طاله الموت كان ضد إرادته.
إن ما يضمن للعلوم استقرارها هو إجماع العلماء على تسميات محددة Terminology والشهيد مصطلح خضع لعبث شديد، ويحتاج إلى إحكام توصيفه.
أيها الأدباء .. أيها العلماء .. أرقصوا !
ألفتُ نظر كل المسئولين عن إصداراتنا، من مجلات وسلاسل كتب، إلى ضآلة المردود المادي الذي يتقاضاه الكاتب أو الفنان عن مادته المنشورة.
الوضع الحالي يدعو للأسى.
مررتُ بتجربة مريرة في سلسلة (كتاب الثقافة العلمية)، التي كان لي شرف إصدار 24 عدداً منها، حيث كان كثيرٌ ممن أطلب منهم نصوصاً يسألونني أولاً: (بتدفعوا كام؟!)؛ ولما كانوا يعرفون الرقم (المخجل)، كانوا ينهون المكالمة، أو المقابلة بأسرع ما يمكنهم!
معظم من حصلت منهم على نصوص كانوا أصدقاء لي، احرجتهم الصداقة، فلم يسألوا السؤال ذاته، ورضوا بتقديم كتبهم بالمقابل المخجل!
ولن أحدثكم عما كنتُ أتقاضاه أنا كـ .... (رئيس تحرير)!!!
طبعاً، أنا ألتمس العذر لمن هم في مواقع المسئولية، ولكن طموحات خطط النشر يمكن أن تتحطم على صخرة (حقوق الملكية الفكرية)، التي تبدأ بالمكافأة المجزية، خاصة فيما يتصل بالمواد التي تعاني ندرة الكتَّاب، مثل الثقافة العلمية.
قد تجدون من يرضى بما تقدمون، فيسعى إليكم (ولو ببلاش)، ولكنكم لن تستطيعوا الاقتراب من أسماء لها قيمتها في عالم الفكر والتأليف، لأنهم ينتظرون مقابلاً يستحقونه.
أستغرب كثيراً حين أراجع ما حضرته من مؤتمرات، ولم أجد بنداً واحداً متصلاً بهذا الجانب المهم في أيٍّ منها.
حكى لنا الراحل الدكتور يوسف عز الدين عيسى، أستاذ علم الحشرات، والأديب الروائي الكبير، الحاصل على جائزة الدولة التقديرية في الأدب .. حكى وهو يكاد يبكي عن مقابلة بالمصادفة مع راقصة، سالها عما تتقاضاه في (ليلية رقص)، فذكرت رقماً مهولاً، أرعبه، وعبر عن ذلك بمقارنة بين أجرها في ليلة، ومجمل ما يتقاضاه كعالم وكأديب، في سنة، وكانت المقارنة في غير صالحه طبعاً.
فردت الراقصة:
= "أرقص يا دكتور .. أرقص !".
فارقصوا ..
أنا ذكر ! .. أنا أنثى !
جاورتني في مناسبة أسرية واحدة من دائرة المعارف، وكانت ترتدي ملابس (سواريه)، فنحن في سهرة داخل قاعة احتفالات، بها موسيقى ورقص، فالملابس، إذن، طبيعية مقبولة.
جاءني شاب ملتح من الأسرة وقال لي كيف تُجلس هذه المتعرية إلى جوارك؟
قلت له: هذه ملابس سهرة نسائية يعرفها المجتمع، وهي متسقة تماماً مع شخصية من ترتديها، التي تشعر جيداً بأنوثتها وتفخر بها، ولا تجد حرجاً في ملابس مخصصة للإناث، اشترتها من أكبر متاجر الملابس.
قلت له أيضا: لماذا لا تريد لها أن تعتز بأنوثتها وتعبر عنها، لأنها لا تخجل منها، وأنت تعطي لنفسك الحق في إطلاق لحية كبيرة، وهي رمز ذكوري بالدرجة الأولى، هدفه التعبير عن الفحولة؟
إن خجلت أنت من لحيتك فعليها هي أن تخجل من مظاهر أنوثتها التي خلقها عليها الله.
يا زرقاء اليمامة .. أدركينا !
كل نواحي التقدم الحضاري تقوم على من يمكن تسميتهم (المستشرفون)، أو(الرؤيويون) VISIONARIES
إنهم (زرقاء يمامة)، بصورة أو بأخرى.
هم لا يرون الخطر المداهم، فقط، وإنما يدعمون الحياة بأحلام وأفكار تجعلها أفضل وأسهل.
هل رأى أحدٌ منكم مصرياً واحداً، أو عربياً واحداً، في نصف قرن مضى، ينتمى لهذه المجموعة المهووسة بالمستقبل؟
إننا، كلنا - ولنعترف - إما نمارس (النبش) تحت أقدامنا، فلا نجد إلا ديدان الأرض، أو ننبش في (الماضي)، فتمتلئ صدورنا برائحة أوراق متعفنة.
تعلموا فن (الكولاج) !
الكولاج فن مهم جداً. أحياناً يكون فكراً خالصاً.
ممكن نترجمه: (فن القصاقيص) .. نعم .. من كل (وحدة) قصقوصة
والإبداع فيه هو أن تأتي بقصاقيص من حيث لا يتوقع الناس العاديون، وتجد لها موقعاً على سطح اللوحة، بين جيرانها من قصاقيص اخرى، ليفاجأ المشاهد بأقصوصة من ورقة مواصفات دواء، مثلاً، تشارك في استكمال ملامح رؤية سياسية .. وهكذا ..
ويمكن تسمية الكولاج، أيضاً: فن إنعاش الذاكرة !
تقف أمام لوحة كولاج بها قصاصة من صورة لمحطة ترام (سان ستيفانو)، مثلاً، فتقول: يا إلهي، أنا أعرف هذا المكان .. إنني أشرب قهوتي ظهر كل جمعة في المقهى الواقع على تلك المحطة ذات المعمار الجميل !
وتخافُ أنظمةُ الحكم الفاشية من الأفراد الذين يجيدون صناعة (الكولاج السياسي) !
إن هؤلاء الأفراد لا ينسون. ذاكرتهم حاضرة طازجة. يجيدون لملمة مفردات الواقع السياسي، و(تشبيك) قصاصات الأحداث والملامح، فيتجسد التاريخ المنسي، أو الذي يراد له أن يُنسى!
فتعلموا الكولاج، تروا جيداً !
بتـــاع كُلُّــه ... !
كنت مواظباً على حضور حلقات (منتدى الحوار)، الذي أسسه الراحل الدكتور عادل أبو زهرة، منذ بداية الفعاليات الثقافية بمكتبة الإسكندرية. وكان المتحدث – المفترض - في آخر حلقة حضرتُها هو الدكتور مصطفى الفقي، سكرتير "مبارك" المعلوماتي؛ ولم يحضر. وبعد طول انتظار، جاءنا مديرُ المكتبة ليقول إن الفقي اعتذر متأخراً، لما علم أن محافظ المدينة لــن يكون حاضـــراً اللقــــاء، فاسـتكبر أن يأتي لمقابلة مثقفي المدينة دون أن يكون المحافظُ في معيَّته! واستشاط بعضُ الحاضرين غضباً على الفقي، وطالبوا المديرَ بوضعه في قائمة سوداء. وحاول مدير المكتبة تهدئة جمهور المنتدى، من صفوة مثقفي الثغر، فقال لهم، لن نضيع الأمسية سُدىً لعدم حضور الضيف، واستأذنهم في أن يحل محله. وذهب إلى منصة المتحدثين، وعالج أجهزة العرض، فانطلقت شرائح محاضرته، وكانت بالإنجليزية، وأخذ هو يتحدث بالعربية، شارحاً مضمونها الذي كان مفاجأة للجميع: (العلاقة بين مؤسسات الحكم الأمريكية). كان الموضوع بعيداً جداً عن اهتمامات الحاضرين، الذين أُســـقِطَ في أيديهم، وراحوا يستمعون إلى حديث ممجوج. وأثناء إلقاء المحاضرة القهرية، واتتني فكرة أن أسجل بعض عناوين شرائحها، وقد اعتزمتُ أمراً !.
وغادرتُ المكانَ قبل انتهاء حديث مدير المكتبة الذي كان تمجيداً، بطبيعة الحال، للنموذج الأمريكي. وفي منزلي، عكفتُ على حاسوبي الشخصي، واستخدمت الساحر البديع (جوجل) في البحث عن عناوين الشرائح التي سجلتها عن المحاضرة التي فُرِضـتْ علينا، طالباً منه أن يحدد البحث في نوع الملفات الشرائحية (باور بوينت)، فاستجاب لأوامري، ووضع بين يديَّ مئات منها؛ فتحتُ بعضها، ففوجئتُ بأن محاضرة مؤسسات الحكم الأمريكية ليست لذلك المحاضر، وإنما هي لعدد من الكتّاب والسياسيين الأمريكيين والأوربيين، أخذ منها مدير المكتبة، أو من يعملون لحسابه، دون أي إشارة للمصدر، حسب أصول الإسناد المتعارف عليها، التي نجدها عند من يتوخون الأمانةَ العلمية من الباحثين. وتصادفَ أن أشرتُ، في جلسة جمعت بعض الأصدقاء، إلى هذه الواقعة، فأخبرني صديقٌ بما يؤكدُ ما توصلتُ إليه عن طريق (جوجل)، ومفادُه أن له ابناً من المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات، يعمل ضمن طاقم خاص يحتل، مع سكرتارية ضخمة، طابقاً كاملاً من مبنى المكتبة، مخصصاً لمكتب المدير؛ وأن ما توصلتُ إليه هو أسلوبُهم المعتادُ في العمل، فتأتيهم التكليفات عن طريق (الأسطوات) من معاوني مدير المكتبة، فيهرع الفنيون الصغار إلى الإنترنت، ليغترفوا منها المعلومات، في مختلف التخصصات والتوجهات العلمية والفكرية، فيقدمونها في صورتها (الخام) لأولئك الأسطوات، الذين يتوفرون على (طبخها) حسب رغبة مديرهم، وقد يحدث أن يقدم (الصبيانُ) أنفسهم المادةَ مطبوخةً! وقد يجري عليها المديرُ بعض التعديلات، قبل أن ينسبها لنفسه، ويستخدمها في الندوات والمؤتمرات، على نحو ما حدث في ندوة "الفقي"، وعلى نحو ما سيلي بيانُهُ.
واكتفيتُ لسنواتٍ بالاحتفاظ بهذه الواقعة ضمن ملفٍ كبيرٍ للسرقات العلمية أحتفظُ به، منها ما تعرضتُ له أنا شخصياً عندما سُرقَ بحثٌ منشورٌ لي، عنوانه (وصف مصر بيئياً)، ومقالٌ عن أسرار التجارب العلمية التي تجري في الفضاء الخارجي. كما أنني عاصرتُ، خلال فترة عملت فيها سكرتيرا لتحرير مجلة علمية تصدِرُها مؤسسةٌ بحثية، واقعةً محددة، أعطى فيها مدير تحرير المجلة لنفسه الحق في السطو على نتائج بحوث ميدانية قام بها فريق من زملائه، وأنشأ بها مقالا أجازه بنفسه لنفسه، ونشره باسمه على صفحات المجلة. وواقعة أخرى كان المتهم بالسرقة فيها رئيسُ تلك المؤسسة، ذاته، ولكن الاكتشاف جاء متأخراً جداً، فاستخدم السارقُ سطوته في الإفلات من الإدانة والعقاب. ومن وقائع السرقة التي عاصرتها، وكنتُ شاهداً عليها، ما قام به لسنوات طويلة طبيبٌ مزيَّف بالإسكندرية، كان يدَّعي أنه أستاذ الجراحة بجامعتها، ولم يكن يكتب، بل يسرق، وينشر ما يسرقه مستتراً وراء لقبه العلمي الفاخر المُنتَـحـــل، الذي لم يهتم أحدٌ بالتحقق منه، حتى اكتشفت مجلتا (الدوحة) و(العربي) أمره، ثم فضحته إحدى زوجاته، فانتهى به المآلُ إلى السجن.
والحقيقة هي أن السرقات العلمية ظاهرة عالمية الانتشار، فلصوصُ العلم موجودون في كل مكان، يعتمدون على ما يحسبونه جهلاً، أو غفلةً، عند المتلقين، ولا يهتمون بالتحسب لأن يأتي وقت يكتشف فيه (متابعون) ألاعيبهم وسرقاتهم؛ ومن هؤلاء المتابعين فريقٌ من العلماء جربوا، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أن يراجعوا المقالات العلمية المنشورة في ست مجلات علمية ذائعة الصيت، فضبطوا 16 حالة تزوير علمي، معظمها في مجالي علوم الحياة والطب. وفي عام 1986، نشرت مجلة " Nature " تفاصيل أكبر حملة لمطاردة الغش العلمي، قادها عالمان من معهد الصحة القومي الأمريكي، قضيا أربعة أعوام في مراجعة وتدقيق 129 بحثا علميا منشورا باسم الدكتور جون دارسي الذي كان يعمل أستاذا بجامعتي أموري وهارفارد، والذي اتضح أنه وصل إلى موقعه الوظيفي والعلمي المتميز اعتمادا على بيانات ومواد علمية ملفقة، في تخصص حيوي خطير، هو علم أمراض القلب!.
ولم يدُرْ بخلدي يوماً أن أتابع (نشاط) السيد الأستاذ الدكتور مدير المكتبة، على نحو ما قامت به مجلة (ناتشر)، إذ أن لديَّ ما هو أنفع للناس ولي، من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، فقد كنت موقناً من أننا أمام حالة محورُها (الارتكان) إلى القوة والنفوذ، فقد كان مدير المكتبة يتوسد حجرَ الأسرة الحاكمة في مصر، وكان يمارس عمليات (التخليص) أو (التشهيل) لأفراد تلك الأسرة الفاسدة، فتورمت ذاته مثل ثمرة حُقِنــتْ بهورمونات حفز النمو، وانطلق يفعل ما يشاء، بأي وسيلة يختارها؛ فاستقرَّ لديَّ أن أي محاولة لكشف تقمصه دور الرجل (بتاع كله)، وفضح سوءاته، لن تجد صدىً. ولكني لم أتوقف عن جمع (عينات) ونماذج من ممارساته تؤكد، في النهاية، على أننا أمام نموذج نرجسي فريد، يتوسل كلَّ السبل لدغدغة مشاعره ورغباته؛ ولنراجع معاً وقائع حدثٍ واحدٍ، هو مؤتمر (مستحدثات علوم الحياة) – البيوفيجان، بتعطيش الجيم – الذي ينعقد بالمكتبة بشكل دوري، كل سنتين، منذ العام 2004؛ ولنبدأ بالأمر الأسهل والأوضح، ونتصفح كتيبات برنامج المؤتمر، لنجد عدد صور مدير المكتبة، فردية أو وسط آخرين، على النحو التالي : 2004 (18 صورة)؛ 2006 – (13 صورة)؛ 2008 (12 صورة)؛ 2010 (15 صورة) بمتوسط 14 ونصف صورة، في كتيب لا يزيد عدد صفحاته عن 50 صفحة.. ولا توجد بيانات عن مؤتمر 2012، لأنني حاولتُ الحضور، واستأذنتُ الإدارات الإعلامية في المكتبة، وعندما ذهبت لأحضر حفل الافتتاح طاردني عنصر أمن وطلب مني المغادرة!.
وقد جرت العادة أن يلتزم صاحب البيت التواضع، ودرجة من النزاهة تجعله ينأى بنفسه عن مزاحمة ضيوفه، مفسحاً لهم المجال؛ لكن المدير الآمر الناهي في مكتبة الإسكندرية استباح لنفسه كل هذه المساحات من أضواء آلات التصوير، إرضاء لنزعات ذاتية، أو – ربما – رغبة في تأكيد سطور رسالة يهمه أن تصل إلى المجتمع العالمي، من خلال هذا المؤتمر الذي فرضه على المكتبة، بمشاركة (المنتدى العالمي لعلوم الحياة – بيوفيجان)، الذي حصل على عضويته، تطلعاً - كما يشير بعض المراقبين لأحوال المكتبة - إلى أن يرى اسمه في قائمة المرشحين لجائزة نوبل!
يُقــوِّي هذا الظنَّ حرصُه على أن يستضيف المؤتمر، في كل دوراته، عدداً من الحائزين على جائزة نوبل، والمعروف أن حائزي هذه الجائزة يشاركون في ترشيح واختيار الحائزين الجدد. وقد استضاف المؤتمر في دورة 2004 – على سبيل المثال لا الحصر - حائزيْن على نوبل في الكيمياء، هما "جون ماري ليهن" - 1987، و"شيروود رولاند" – 1995؛ وحرص مدير المكتبة على أن يشاركهما كلمات جلسة الافتتاح. كما كان المديرُ المتطلع لنوبل حريصاً على أن تشتمل وقائع كل الدورات على (مائدة مستديرة) تضم ضيوف المؤتمر من الحائزين على نوبل، يتحدثون حول رؤاهم لأحوال العالم؛ وكان هو يجلس بينهم على المسرح، شديد الحرص على الانفراد بمهمة إدارة حواراتهم، وكان يتدخل فيها أحياناً كثيرة؛ ولم يكن من الصعب على أي مراقب للمؤتمر، بصفة عامة، ولهذه (الموائد) على نحو خاص، أن يتوصل للانطباع المراد تسريبه إلى هذه الباقة من (الضيوف)، بصفة خاصة، وإلى بقية الحاضرين من ممثلي المجتمع العلمي العالمي!
وقد استقرَّ لدينا من هذه المتابعة، التي كنا نقوم بها مدفوعين بالرغبة في كشف وجه زائف، نشأ ورسَّخَ وجودَه في كنــَـــفِ نظامِ حكمٍ بغيضٍ، أسقطه الشعبُ المصري في 25 يناير، أن الظن قد ذهب بمدير المكتبة إلى أن اجتذاب المزيد من الأضواء يستدعي بناء نموذج الرجل الذي يعرف كلَّ شيئ، مستغلاً هذا المؤتمر وغيره من فعاليات المكتبة، وإمكانياتها الطباعية، دون أن يكون لذلك مردود ملموس للمؤسسة المكتبة، فالنفعُ العائدُ ذاتيٌّ بالدرجة الأولى. وللتأكيد على صحة وجود نموذج الرجل (بتــاع كلّـه)، دعونا نلقي نظرة سريعة على مشاركات مدير المكتبة، التي فرضَ فيها ذاتَه، في دورات مؤتمر البيوفيجان الأربع :
1 – إلقاء كلمة الافتتاح، وكلمة الختام (كل الدورات).
2 – مقرر جلسة رئيسية موضوعها (نحو علوم حياة جديدة). 2004.
3 – رئيس جلسة عن توجيه علوم الحياة والتكنولوجيا الحيوية لخدمة العالم الثالث. 2004.
4 – مشارك في جلسة عن (حقوق الملكية الذهنية) .. 2004.
5 – مقرر جلسة عن (بناء القدرات في العلوم والتكنولوجيا من أجل مستقبل أفضل). 2004.
6 – مشارك في جلسة تدعو للتعاون من أجل صالح العلم والعالم. 2004.
7 – رئيس جلسة لإطلاق فعاليات موقع (المتمرسون). 2006.
8 – رئيس جلسة لمناقشة علاقة القطاع الخاص بالبحث العلمي. 2006.
9 – مقرر جلسة عن تدريب العاملين في مجال الصحة. 2006.
10 – مساعد رئيس جلسة عن أعمال اللجنة الأفريقية للتكنولوجيا الحيوية. 2006.
11 – مشارك بجلسة عن نصيب العالم النامي من التكنولوجيا. 2008.
12 – مدير جلسة عن أحوال الغذاء في العالم. 2008.
13 – مشارك في جلسة عن الدراسات المتقدمة للعاملين في المجالات الصحية. 2008.
14 – رئيس جلسة عن الاكتشافات الدوائية واللقاحات. 2008.
15 – رئيس جلسة عن موضوع مستقبلي : (الروبوتات الحيوية كصلة بين الهندسة وعلوم الحياة، بتطبيقاتها في مجالات الطب وعلوم الحياة والصناعة والبيئة). 2008.
16 – رئاسة جلسة عن الــ C.I.O.
17 –متحدث رئيسي في جلسة عن الدراسات المتقدمة التي يجب أن توجه للعاملين في المجالات البيئية.
ومن إصداراته الخاصة التي طبعت على نفقة المكتبة، ما يلي :
- العلم وثقافة تغيير الحياة (طبعتان) – 2007.
- المكتشفات بين يديك. (تحرير مع آخر) – 2004.
- الوعود وتنفيذها (تحرير، مع آخرين). 2008
- مبنى مبهر – تأملات حول البناء المعماري لمكتبة الإسكندرية. 2007.
- تصور لمستقبلنا – طبعتان – 2007.
- تغيير سبل العيش (تحرير، مع آخرين) – 2007.
- حرية التعبير (2007).
- إنطباعات عن مستقبلنا الرقمي – 2006.
- نساء العلوم – 2006.
- كناب في فقه الدساتير (!!!) – 2012.
ومن مجمل هذه المشاركات والإصدارات يسهل جداً تبيُّــنُ أن مدير المكتبة قد يكون على قدر من العلم والثقافة يتيح له تأليفَ كتاب عن تأملاته في مبنى المكتبة، فهو يحمل درجة الدكتوراة في الهندسة؛ لكن المنطق يجعلنا نتعجب، ونتشكك، في إمكانياته وفي قدرته على (إنتاج) بقية الإصدارات التي تحمل اسمه مؤلفاً أو محرراً، وآخرها كتابٌ في فقه الدساتير!
وحتى إن تغاضينا عن ذلك، فلا يمكن التغاضي عن تدخل مهندس معماري في أعمال (مؤتمر) علمي متخصص في البيولوجيا الحديثة، التي تحير قضاياها كثيراً من البيولوجيين أنفسهم، متحدثاً، ومديراً لجلسات تعالج موضوعات بعيدة كل البعد عن تخصصه المهني، كالتكنولوجيا الحيوية، والطب، والصيدلة، والبيئة، والكيمياء، بالإضافة إلى حقوق الملكية الذهنية، وأحوال الغذاء في العالم، وبناء القدرات العلمية والتكنولوجية، بل وقد رأيناه محاضراً في مؤتمر عن الرياضيات وتدريس العلوم !.
والمؤكَّــدُ أن هذا المدير لم يكن ليصدرَ كل هذه الكتب، ولم يكن ليتمكن من فرض ذاته على هذا النحو بالغ النرجسية، لو كان في موقع آخر، خارج جدران المكتبة، وقبل كل ذلك، لو لم يكن مستمداً قوةً من سطوة أسرة نهبت مصر وأشاعت فيها الفساد، بل نهبت أموال المكتبة ذاتها!. والمؤكد أيضاً أن مشاركاته وتدخلاته في غير تخصصه، وفي حضرة أساطين العلم، كانت تُقابل بالمجاملة، فهو المضيف صاحب البيت.
لكل ما سبق، فإن الكاتب لا يجدُ نفسَــه بحاجة لأن يعتذر عن اضطراره إلى استخدام هاتين الكلمتين الدارجتين عنواناً لمقاله، فهما – في رأيه – أبلغ ما يمكن أن تعبر به العامية المصرية البديعة عن الشخصية التي يتعرض لها، وفق ما أثبته من أحوالها.
تاريخٌ جنسيٌّ
أراجع الآن ما يمكن أن أسميه (التاريخ الجنسي للدولة الإسلامية)، وأحاول أن أتفهم ملامح هذا التاريخ محاطة بظروف الواقع التي تكونت فيه.
الغرض من التأمل ليس التشهير أو السخرية، وإن كان ذلك وارد في حالات غاية في (التطرف)، ولكنها محاولة للإحاطة بمفهوم (دولة)، من خلال سلوكيات حاكمة في حياة كل الناس، وليس الحكام فقط، هي سلوكياتهم الجنسية، التي يمكن أن تفرخ قرارات ومواقف مؤثرة على أحوال الدولة وحياة الرعية.
من حالات التطرف التي استوقفتني طويلاً، ما يقال عن أن هارون الرشيد، خليفة المسلمين، كان له مما ملكت يداه (الجواري) ألفان.
ولا أعتقد أن أحداً يستطيع تصور وجود ألفين من النساء (يحملن صفة الأمة)، ولا وجود شرعي لهن، وهنَّ كيانات بشرية لهن احتياجاتهم الجسدية، بغض النظر عن الوضعية الاجتماعية.
ولا أعتقد أن عمنا هارون تمكن من أن يطرق باب كل إمائه، أو يركله مقتحماُ. وحتى إن تخيلنا، فنحن أمام رجل مستنفد الطاقة، تطغى قدراته الجسدية، إن افترضنا وجودها، على حظ أي قدرات أخرى من الوقت والجهد. فكم للفراش وكم للعرش؟!
الأخطر من ذلك، أن فرصة اللجوء إلى (التصرف) من أجل إرضاء الحاجة الجسدية تكون كبيرة بين الإماء اللاتي لا يكدن يرين الخليفة، فيتحول (قصر الخلافة) إلى بؤرة دعارة في الخفاء، والخفاء بين الجواري ليس بالخفاء.
ومن الحالات أيضاً، أن خليفة أندلسي (أهدى) أحد رجال الدولة (ست جواري)، فأرسل له (رجل الدولة) رسالة في الصباح، يشكر مولاه على عطاياه، ويطمئنه إلى أنه قد (فضهن) جميعاً في نفس الليلة !
هكذا تكون إدارة الدول !
ديكي ... !
كنتُ من هواة صراع الدِيَـكة !
ظللتُ لزمن طويل أتابع حلقاته كل يوم جمعة، بعد الصلاة، خلف (دون بسكو)، في سوق الطيور - باب عمر باشا، في الإسكندرية..
بمرور الوقت، أدمنتُ المشاهدة. ولم ألبث أن تجرأتُ واشتريت بعض الديوك، شاركتُ بها في السباق، فمزقتها الديوك المنافسة، واحداً بعد الآخر.
أغراني تاجر كبير بشراء أحد ديوكه. قال: لن تجد أشرس منه. كان منفوش الريش، لامعه. حاد المنقار. مدبب المخالب. لا يستقر، في حركة دائبة.
إشتريته. وتحينت الفرصة لـ (ألعب) به بعض المباريات. صمد قليلاً من الوقت، لكن جهده لم يلبث أن تهاوى، وسقط جريحاً في آخر مباراة.
حملته وذهبت إلى التاجر الغشاش. قلت له: غششتني .. ليس هذا بديك !
قال بكل ثقة: رأته عيناك ديكاً، واشتريته.
قلتُ: أنت زيفت هيئته وزينته في نظري، ولكنه لا يصلح لحلقات الصراع.
قال منهياً الحوار: ديك، والا موش ديك؟!
للمطر تاريخ طبيعي وثقافي
عندما تمطر السماء في الإسكندرية أقول: الإسكندرية تغتسل .. لا يكفيها البحر، ولكنها سيدة نزقة، تستعذب بلل ملابسها!
وأنا أحب المطر، ولا أسعى للاختباء منه إن فاجأني وأنا أسير بوسط الطريق. كل الأطفال بداخلنا يحبون المطر.
وأستعدُّ حالياً لترجمة كتاب يرى نفرٌ من الدارسين أنه أول كتاب يحكي قصة المطر، وأنقل لكم بعض انطباعاتي عنه بعد قراءتي الأولى له. مؤلفته هي الصحافية البيئية سينثيا بارنِت، التي يبدو أن طول معايشتها لتاريخ المطر استبدَّ بها لدرجة أنها تبدو في صورتها الشخصية المُفضَّلة لديها تبتسم لخيوط المطر المنهمرة عليها. وقد أعطت كتابها عنواناً هو: "التاريخ الطبيعي والثقافي للمطر" (Rain: A Natural and Cultural History) وفيه إحاطة بدور المطر في تحديد مسارات الحضارة البشرية التي شهدت، على امتداد آلاف السنين، تباينات هائلة في معدلات الهطول أثرت في دورات متواترة من استقرار هذه الحضارة وتدهورها، وتدارسٌ لعلاقتنا المستمرة بالأمطار كظاهرة طبيعية، وهي علاقة تتسم بالدينامية ومثيرة للجدل والنزاع في كثير من الأحيان. كما يتعرض الكتاب لمحاولات الإنسان المستمرة لتغيير وتيرة المطر، ولتسخيره، بدايةً بالتوجه بالصلاة والقرابين إلى آلهة المطر، وأيضاً بالرقصات، وحتى بما يجري حالياً من محاولات لاستخدام ما توفر لدينا من علم وتكنولوجيا للتحكم في الأمطار، جلباً أو منعاً. وقد رأينا الصين، على سبيل المثال، تُطلقُ أكثر من ألف صاروخ محمل بمواد كيميائية مبددة لتجمعات السحب فوق العاصمة بيجينغ، خشية أن تعطل الأمطار مهرجان افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية عام 2008، كما أن لدى الصين أكبر مشروع للاستمطار. وترى المؤلفة أن الأولى بنا أن نتصالح مع المناخ فتعود كل الأحوال لتوازناتها الطبيعية.
ومؤلفة الكتاب راوية من الطراز الأول، وهي تنتقي لكتابها حكايات من التاريخ تصف استجابات البشر لظاهرة المطر، منها أصل المعاطف الواقية من الأمطار التي نقلها الأوربيون عن القبائل المكسيكية في القرن السابع عشر، وكانت تصنع من إفرازات لحاء شجرة المطاط التي كان المكسيكيون يطلقون عليها الاسم الشائع الآن "الكاوتشوك"، وقد استغرق تحويلها من مادة شديدة اللزوجة، كريهة الرائحة، إلى مطاط يصلح لصنع معاطف يقبلها الناس زمناً طويلاً، وكان ذلك بمعرفة الكيميائي الاسكوتلندي تشارلس ماكينتوش.
وتدلنا المؤلفة في كتابها على أغرب نوع من العطور، له "شذى المطر"، وهي تلك الرائحة المبهجة التي تشيع في أعقاب رخات قصيرة من المطر، وبخاصة في المناطق التي لا تعرف المطر كثيراً، ومصدرها زيوت عطرية هيدروكربونية متطايرة تفرزها النباتات، وتسمى "تربينات". وكان كيميائيان أوستراليان أعلنا في ستينات القرن الماضي اكتشافهما لسر شذى المطر، والحقيقة أن المكتشف الأول له سكان قرية قديمة في شمال الهند تدعى "كانايوج"، اشتهرت بصناعة العطور، وقد اكتسبوا مهارة استخلاص شذى المطر من الأرض، عشية هبوب الرياح الموسمية، وتقطيره وتعبئته في زجاجات، وأعطوه اسم"ميتي أتَّار".
القصة القصيرة وأنا ..
نبهني صديقي الفاضل، الكاتب الكبير الأستاذ نجيب صعب، رئيس تحرير مجلة (البيئة والتنمية)، والشخصية المرموقة في المجتمعات البيئية والعلمية العالمية، إلى أنني (أكتب القصة طول الوقت) في الفيس بوك.
وهذا حق. فالقصة القصيرة هي (عفريتي) الذي لا يغادرني.
يتمكن مني أسلوبي الذي تحصلتُ عليه عبر علاقة طويلة بالقصة القصيرة (منذ 1966 حتى الآن)، ويفرض نفسه عليَّ حتى في حواراتي الاعتيادية، فأمل الثرثرة، نسائية كانت أو رجالية، فجغرافية القصة القصيرة تحتفي بمناسيب المرتفعات والمنخفضات، وتمجُّ المسطحات.
وكاتب القصة القصيرة المتمكن هو كمخرج المسرح القدير، لديه مساحة محدودة جداً، هي خشبة المسرح، غير أنه يستطيع أن يجعلها أوسع بما يضيفه إليها من (مستويات) فيزيقية مرئية، أو مستويات افتراضية.
بل إنني في كتاباتي العلمية أجدني أنحاز إلى لغة القصة القصيرة، التي تعطيني عبارات لها أناقة الرداء القشيب المكوي بعناية.
وأنا لا (أقرب) القصة القصيرة إلا إن كنتُ مهيَّأً لها تماماً، فآتيها وأنا أمتلك كل مفاتيح أبوابها، وفي يدي خريطة عالمها السحري، والفكرة مختمرة تماماً في ذهني، وأحياناً مكسوة بلحم من أنسجة لغوية، تفرض نفسها قبل الكتابة، فإن جلست بين يديها ذُبتُ فيها، فتمنحني لذة حقيقية وهي تتخلقُ، ملمحاً ملمحاً، وشهقة بشهقة.
ولكن، وللأسف الشديد، أجدني مضطراً لهجرها زمناً طويلاً، ويتهمني بعض أصدقائي بعدم الإخلاص لها، وهم لا يعرفون أن شغفي بها كينبوع حار دائم التدفق، وربما يكون ولَّدَ لديهم هذا الانطباع أن إصداراتي في هذا الفن العبقري قليلة؛ لكن (الوصال) قائم.
وقد حكيت عن تجربتي مع القصة القصيرة في مقال موسع نشرته في مجلة (الفيصل) منذ سنوات طويلة، عنوانه (القصة وأنا ..).
حتى لا ننســى ... !
"حتة" من مرافعة دفاع مبارك :
وتابع (؟؟) قائلا لمبارك "أنت لست أفضل من رسول الله "صلى الله عليه وسلم، حينما قذفه أهل الطائف بالحجارة حتى أدميت قدماه وتوجه إلى ربه ودعاه وطلب من الله أن يفك كربة، وأن يمتثل إلى حكم الله فيه. فإذا حكموا ببراءتك فمنة من الله، وإذا حكموا بإدانتك فهى إرادة الله، فاذهب إلى ساحة التنفيذ مودعًا بالقلوب والعبرات".
وقد صفق مؤيدو مبارك على الفور بعد انتهاء الـ(؟؟) من حديثه لمبارك.
واختتم الـ (؟؟) مرافعته موجهاً حديثه لمبارك:
"يا نسر الجو الجريح وقائد نسور مصر الأبطال فى حرب أكتوبر (1973)، حملت روحك على كفيك مرات ومرات، وواجهت الموت بقلب البواسل فنجاك الله لتواصل مسيرة الجهاد، لا تحزن بغدر من غدروا بك، وأنت تسمع وترى بنى وطنك ينقضون عليك وأنت أعزل، وانفضّ بين عشية وضحاها كل من كانوا حولك".
....لا تنسوا .. ضعوه في الصفحة التي تناسبه من صفحات التاريخ
إصلاح زراعي، ومديرية تحرير .. ومعونة أمريكية!!
عشنا معاً أحلام (نفوت على الصحرا تخضرّ)، ووزارة للإصلاح الزراعي، ودعاية رهيبة لمديرية التحرير ..
كانت تلك الأمور (بعض) من حقيقة أكبر، هي أنها لم تكن تكفي لإطعام المصريين الذين كان تعدادهم بالعام 1966 ثلاثين مليوناً، تضاعف الآن أكثر من 3 مرات.
لذلك، قبل (ناصر) بكل كبريائه المعونة الأمريكية، التي كانت توزع على الأسر من خلال تلاميذ المدارس.
وليس لذلك إلا ترجمة واحدة، هي أن مياه مصر كانت قاصرة عن أن تغطي آمال وطموحات عبد الناصر، فاضطر إلى قبول (مياه) من الخارج، في صورة السلع الغذائية التي قدمتها له المعونة الأمريكية.
وبهذا المنطق، فنحن (نستورد) الآن مياهاً (تخيلية، أو افتراضية) من الخارج، ربما فاق حجمها حجم ما نأخذه من مياه النيل (الحقيقية) .. والمياه التي نستوردها لا نلمسها إلا في صور أغذية، وملبوسات من ألياف طبيعية، وكافة السلع الأخرى التي تستهلك في إنتاجها مياهاً.
لذلك، فأنا أشعر بقلق شديد عند الإعلان عن (أراضٍ) جديدة، و(مدن جديدة)، و(إنجازات ..؟؟!) أخرى لا أعرف كيف تتوفر لها المياه، ونحن بلد شح مائي، و(نستورد)، كما قلنا، مياهاً افتراضية من الخارج ؟!
الحل الأمثل في رأيي، هو الأخذ بتجربة (سنغافورة)، التي لا يتوفر لديها إلا 10% فقط من احتياجاتها المائية، فأعطت كل جهدها لتنظيم تجارتها الخارجية، لتستورد كل ما يحتاجه الشعب من مختلف السلع، طالما لا تستطيع مواردها المائية الهزيلة أن تنتجه، فكأنها تستورد المياه.
غير أنَّ سنغافورة ربطت ذلك بثورة حقيقية في تنمية موارد أخرى أهم لديها، هي الموارد البشرية، فأصبحت الآن من نمور المستقبل!
للثقافة المصرية كُريَّاتُها الدموية البيضاء ..
لا أبالي على الإطلاق بالبثور والدمامل التي تطفحُ على وجه الثقافة المصرية من حين لآخر، لأنني واثق من أن ثمة جهازاً مناعياً يتحمل أعباء الاحتفاظ به حيَّاً فاعلاً نفرٌ قليل من المثقفين المصريين الحقيقيين، الذين يعملون في صمت، كما تعمل العقد الليمفاوية وكرات الدم البيضاء في مقاومة الجراثيم.
هل رأيت عقدةً ليمفاويةً ظاهرةً أمام عينيك، أو بعضاً من كريات الدم البيضاء؟!
من متعهدي كرات دم ثقافتنا البيضاء، الأستاذ طلعت الشايب.
راجع في (جوجل) عدد مرات تردد اسمه، ستجده أقل من تردد أسماء كثيرة لا قيمة لها على الإطلاق، في أي شأن من شئوننا الثقافية.
وهو مترجم انتحاري (أقول هذا بمناسبة عكوفي الآن على قراءة كتابه الضخم (أكثر من 700 صفحة)، والمهم (عن تاريخ الاستشراق الأمريكي وعلاقات الولايات المتحدة الأمريكية بدول منطقة الشرق الأوسط منذ 1945) .. مجهود خارق. ترجمة (خلاَّقة)!
هو أحد من تحول على أكتافهم المشروع القومي للترجمة إلى مركز خطير، هو أحد أهم المنشآت الثقافية التعبوية في بلادنا: المركز القومي للترجمة. سمعت جابر عصفور يصفه في احتفال عام، في بداية دوران عجلة المركز القومي للترجمة، بأنه (دينامو) المركز .. و .. لم يلبث أن أطاح به خارج المركز الذي شاركه تأسيسه، ليتناوب الاعتداء عليه أفراد جاءوا من وراء الجدران الأكاديمية بلا خبرة ولا موهبة، لا لهدف غير الارتزاق!
لدينا عدد من طلعت الشايب لا يزيد عن عدد أصابع اليدين؛ وأراه كافياً للاطمئنان إلى أن جسم ثقافتنا لم يتحول إلى جثة.
تصنيف
قضيتُ عمري العملي كلَّه، تقريباً، أشتغل بعلمٍ لا يستسيغه طلابُ العلوم البيولوجية، هو علم التصنيف، وتحديداً، تصنيف الكائنات البحرية، وفي دائرة أضيق: تصنيف الأسماك، وتضيق الدائرة أكثر لتقتصر على تصنيف أسماك عائلة التونة.
والتصنيف، لمن لا يعرفه، هو بمثابة استخراج بطاقة هوية للكائن الحي، وإن كانت بياناتها مختلفة عن هوياتنا، فيقابل الرقم القومي فيها إسمٌ مكون من شقين: إسم جنسٍ، واسم نوع، وقد يرفق اسم ثالث إن كان يندرج تحت النوع أكثر من (سلالة). وينبغي أن تكتب هذه الأسماء بحيث تتميز عن غيرها من الكتابات، فتكون بالبنط الثقيل وتحتها خط، أو بحروف مائلة. ويوضع اسم من استخرج بطاقة الهوية بين قوسين، في نهاية الاسم.
ويشتمل التصنيف أيضاً على وصف خارجي دقيق للكائن، وأنماط توزيعه، والأقاليم التي يشيع فيها، وقد يشتمل على صفات أخرى تؤكد تميزه، مثل توزيع الأحماض الأمينية في جزيئ البروتين الخاص به، فلكل كائن حي نمط توزيع خاص لهذه الأحماض، هو كالبصمة عند البشر.
ويبدو أن التصنيف قد تغلغل في حياتي، فأنا أصنف طول الوقت. أصنف من عرفت ومن يقابلني من البشر. وأصنف الوقائع. وأصنف السلوكيات.
فشلت في تصنيف واقعة 25 يناير. فقد صنفتها كثورة عظيمة، لكن الأحداث التالية إغتالتها، ومحتها من الوجود، وخاب تصنيفي لها.
إعترافـاتُ مُذْعِــن ..
أنا مُذعِن !.
أذعنتُ نحو 52 مرةً، هي عدد الكتب التي صدرت لي، حتى الآن. ودليلُ الإذعان الذي أقدمه ضد نفسي هو (عقود النشر)، المبرمة بين السادة الناشرين وشخصي الضعيف.
إذن، فكلمة مُذْعِن هي المرادف لمؤلف. وفي اللغة: أذعن إليه/ أذعن له: انقاد له، وخضع، وذلَّ، وأسرع في الطاعة. أي أن المؤلف المبدع يذهب إلى الناشر مُطأطئاً، طائعاً، راضياً بالإذلال، فيركبه الأخير (يركب كتفيه، حتى لا نُفهمُ خطأً، لأن الكتفين أقرب إلى الدماغ مصدر الفكر ومايسترو الإبداع) !.
وألتمس الرحمة في الحكم عليَّ، لأنني كنت حسن النية (أعرف أن القانون لا يعفي المغفلين!). كنت دائماً متحمساً لإصدار كتبي، ومعظمها في الثقافة العلمية، التي أراها مكوناً أساسياً لثقافةٍ عربية معاصرة، وفي الكتابة للطفل المصري المسكين المحروم من الثقافة الجيدة. فكنتُ لا أتوقف كثيراً أمام بنود العقود، ولا أهتم حتى بالقروش الضئيلة التي يقدمها الناشرون مقابل كل حقوق النشر، في سبيل أن يظهر الكتاب، وأفرح به كالأطفال حين تأتيهم (هدوم العيد)!.
مرة وحيدة أعلنتُ فيها العصيان على الإذعان لسلسلة كتاب الهلال للأولاد والبنات، التي قدمتُ لها مجموعة قصص مترجمة، فاستكثر عليَّ رئيس التحرير أن أنفرد بالكتاب، فأشرك معي آخر، كما أنه تدخل في انتقاء بعض ما قدمت من نصوص قصصية، وغير عناوينها، وتصرف كأنني غير موجود، حتى فوجئتُ بالكتاب في السوق، فأرسلت خطاباً بالواقعة إلى رئيس مجلس إدارة دار الهلال مكرم محمد أحمد، ولازلت أنتظر الرد!. المهم أن الكتاب غير منشور (رسمياً) لأنني لم أوقع عقداً بشأنه مع دار الهلال.
ولي كتاب آخر منشور (إعتبارياً)، بغير عقد قانوني بيني وجهة الإصدار، مركز الأهرام للترجمة والنشر، عنوانه (الحياة من حولنا)، وقد خاب سعيي لإبرام العقد حتى أجرب الإذعان لمؤسسة الأهرام، ومرت أربع سنوات دون أن أذوق طعم الإذعان لهذه المؤسسة العريقة، فلا شك أنه مختلف. والغريب في الأمر أن الناشر – بوقاحة يُحسدُ عليها - يعلن في ظهر الغلاف الداخلي للكتاب أن حقوق النشر محفوظة له
أما الهيئةُ العامة للكتاب فإنها تُصدِرُ الكتبَ ليفاجأ بها المؤلفون لدي موزعي الصحافة فيهرولون إلى (كورنيش النيل – رملة بولاق) ليبحثوا عن العقود والمستحقات. تكرر ذلك معي نحو عشر مرات. ولما نشر لي مشروع مكتبة الأسرة كتابي (غداً القرن 21)، إنتابني قلق لا أتذكرُ الآن مصدره، حتى أنني أرسلت إلى الدكتور سمير سرحان، رحمه الله، فاكساً أقول له فيه إن مكتبة الأسرة تتعامل مع المؤلفين وفقاً للنظرية النقدية الأدبية القائلة بـ(موت المؤلف)، فأدرك الرجل ما رميت إليه، وأرسل لي رداً فورياً بالفاكس يهنئني على كتابي ويدعوني لزيارة مقر الهيئة لأوقع عقد الكتاب. وذهبتُ، ووقعت العقد الذي كان ممهوراً بتوقيع سرحان، وقد أضاف بقلمه في فئة المكافأة رقماً أكبر مما كان مُثبتاً بالورقة، وكان الرجلُ يستأثرُ بتحديد قيمة العقد، وفقاً لعوامل عديدة، ليس أهمها جودة المادة أو نوعيتها، فقد كان مشروع مكتبة الأسرة مشروعاً (أُسَــرِيَّاً) بمعنى الكلمة!.
وتشترك كل صور العقود المبرمة بين الناشر والمؤلف في تصويرها لهذه العلاقة كأنها مباراة في المصارعة الحرة محسومة النتائج مُسبقاً، لصالح الناشر، فهو الذي يُعدُّ نصَّ العقد وِفق مصلحته، ويبدأ بأن يصف نفسه بأنه (الطرف الأول)، والمؤلف بالطرف الثاني، ولا يفرق في ذلك بين كاتب ناشئ يبدأ المشوار وأديب راسخ مشهور. كما يسود كل أشكال العقود انحيازٌ واضح لتقديم حقوق الناشر على أي حق للمؤلف، بل أحياناً لا تُذكر أي حقوق للمؤلف.
وينفردُ العقد الذي يبرمه المركز القومي للترجمة مع المترجمين ببندٍ عقابي، هو البند الثالث، الذي يشتمل على عقوبتين: فسخ العقد، وتوقيع غرامة مقدارها 25% من قيمته، خُفِّفت إلى 10%، إذا ارتكب المترجم جريمة التأخُّر عن تسليم الترجمة في الموعد المحدد، بغير تدرج في توقيع العقوبة، فمن تأخر شهراً كمن تأخر سنوات، الأمرُ الذي يترك الباب مفتوحاً لهوى إدارة المركز، تعفي من تشاء من المتأخرين، وتنفذ العقوبة في من تشاء. وتبرر تلك الإدارة هذا الإجراء المتعسف بأنها مرتبطة بمدىٍ زمني لحق الترجمة الذي تشتريه من الناشر، فلما وُوجِهت في حالة بعينها بأن النص الأصلي قد سقطت عنه الحقوق لأنه من إصدارات ثلاثينيات القرن الماضي، عادت تتحجج بتدخل الجهاز المركزي للمحاسبات. ولا نعرف صلة هذا الجهاز بعملية فنية معقدة كالترجمة، اللهم إلا إن كان قد أنشأ إدارة جديدة فيه لمراقبة حركة الترجمة. ولا تسأل إدارة المركز نفسها عن عملية إصدار الكتاب التي تستغرق أحياناً أكثر من سنة.
ولا يرد في عقود دور النشر الخاصة، وبعض دور النشر الحكومية، أي إشارة إلى ما يتحمله المؤلف من (إسهام) في تكاليف النشر. وهنا يصلُ الإذعان إلى حدٍّ لا يليق بمبدع أو مفكر، إذ أنه يدفع ثمناً لإذعانه. ويتحايل بعض الناشرين على هذه الناحية بأن يعتبروا إسهام المؤلف ثمناً لعدد من النسخ يحصل عليه عند ظهور الكتاب.
وللمسألة جوانب أخرى، يصعب الإحاطة بها جميعاً في هذا الحيز، فنكتفي في نهاية هذا الطرح السريع أن نشير إلى سلبية اتحاد كُتَّاب مصر فيما يخص حقوق الملكية الفكرية وتطوير القوانين واللوائح المنظمة لها والتعاطي الفعال مع القضايا التي تمس حقوق أعضائه. إن هذا الاتحاد يُلزمُ من يتقدم لطلب عضويته بأن يكون له ثلاثة كتب منشورة على الأقل، أي أن يكون متمرساً في ممارسة الإذعان، ويبدو أنه قد أصبح نقابة مُذعنة، وصار يستحق تغيير مُسـمَّاه ليصبح (إتحاد المذعنين المصريين)
إعجابٌ إسرائيلي !
لي كتابان علميان، صدرا في طبعات محدودة جداً عن مركز المعلومات البحرية في المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد، وهما قائمتان تصنيفيتان للأسماك: أحدهما لأسماك المياه المصرية من البحر الأحمر، والآخر للمتوسط.
فوجِئتُ بأنهما يترددان كثيراً في قائمة مراجع أبحاث علمية نشرها علماء بحار إسرائيليون في مجلات علمية عالمية.
ويؤخذ عدد مرات الاعتماد على مرجع في أبحاث لآخرين كمؤشر للنجاح.
وقد أهداني الإسرائيليون، دون غيرهم، هذا المؤشر. وبالمقارنة، فقد سمح أستاذ في معهد علوم البحار لنفسه أن ينشر في مجلة المعهد قائمة تصنيفية لأسماك البحر المتوسط، قام فيها بـ(إستعارة) قائمتي، الموثق تاريخُ إصدارها في مركز البيانات البحرية!
ما يهمني في هذا الأمر، أكثر، هو الكيفية التي حصل بها الباحثون الإسرائيليون على نسخة من شغلي، فأعداد النسخ محدودة جداً، وغير متداولة.
قيل لي إن زميلاً ممن كانوا يرحبون بالتعاون التطبيعي العلمي مع إسرائيل قد استغل (حسن) العلاقات بين المعهد ونظيره الإسرائيلي، وباعني لأصدقائه، الذين كان يمكن أن تغتالني شظايا داناتهم في أكتوبر 73.
ولا سبيل أمامي لرفض الإعجاب العلمي الإسرائيلي !
أول المستجيبين ..
الدُّبُّ القطبي هو أول كائن يعايشنا رصد لديه علماء السلوكيات استجابة للتغيرات المناخية.
إنه لا يستغني عن الأسطح الجليدية كوسط أساسي لحياته. صحيح أنه يغوص في حفر بهذه الأسطح، ولكن لغرض اقتناص سمكة كبيرة أو فقمة، ثم يعود للسطح.
إستشعر الدب القطبي أن أسطحه الجليدية باتت مهددة بالذوبان، جرَّاء الاحترار الكوني، فانتبه للتهديد المحدق بوجوده.
فماذا يفعل ؟
ما دام الجليد سيذوب، فعليه الاستعداد لحياة مائية خالصة.
وهكذا، وجد العلماء أن الدب القطبي يزيد زمن غوصاته، وأحياناً دون أن يطارد فريسة، ولكن لمجرد اكتساب لياقة الحياة المائية.
لذلك، يرى نفر من العلماء أن الدب القطبي لن ينقرض إن أشاع الاحترار الكوني الفوضى في العالم، فبمرور الوقت، سيكتسب مهارات وقدرات حياة الماء، مودعاً اليابسة الملتهبة، الخالية من الجليد !
لا يزال البشر يختلفون حول ما إذا كانت الحرارة ستزيد أم لا، وحول ما إذا كان الجليد سيذوب أم لا.
ليتهم يتعلمون من دببة القطب.
مصـر إلى أين ؟
أنا أغالبُ التشاؤم، حتى هذه اللحظة، مؤمناً بأن ما يجري في مصر الآن هو من نوع التفاعلات الكيميائية المتسلسلة، التي تحتاج إلى وقت طويل لتنتهي معطية (ناتجها النهائي)، نقي الجوهر، لنمد أيدينا ونستخلصه من بين رماد التجربة.
ومعنى مغالبتي التشاؤم أنه أحياناً يغلبني، ويمكنني أن أصف نفسي، مستخدماً وصف (إميل حبيبي) بـ "متشائل"؛ فعلى سبيل المثال، تشاءمتُ حين فوجئت بالشعب المصري يقترف خطأً تاريخياً، سيكلفه الكثير، بانحيازه إلى تيارين من المتأسلمين السياسيين، يمتطون الدين ليدخلوا به إلى ميدان لا خبرة لهم بدهاليزه، وكل همهم تأكيد وجودهم كنواب عن الله، لا عن الشعب. وأخشى أن صداماً سيقع بينهم والبسطاء الذين أعطوهم أصواتهم، ومكنوهم من أن يسرقوا ثورة شبَّتْ، ونجحت، بلا رأس مادية معلومة؛ وأعتقد أن ذلك الصدام واقع لا محالة حين يعجزون عن تقديم حلول تأتي بالعدالة الاجتماعية، وحين ينتقصون من حريات الناس. كما أعتقد أنه – الصدام - سيكلف غالياً، وسيكون أشد دموية من أحداث ثورة يناير !.
كما أتشاءم حين أقرأ شواهد عديدة على أن حجم الفساد أكبر من أي تصور، وأن أساسه هو شريحة كبيرة من (المنتفعين)، خلقها النظام السابق، ومن الأفراد الذين نشأوا بأخلاقيات (الخدم)، واكاد أقول (العبيد)؛ خدموا السيد الذى هوى، ويستعدون لخدمة السيد الطالع، وبين هذا وذاك يكافحون بكل السبل ليظلوا محتفظين بمواقعهم، بل إن آليات هلامية في المجتمع تؤازرهم (مدير هيئة ثقافية كبيرة في الإسكندرية، كان جزءاً لا يتجزأ من النظام السابق، وأسهم في ترسيخه، ولا يزال محتفظاً بموقعه، بل يختاره نفرٌ من الناس نائباً لرئيس هيئة علمية اشتهرت مؤخراً بعد أن أكلتها النيران !).
ومن جهة أخرى، فإنني أغلِـبُ التشاؤمَ، متمسكاً بالتفاؤل، في أحيان كثيرة، معتمداً على إيماني بأن ذلك التفاعل المتسلسل، البطيئ نسبياً، لابد أن يصل إلى نهايته. كل ما في الأمر، أن علينا أن نتحمل ما ينتجه من دخان خانق أحياناً، ومن نيران قد تحرِّقُ أصابعنا حيناً آخر، أو انفجارات صغيرة محدودة، وانبعاثات ضوئية تبهر العيون، تنشأ في مساره. وعلينا أيضاً أن نساعد التفاعل ليكتمل بأن نمده بالعوامل المساعدة، وأهمها ألا نفقد الأمل، وألا نغفل، وأن نبدأ من مقاعد المعارضة بالمشاركة في بناء الوطن، واستعادة الإنسان المصري.
وعلى المثقفين المصريين أن يكفوا عن التشرذم، وأن يتخلوا عن تضخم ذواتهم، وأن يخرجوا من حلزوناتهم، ويتقاربوا، فهم أول من ستطاله (هراوات) القادمين الجدد ومقصاتهم ومحارقهم وأدواتهم التكفيرية ومحاكمهم التفتيشية (حاولوا إعادة محاكمة "روح" نجيب محفوظ، وغطوا بالملاءات تمثال السلسلة في الإسكندرية!)؛ وأدعوهم إلى تكوين تجمعات أخرى موازية، غير النقابات والاتحادات السلبية والتي آلت إلى إدارات من المتأسلمين المشتغلين بالسياسة. لقد نجح النظام السابق في قصقصة ريش نجوم الحياة الثقافية المعاصرين له، ودجنهم، لدرجة أنهم أصدروا بياناً مخزياً يؤيدون فيه وزير ثقافة تسبب بالإهمال في موت عشرات من فناني المسرح، حرقاً في بني سويف. وأنا لا أعول كثيرا على من ساروا في مواكب النظام السابق وأكلوا على كل موائده، ونمت لحوم أكتافهم من عطاءاته لهم، وأدعو شباب المثقفين لأن ينتزعوا الصدارة من آباء أفلسوا، وقد يكونون الآن يرتبون أمورهم مع ولاة الأمر الجدد !.
عالم بلا نفط !
الشيخ محمد بن راشد يعلن استعدادات بلاده لوداع عصر النفط، وأن موعد استخراج آخر برميل قد اقترب.
ولي العهد السعودي يعلن استعداد بلاده لعرض نسبة من أراموكو السعودية للبيع.
مؤشران ظاهران على أن أفول زمن النفط قد حان.
لسنا نعلم إن كانت الدول النفطية لديها ترتيبات لتتحول إلى مجتمعات منتجة للثروة، بعد أن ظلت زمنا طويلاً مستخرجة لها ومصدرة.
لكن ثمة توقعات لمردودات عميقة لانتهاء البترول.
أتوقع أن تستجيب السوق العالمية للغذاء والتكنولوجيا استجابة سلبية، برفع أسعار سلعها، ولن يملك النفطيون السابقون إلا الاستجابة، سحباً من مخزون أرصدتهم النقدية، بعد أن كانوا يسحبون من الأرصدة النفطية.
سينعكس ذلك على فقراء العالم بالسلب، لتتسع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وبين الجوعي والمتخمين.
سيكون من العوامل المحفزة على هذه التوقعات التغيرات المناخية الحادة المنتظر أن يشهدها العالم، وأهمها مزيد من الاحترار، ومزيد من القحط.
أي دولة تحترم نفسها عليها الآن أن تدرس آفاق المستقبل المنظور، وأن تضع سيناريوهات عديدة، قابلة للتطبيق، لمواجهة أزمات مختلفة تماماً ستريع العالم، بعذ أن نمتص آخر نقطة نفط.
تفكيرٌ سَـــوْقِيٌّ ..
لماذا لم تفكر السعودية في الجزيرتين إلا مؤخراً ؟
لأن خريطة المنطقة ستتغير في المستقبل المنظور.
ها هو ستار عصر النفط يُسدلُ، لنتحول - إذن - إلى خشبة مسرح أخرى ..
مسرح تتطلع فيه السعودية إلى استمرار تواجدها في حركة الاقتصاد العالمي عن طريق توفير (تسهيلات لوجيستية)، تتوفر فيها السرعة والأمان والفعالية الفائقة، بين (المحيط الآسيوي)، و(السوق الإفريقية)، ليجري تبادل منتجات الموارد الطبيعية، والسلع المنتجة - الغذائية على نحو خاص - والأيدي العاملة الرخيصة، في نظام جديد لتداول (الرقيق) بمفهوم القرن 21.
وستكون الجزيرتان هما عماد هذه التسهيلات المرتجاة، فهما مهيَّأتان هندسياً ليحملا جسراً سريعاً يحقق هذا (الفكر السوقي)، الذي سيضرب - ضمناً - قناة السويس، أو يقلل من شأنها في أفضل الأحوال. فالسفن تنتظر طويلاً في السويس أو بورسعيد لتعبر القناة، أما الجسر العلوي الذي ستتحكم فيه السعودية إن أحكمت قبضتها على الجزيرتين، فتعبره الشاحنة الحديثة المحملة بعشرات الأطنان من البضائع في دقائق معدودات، من (المحيط الآسيوي) إلى (السوق الإفريقية)، والعكس.
يزيد من فعالية هذه الفكرة، التي أنحاز إلى أنها موجودة فعلاً، أن فكرة أخرى يجري تدويرها الآن، وهي ربط القارة الأفريقية بالقارة الأوربية عن طريق (جسر أو نفق)، عبر مضيق جبل طارق. لم يُحسم الاختيار بعد، ولكن الفكرة موجودة، وسوف تقفز إلى حيز الوجود إن تحقق للسعودية ما تطمع فيه.
ولا أجدني بحاجة إلى القول بأن هذه فكرة ليست من إنتاج العقل العربي، فالصدأ مانع للأفكار؛ ولكنها فكرة (أسياد) أداروا موارد المنطقة النفطية لمصالحهم على مدى أكثر من قرن، هو زمن النفط، وأوهموا العرب، أو حكام دول النفط بأنهم يعملون لصالح المنطقة، واجتذبوا أرصدة النفط إلى بنوكهم.
إن من يراجع (إرهاصات) فكرة قناة السويس يجد فيها شبه تطابق بين (إرهاصات) الجزيرتين، ومشروعات ربط العالم المتخلف، بموارده البشرية والطبيعية، بالغرب الذي يحتاج للبشر (في صورة رقيق حديث)، وللموارد الطبيعية.
ولا يجب أن يغيب عن تفكيرنا أيضاً أن (خريطة) الربط تمتد لتشمل (الممر) الذي نكاد أن نستسلم للخداع فيه، والذي يشق صحراءنا الغربية (درعنا الواقي الغربي) شقَّاً، من أقصى جنوب الوطن (الأقرب إلى موارد أواسط أفريقيا الطبيعية)، إلى أقصى شماله (مياه المتوسط)، لتغذية آلات الرفاهية الغربية، ليزداد سكان الشمال غنىً ورغداً، وسكان الجنوب فقراً وجوعاً.
الحصافة ...
كانت خطتي الاستسلام لشمس ينايرية دافئة نادرة، واحتساء كوب شاي، وإجراء عدد من المهاتفات، في جلسة بمقهىً تطل على رمال شاطئ جليم.
مددتُ ساقيَّ مستجلباً مزيداً من الاسترخاء، مستمتعاً بمذاق شاي يخصني به عامل المقهى.
لم يدم انشغالي بنفسي كثيراً، فقد انتبهتُ إلى صبيٍّ على رمال الشاطئ، تراه عيناي الكليلتان جيداً، وأكثر ما نبهني إليه انشغالُه الشديدُ بأمرٍ ما، غير عابئ بقرب قدميه الحافيتين من خط تدحرج الأمواج على الشاطئ، ولابد أن المياه باردة. كان عاري الساعدين ومعظم الساقين.
حاولتُ أن أتخطى انشغالي به فلم أفلح، خاصةً وقد رأيته ينحنى ويبدأ في حفر رمال الشاطئ. يعبث برمال الشاطئ، حاسباً أن الصيف لم ينته. لعله معتوه صغير.
لكنه نجح في تغيير هذه الفكرة الطارئة، إذ وجدتُه يلتفتُ إلى كيس بلاستيكي إلى جواره، ويستخرج منه جاروفاً صغيراً، وبعض الأنابيب المرنة، ومسطحات بلاستيكية صغيرة. واستمر في الحفر، حتى أنشأ شبكة من الخطوط المتوازية والمتقاطعة، مستعيناً بأنابيبه وقطع البلاستيك، وما كان يصادفه من مهملات أخرى على الرمال من حوله.
أضطررتُ لأن أترك مقعدي لأقترب منه أكثر، لأرى بوضوح أكثر ما صنعته يداه، ففوجئتُ به وقد أقام منشآت رملية متعددة الطرز، مترابطة، تسري بينها قنوات من مياه الأمواج التي ينجح في استدراجها إلى مركَّبِه المعماري البديع، ليصرفها من جهات أخرى إلى البحر، في توافق وانسجام تامين.
أسعدني المشهد حقاً. وكأن طاقة سعادتي قد مسَّته، إذ التفت إليَّ مبتسماً، وتبادلنا إشراع إصبع الإبهام إلى أعلى، دلالة استحسان وإجادة.
غير أن المشهد المبهج لم يدم أكثر من دقائق قليلة. فماذا تنتظر من (أوان) غير مناسب أن يفعل بما أجدتَ صنعه، مهما كانت درجة مهارتك.
فقبل المهارة يجب اعتبار: الحصافة !
ليالي الكلاب الثلاثة
إشتُهِرَ الـ (تشوكشي)، سكانُ اقصى شرق سيبيريا، بتربية كلب الإسكيمو المعروف باسم (هاسكي) ذي القوة الهائلة والقدرة الفائقة على التحمل، وعذوبة الطبع؛ ويطيبُ للتشوكشي دائماً تذكُّرُ أن كلاب الهاسكي كانت محور حياتهم، فقد كانت نساؤهم يقمن على تربية الجراء، ويخترن ما يستحق الاحتفاظ به من أفضل الإناث وأفضل الذكور الخصيّة؛ وكان الرجالُ يقومون على تدريب الكلاب، والخصيّة منها بالأساس، على جـرِّ الزلاجات الجليدية. وكان لهذه الكلاب وظيفة أخرى هي مرافقة الأطفال والأسر؛ وكانت تنامُ داخل المسكن، ليحتفظَ الناسُ بدفء الأجسام في شتاءات سيبيريا شديدة البرودة. وفي الموروث الشعبي للتشوكشي، تتحدد درجة الحرارة ليلاً بعدد الكلاب اللازمة لتدفئة الفرد الواحد، فيقالُ لليلة الباردة (كانت ليلة كلبين)، وشديدة البرودة (كانت ليلة ثلاثة كلاب)
" من كتابي المترجم: مناخ ما قبل التاريخ"
"ناصر" ؟!
في نيروبي - كينيا - وفي حفل استقبال، أو كوكتيل .. ذلك الحفل الذي يقام في نهاية المؤتمرات، ويمر طاقم من السقاة على الضيوف الواقفين؛ وجدتُ أحدهم يبتسم في وجهي، ويقول: (ناصر)!.
هززتُ رأسي مبتسماً؛ فنشأت علاقة ترتب عليها أن كان يميل عليَّ في كل دورة من دوراته، وينفحني كأساً من البيرة، وبعض المقرقشات، ونتفاً من لحوم قال إنها من خصية تمساح!
وفي كل دورة، كان يبتسم :(ناصر)؟!
كنت سعيداً طبعاً بأنني من بلد ناصر، لذلك أحظى بتكريم مواطن أفريقي بسيط. لكن الليلة انتهت على نحوٍ ما، لا أعرف كيف .. إذ وجدتُ نفسي أستيقظ صباحاً في فراشي بحجرتي، وأنا بكامل ملابسي !!
في البحرين، قال لي سائق السيارة : وقت خطب جمال عبد الناصر كانت شوارعنا تخلو من المارة، فهم في بيوتهم وآذانهم معلقة بأجهزة المذياع، يستمعون إلى خطبة الريس !
قال أيضاً : إسمح لي .. عبد الناصر ليس لكم وحدكم .. نحن شركاء فيه !
قالت لي صديقة هناك إن أمها كانت تحتفظ بين مقتنياتها التي ورثتها عنها بصورة لجمال عبد الناصر، أرسلها لها ردا على خطاب منها إليه، وعلى ظهر الصورة كلمة رقيقة وتوقيعه.
نسيت أن أقول .. قال لي السائق البحريني، أيضاً : أنتم لا تستحقونه !
لماذا نصدق جمال عبد الناصر ؟!
استهلال:
أعرف أن كارهيه كثيرون، وهؤلاء غير مدعوين للمداخلة في هذا البوست بأي درجة.
أنا كنت أصدقه. لأنه لم يسرق. لأنه انتصر للفقراء. لأنه أتاح لي فرصة تعليم. لأنه تطلع إلى مجتمع اشتراكي، نختلف في تقدير قيمة نجاحه، لكنه حقق درجة من التنمية لم تشهدها مصر.
وأنا أصدقه، لأنه عندما أخطأ، وكان الخطأ فادحاً، إعترف بخطئه.
وأنا أصدقه لأنه لم يكن ليحقق برامج خدمة الفقراء إلا بالتضييق على أفراد كانوا أعداء واضحين للتجربة.
وأصدقه لأنه كان يتحدث من القلب. وكان حديثه المتدفق، بغير ورق مكتوب، هو عنوان الصدق.
كيف لا أصدق جمال عبد الناصر ؟!!
الحتمية المناخية
أنا ممن يعتقدون في (الحتمية المناخية)، ومفادُها - باختصار - أن تأثير المناخ هو الغالب؛ فهو الكامن وراء تبدلات جغراقية الأرض، وتوزعاتها الديموغرافية، وتطور أنظمة وأنماط إعاشة كل الكائنات الحية، وتمهيد الطريق لحضارات تبزغ وتسود، ولأخرى تضمر وتبيد. وامتد تأثيره إلى علاقتنا بغيرنا من كائنات، وبما نغطي به أجسامنا، وبما تتلون به جلودنا من أصباغ، وبما يجتاحنا من أوبئة.
المناخ هو الحتم.
التنوع والاستدامة
أنا مؤمن بمقاربتين Approaches علميتين، من صياغة النصف الثاني من القرن العشرين، ولهما ترجيعاتهما الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إضافة إلى القيمة العلمية في مجال الدراسات البيئية.
المقاربة الأولى هي التنوع الأحيائي : Biodiversity
وهو غير الغنى الأحيائي، فالأول معناه أن تذخر الحياة بأعداد كبيرة من (الأنواع)، مهما قلَّ عدد (أفراد) كل نوع، بينما الثاني يعني الغنى، مهما كان فاحشاً، في أعداد نوع واحد أو نوعين.
أما الاستدامة Sustainability ، فتعني التعاطي مع الموارد والخدمات الراهنة، على نحو رشيد، يحقق باعتدال كلَّ أو جانباً من خطط التنمية المعاصرة، ولا يجهد الموارد، لتأخذ منها الأجيال التالية قدر ما أخذنا منها.
أما عن ترجيعات كل من المقاربتين في جوانب حياتنا المختلفة، فنحن أبعد ما نكون عن الاحتفال بأي منهما؛ وأغلب الظن ألاَّ دراية للقائمين على أمورنا، الذين رزأنا الله بهم، بمثل هذه الأفكار ..
فهم لا يحرصون على (التنوع)، بل يجمعون حولهم أفراداً تكراريين، أو (كولونات)، أو بيادق رقعة شطرنج، مطيحين بما يمكن أن يتمخض عنه التنوع من خصوبة في الأفكار.
وهم لا يراعون الاستدامة، فقانونهم التكالب المسعور على النفوذ والسلطة، وإزاحة الأجيال الطالعة، في صراع مقيت من أجل المصالح الشخصية.
لقد جاءت إلينا هاتان المقاربتان من (العقل الغربي)، الذي أفرزهما فوجدتا لديه بيئة صالحة لاستيعابهما في شتى نواحي الحياة. أما نحن، الذين لا (ينتج) عقلنا المتخلف شيئاً، فمن الطبيعي أن يكو ن احتفاؤنا بمثل هذه المقاربات وقتياً، وانطباعياً، لا يتسم بالأصالة.
أنا - وحدي - حزبٌ ناصــري ... !!
إبّان بداية التجربة الحزبية، طرت فرحاً بتكوين حزب ناصري التوجه؛ وكان لأحد أصدقائي صلة بالمؤسسين في الإسكندرية، وأحضر لنا استمارات عضوية (بفلوس).
ملأت استمارة، حملها ذلك الصديق إلى مقر الحزب، وانتظرت شهوراً، فلم يتصل بي أحد. ذهبت إلى مقر الحزب في شارع أديب بالمنشية، فوجدت أنفاراً لا يختلفون كثيراً عن نموذج موظف الأرشيف المترب، مظهراً وفكراً.
سألت عن أخبار العضوية، لم يهتم أحد بالإجابة.
اغتظت. قلت لهم:
هل هذه بداية تليق بحزب يحمل اسم عبد الناصر؟ .. لن يكون مصدر سعادة لي أن أكون معكم في نفس الحزب، فشتان بينكم وناصر. لن أنضم للحزب، وأنا أسحب استمارتي، وسأكون أنا وحدي (حزبا ناصريا)، أستمر في حب ناصر، وأداوم على مراجعة أدبيات التجربة الناصرية، وأعمق انتقاداتي للتجربة قبل دفاعاتي عنها.
وفي نفس الأسبوع، كتبت قصة عنوانها (جمال عبد الناصر)، نشرتها لي المتألقة دوماً (فريدة النقاش) في (أدب ونقد).
كم نفتقدك يا زعيم !
تـَـمَـــلِّــــي ... !
صورة قصصية
خارج مقهي (زيجوتو)، على شريط ترام (باكوس).
جلست، وبدأت أتناول إفطاري .. ساندويتشان: فول وطعمية، مع كوب الشاي المخصوص، أحضره لي (سعيد) الجرسون، دون أن أطلب، كالعادة.
حطَّ على كرسي الناحية الأخرى من الطاولة الصغيرة رجل في جلباب أبيض، بغير استئذان، مع توفر طاولات خالية. لم أهتم، وواصلت الأكل، فقد تأخر إفطاري.
بدا شريك الطاولة متململاً. أدركني القلق، وما أسهل أن يدركني، فأنا من فرائسه الدائمين الطيعين.
ما إن انتهيتُ من طعامي حتى لاحظت أن الرجل في الجلباب الأبيض يغالب رغبة مستبدة في الإفضاء. بدأ يتحدث بطريقة توحي بأننا في حديث متواصل منذ ساعة، وأننا متعارفان.
مرَّ بنا سعيد، فطلبت منه أن يأتي بمشروب لرفيق الطاولة. نظر إليَّ مندهشاً، ثم إلى رفيقي، وقد بدا الانزعاج على وجهه.
واصل رجل الجلباب الأبيض: أولاد هذه الأيام يشاركون آباءهم التدخين. أعرف ولداً يجلس مع أبيه في هذا المقهى مساءً، يدخنان الشيشة !.
قال أيضاً: لم أكن أجرؤ على التدخين في حضرة أخي الأكبر، ولازلت. أما أبي، فكنت أتحاشى التواجد أمامه .. كان شديد البطش .. جعل منا رجالاً !
ولاحظتُ أن سائلاً يلتمع في عينيه، وانساب بعض منه إلى ما تحت العينين.
استمر يحكي: قضيتُ طفولتي أعمل في وسية (نينا تيته) .. أجمع القطن، بيومية خمسة قروش !
سألته: من (نينا تيته) ؟
إلتفت إليَّ مرحباً باستجابتي لحديثه بهذا السؤال. قال: صاحبة الوسية. كانت تقف في شرفة قصرها وعلى عينيها منظار مقرِّب، مثل الذي كان يحمله (عبد المنعم رياض)، تراقب به أداء العمال، من وقت لآخر ..
استطرد: كنت أعمل (تَـمَـلِّــي( !
توقف قليلاً، ثم سألني : لم تسألني عن معنى كلمة (تملي) ؟!
هززتُ رأسي، موافقاً على تساؤله. راح يشرح: تمللي، يعني طول الوقت .. من أول ضوء لآخر ضوء!
استمر يفصّل: ثم جاءت حرب اليمن !
تعجبت للانعطافة الحادة في حكايته، لكني آثرتُ ألا أقطع استرساله الحر. واصل: ذهب إليها أخي الأكبر، ولما عاد، أرسل لنا عبد الناصر لجنة، فحصت أحوالنا، وملكتنا ثلاثة أفدنة، من أراضي وسية نينا تيته، بعد أن أخذها الإصلاح الزراعي!
قررت أن أشاركه الحديث: كان العائدون من اليمن يحصلون على امتيازات، فعلاً !
قال: استأثر أخي بالأفدنة الثلاثة، وقال إنها له، لأنه هو الذي حارب في اليمن، وكان يمكن أن يرجع إلينا محمولاً في صندوق !.
توقف طويلاً يشرب الشاي الذي أتي له به سعيد. كان يشربه ساخناً، دون انتظار لأن يبرد، حتى انتهى منه في ثوان معدودة. وأخرج من جيب علي صدر جلبابه سيجارة مفردة، أشعلها من سيجارة في يد جارٍ آخر، وعاد يتحدث وهو يدخن: أخذ الفدادين، مع أن اللجنة أخذت أسماء أفراد الأسرة، وقالت إن الأرض لنا كلنا .. وقد حولها إلى بستان فاكهة. وأرسل لي سبعة آلاف جنيه عندما أجريت الجراحة منذ شهرين .. كثيرون نصحونا بأن نطالب بحقنا في الأرض، لكني رفضت .. هو أخي، أولاً وأخيراً، وأنا مستور والحمد لله ..
سألته وأنا أستعد للمغادرة: أنت إذن، تعز جمال عبد الناصر !
رفع إليَّ رأسه: يا سلام يا أستاذ! .. وهل أتى الزمان بمثله؟!
جاء سعيد، فحاسبته، وأوصيته بأن يقدم للرجل ذي الجلباب الأبيض مشروبا إضافياً متميزاً.
أهمية وسائل الإيضاح !
أنا من أشد المؤمنين بأهمية وسائل الإيضاح في العملية التعليمية.
تأكد لي ذلك من خلال ما كان يستخدمه (الشيخ الشورى) وهو يفسر لنا آية: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) .. وكان يمرُّ أثناء الشرح بين مقاعدنا، وكان في أطراف الطاولات أمامنا فتحات لنضع فيها (دوايات) الحبر؛ وظل الرجل يُقحِمُ سبابته في كل فتحة طاولة وهو يشدد في نطقه كلمة يطمثهن، حتى انتهي من (طمث) كل (خروم) طاولاتنا، خرماً خرما، فحفظنا الآية، وتجسد لنا معناها، وهو (النكاح المصحوب بالإدماء)، وها أنا أتذكره الآن بعد نحو 60 سنة!
رحم الله الشيخ الشورى، من مدرسة الجمعية السنية لتحفيظ القرآن الكريم، في غيط العنب، بالإسكندرية. كان خبيراً تربوياً ضليعاً، وأبدع وسيلة إيضاح لم يسبقه إليها أحد !
الكتابة ما تأكلشي عيش!!
ظل نجيب محفوظ مخلصاً للوظيفة الحكومية، معتمداً عليها كمصدر دخل (ثابت) (مضمون) حتى تقاعده، وهو من هو: (نجيب محفوظ)، بإنتاجه الروائي والقصصي الضخم، المنتظم.
ولا يزال الحال على ما هو عليه بالنسبة للسواد الأعظم من المشتغلين بالكتابة في مصر، من غير الكُتاب الرسميين، أي الكتاب المستقلين، أو (المراسلين)، الذين لا تربطهم بجهة النشر (صحيفة أو مجلة)، إلا طابع البريد (حتى وقت قريب) والبريد الإليكتروني حالياً. الفيصل والمحك في العلاقة بينهما هو مدى جودة ما يقدمونه، وأحياناً صلات معرفة، أو مصالح متبادلة.
معنى هذا انتفاء صفة (الانتظام) في هذه العلاقة، فهي (على كف عفريت)، خصوصاً وسط الاضطرابات الدراماتيكية التي تضرب جسد الثقافة المصرية منذ سنوات، حتى الآن.
فإن أضفنا إلى ذلك (تفاهة) المردود من الكتابة (الأهرام، بجلالة قدرها، تخصص 600 جنيه عن نشر قصة في صفحة ملحق الجمعة، مثلاً)، وهناك صحف أخرى، كالقاهرة، تقل مكافأة النشر فيها عن 100 جنيه لـ (القطعة)!. وأخبار (الأدب) تنشر (الأدب) ببلاش!!!!. نشر القصة أو القصيدة بلا مقابل، أما المقال، فبمائة جنيه، لحين ميسرة!!!
وتكتمل فصول المهزلة عندما يدخل في المشهد (صراف) لص، يستغل تأخر أو غياب من يستحقون ملاليم المكافأة، فيسرقها! (حدث ذلك معي، في وجود صراف اسمه رضا، في جريدة القاهرة).
أحوال في منتهى الوساخة!!
والجميع ملتزم بالصمت. الكتَّاب خانعون. المسئولون عن منافذ النشر لا مبالون.
لا أحد يفكر في أن وضع (حقوق الملكية الفكرية) في الاعتبار هو مسألة مبدأ، واحترام للذات، وللفكر والإبداع.
إنك لا تستطيع أن تستخدم اسم (كنتاكي) إلا إن اتفقت مع صاحب الاسم، ولكن أخبار الأدب تنشر (إبداع) الكتاب المصريين (ببلاشي)!!
ولا تسألوني عن اتحاد الكُتاب المصريين، فهو (ودن من طين وودن من عجين)، محتشد بالطواويس منفوشة الريش.
هل أنا مبالغ ؟
هل أنا مُحتدٌّ؟
هل هي (قضية ذاتية)؟. نعم .. هي قضية تمسني في معيشتي، تماماً كما تمس (جار النبي الحلو) في المحلة، و(عيد صالح) في دمياط ودرويش الأسيوطي في أسيوط وعزت الطيري في قنا. كلنا مهانون، يجري اختلاس حقوقنا المادية، ولا نتكلم، ولا نجد من يراجع معنا الموقف.
هل يمكن أن يكون هذا الموضوع محوراً لأحد مؤتمرات أدباء مصر؟.
أشك في ذلك، فهي دورات تهتم بمسائل أدبية بحثية متعمقة، يدفع المشاركين دفعاً إلى مغادرة جلسات المؤتمر، والتناثر على المقاهي المجاورة.
الأغلبيةُ المُحْـجِــمَـــــة !
ترددت في الآونة الأخيرة أقوالٌ تتهم من لايشاركون في الاستفتاءات والانتخابات القومية بالخيانة، أو – على الأقل – بالإهمال تجاه واجب وطني.
ولم يهتم أحدٌ بتبيُّـن طبيعة هذه الكتلة، التي لا أسميها (صامتة) أو (مقاطعة)، وإنما (مُحْجِمَة)، بمعنى أنها – في معظمها طبعاً – تتمنى لو أنها شاركت، غير أن أموراً تجعلها تُحجم عن الذهاب إلى لجنة الانتخابات، وهي لا تدعو الآخرين إلى الإحجام مثلها، ولا يأتي إحجامُها بتأثيرٍ من آخرين، وإنما من قراءتها للمشهد العام، أو من عدم اقتناعها بشخصيات أو أفكار وبرامج المرشحين، أو من إيمانها بعدم وجود آليات فرز فعالة قادرة على تقديم شخصيات متعددة لائقة للمنافسة الانتخابية.
إن هذه الكتلة المُحجمة بحاجة لدراسة موسعة لتبين ملامحها، والتعامل معها بتفهم، وبدون اتهامات.
زفرةُ ضِيقٍ ...
يا شوية مثقفين .. لا انتم نخبه ولا حاجه ...
انتو لا شيئ.
أي شيئ له وجود بيبقى له، على الأقل، طيف حراري يقول أنا هنا ..
إنتو أجسام بارده ..
حتى صوتكوا موش طالع ..
وما حدش بيسمعكوا بتقولوا إيه ..
بتكتبوا وتفِنُّـوا، فراكيش فراكيش فراكيش!
بتنفخوا ف قربه مخرومه، وده تغفيل ..
وانتوا أفقر ناس في البلد ..
وانتوا أمرض ناس في البلد ..
ومعظمكم بيخاف من خياله ..
وفيكم مستعدين للخبص، والخيانه، وتغيير الاتجاه 180 درجه (ده إن كان فيه أصلا اتجاه)!
وللأسف .. أحياناً يتقال لي إن أنا .. مثقف!!
مكتبة الإسكندرية وأنا ..
في زمن المراحل التمهيدية لإنشاء مكتبة الإسكندرية (تعجز ذاكرتي عن التحديد)، فوجئتُ بإخطار يصلني من مكتب بريد الأنفوشي، القريب من مبني المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد، حيث أعمل، بضرورة الحضور لاستلام طرد خاص بي، مرسل من الخارج.
إعتقدتُ أن أستاذي الدكتور سليم أنطون، في اليونسكو بباريس، قد أهداني بعضاً من إنتاجه في قسم علوم البحار، الذي يترأسه في المنظمة الدولية، فأسرعتُ إلى المكتب، حيث كانت المفاجأة ..
نحو عشرين ملفاً ضخماً، سماوية اللون، ولم تكن مرسلةً إليَّ، ولكن موجَّهة إلى الأستاذ الدكتور محسن زهران، المدير العام المشرف على تنفيذ مشروع المكتبة، والذي أُغرق دوره وجهده وراء ستر ظلامية.
قال لي مدير المكتب إن إدارته وجهت الطرد إليَّ، لسبب استغربته جداً، وهو أنني دائم التلقي لخطابات أجنبية كثيرة.
فكرتُ بسرعة، وقررت قبول مسئولية استلام هذا الطرد العجيب؛ غير أنني سرعان ما ترددتُ عندما علمت أن عليَّ تسديد قيمة رسوم (أرضية)، بلغت نحو عشرين جنيهاً، وهو مبلغ (محسوس) في ذلك الوقت. غير أن زميلاً كان يرافقني تطوع بالتسديد.
حملنا الملفات وعدنا بها إلى المعهد، ورحنا نتفحصها. كانت تضم رسومات ومساقط هندسية لكل متر في هيكل مبنى المكتبة، صادرة من (تجمُّع) المكاتب الهندسية التي وضعت تصميم المبنى.
في اليوم التالي، حملت الملفات في سيارة المعهد، واتجهتُ إلى كلية الهندسة، وسلمت (الأمانة) إلى مسئول بالقسم الذي كان يرأسه الدكتور زهران.
جعلتني هذه المصادفة القدرية أشعر بأنني مشارك، على نحو ما، في إنشاء المكتبة.
إذن، فأنا أقرب من كثيرين من مكتبة الإسكندرية، التي أسهمت بعد ذلك في لجانها للتزويد والاقتناء؛ واستمتعتُ بالتردد على فعاليات فنية وثقافية فيها، حتى تحولت إلى إقطاعية مباركية، فكرهتها منذ يوم افتتاحها (الرسمي) الذي حضرته سوزان مبارك، حيث ظللت عالقاً في (طابور) أمني لنحو ساعة، قبل أن أدخل بيتاً كنت متابعاً لتشييده، تحول إلى مركز خدمات وتشهيلات.
صديقي ميكا من كوكب إيلجو
أعكفُ الآن على ترجمة قصص من نوع الخيال العلمي للكاتب النروجي "جوستين جاردر"، وبينها قصة مدهشة، عنوانها "مرحباً! هل من أحد هناك؟"، تحكي عن الطفل يواكيم، الذي كان يبلغ من العمر ثماني سنوات حين وطأت أول قدم بشرية سطح القمر عام 1969، فينشغل بذلك الحدث انشغالاً شديداً، ويفاجأ بزائر عجيب يطرق بابه. إنه الطفل ميكا! جاء من كوكب بعيد اسمه "إيلجو"، لم تنقرض دينوصوراته كما حدث لدينوصورات الأرض، بل خضعت لسلسلة من التطورات الطبيعية، فجاءت الطيور من بعضها، والبشر من قوم ميكا من بعضها الآخر. وينجح الطفلان في التوصل إلى وسيلة للحوار، ويتبادلان اكتشاف الحقائق حول تطور الحياة على الكواكب المختلفة.
ويبدو أن معايشتي لقصة صداقة يواكيم وميكا تركت أثراً في نفسي. ولا أُنكر أنني حسدتُ جاردر على الفكرة، بل رحت أرتّب للنسج على منوالها، فلم أفلح. ولكن ذلك لم يبعدني عن عالم تلك القصة المميز، فلم أكن أكف عن تأمله، والتعجب من شخصية ميكا، القادم من إيلجو، الذي حاولتُ أن أرسم له من الملامح غير ما جاء في القصة.
ولم ألبث أن فوجئت به يزورني في أحلامي، ككائن أقرب إلى بني البشر، تيسر له أن يتطور قبلنا بعشرات ملايين السنين، وهي فسحة من الوقت أتاحت له أن يسبق مثيله الأرضي في مختلف نواحي التكنولوجيا.
أخبرني ميكا في أحد تلك الأحلام أنه اختارني لأكون صديقه الثاني على كوكب الأرض، إلى جانب يواكيم. وأخيراً، أخبرني أنه سيرافقني في يقظتي لنعيش صداقتنا على أرض الواقع، وأنه لن يمثل عبئاً عليَّ في شيء، ولن يشعر به أحد غيري، على نحو ما تصوره الأفلام.
لم يخطر ببالي أن أول لقاء "حيّ" بيننا سيكون وأنا في طريقي إلى منتدى علمي، لي فيه حديث دوريّ بعنوان "شهريات"، أعلّق فيه على ما أختاره من أحداث الشهر المنقضي. كان ميكا يجلس إلى جانبي في السيارة. قال: "مرحباً، سيكون اللقاء شائقاً".
ابتسمتُ للمفاجأة، وقلت: "آمل ذلك". ومع أنني في هذه المنتديات أكون على أتم استعداد للحديث، واثقاً تماماً مما أعددته من مادة، إلا أن ثقتي زادت بصحبة ميكا.
فوجئتُ، وأنا أتهيأ للحديث، بصديقي ميكا يقف إلى جواري مبتسماً كطفل ماكر. لم تتوقف مفاجآته، فما إن فتحت ملف شرائح عرضي حتى وجدت العنوان الرئيسي مختلفاً عما حسبت أنني جئت به. كان العنوان: "كوكب يقوم على كفاءة ناقصة". قال ميكا: "إمض بغير تردد، سأكون ظهيراً لك. وعلى كل حال، أنت تتحدث عن الموضوع الذي يشغل بالك الآن". وكانت بقية الشرائح مُعدَّة على خير وجه، تقول بأن ميزة كوكب الأرض تكمن في أن كفاءة كل العمليات الحيوية التي تحصل على يابسته وفي هوائه ومياهه تقارب 100 في المئة، وفي ذلك سرُّ تساوق أنظمته البيئية، حيث يتحول جانب من مواردها المستهلكة إلى نفايات. غير أن نقصان الكفاءة، أو الفارق بين المُدخلات والمُخرجات، آخذ في الاتساع. فلا غرابة إذاً أن النفايات تحاصرنا في كل مكان، وأعباؤها ثقيلة تسيء إلى منظومة حياة استمرت متزنة على مدى ملايين السنين.
نال الحديث استحسان الحضور. ووقفت أبتسم، متابعاً قفزات عجيبة يقوم بها خلف الصفوف طفل قادم من كوكب بعيد، لا وجود له حسبما يعرف الفلكيون.
الترمُّمُ
ما الفارق بين من يترممون على أفكار وتدوينات شُيِّعتْ جنازاتها منذ مئات السنين، والكائنات البكتيرية التي تترمم على المِيتةِ والمخلَّفات؟!
الثانية أنفع !
لولاها لاختلف شكل الحياة على سطح الأرض، تماماً، أو لعلها انتفت، فهي تخلصنا أولاً بأول، وبهمة لا تهمد، وبغير مقابل، وطوعاً، من أضرار وأذى، بل تفيدنا في نواح كثيرة، فتحول مصدر الضرر إلى نفع، فتثري التربة بأملاح غذائية، ترفع من خصوبتها، لتعطينا نباتا طيبا، وترفُدُ الجو بغازات تتفاعل مع بقية مكوناته، وتدور في أنظمتنا البيئية، ليستقر ميزان الوجود.
أما مترممو جثث الأفكار البالية فهم على درجة من الغباء، إذ يحسبون أن بإمكانهم أن ينفخوا في تلك الجثث فتستعيد الحياة. إنهم ينبشون قبور الأفكار الأثرية، ويستخرجون هياكلها المتآكلة، ويحاولون كساءها باللحم، فساء ما يفعلون.
إنهم يزوّرون ويغشّون، ولا يتركون أمامنا إلا بقايا جثث تفوح منها روائح التعفن، وقد تكون بكتيريا الترمم ذاتها تقززت منها فعافتها.
"زومبي" أدباء مصر !!
أنا واحدٌ ممن كان لهم شرف الإسهام في التأسيس لمؤتمر (أدباء الأقاليم)، منذ دورته الأولى في المنيا (1984)، وحضرتُ معظم دورات انعقاده، وأفخرُ بتكريم المؤتمر لي في دورة مرسى مطروح - 2002.
وتابعتُ ما طرأ على وجه المؤتمر من محاولة للتزويق، وأيضاً للتشويه، وتحوله، في آخر الأمر إلى صورة تكرارية لمؤتمر نمطي، استنفد الغرض الذي أنشئ من أجله، وكان استجابة سياسية للحراك الثقافي والإبداعي في أقاليم مصر، بما كان له من زخم هائل، في بداية حكم مبارك، الذي كان نظامه حريصاً على تقديم نفسه للناس بشكل متجمل، وكان ينشد أيضاً، مؤازرة المبدعين والمثقفين المصريين في مواجهة الإسلام السياسي الذي اغتال السادات بعد أن استعاد أنيابه.
نجح المؤتمر، فعلاً، في رسم خريطة للإبداع في أقاليم مصر، ورتب لتعارف وثيق بين المثقفين المصريين، وأنتج مجلة (الثقافة الجديدة)، التي كانت تهتم بإبداع أدباء الأقاليم بالدرجة الأولى، قبل أن تتحول إلى مجلة تنتجها لنفسها أرصفة مقاهي القاهرة. ومن مردودات المؤتمر أيضاً إيجاد الهيكل الإداري للهيئة العامة لقصور الثقافة، حسبما جاء في إحدى توصياته المبكرة.
كما أن مؤتمر أدباء الأقاليم كان الأشجع والأقوى صوتاً وهو يصدر أول توصية بإدانة التطبيع بأشكاله المختلفة مع العدو الصهيوني، على مقربة سنوات قليلة من (كامب ديفيد)!
لكن المؤتمر لم يلبث أن فقد نكهته الخاصة، ولم يعد ما يطرحه من قضايا يرضي طموح ما ينتظره الناس من مؤتمر (قومي) .. قضايا ومعالجات لا تهم إلا أضيق دائرة من المصريين، وأحياناً لا يزيد محيطها عن محيط الاهتمامات الأكاديمية، في زمن وعالم متقلبين متبدلين، تتداخل فيهما أمور السياسة بالمناخ بالاقتصاد، ولا تبتعد الثقافة عن ذلك، بل تتداخل فيه وتؤثر وتتأثر به.
لكن من يعدون للمؤتمر الشائخ لا يلتفتون لما يجري من حولنا، فيعطوننا، في كل سنة، صورة لا تكاد تغاير صورة مؤتمر السنة الفائتة .. مؤتمر أوراقه بلا روح، يحضره المشاركون كأنهم في سرادق عزاء، لذلك يهجرون قاعاته إلى المقاهي المجاورة!
أعرف أن ثمة (مرتزقة)، بمعنى الكلمة، من استمرار المؤتمر (الزومبي) .. أي أنه قريب للسائرين وهم موتى!. وأعرف أن هؤلاء المرتزقة فاعلون، ولهم نفوذهم، لكننا يجب أن نفكر جدياً في وقف إهدار المال العام على (زومبي أدباء مصر)، ولنطلق عليه رصاصة الرحمة، ليستريح، ونستريح من الضوضاء التي يثيرها كل سنة، بلا مردود حقيقي.
حذار .. فخ ممر التنمية!
هل بدأت مصر، حقاً، في تنفيذ ممر التسهيلات اللوجستية، المشهور بممر التنمية؟!
رأيي أن (شق) هذا الممر، الواصل بين قلب القارة الأفريقية وساحل المتوسط، أخطر من قضية الجزيرتين، وهو جزء من تصور عام، لتسهيل حركة التجارة ونقل منتجات الموارد الطبيعية من مواردها التي لا تزال محتفظة بغناها، في دول وسط أفريقيا، لتغذية الرفاهية والتفوق الغربيين، على حساب مصالح شعوب المنطقة.
وسوف يصبح (ممر التنمية)، إن تم شقه، منطقة مصالح ونفوذ للغرب والأمريكان، وقد يأتي يوم يمس وجوده سيادتنا على أرضنا، ونعجز عن استرداده كما استرد عبد الناصر قناة السويس بالتأميم.
ناهيك عن التدمير الكامل لكل الأنظمة البيئية في الصحراء الغربية، وهي الآن في حالة اتزان مع بقية الأنظمة البيئية في وادي النيل ودلتاه.
كما أن الصحراء الغربية ستفقد قيمتها كدرع واق للوادي.
إن كانت هناك فائدة (وقتية) لممر التنمية، فإن اعتبارات المستقبل، أو عنصر (الاستدامة)، هي الجديرة بأن نراعيها. ولن يدوم مخزون المياه الجوفية المعلقة عليه الآمال لزراعة أراض بالمنطقة، فتكلفة استخراجها عالية، لأنها ليست أنهارا تحتية جارية، وإنما مياه (مدمصة) في الأحجار الرملية.
أطلبوا ممن يتحمسون لممر التنمية أن يغيروا اتجاه تفكيرهم إلى تنمية سيناء. لن يستجيبوا. فالمطلوب هو التسهيلات اللوجستية النهبوية. كما أن تنمية سيناء لا تتفق مع أجندتهم، فالمطلوب أن تظل على حالها .. إلى حين!!
أسماء الشهرة ..
من أسوأ أسماء الشهرة التي أسمعها تتردد من حين لآخر، "زريبه" .. وهو اسم لشاب لا يلتفت إليك إن ناديته باسمه الحقيقي (محمد)، فثمة في الشارع عشرات المحمدات، أما (زريبة) ففريد !
أنا شخصياً عانيتُ من مثل هذه التسميات في طفولتي.
كنت أطول من كل أقراني، بمعدل واضح، فاجتمع تلاميذ حجرة الدراسة على مناداتي بـ (أبو طويله) !
تأثرتُ، وانعزلتُ، وأنقذتني من ورطتي مدرِّسة، لا زلت أتذكر اسمها (أبله إعتدال). سألتني عما يحزنني. أخبرتها بتسمية الأطفال لي. قالت لي: ألم تلاحظ أنهم جميعاً أقصر منك كثيراً. إنهم مغتاظون من تميزك بالطول، وطول القامة ليس عيباً، فيمكنك أن تصبح لاعباً ماهرا في كرة السلة، مثلاً، وستكون لك أفضلية في الالتحاق بالكليات العسكرية.
ثم أوصتني بأن أرد على الأولاد القصار بأن أمثل كأنني أبحث عنهم على الأرض، ولا أراهم !.
ففعلتُ. وانقطعت نداءات (أبو طويلة) !
أما التسمية الثانية فهي (الرجل الذي يبكي). وقد أُطلقت عليَّ مرتين: الأولى في تجربة العمل الفاشلة في الرياض، وكنت أمشي وأنا راجع من العمل في شوارع حي اسمه (الظهيرة)، أبكي من شدة إحساسي بالغربة، فكانت كل الجنسيات الآسيوية التي تسكن بيوتاً كالجحور تخرج لترى (الرجل الذي يبكي).
وكنت أيضاً الرجل الذي يبكي في مُجمَّع جامعة البحرين، وكان مسكني يقع فيه، بمنطقة الصخير، وكنت - كل يوم تقريباً - أسير من مسكني إلى بوابة المجمع، باكياً، ولا يشعر بي غير حراس البوابة، الذين كانوا يكتفون بالتعجب من حالي، وينشرون في الجامعة تسميتهم لي بالرجل الذي يبكي.
فكرةٌ مُهداةٌ إلى الرئيس السيسي ..
أنا أهديها لك سيدي الرئيس، حتى لا (يسرقها) أحدٌ من السكرتاريين الفنيين، أو من يًقال لهم (وزراء)، وينسبها لنفسه.
وعلى أي حال، لعل أحدهم يسرقها، ويدعيها لنفسه، ولكن يوصلها لك، ويعمل، وينجح في تنفيذها ..
تقول الفكرة:
المياه ليست هي يا سيدي الرئيس ما نراه بأعيننا يجري في الأنهار، فقط.
ثمة مياه (ماكرة)، تختبئ عن عيوننا، فلا نراها، لأنها داخلة في إنتاج كل ما نستهلكه من سلع، غذائية، وغيرها. إنها المياه الافتراضية Virtual Water.
الفكرة تقول: دعونا لا نتصارع مع جيراننا الأفارقة على مياه النيل (المرئية).
هم يحتاجون لتنمية بلادهم. لديهم أراض خصبة بمساحات شاسعة، والمياه تجري أمام أعينهم، وليس لديهم من الخبرة بأعمال الزراعة والري ما يتوفر لدينا.
لنتفهم معهم. إزرعوا أراضيكم، ونحن معكم، شركاء في مشروعات عملاقة، قد ينافسنا عليها، من أجل المياه المتخفية، آخرون، مثل الصين، وإسرائيل، ودول أخرى عطشى للمياه، فالجفاف بضرب العالم بشدة.
نزرع معهم أراضيهم، ونضمن جانباً من المحصول، يأتي إلينا على ظهر المياه المرئية (النهر)، فكأننا حصلنا على ما نطالب به، في صراعات مقيتة، محتفظين بالمودة بيننا.
ودعني أنقل لك تجربة سنغافورة:
أن سنغافورة لا تمتلك غير 5% فقط من احتياجاتها المائية، ومع ذلك فليس ثمة ادنى مؤشرات على نواحي نقص في المياه، ولا على قيود على التنمية الاقتصادية، يمكن أن يشعر كثيرون بحتمية وجودها في اقتصاد جزيرة تعيش قصوراً مائياً خطيراً.
إن سنغافورة تتحصلُ على 90% من احتياجاتها المائية عن طريق تجارة السلع الغذائية، أما الخمسة بالمائة المتبقية، فهي من مصدر غير محلي، إذ تُستوردُ من ماليزيا عبر المضايق البحرية بين البلدين، وتعمل سنغافورة حالياً على التخلص من هذا الاتكال بتوجيه الاستثمارات إلى مجال تحلية مياه البحر، وهي تكنولوجيا تتزايد فرص تهيئتها.
إن أردتَ مزيداً أيها الرئيس المجتهد، فاسأل من تجده حولك من جهابذة الخبراء. أو دعني أرسل لك نسخة من ترجمتي لكتاب (المياه الافتراضية)، ومؤلفه هو صاحب هذه المقاربة العبقرية.
إبتعد سيادة الرئيس عن الأدمغة التي ضربها تصلُّب الشرايين.
ملحق رسالة السيسي ...
استكمالاً للرسالة التي وجهتها لرئيس مصر، أعود فأعرض أفقاً آخر من آفاق التعاطي وأزمة المياه ..
"التجربة الصينية .. طفلٌ واحد، من أجل المياه !"
أطلقت الصين عام 1979 سياسة تنظيم الأسرة، أوسياسة الطفل الواحد. تم تطبيقها بحذافيرها، إذ تُلزمُ الأُسرَ بطفل واحد لا غير، لكل أسرة، بموجب قانون يتضمن بنوداً عقابية، من توقيع غرامات، إلى السجن.
فكيف أثَّرتْ سياسةُ الطفل الوحيد؟
لقد خفَّضَتْ معدل المواليد، وبالتالي نتاج تكاثر الأشخاص الذين لم يولدوا؛ وثمة تقديرات تقول بأن ذلك قد نجح في تلافي زيادة في تعداد السكان بالمنطقة قدرها 300 مليون فرد؛ وهو عدد يكفي لإعادة إسكان الولايات المتحدة الأمريكية (مع أخذ كندا في الحسبان كإضافة، استكمالاً للثلاثمائة مليون).
وما مردود ذلك بالنسبة للمياه؟.
إنه يعني تقليلاً يربو على 20% من استخدام المياه، قياساً على ما كان يمكن أن يحدث؛ أو بمعنى آخر، تجنيب 300 كيلومتر مكعب من المياه سنوياً، وهو حجم يفي باحتياجات كل اقتصاديات دول الـ MENA أو منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مجتمعةً، واحتياجات أوربا الكلاسيكية، ونصف القارة الأفريقية.
وكانت عملية التحكم في تعداد السكان في الصين قد جرت متزامنةً مع برامج طموحٍ للغاية لتنمية الموارد البشرية، وما صاحبها من مدٍّ في برامج التصنيع.
وخلاصة القول، ثمة شواهد قوية تنفي وجود إجراء انتهي إلى تأثير إيجابي على إدارة المياه عالمياً، غير سياسة طفل واحد الصينية.
أحاديث القادة للجنود
جربتُ في فترة تجنيدي الوقوف في الصف المنضبط، أستمع إلى كلام القائد، في (طوابير تعليمية)، أو (طوابير التمام).
الملاحظة الأولى أن كل أحاديثهم متشابهة، تكاد أن تتطابق، فالمفردات واحدة، لا تكاد تتغير، سواء أن كانت تعليمات أو نصائح أو شتائم.
كلها كانت تمر بآذاننا إلى الهواء، فهي أحاديث لم تكن إلاَّ لأن القائد (يريد) أن يتحدث في أرض الطابور، أياً كان لون حديثه.
كانت كلها تنبئ بمحدودية أفق، وضحالة ثقافة، وعداء شديد للغة العربية، بل وتدني اللهجة العامية، حتى في نطاق مفردات المعجم العسكري.
تعلمتُ، بمرور الوقت، أن أغلق أذنيَّ، فلا أستمع لأيٍّ من كلمات هذه الأحاديث التي لا طلاوة فيها إطلاقاً، ولا ضرورة ملحة لها في أكثر الحالات.
أقارن بين ما كنت أسمعه في فترة تجنيدي وأحاديث (الضباط) الذين حكمونا، أجد أن جمال عبد الناصر طور أسلوبه تماماً، ونسي الأسلوب (الميري) بمفرداته ورغبته في فرض الرأي. وعندما كان يرتجل، كان يخطئ في بناء اللغة، ولكن تبقى ألفاظه على درجة من الرقي، بعيدة عن التدني.
وكذلك السادات، كان متحدثاً جيداً، يجيد نطق اللغة العربية، وارتجالها، وله تجربة سابقة محدودة ككاتب صحفي.
أما مبارك، فقد ظل يستخدم في أحاديثه (الرئاسية) ألفاظاً كانت متداولة بين أحط مستويات الجنود، مثل (عطيطه بومبا)، و(طنشته) و (زُأ عجلك)، ولم يستطع لسانه، ولا فكره أن يتخلص منها إلا بعد زمن طويل، وبعد أن تعلم كيف يقرأ الكلمات المكتوبة له مسبقاً بحروف كبيرة، وبالتشكيل قدر ما تسعفه قدراته الذهنية، وابتعد كل البعد عن الارتجال، فلما كان يُضطر إليه، كانت تعود الكلمات السوقية المتأصلة في ذهنه فتطفو تحاول التعبير عن أفكاره، مع إشارات يده التي لم تكن تتوقف أثناء حديثه. وثمة مقولة لأطباء نفسيين بأن من يُكثر من تحريك يديه أثناء الكلام إنما يتهيأ له أنه (يسحب) الكلام، ليخرج على لسانه.
الـ "كوَّة" الناعمة ...!
حضرتُ حفل تكريم نجيب محفوظ في أحد القصور الرئاسية، في أعقاب فوزه بجائزة نوبل. أعقب الحفل الرسمي طقس آخر، لا أعرف اسمه، حيث وقف الجميع في قاعة فسيحة، والخدم يمرون بمأكولات سريعة ومشروبات. ولاحظتُ - لازلت أتذكر - أن عاطف صدقي، رئيس وزراء ذلك الوقت، لا يترك خادماً إلا ومد يده إلى الصينية التي يحملها؛ وكان الخدم يتوقفون أمامه حتى اكتفى !.
وكان بالحفل عدد كبير جداً من الفنانين، التفَّ حولهم جمع من الحضور أكثر من الذين التفوا حول نجيب محفوظ وحسني مبارك. وأنا متأكد من أن معظمهم لا يعرف نجيب محفوظ إلا من خلال الأفلام التي أفسدت السينما المصرية رواياته كي تصنعها.
هذه هي (القوة الناعمة) .. أن تأتي بـ (عرائس) ملونة، استكمالاً للديكور، وربما لأداء مهمات خاصة، لصالح الوطن ! (راجعوا حكايات سعاد حسني وغيرها مع الجهات "السيادية") !
طبعا هو مفهوم غير صحيح للقوة الناعمة.
العالم يعرف القوة الناعمة على أنها أعمال استخباراتية، وضغوط لا أخلاقية، وصفقات سرية، وتسهيلات لوجيستية، وما شابه ذلك، تحل كلها محل الجيوش والحروب، وتأتي بالنتائج المرجوة، بغير خسائر بشرية، وبتكاليف أقل.
تاريخٌ من الكراهية
مارس المصريون الكراهية بدرجات متفاوتة في نصف القرن الماضي.
لا أقول كل المصريين، ولا أقول طول الوقت.
لكن الكراهية كانت تسري في الهواء الذي نتنفسه، وكانت تُستمدُّ من ممارسات أشخاص استحقوا، من وجهات نظر البعض، أن يُكرهوا.
وكانت موجودة لأن توزيع الثروة لم يكن طوال نصف قرن - على الأقل - عادلاً، وكان كل الحكام الذين أتوا بعد عبد الناصر ينحازون للأغنياء، والأغنياء المصريون ينتمون إلى طبقات دنيا، وفتح الله - أو الشيطان - عليهم، فاغتنوا بعد فقر (شبع بعد جوعة).
أنا شخصياً كرهت أنور السادات لأنه كان منتفخ الذات، مدعياً، ولأنه سرق من عمري 4 سنوات في الجندية، ودفعني لأن أحارب إسرائيل، وشاركتُ في الانتصار عليها، فإذا به يهرول إلى الكنيست ويطعن كل جنوده، ليحصل على نوبل للسلام، ثم أدخلنا في متاهة الانفتاح، فطفا على السطح - بلا مقابل ولا عطاء حقيقي - معظم من يمتلكون مفاتيح الجاه والغنى والسلطة الآن. لقد غشني وزوّر حياتي .. هل أحب رجلاً غشني؟
وكرهت قبله عبد الناصر، لأنه سلم الراية للسادات، فكانت أسوأ جناية ارتكبها عبد الناصر. كرهته لهذه السقطة التي أعتبرها خيانة. هل أحب رجلاً خانني؟.
وكرهتُ حسني مبارك، لأنه لم يفعل شيئاً إلا أن ترك الأمور تتداعى، واستمر يغير ملامح المجتمع، متبنياً أصول الفساد، وأحال البلد إلى مكب نفايات هائل، يسكنه الملايين من هوام البشر، بلا مورد رزق ثابت، ولا أدنى حظ من ثقافة. لقد سرقني .. هل أحب لصاً سرقني؟
ولا أريد أن أستمر في الكراهية، فقد نالت مني تماماً، وأفسدت حياتي؛ لكني أجد الأحوال لا تتغير، وهي لا تتغير لأنني لا أشعر بتغيرها مادياً. وإن كنتُ أنا - الذي أزعم أنني كاتب مثقف صاحب رأي - لا أشعر، حتى الآن بأي تغير، ولا أرى أملاً قريباً في التغير الذي يعطيني بقدر ما أعطيتُ، فثمة احتمال كبير، على الأقل، بأن تغيراً لم يحدث، أو يمكن أن يحدث في غضون سنوات قليلة قادمة.
ولست أنا حالة فريدة في هذه الكراهية، وإنما أنا أستطيع أن أعبر عن كراهيتي وأن أجاهر بها.
وبالوقت نفسه، فإنني حزين لعدم قدرتي على أن أحل محل الكراهية حباً. ولا أريد أن أغادر الدنيا بهذه الحالة من الكراهية التي استنفدت معظم طاقتي الإيجابية.
أعلم أن كلمة (كراهية) ثقيلة على كثيرين، حتى على بعض المثقفين الذين يمكنهم تفهم الدلالات، ولكنها شعور طبيعي في البشر، مثل الحب تماماً، وهي ليست (حالة مرضية)، فرأيي أن من لا قدرة له على أن يشعر بالكراهية هو المريض، أو به درجة من البلاهة، إذ يرى الدنيا (بمبي بمبي بمبي) وهي ليست كذلك.
وإن توقف معظمنا وراجع ذاته في صراحة، لاكتشف أن تاريخه الشخصي لا يخلو من محطات للكراهية.
نموذج (ناصر)
أستطيع أن أُعدِّدَ أخطاءً لعبد الناصر على نحو أقسى مما يمكن أن يفعلَ كارهوه، وبموضوعية خالصة.
لكن (ناصر) كان نموذجاً استثنائياً لزعيم يمتلك (حضور) الزعماء التاريخيين، أو ما يسمى بالكاريزما؛ ولم يسجن عقليته في نطاق ما عايشه طويلاً مما يمكن تسميته فكراً عسكرياً، خلعه مع ملابسه العسكرية، وتحوَّل إلى مشروع مفكر ثوري رومانتيكي، تطلعاته تطال السماء، غير مبالٍ بدرجة كافية بالأرض التي يقف عليها.
وربما كان طبيعياً أن يموت في الثانية والخمسين، لأنه - في رأيي - لم يكن مهيَّأً، بكل ما في شخصيته من زخم درامي، للتعاطي والتعقيدات التي انتهت إلى اغتيال خليفته، وإلى البيات الشتوي المباركي الذي طال لأكثر من 30 سنة.
من قراءات هذا المساء .. توت عنخ أمون ..
أنقلُ لكم، من قراءات هذا المساء، جانباً من سيرة "توت عنخ أمون"، أكثر الحكام المصريين القدماء ذيوع صيت، يعرفه العالمُ كلُّه بقناعه الجنائزي المصنوع من الذهب، وبأنه الملك القاصر، الذي اعتلى العرشَ وهو لمَّا يزل طفلاً، ولم تزد فترة حكمه عن عقدٍ واحدٍ، وأدركه الموتُ في نحو الثامنة عشرة من عمره!.
وكان الملك الفتى منتمياً لعصر العمارنة بفكره الرومانتيكي، الذي ترسَّمتْ بدايتُهُ بنبذِ سلَفِه أخناتون ديانةَ مصر التقليدية، ليعبد (أتون)، المتجسِّدَ في قرص الشمس، وحده.
وقد أطلق موتُ توت عنخ أمون وهو في ريعان شبابه العنانَ لعددٍ لا يُحصى من التكهنات والتصورات والقصص (بعضها تآمري الطابع)، منها قصة تضمنت وصفاً لما توصلت إليه عملية التشريح الأولى، بدءاً من العضو الذكري للملك، إلى أثرٍ لجُرحٍ على خده الأيسر، إلى أعمال فحصٍ بالآشعة أُجريت للمومياء بالعام 2005 أظهرت أن ساقاً للملك الصبي كانت مكسورة؛ وفي سنة 2010، قدمت تحليلات الحمض النووي (دنا) دليلاً على نشأته من آباء وأجدادٍ غير منقطعي النسب، وعلى أنه مات بسبب الملاريا.
وتومئُ رسومات المقابر ولوحاتها الجدارية إلى وجود ثماني نساء واهنات، مرشحات لأن تكون إحداهن هي أمُّ الفرعون، إلا أننا لازلنا نجهل أبويه، بالرغم من أن ملامح الجمجمة، وفصائل الدم، تشيرُ إلى وجود صلة وثيقة بينه ومومياءٍ عُثِـرَ عليها في مقبرةٍ مجاورة؛ وقد تكون تلك المومياء لأخناتون.
وثمة إشارات حذرة تقولُ بأن "أخناتون" وواحدة من زوجاته البارزات، كانت تُدعَى "كي يا"، هما أبَوَا توت عنخ أمون.
ماذا تفعل إن قابلك "مُنغِّصٌ" ؟
والمنغصون متوفرون طول الوقت، وأينما توجهت. إنهم كالبعوض، أحجامهم المادية والمعنوية تافهة جداً، ولا يعطيهم الإلتفات إليهم إلا قدراتهم التنغيصية.
وعلى أي حال، فالحل هو، إما رشة مبيد، أو مضرب ذباب!
وقد قابلني منغصون كثيرون في كل المعتركات التي خضتُها. ويتميز منغصو الحياة الثقافية بقدرات أكبر على (اللدغ)، وبأصوات طنين أشد إزعاجاً.
واحد من هؤلاء المنغصين دأب على ملازمتي زمناً طويلاً، حاسباً أنني أكرهه أو أناصبه العداء، مؤسساً إحساسه المريض بذلك على موقف عابر. فقد زار أتيلييه الإسكندرية في أحد مؤتمراته، وكنت أنا أمين عام المؤتمر، وكنت مسئولاً بطبيعة الحال عن الضيوف المدعوين، وكان بينهم صديق عزيز من الكتاب الصحفيين المحترمين، بالقاهرة.
ووجدتُ ذلك (البعوضة) المنغصة في معية الصديق، الذي كان (يستخدمه) كمعاون له، واصطحبه إلى المؤتمر، حيث وجدتُه معه مرافقاً في حجرته بالفندق.
سألتُ البعوضة عن شخصه، فلم أكن أعرفه، ولم أكن لأرده أو أطرده، مثلاً، وهو ضيف ضيفنا، فاعتبر سؤالي انتقاصاً من قيمته، أو حسبني أسأله: (إنتا جاي مع مين يا شاطر؟!).
المهم أنني أصبحت عنده (غير صديق).
وحدث أن عملت قوانين الطفو الحديثة، وآليات الإسقاط المشبوهة، في أن يحتل ذلك (البعوضة) موقع مسئولية في مجلة (عربية)، في مكتبها بالقاهرة، ثم سافر إلى المقر الرئيسي لها.
ومن ذلك الموقع راح يرد لي ما توهمه إهانة مني له، وأساء إلى علاقتي الوطيدة بالمجلة، ويبدو أن أخوتنا العرب قد استقر لديهم أن يستجيبوا لصراعات المصريين مع بعضهم البعض بأن يريحوا أدمغتهم، ويتبنوا وجهة نظر من يستخدمونه.
وأدرتُ أنا ظهري، بدوري، للمجلة التي أسهمتُ بجهد سنوات في دعم محرراتها العلمية والبيئية، ولم تتأثر مسيرتي إطلاقاً، بل تمكنت من ارتياد فضاءات أخرى، بينما ذلك البعوضة يعود فينكمش إلى حجمه الطبيعي، التافه، وقد فقد حدة طنينه، بعد أن جمع ما يكفيه من ثروة بترودولارية، لن تغنيه عن ضآلة قيمته، ولن تجدي مع الظلام الشديد الذي سينتهي إليه ذِكرُه.
السيدة "قنوعة" .. !
كنت في طفولتي من هواة التسلل من البيت، بعد الغداء، حيث (يقيّل) معظمُ الكبار، وفي يدي (قرش صاغ)، وأمشي نحو كيلومتر أو يزيد قليلاً، من غيط العنب، عند كوبري راغب، على ترعة المحمودية، إلى شارع النيل، قرب كوبري كرموز، لأحضر حفلة بعد الظهر في سينما مصر، واسمها الأشهر (سينما النيل)، حيث أحصل على (ورقة) دخول تشبه تذكرة الترام، مكتوب عليها السعر: 9 مليمات، وفوقها (طوفاية)، أو قطعة من الطوفي، بقيمة مليم؛ أضعها في فمي، لتذوب قبل أن يبدأ عرض الفيلم الأول (الإفرنجي)، وكان يعقبه بعد استراحة الفيلم الثاني، المصري.
وكنتُ أحياناً أسهو عن ضرورة الرجوع إلى البيت قبل أن تقلق أمي وجدتي عليَّ، وأتجول على غير هدىً في الحارات المتفرعة من شارع النيل، الذي كان يقع قسم شرطة كرموز في وسطه تماماً. وكانت تلك الحارات تختلف في طبيعتها وروحها عن الجو العام الذي اعتدتُه في (غيط العنب). وكنت أسمع عن (فتوات) يعيشون هناك، ويبدو أنني كنت أبحث عن هؤلاء الفتوات لأراهم رأي العين، فقد كان ما أسمعه عنهم يثير خيالي، تماماً كما يثيره (البطل) فريد شوقي، و(الشرير) محمود المليجي.
وذات مرة، ساقتني المصادفة البحتة إلى معركة حقيقية في حارة من تلك الحارات، بين (فتوة) امرأة، علمتُ أن اسمها (قنوعة)، تُستأجر لتلقن امرأةً أخرى درساً لا تنساه، لصالح طرف آخر.
رأيتُ المعركة: حيث تخلت قنوعة عن ملاءتها اللف، وانقضت على الضحية المسكينة، فشقت ثوبها بالطول، من الأمام، وعرَّت شعرها، ثم وضعتها على بطنها فوق أرض الحارة، وعرَّت مؤخرتها، وأخذت تضربها بـ (شبشبها)، والضحية تصرخ وتستغيث، بلا مغيث؛ فمن يجرؤ على الاقتراب من قنوعة، التي كانت تدعو الضحية لتعترف قائلة: أنا غلطانة .. حرَّمت أعمل كده تاني !.
ثم يأتي الختام الأكثر درامية، حيث تتجه قنوعة إلى أقرب حائط، وتضرب رأسها فيه، فيُجرح، ويسيل دمُها؛ فتلف ملاءتها على وسطها، وتتجه إلى قسم البوليس، غارقة في دمها، للإبلاغ - رسمياً - عن تعدي الضحية عليها !
وكلما ساقتني قدماي الآن إلى كرموز، أحرص على جولة صغيرة في مسرح عمليات السيدة المحترمة قنوعة هانم !
(صفحة من روايتي الشرائحية: وجوهٌ حول كوبري راغب) - تحت الإعداد.
الفلاحة .. !
لم تعد الفلاحة المصرية هي ذلك النموذج الذي نراه في الأفلام واللوحات الكلاسيكية، تحمل (زلعتها)، أي الجرَّة، على كتفها، وتذهب بها إلى الترعة لتملأها وتعود بها إلى (الدار)، لتملأ (الزير)، ثم تشعل الفرن ..
الفلاحة المصرية الآن تعمل بائعة خضروات ومنتجات زراعية في أسواق المدن.
تُفرغ القطارات الصباحية، على أرصفة محطتي سيدي جابر، والإسكندرية، مئات الفلاحات بأحمال كبيرة جداً من الخضروات والدواجن والبيض والمخبوزات والألبان ومنتجاتها، وتظل النساء ينقلن بضائعهن من القطار الإقليمي إلى قطار الضواحي، لينتقلن بها إلى أسواق المدينة المختلفة، يفترشن الأرصفة، وجوانب من نهر الطريق، ويبدأن في بيع سلعهن التي تجد إقبالاً شديداً من المشترين، فالقوة الآكلة في مصر مخيفة الحجم.
الملاحظ:
= النساء فقط يقمن بهذا العمل، ورجالهن في البيوت !
= تقضي المرأة طول النهار في سوق المدينة، وتعود إلى بيتها في آخر قطار، لتعاود رحلتها اليومية في الصباح.
= لا أحد يسأل عن نوعية المنتجات، ولا عن أساليب زراعتها. ومعظم المنتجات مرشوشة بهرمونات حفز النمو، استعجالاً لأن يصل حجمها إلى الحجم المناسب للسوق. ويجري الرش بواسطة أفراد الأسرة في مزارع خاصة محدودة، غالباً. والهورمونات متوفرة في دكاكين الكيماويات، متاحة لأي مشترٍ.
= هذا النشاط الاقتصادي ذو حجم كبير، وبلا ضابط ولا رابط؛ ويتحكم في الأسواق: نوعية السلع وأسعارها؛ وينافس بشدة، لأنه بعيد عن المساءلة الضريبية.
= كل الحكومات المصرية المتعاقبة لم تكن ترى هذا النشاط، بالرغم من أن الفلاحات البائعات يحطن بمقار الوزارات، بل يصعدن أحياناً إلى الموظفين في دواوينهم، لتوزيع البضاعة.
هل صدقتم أن (منحنى الجرس) المصري قد انقلب حاله ؟!
ولمن لا يعرفه، منحنى الجرس bell curve يعبر بشكل مثالي عن (التوزيع الاعتيادي) لأي خصيصة أو ظاهرة طبيعية.
جدتي قرأت الفاتحة على (روح الروح) !
عشت، على نحو ما، الحالة المجسَّدَة في الصورة.
لمبة الجاز (الكيروسين)، نمرة 5 أو 10، والطبلية، وحولها أنا وأبناء أعمامي، في (المقعد) الكبير، في بيت جدي، في (غيط العنب)، قبل منتصف الخمسينيات.
لا أخجل من أنني عشتها، ولكني أخجل من أنها لا تزال موجودة في بلادنا، كأننا لا نزال عند منتصف القرن الماضي.
من ذكرياتي القديمة عن (لمبة الجاز)، كتبت في بداية علاقتي بالقصة القصيرة، قصة عنوانها (روح الروح)؛ إذ كان ضوء وحرارة اللمبة يجتذبان (الهاموش)، فيظل يدور حولها، ويضايقني.
وكانت جدتي تنهاني عن مجرد إبعاده، اعتقاداً منها أنها (أرواح) موتانا.
وذات مساء، بلغ بي الضيق من الهاموش مبلغه، فأغرتُ على (روح) منها، وأسقطُّها قتيلة !
إنقضَّت عليَّ جدتي تعنفني، وتنطق بما لم أفهمه، وإن كنت أعلم الآن أنه كان حماية لي من أذى (الأرواح)؛ ثم لم تلبث أن راحت تقرأ الفاتحة على (روح الروح) .. وفزتُ أنا - بعد نحو عشر سنوات - بكتابة القصة.
التدريسي والتثقيفي ..
كان لأحد أساتذة آداب الإسكندرية (الكبار) صالونٌ أدبي في قصر التذوُّق، بسيدي جابر، يعقده أسبوعياً.
كان الرجلُ يأتي إلى هذا المنتدى الأدبي، في هذا الموقع التثقيفي الجميل، المهتم برفع قيم التذوق، ومعه مُستلاَّت من (المذكرات) أو الكتب التدريسية، التي يُلزِمُ بها طلاَّبَه، فتكون هذه هي عماد لقائه في صالون أعدته الدولة للتثقيف.
صحيحٌ أنه كان يحاول (تزويق) مادته، وتحليتها، والتوقف أحياناً عند بعض المسائل التي تأتي في المرتبة العاشرة في أولوية عملية التثقيف، لكن ذلك لم يكن يمنع أن الرجل يُخضِعَ التدريسي ليكون تثيقيفياً.
وأنت إن راجعت قوائم الإصدارات الأدبية، غير الإبداعية، لكل دور النشر العربية العاملة في المجال الثقافي، وليس (النشر الأكاديمي)، لوجدتها مواداً تدريسية تسللت إلى أوعية تثقيفية.
أعدها أصحابها ليحصلوا بها على درجاتهم الأكاديمية، وكأوراق بحثية للترقية في السلم الوظيفي الأكاديمي، ثم (استسهلوا)، فدفعوا بها إلى دور النشر العامة، وهي المادة (المتخصصة)، بغير معالجات تزيل عنها جهامةً قد يجدها القارئ العادي فيها.
وتتكرر الظاهرة ذاتها في المؤتمرات الثقافية والأدبية (العامة)، لذلك فإنني لم أكن أستغرب انفضاضَ قاعات فعاليات مؤتمرات الأدباء في أقاليم مصر عندما يكون المتحدثون أكاديميين جاءوا ليقرأوا علينا بعضاً من دراساتهم المتعمقة الأصيلة، والتي ضلت الطريق، فمكانها ليس هنا، ولكن بين الجدران الأكاديمية.
وراجع في الشأن ذاته مجلاتنا الأدبية، التي تصدرها هيئات ثقافية، وليست جامعية، تجد ما قيل في قاعات الدرس يتخذ شكل المقالات في المجلة، بعد أن اتخذ شكل الورقة البحثية في أحد مؤتمرات المجلس الأعلى للثقافة، مثلاً، وفي النهاية، يتجمع مع رفاق له، ليضمهم كتاب تنشره سلسلة كتب (ثقافية)!.
لقد انتشرت هذه الظاهرة، وهي أحد أسباب أراها تثير الاضطراب في خطابنا الثقافي العام، كما أنها تلقي ظلالاً على (أخلاقيات) ممارسة العمل في الحقل الثقافي، إذ يصبح مجرد (سبوبة)، لاختطاف ما يمكن اختطافه، بلا مجهود إضافي يُذكر.
الرأسمالية المصرية غير وطنية ..الرأسمالية المصرية نتنة ..
هل هناك (رأسمالية وطنية)، حقاً، كما وردت في حديث (الميثاق الوطني) عن (تحالف قوى الشعب العاملة)؟!
كانت تلك واحدة من أكبر أخطاء التجربة الناصرية، فلم تكن صفة الوطنية لا ئقة بالرأسمالية في ذلك الزمن، إذ راح الرأسماليون في حالة (كمون)، فخبأوا ثرواتهم، أو فتتوها، أو هربوها، خوفاً من أشد مظاهر عداء التجربة الناصرية لهم، وهو (التأميم) والمصادرة.
وأذاب الرأسماليون المصريون جدران تجرثمهم بمقدم السادات، وبعد أكتوبر 73، وتحولت مصر إلى مزرعة بكتيرية رأسمالية تحميها تخبطات الانفتاح، التي أسماها المصريون (سياسة السداح مداح)؛ ودخل في زمرة الرأسماليين (الحقيقيين) الموروثين من مصر الملكية، لصوصٌ وبلاطجة، كونوا ثروات طائلة من التجارة في الغذاء والمخدرات والسلاح، بل كان منهم (قوادون) بمعنى الكلمة، كانت وظيفتهم اقتياد فتيات الأسر المصرية المطحونة إلى حجرات فنادق الأثرياء النفطيين، الذين جاءوا لينعشوا اقتصاد الأخت الكبيرة، مصر، وينعشوا أنفسهم ببنات الأخت!.
هذا هو (طيف) الرأسمالية المصرية الراهنة. فهل تتوقع من هؤلاء أن يكون ولاؤهم للوطن، ويوصفوا بالوطنيين؟!. إن ولاءهم إنما هو بالدرجة الأولى لحساباتهم المصرفية، ولشركاتهم متعددة الأنشطة، التي لا تزال تتاجر في نفس السلع السابق الإشارة إليها، مع إضافة العقارات، والأراضي؛ وأصبح لكل منهم محطته الفضائية الخاصة، يشترى من خلالها من يريد أن يشترى، ويدافع من خلالها عن أنشطته، ويخفي من خلالها ما قد يحيط به من شبهات، ويداري سوءات تاريخ شخصي ملطخ بالوحل.
الأكثر من ذلك أن الرأسمالية المصرية انبطحت لمبارك، أو فوق مبارك، فكان زواجاً غير مبارك، تضخم فيه الرأسماليون إلى أحجام لم يعرفها تاريخهم في مصر، وكانوا هم المسيرون الحقيقيون لمقدرات بلد.
روى المهندس الكفراوي أن وفداً يابانياً رسمياً كان يفاوض من أجل مشروع ازدواجية قناة السويس، فدخل إلى قاعة الاجتماع جمال مبارك وزكريا عزمي، وهما من (مترممي) الرأسمالية الجديدة، وسألا عما يجري، فلما عرفا، قالا - حسب كلمات الكفراوي - طيب وفين الكوميشان بتاعنا؟!. فما إن سمع اليابانيون هذا الكلام، حتى جمعوا أوراقهم وانصرفوا، وفشلت المباحثات، وتأخر تنفيذ المشروع نحو ربع قرن، بسبب رغبة تلك الكائنات ربيبة الرأسمالية العفنة الجديدة في نصيب من (الكعكة) !
إن الرأسماليين المصريين، اللاوطنيين، متداخلون الآن في كل مكونات الدولة. وهم عماد الأنشطة السياسية المتشحة بالدين. ومصدر ثرواتهم 90 مليوناً من مواطنيهم الذين يستهلكون كل ما يستوردون، فهم لا يكادون ينتجون إلا ما يحققون به هوامش ربح هائلة. ولا يجد منهم هؤلاء المواطنون المستهلكون إلا كل تجاهل.
لقد نجح السادات ومبارك، بالفعل، في تحويل مصر إلى بالوعة مترعة بالصراصير، الأغلبية العظمى فيها عجفاء، وأقلية سمينة لامعة القشرة، ولكنها - مهما تميزت - ليست إلا صراصير.
عودتان للحكيم ..
فأما العودة الأولى، فهي «عودة الروح»؛ الرواية التي تنبأت بثورة يوليو، قبلها بثلاثين عاماً، وتحدثت عن فكرة القائد أو الثورى الذى يجمع الشعب حوله، ليغير ما طرأ على مصر من أوضاع متردية.
وأما العودة الثانية، ففي كتابه (عودة الوعى)، الذي انتقد جمال عبد الناصر بعد أن رحل عن دنيانا، منضماً إلى حملة شرسة قلبت انتصارات الزعيم العظيم إلى هزائم وإنجازاته إلى أخطاء.
ورأيي أن العودة الثانية أفقدت الحكيم مصداقيته في عودته الأولى، وانتقصت من صورته الأخلاقية، إذ لم يجرؤ على انتقاد زعيم بلاده الذي أكرمه وقلده أعلى الأوسمة، وشمله بحمايته الشخصية فنجا من (لجنة التطهير) التي كونتها الثورة لإبعاد كل من له صلة بالنظام الذي قضت عليه ثورة يوليو المجيدة.
ومما يضاف إلى الصورة المهزوزة للحكيم في موقفه من جمال عبد الناصر، البكائية التي كتبها في رثائه عام 1970، ويخاطبه قائلاً:
«اغفر لى يا سيدى الرئيس فيداى ترتعشان وأنا أكتب عنك»!
بل إنه قد طالب بالاكتتاب من أجل تشييد تمثال لجمال عبدالناصر يوضع فوق القاعدة الضخمة التى كانت موجودة فى ميدان التحرير.
مسكين توفيق الحكيم!
مراجعات أكتوبرية
"باقي" و "أنور"
أجمل ما في قصة اللواء باقي أن عمله كان بعيداً كل البعد عن التعاطي ومسألة (تعبوية) خطيرة، كعملية العبور واجتياز القناة بأقل الخسائر.
كان اللواء (المقدم وقتها) باقي قائد (حملة) الجيش الثالث ..
وكان يجلس في الاجتماعات صامتاً حتى يحين دوره للحديث عن وضع و(تمام) المركبات.
لكنه لم ينقطع عن التفكير في مسائل (لا تخصه). ولو كان انقطع لم يكن أحد ليحاسبه، فمركباته تمام التمام !
لقد كان لفكرة باقي زكي يوسف الفضل في خفض خسائر الموجات الأولى من قوات العبور بنسبة 30%؛ ولو كانت هذه الخسائر حاقت بقواتنا لأجهِضت عملية العبور مبكراً جداً.
نحن أمام رجل، أنقذ 30% من قوات جيش بلاده !
إنه، بلا أدنى مبالغة، البطل الأول لحرب أكتوبر. ومن يشكك في ذلك عليه أن يتخيل جيشا مهاجماً يفقد 30% من موجات هجومه الأولى. هل كانت ثمة فرصة لاستكمال العمليات بنجاح؟!
ذلك عن (باقي زكي يوسف) ..
فماذا عن محمد أنور السادات ؟!
من (مساخر) أكتوبر أن السادات كان طول الوقت يوهم نفسه، قبل الآخرين، بأنه أحد (جنرالات التاريخ العظام)، ظاهرياً لا أكثر، فكان يرتدي بذلاتهم، ويمسك بيده عصا المارشالية، وتلتقط له الصور أمام (تختة الرمل) في غرف العمليات، وكنا - في الوحدات المقاتلة - نتأمل ذلك ولا نملك إلا الضحك.
ثم جاء ذلك الماريشال العظيم، صاحب قرار العبور، فقامر بالمنجز العسكري في أكتوبر، بل ذبحه على موائد المفاوضات، ثم لم يلبث أن ترك سن محراث سياسة الإنفتاح تقلب تربة المجتمع المصري، لا من أجل تعريضها للشمس لتقتل الحشرات، ولكن ليتيح غرس نبتات طفيلية، جنت هي - بدون وجه حق - نتائج أكتوبر 73، بينما المقاتلون تشرذموا بين هارب للخارج بحثاً عن حل فردي، أو مستضعف بقي يعاني شظف العيش في مجتمع أساء توزيع مردودات أول نصر حقيقي تحققه العسكرية المصرية على العدو الصهيوني.
إن ما تلا أكتوبر 73 من حمق عظيم كان (عملية تزوير)، حسب عنوان مجموعتي القصصية الصادرة عام 1993، شوَّهت مجتمعاً منهكاً، نال عنها بطلها (نوبل) لـ (السلام)، مناصفة مع نظيره الصهيوني!
لقد أضاع الماريشال ما حققه أبطال حقيقيون، يأتي في مقدمتهم (باقي زكي يوسف)، في أكتوبر 73 في متاهات مباحثات زلقة، إنتهت إلى معاهدة مهينة؛ ثم تلاحقت أوزارُه، فبدلاً من أن تستفيق البلاد وتمضي، ككل البلدان التي خاضت حروباً وخرجت منها منتصرة، أو حتى منهزمة، تعيد ترتيب بيتها الداخلي، وتعتني بمواردها البشرية، تعليماً وثقافةً وغذاءً وحياةً اجتماعية نظيفة، تسودها العدالة، إذا بها تمرُّ بحالة من (الخَـرَف) العام، تفرغ فيها رئيسُها لتدليل ذاته ومداعبة مناطق الشبق السياسي فيها، حتى فوجئ وهو يستحلب لذته ذاتياً برصاصات، تخترق نياشينه التي منحها لنفسه، وترديه قتيلاً.
ورثتُ الحمق عن جَـدِّي !
بقدر ما كنت أحب جدتي (أم سعد)، كنت لا أسعد بوجود زوجها .. جدي!
ولما كبرتُ، عرفت ما جعلني أكرهه، فعلاً. ولما مات، وكنتُ أعي ما حولي، لم أحزن عليه، وأمضيتُ النهار ألعب في شارعنا، خلف سرادق العزاء.
ولما كبرتُ أكثر، كرهته أكثر لما وصلني من أخبار حمقه.
كان السيد خليفة كبير عمال شركة مياه الإسكندرية، ووكيلاً، ثم رئيساً لنقابة عمالها. وكان يشتغل بالشأن السياسي، بصورة ما، وكان ذلك يعود عليه بمردودات مالية مباشرة، وتسهيلات في مختلف المجالات، منها فرص مواتية لتملك أراضٍ في منطقة سيدي بشر، وقت أن كانت بحراً من رمال يطل على ساحل المتوسط.
تملك جدي قطعة كبيرة من الأرض، فعلاً؛ وأتذكرُ أنني زرتها مع الأسرة، التي كانت تحلم بإنشاء بيت جديد (براح) يضم فروع الأسرة.
ثم فجأةً، أهمل جدي الأرض، وأزعجه أنها بعيدة جداً أو (محدوفة)، لا تصل إليها إلا بقطار يزحف في اتجاه واحد؛ فباعها لينفق ثمنها، مع مدخولاته الأخرى، على مزاجه الشخصي من أدخنة ومشروبات .. ونساء!
إنتقلت إليَّ صفة الحمق، فكنتُ أضيق بكل فرص العمل في البلاد العربية، وكانت خمس فرص، لم يمتد المدى الزمني لأطولها عن 3 أشهر. وكنتُ ذرائعياً كجدي، أبحث عن مبررات لأقنع الآخرين بخيبتي.
ليست الأسر، فقط، هي التي يسير الحمق دفتها، فالتاريخ غاصٌّ بملاحم الحمق والحمقى، على كل المستويات.
الشعبي والشوارعي
للشوارع ثقافتها، تستمدها من ذات المصادر، وبذات الآلية، التي تكوِّنُ أكوام القمامة.
وأسميها أيضاً (ثقافة الهوام).
وللشعب ثقافته. هي ثقافة (العوام). فمصدرها (عام) .. كوميوني؛ تماماً مثل من يتلقونها، وهم يشكلون كل ألوان الطيف السكاني، بمن فيهم الشوارعية أو الهوام.
وفي أزمنة عدم اليقين، يخلط بعض الغافلين من الناس بين ثقافة تنزل على رؤوسهم كما تسقط أكياس القمامة من الشرفات، وأخرى (نفطت) من آبار أثيرية، وشكلتها أرواحُ الناس واحتضنتها فصانتها من التلاشي.
ثقافة الهوام تذهب للعدم مع أول مكنسة تزيحها إلى المطامر والمحارق.
ثقافة العوام باقية ما بقيت الشعوب حية.
ماهر الشايب
إلتقيتُ به في مركز تدريب الحرب الكيماوية، بألماظة.
جمع بيننا الانتماء السكندري، والاهتمامات الثقافية والأدبية.
عرف أنني أكتب، وكان هو مهتماً بالرسم.
كنتُ جندياً مُستجَدَّاً (بعكوكاً)، وكان هو رقيباً من القوة الأساسية للمركز، وله دور في التوجيه المعنوي.
أغرب ما عرفته عنه، فيما بعد، أن خاله هو (المشير عبد الغني الجمسي).
وأن ماهر الشايب كان يخفي اسم وموقع وحدته العسكرية عن أسرته، حتى لا تتدخل لدي الخال، القائد العظيم، فيحصل على فرص أفضل في مدة تجنيده، قد تصل إلى درجة أن يقضيها جالساً في بيت الأسرة!
لم يفعل ماهر الشايب ذلك؛ ومن جانبه، لم يفكر الخال الرائع في مجاملة ابن اخته، وتركه في ذلك المركز، الذي كانت تطاله إغارات الطيران الإسرائيلي في ذلك الوقت.
تحياتي لماهر الشايب، الذي يشاركني السكن في الإسكندرية، وتباعد بيننا أحوال الدنيا اللعينة (الصفة تعود على الأحوال، طبعاً)!
فضحتنا الموبايلات ...
أكدت الموبايلات الطبيعة الأصيلة في الإنسان كمحب للنميمة، أو دعنا نخفف وقع التسمية ونقول تناقل الأخبار.
هذه الطبيعة هي الأساس لفنون الحكي، ووسائل التواصل الإعلامي.
كان التليفون البيتي الأسود القديم (تليفون عبد الحليم حافظ ولُبنى عبد العزيز) غير (فاضح) للأسرار، كما هو الحال مع الموبايل؛ والتسمية العربية للتليفون القديم (المسرَّة)، أي أداة بث الأسرار، ولا يكون ذلك غالباً إلا همساً أو بصوت منخفض.
أصبح باستطاعة أي فرد الآن، وبلا أدنى مجهود أو شبهة تنصت، وفي أي مكان وكل مكان، أن يستقبل أسراراً مذاعة عبر الموبايل على الملأ، وأحياناً تكون على درجة كبيرة من الخصوصية.
ظهيرة اليوم، استمعت في جلسة لساعة واحدة في (نادي المعلمين) إلى زوجين تآمرا معاً على زوجة ابنهما، واتصلا بها، ونفذا ما خططا لها فيما بينهما. وسمعت أنا مرحلة التخطيط، ومرحلة التآمر الهاتفي!
استمعت أيضاً إلى مجموعة شباب من المهندسين يعملون في إنشاءات شاطئية، وجلسا في النادي لبعض الراحة، وأخذوا يستخدمون الموبايل في ترتيبات تشي بعمليات سرقة مواد بناء!
استمعتُ أيضاً لجدة تحادث حفيداً لها، وتسأله عن تفاصيل بيتية، وتعيد ترديد إجاباته، كأنها تقصد أن يسمعها من حولها!
وأحاديث أخرى عن أسفار وطبخات وموديلات ملابس ..
أحاديث تقول، في مجملها، أن الحياة أعتى من أن يحيط بها فكر إنسان .. تفرض وجودها بتفاصيلها، ولا يستطيع أحد أن يفلت من حصارها. فقد كنتُ صباح اليوم مستمعاً، والمؤكد أنه كان هناك من سمع مكالمتي مع زوجتي وأنا أسألها عن قائمة المشتروات التي سأعود بها، ومكالمتي لطاهر الشرقاوي، مدير تحرير (قطر الندى)، وأنا أسأله عن مواد الباب الذي أحرره في المجلة ..
مطاطم!
نعم، هي "مطاطم"، كما ينطقها مالك ومراد، ونحن نصر على النطق المخالف للحقيقة: طماطم!
لديهما شغفٌ بالغ بالمطاطم، وأحسبه شائعاً بين أترابهما. عمتهما "رشا"، كانت ترغمني وهي تبدأ عامها الثاني، أثناء وجودنا في (مصراتة)، على شراء الطماطم، التي كانت تفضلها على التفاح الإيطالي الفاخر، وكان أرخص من الطماطم، وتعتقد أنها (فاكهة)!
وقد أوردتُ في كتابي الجديد، الذي انتهيتُ منه اليوم، وعنوانه (زرعَ .. مرشدُ الزُّرَّاع اليافعين)، فصلاً عن زراعة الطماطم، فهي تكاد تكون الأسهل زراعةً بين كافة أنواع الخضروات.
من سهولة زراعة الطماطم أن بذورها يمكن أن تنبت وتعطي نباتاً وثماراً في أي مكان، ومن لا شيئ تقريباً .. فقط، تلقي ربة بيت مهملة بقايا (تصفية) ثمار الطماطم من شباك مطبخها، فلا يمضي وقت طويل إلا وتكون قد نبتت، ثم لا تلبث أن تثمر.
رأيت ذلك بنفسي، في (منور) بيتنا، عدة مرات!
لكن يبدو أن هذه الطريقة في زراعة المطاطم لم تعد تجدي، فالبذور لا تنبت، بالرغم من عدم تغير الظروف. والاحتمال الأكبر هو أن تكون البذور الملقاة في منور بيتنا لم تعد هي البذور الخصيبة القديمة .. صارت بذوراً عقيمة!
لا تعتقدوا أنني أتحدث في شأن هين. فالواضح أننا أصبحنا تحت رحمة (شركات البذور)، التي تنتج بذوراً (ملعوباً في جيناتها)، أو بالأسلوب العلمي (معدَّلة جينياً)، وقد أضيفت إليها صفة مستحدثة تجعلها تنبت لمرة واحدة فقط، فإن ألقت جارتنا بقيا المطاطم من شباكها، جفت البذور مع القشور، وتحللت.
والمستهدف، بطبيعة الحال، أن يظل الفلاح محتاجاً لشراء بذور زراعاته، فقد أصبحت (التقاوي) التي كان يحتفظ بها من بذور المحصول الحالي لأجل زراعة المحصول الجديد ضرباً من ذكرى تاريخية رومانتيكية!
والواضح أن هذه الشركات قد تسللت إلى بلادنا، وهي تعمل في صمت، مستعينة بـ (كوادر علمية) مصرية، وإداريين ومروجين مصريين، ماتت ضمائرهم. وتعمل هذه الشركات في صمت، هو صمت اللصوص في تحركاتهم المريبة. هل سمعتم خبراً عن أنشطة هذه الشركات؟.
إن قضية البذور المعدلة وراثياً متعددة الجوانب: زراعياً، واقتصادياً، وسياسياً، وأمنياً .. وأيضاً: أخلاقياً!
أقصوصة تنتهي بسؤال ..
تقلَّصت الشركة. بِيعَ معظمُها. لم نعد نحتفظ إلا بفرن صهر واحد، فقد كفاءته تقريباً، كأنه أحسَّ بمصير رفاقه الأربعة، الذين تحولوا مع منشآت أخرى إلى أرض خراب، ينتظر مالكوها الجدد الوقت المناسب ليستغلوها فيما يغلُّ عليهم مائة ضعفٍ، على الأقل، من الثمن التي بيعَتْ لهم به.
فات موعد (عمرة) الفرن الوحيد، الذي أصبح لا يستجيب بسهولة لمحاولات إرغامنا له، ليعمل. ولم يعد معي من مجموعات الفنيين القدامى سوى عدد قليل جداً، معظمهم من صغار السن، والموهبة، والهمَّة. لا يصبرون على (وحيد)، وهو الاسم الذي أعطيناه للفرن المتبقي، ويضغطون عليه ليعمل. كان (الأسطوات) القدامى، الذين (بِيعوا) مع ما (بيع)، يجيدون ترويض الأفران، ويحصلون منها على أفضل إنتاج. ولم يكونوا يلجأون إليَّ إلا في الشدائد. أما صغار هذه الأيام، فيضجون بسرعة، ويستدعونني، حتى إن كنت في غير موعد نوبة عمل، ليلاً أو نهاراً.
وقد جرؤتُ، أخيراً، فتحصلتُ على عطلة ترويحية لأيام قليلة، عدتُ بعدها إلى الشركة لأجد (وحيد) في حالة يُرثى لها. والحقيقة هي أن الحالة كانت معقدة. وأخبرني العمال، والكيميائي، بأن الفرن لم تعد نيرانه تصهر الخبائث في الخام، فيخرج الإنتاج وبه نسبة من الشوائب تفسد خواصه، بل تجعل استخدامه على درجة كبيرة من الخطورة.
طلبتُ نتائج تحليل الخام قبل دخوله الفرن، فوجدتها متوافقة مع المواصفات المعتادة. وتأكدتُ من سلامة تدفق الوقود، ومن درجة حرارة الفرن أثناء تشغيلِه (وتشغيلُه لا يتوقف أبداً إلا في أوقات العَمْرة). لم يتغير شيئ. فما سبب فساد منتجنا؟!
"هس" .. أبو اسكندر ..!
الإسكندرية هي مسقط رأس والتر ريتشارد رودولف هس، نائب هتلر في الحزب النازي، الذي وُلد فى حىّ الإبراهيمية في 26 إبريل سنة 1894 لأبوين ألمانيين ثريين هما فريتز وكلارا هيس، جاءا إلى مصر في العام 1908، مع الاحتلال البريطاني، واختارا الإسكندرية لتستقر فيها أسرتهما.
تملكت أسرة هيس فيلا لسكنها الخاص، وورشة لتصنيع وتصليح الآلات الزراعية ومعدات محالج القطن كانت مقامة على مساحة فدانين في قلب مدينة زفتى؛ كما كان الأب يمتلك محلجا للقطن ووابورين للطحين بالإضافة إلى مزرعة مساحتها 93 فدان من أجود الأراضى الزراعية في ناحية كفر الجنيدي.
في مجلس مدينة زفتى توجد وثيقتان تاريختان تكشفان عن جانب من ثروة هيس الأب في تلك الأيام الأولى عن طلب رسمى تقدم به الخواجة هيس للحصول على ترخيص بإقامة سور حول الأرض التي أقام عليها ورشة، والطلب يحمل 71\3442 في سنة 1901 وتأشر عليه بالرفض ,أما الوثيقة الثانية فهى عبارة عن خريطة مساحية قديمة يرجع تاريخها إلى عام 1917 وهي مرسومة باليد وتظهر فيها مساحة الأرض التي أقام عليها ورشته في قلب مدينة زفتى.
في عام 1914 كان في زيارة إلى لألمانيا عندما نشبت الحرب العالمية الأولى وتعذرت عودته لمصر في ذلك الوقت ,وقامت السلطات البريطانية بمصادرة أملاكه فى مصر حتى عاد ثانية إلى مصر عام 1925 واستطاع أن يرد هذه الممتلكات.
هل تركت أسرة هيس بعضاً من (جيناتها) في الإبراهيمية، أو زفتى، أو كفر الجنيدي؟!
تأفيقٌ مع سبق الإصرار والترصُّد !
ماذا يدور بذهنك إن طالعت عنواناً خبرياً يقول:
هيئة إدارية جديدة لاتحاد كتَّاب الإنترنت العرب!
وتصريح لرئيس الاتحاد: نستعد لانطلاقة كبرى في الفترة المقبلة!
وتفاجأ بأن بين أعضاء الهيئة الإدارية منصب لرئيس لجنة النقد والدراسات الرقمية (يقصد المرقمنة)، وآخر لرئيس لجنة الإنترنت والعلاقات الرقمية (يقصد، مرة ثانية، المرقمنة).
وهذه محاولة ثانية لإقامة بناء وهمي، تمكن بعضهم قبل سنوات من اعتلائه والمتاجرة به لتحقيق مآرب شخصية، فلما تحققت انفضوا من حوله فسقط كما يسقط طرف عضو الطفل عند ختانه!
لقد ملأوا الدنيا ضجيجاً، تمخض فولد هباءً وفشلاً ذريعاً.
وها هم يعاودون إصدار الضجيج، محتكرين أن يكونوا هم (مدراء) من يكتبون في هذا الفضاء السيبري المشاع لكل من يعرف طريقه فيه.
ولا أعتقد أن الكثيرين سيتوقفون ليتساءلوا عن معنى (الدراسات الرقمية)، و(العلاقات الرقمية)؟!
ولكنها تسميات جوفاء منتفخة كفقاعات الصابون، الغرض منها إلهاء العين الفاحصة، وسرقة الوعي.
لم يجتذبني حزبٌ .. ولم أكُ حزبيا .. !
مررتُ بثلاث مرات (اقتراب) من أحزاب:
= كانت الأولى إبان سنوات السادات الخائبة، عندما حاول (نجم أدبي) حالي ضمِّيَ إلى خلية ماركسية. قابلني في مقهى جانبية بمحطة الرمل، وحدثني، ويبدو أنه لم يجد لديَّ ما يوحي بجدية إقبالي على الفكرة، فمضى لحال سبيله، ولم يحدثني في هذا الشأن، ولا في أي شأن، منذ ذلك الوقت !
= أما الثانية، فقد كانت في فوران الحماس للتجربة الناصرية، وبإيعاز من الصديق الشاعر السكندري صبري أبو علم، شفاه الله، الذي تطوع بشراء استمارة عضوية في الحزب العربي الناصري من أجلي.
أعددتُ الاستمارة، ومضيتُ بها إلى مقر الحزب بالإسكندرية – شارع أديب بالمنشية – حيث فوجئت بما هو أشبه برصيف مقهى بلدي، ولم أجد أي حماس ممن تلقى طلب عضويتي. جرت عيناه على الاستمارة، وقال في تكاسل شديد: اجتماع لجنة العضوية بعد أسبوع .. مر بنا بعد عشرة أيام !.
غادرتُ صامتاً، وانتظرت عشرة أيام، من أجل عضوية حزب يحمل اسم ناصر.
زرتُ المقر القميئ في الموعد تماماً، فاستقبلني عدد من (كوادر) الحزب، أجلسوني بينهم، وراحوا يثرثرون، حاسباً أنني سأدعى لإنهاء إجراءات العضوية بين دقيقة وأخرى. تململتُ، وسألتهم عن أخبار لجنة العضوية. قالوا لي، ولم أنت متعجل هكذا؟ يمكنك أن تزور المقر وقتما تشاء، وتمارس (نشاطك) فيه، ريثما تنتهي الأعمال الإدارية.
اتجهتُ إلى مكتب الموظف المسؤول، وطلبتُ أن أسترد استمارة العضوية. تعجب. أصررتُ. مزقتُها، وألقيتُ بها إلى سلة المهملات، وغادرت مقر الحزب العربي (الناصري).
= المرة الثالثة كانت استجابة لدعوة للانضمام إلى حزب الدستور. وذهبتُ إلى أول اجتماع تحضيري للحزب في الإسكندرية، وكان في موقع ما بالداون تاون. جلستُ مع عشرات غيري في حديقة ننتظر (الضيوف المتحدثين). طال الانتظار لأكثر من ساعة عن الموعد المحدد لبداية اللقاء. أخيراً تحدث متحدث عبر مكبر الصوت يعتذر عن التأخر، ويبشرنا بأن السادة الضيوف على الطريق الصحراوي. سألتُ عن السادة الضيوف فوجدتهم علامات استفهام كبيرة.
كنت قد نلت بعضاً من هواء الحديقة المنعش، أعانني على أن أنطلق مغادراً اجتماعاً حزبياً ينتظر عدداً من علامات الاستفهام يتلكأون على الطريق الصحراوي!.
سألني: أين ستناقش مجموعتك القصصية الجديدة؟
قلت: لا أعرف أصلاً إن كانت ستناقش أم لا، ولا أهتم - أيضاً - بذلك، فقد أديتُ دوري بإنتاج ما أنتجتُ، وأنا راضٍ تماماً عنه، وإلاَّ ما أخرجتُه حاملاً إسمي وأفكاري للناس ..
وليس من قبيل التعالي، ولكنني لم أطلب من أيٍّ ممن يقالُ لهم نقاداً أن ينظر فيما أُصدرُ من كتب، ويوافقني كثيرون في أن حركة النقد عندنا كسول، ولا أقول متخلفة، وقليل جداً ممن يتصدون لمهمة الكتابة النقدية هم من يجيدون هذا العمل المهم، وأعرف بين من يمارسون (عادة) النقد من يفعل ذلك بطريقة (قص والصق)، ولا يجيد بناء لغته، فكيف له أن يتصدى للحكم على عمل إبداعي.
وفيهم من يعتقد أن النقد هو بالضرورة انتقاد وانتقاص من قدر التجارب التي تقع تحت يديه!. وأعرف، مثلاً، ناقداً أطلق عليه معارفه صفة (الناقم) بدلاً من (الناقد)!
إنني أترك كل ذلك وراء ظهري، ولا أرجو إلاَّ أن يقرأني قارئ واع، وأن تؤثر كتابتي في أدمغة وذائقات قد لا تكون وُلدتْ، بعد.
ساندويتش حمدي ..
من أقسى الليالي التي مررت بها في حياتي .. 28 أكتوبر 1970 ..
(قطيع) من المجندين المستجدين، في ملابس كاكية مزرية، يحملون فوق أكتافهم (المِخل) .. جمع (مخلة) .. مخلة إسماعيل ياسين (مخالي شل)!
يقودهم صف ضابط، من منطقة التجنيد، في حوالي الثامنة مساء، ويلقي بهم على رصيف محطة سيدي جابر، في انتظار قطار الترحيل، الذي لا يعلم موعده أحد.
معظمهم يجلس أو يتمدد إلى جوار مخلته. بعضهم أسعده حظه بقريب يخفف عنه العبء النفسي، في انتظار بداية الترحيلة.
فضَّلتُ ألا يأتيني أحد من أهلي أو أصدقائي، وجلستُ على أرض الرصيف غارقاً في بؤسي.
بداية غاية في السوء لحياة الجندية. استقبال مُزرٍ لجنود جدد، مطلوب منهم الاستعداد لتحرير تراب الوطن واستعادة كرامته.
أخيراً جاء القطار زاحفاً. قطار كأنه نزل من عالم (فرانز كافكا) الكابوسي. مقاعد خشبية متهالكة. نوافذه فتحات لا سبيل إلى إغلاقها اتقاء لبرودة الليل. لا إضاءة فيه.
وما إن تم (تحميل) الجنود، حتى واصل زحفه القاتل، تاركاً على الرصيف عشرات الوجوه الباكية والأيادي الملوحة، حتى ابتلعه الظلام.
أسوأ رحلة في تاريخ كل وسائل مواصلات الكون!
قرب الفجر، كنا في محطة (باب الحديد). جوعى .. منهكون ..
أمرنا من (يسوقوننا) بالانتظار على الرصيف. ألقينا مخلنا، وفوقها أجسادنا، يتهابط عليها برد الفجر القاهري.
فجأةً .. ومع انتشار بشائر آشعة الشمس الوليدة، مرَّت بالقرب مني عجوزٌ، وكانت تحدق باتجاهي، وقصدتني، ووجدتها تقدم لي لفافتين. قالت: ساندويتشين .. واحد لك، بالهنا والشفا .. وواحد لحمدي، لو قابلته!
السيدة سيادة ..
حدوتة كئيبة!
أصدرت السيادة فرمانا بتغيير بطاقة الرقم القومي، بعد 7 سنوات من إصدارها.
لا يتسطيع أحد عصيان السيادة
استجبتُ للسيادة، وكلفتني الاستجابة ما يلي:
= زيارة لمكتب توثيق تابع للسيادة لشراء نموذج تجديد بطاقة الرقم القومي، وثمنه 20 جنيها مصرياً.
= نفترض أن عدد من يجددون بطاقاتهم في مصر في الشهر الواحد مليوناً واحداً لا أكثر. يعني السيادة تجبي 20 مليون جنيه مصري كل شهر ثمناً لنموذج من ورقتين.
= المؤكد أن جانباً من هذه الجباية السيادية تذهب لدعم أندية وفنادق وشواطئ أصحاب السيادة.
= من غباء تصميم النموذج إصراره على الحصول على (خاتم) التأمينات والمعاشات، ليثبت أنني متقاعد، وصفتي في البطاقة القديمة متقاعد، وهي مثبتة في شبكة البيانات القومية السيادية، فهل هناك احتمال لأن أكون رجعت في كلامي، و (خلصت) تقاعد، وعدتُ للعمل ؟!
= كلفني هذا الإجراء الغبي يوماً ومصاريف انتقال.
= يوم آخر ومصاريف انتقال أخرى لتقديم الأوراق، ولا بد أن تكون معها (صورة) للبطاقة القديمة! وهم أنفسهم مصدروا هذه البطاقة، ومتوفرة لديهم في شبكة البيانات السيادية، التي تحتوي على معلومات عن الفرد أكثر من المعلومات التي يعرفها عنه خالقه!!!!
= توقعتُ أن يُعاد تصويري من أجل البطاقة الجديدة، فقيل لي: نحن لا نعيد التصوير عند التجديد!. وهكذا، ترون في صورتي البطاقة، القديمة والحديثة، الصورة ذاتها، التي تفننت كاميرا الجهة السيادية في إظهار وجهي على أسوأ هيئة. صحيح أنني لستُ كلارك جيبل، ولكن الصورة أشبه بصورة عفريتتي التي ستظهر للناس ليلاً بعد موتي!
= قيل لي تعال بعد أسبوعين لاستلام البطاقة الجديدة، فذهبتُ بعد أسبوعين (إجتاح النازي فرنسا في أقل من أسبوعين)، وفرحتُ جداً حين قالوا لي (فوت علينا بكره)، فلم أكن سمعتها منذ سنوات!
= وقد استلمت البطاقة الجديدة اليوم، وها أنا أضع صورة وجهها وقفاها مع وجه وقفا القديمة .. فهل تستطيعون التمييز بين الإثنتين، إلا في تاريخ انتهاء السريان؟!
= راجعت بعض الأصدقاء من أساتذة علوم المواد بخصوص احتمال أن تتغير طبيعة البطاقة وتتشوه بعد 7 سنوات، فقيل لي إنها تدوم ربع قرن وأكثر.
= إبتزاز وغباء سيادي.
القاهرة
شــرٌّ لا بد منه ..!
رأيي أن التواجد في القاهرة شـرٌّ لا بد منه!
إخترتُ أنا بكامل إرادتي، أن أبتعد عن الشـرِّ، لإنه في النهاية شرٌّ، مهما كانت درجة (لا بد منه)!
ومعظم المتواجدين في هذا المجال المغناطيسي القاهري، الشرير، ممن أعرفهم من مثقفين ومبدعين، تخلوا عن خنادقهم الإقليمية، وارتضوا الحياة في (أرض القتل) المفتوحة، وهي القاهرة.
وأنا أعلم أنهم يبذلون جهداً نفسياً وعضلياً هائلا لتحقيق التواجد، ولكسب لقمة العيش؛ وأحياناً يُضطرُّون إلى إغماض العين عن جوانب أخلاقية، وهو ما لم يكونوا ليفعلوه قبل أن تُفقدهم القاهرة عذريتهم!
تمسك مئات من مبدعي ومثقفي مصر بمواقعهم الدفاعية، من أقصى الجنوب، إلى أقصى الشمال، وتمكنوا وهم في خنادقهم المحلية من غزو مدينة المعز الوحشية، عن طريق (البريد المصري)، فيما مضى، والإنترنت حالياً.
ولأنني من معدن بشري، أشعر أحياناً ببعض من أسف حين أرى أنصافاً وارباعاً، كل ما لديهم من ميزات أنهم يسكنون بيوتاً في القاهرة، يحتلون مواقع، ويحققون مكاسب مادية ومعنوية لا يستحقونها.
وتبدأ مشكلتي عندما يحتل هؤلاء الأدنياء مواقع الإدارة، فيصبح أحدهم، مثلاً، عضو لجنة تفحص كتاباً لي قدمته للنشر، أو رئيساً للتحرير (ولو بالدور) لمجلة، ويرفض مادة لي أو يطلب (إجراء تعديلات) عليها. وهذا ليس من قبيل الاستعلاء من شخصي الضعيف، ولكن السبب هو أنني أعرف جيداً قيمة وقامة هؤلاء المهاجرين إلى أرض القتل .. القاهرة!
وجوه كتاب الوجوه
تجمَّعَ لمخترع الفيس بوك عددٌ من صور أصدقاء قدامى، فسعى للبحث عنهم بنشرها في الإنترنت، فكان (الفيس بوك)، إذ كان المقصود منه أن يكون (سجلاً) للصور، يشبه، مع الفارق الكبير، سجلات الجهات الأمنية المحتوية على صور ذوي السوابق الإجرامية، والمطلوب توقيفهم!
وتطورت الفكرة على نحو مذهل. ولعلها أول أسلوب للاتصال والتواصل عبر الشابكة (الإنترنت)، ينتشر بهذه السرعة، وعلى هذا النطاق من الاتساع.
والأهم من ذلك كله، أن غياب الفيس بوك - وهذا مجرد افتراض كئيب - ستكون له آثار فادحة على أصعدة متعددة. ولكني أتوقف هنا عند نقطة واحدة، هي الناحية النفسية للفرد المشارك في مجتمع الفيس بوك الكوني.
فأنا أعتقد أن الفيس بوك أصبح (دعامة) نفسية لمستخدميه، تماماً كدعامات الشرايين، تعمل على استمرار تدفق الدماء.
إننا لا نرى (وجوه) الآخرين في صفحاتنا، وحسب، وإنما نرى (وجوهنا) أيضاً - إن كنا حريصين على أن نراها، وليس على إخفائها - وتقلبات أمزجتنا وأفكارنا واستجاباتنا لما يجري حولنا.
إننا نكتشف في (كتاب الوجوه)، وأتحدث عن أحوال كثيرين أدعي أنني رصدتها، أننا كنا نستخدم وجوها متعددة، وليست أقنعة متبدلة، ولكن وجوهاً موجودة في وقت واحد معاً، ككائن خرافي متعدد الأدمغة، نضيء منها، فقط، ما يناسب من نقابله، وما لا يتعارض مع مصالحنا الشخصية، وما يمهد الطريق لانقضاض على غنيمة، حتى وإن كانت ذبابة!
وأعتقد أن الفيس بوك، على هذا النحو، مرتع خصب لعلماء النفس والسلوكيات البشرية، للرصد، وجمع النماذج والعينات!
محرقة ..
كنت أدخن بشراهة خلال سنوات التجنيد الأربعة، إذ كنت من أغنياء القوم، أتحصل شهرياً على راتبين، ميري وملكي، إضافةً إلى أنني كنت أتلقى السجائر من حين لآخر كـ (ترفيه)، يوزعه علينا (التوجيه المعنوي)، وكان الجنود من غير المدخنين يختصونني بأنصبتهم من علب (الدخان)، إهداءً أو بيعاً بأثمان زهيدة.
ولما اقترب موعد تسريحي من الخدمة العسكرية، استجمعتُ إرادتي، وقررتُ الامتناع عن التدخين، حتى لا أقع في ورطة إزاء تكاليف التدخين، ولم أكن أفكر في تبعاته الصحية.
ولست أدري من أين جاءت رغبتي في أن أعلن التوقف عن التدخين في (مشهد) مسرحي!
لقد جمعتُ كومة من علب السجائر، والسجائر (الفرط)، وتوجهتُ إلى مركز (أرض السرية)، ووضعت الكومة على الأرض، وأشعلت فيها النيران، بينما أصوات مستنكرة تتصاعد لأنني أحرق (النعمة)، وبعضها يرجوني أن أعطيها له.
ومضيت أشعل السجائر التي تجاوز عدد علبها الثلاثين (ماركة كليوباترا)، وبعضها (سوبر).
والغريب أن ناراً لم تتصاعد، وإنما الدخان فقط، والتف حوله نفر من الجنود (الخرمنجية) يعبونه عبّاً ..
درعميون في الحرب الكيميائية!
والدرعميون هم خريجو كلية دار العلوم - جامعة القاهرة.
ويبدو أن الحرص الشديد على أن يضم الجيش المجندين من خريجي الجامعة في أسلحة ووحدات تتفق وطبيعة تخصصهم الدراسي، جعل بعض المسئولين عن توزيع الأفراد المستجدين يسهون عن أن (دار العلوم) لا تمت لكلية العلوم بصلة، إذ أنها كلية لدرسات اللغة العربية وآدابها، فأرسلوا مئات من الدرعميين إلى سلاح الحرب الكيميائية!
خطأ، ولكنه يتسم بالطرافة. والغريب أن الدرعميين الكيميائيين استجابوا بالفعل لطبيعة العمل في وحدات الحرب الكيميائية، واندمجوا في المجندين العلوميين. وعلى أي حال، فقد كان الستر من عند الله، ولم تواجهنا إسرائيل بسلاحها الكيميائي، فلم تكن لوحداتنا الكيميائية أدوار تفاعلية، إلا المراقبة والتأمين.
الأكثر من هذا أن الدرعميين أضفوا على الوحدات الكيميائية روحاً طيبة، وقد عرفتُ أحدهم، وكان راوية متمكناً للشعر العربي القديم، وذا ثقافة أدبية راقية؛ وكانت لنا جلسات عديدة ممتعة، وقد استفدتُ منه كثيراً (للأسف نسيت اسمه).
"بربشَ" .. "يُبربِشُ" ...
جاءني زميل في معهد علوم البحار، يحمل أثقال لقب (أ.د.)، بحزمة أوراق لألقي نظرة عليها، فهي - كما قال - مخطوط كتاب سينشره، وكان عن الثدييات البحرية.
تعجبتُ، فتخصصه في النباتات البحرية. لكني قلت لم لا؟ .. فإن لديهم اعتقاداً بأن من يحمل أثقال أ.د. قادر على كل شيئ ...
وبدأتُ أقرأ درر الـ أ.د.، فهالتني كمية الحقائق العلمية المغلوطة فيها، ولم أستطع الاستمرار، لأنها كانت مكتوبة بلغة (أكلوني البراغيث)، أو أقرب للعامية المصرية.
ولما جئتُ إلى وصفه لعين الحوت بأن لها أجفاناً (يبربش) بها، أقفلت الملف، وأعدته لصاحبه مع أطيب تمنياتي بالتوفيق ...
ماذا لو لم تُحفر "قناة السويس"؟!
أنا مغرم جداً بالمسائل التي تثار من خلال هذه الصيغة التساؤلية الافتراضية: ماذا لو؟ التي تتساءل بشأن أمر يصعب جداً أن يحدث، أو يستحيل وقوعه.
إنها صيغة تثير ما يسميه الفرنجة في لغتهم (Brain Storming) وأترجمه أنا (تلاقح الأفكار)، ولا أحب ترجمة (عصف العقول)، فالأولى فيها (روح) المعنى، والثانية التزام مباشر فج بالعبارة الإفرنجية.
ولديَّ أكثر من ثلاثين مقالاً تبدأ بهذا التساؤل المثير، بل إنني خصصت الأطفال ببعض منها، وإن كانت مجلة أطفال مصرية اعتذرت عن نشره لأنه (تقيل على ولادنا يا أستاذ!).
فماذا لو لم تتحد إرادات عالمية، مع أحوال مصرية، لينتهى الأمر إلى أن يحفر مئات الألوف من المصريين القناة، ويموت من بينهم عشرات الآلاف؟!
ثمة إجابة قصيرة جداً، يحتاج تفصيلُها لعدة كتب، هي: لم تكن أحوال العالم لتصبح على ما هي عليه الآن: اقتصادياً، وسياسياً، وجغرافياُ.
والحقيقة هي أن (وجود) قناة السويس يشغلني بشدة منذ بداية السبعينيات، حيث أتاحت لي سنوات الجندية فرصاً قليلة لمراقبة قناة السويس، في زيارات قصيرة لاستحكاماتنا وقواتنا في الجبهة الأمامية، قبيل أكتوبر 1973؛ وكنت أنظر إلى خط القناة (المانع المائي)، وإلى خط بارليف، إلى الشرق منه، وأقول: يا إلهي، لقد فكر السانسيميون في حفر القناة، واستولى الإنجليز على الفكرة وأرغموا خديوات مصر على قبولها، وجاء فرنسي آخر لينفذها، ونفذها أجدادنا وماتوا من أجلها، لكي تتجسد أمامي في هذه اللحظات، مانعاً يحول بيننا واسترداد سيناء.
(طبعاً أنا أعرف كل الكلمات الحماسية عن الاسترداد وأكتوبر ... الخ، فأنا واحد ممن شاركوا فيه، ولكني أحاول الآن أن أوجد حالة تلاقح أفكار، فعلي المزايدين أن يبتعدوا، وعلى المشككين في وطنيتي وإخلاصي أن "يختشوا"، فنحن (نلعب) لعبة فكرية، لا أكثر!).
وبعد أكتوبر، واسترداد سيناء (بأسلوب السادات)، تمنيتُ لو أن السادات كان قادراً على التهديد، مجرد التهديد، أو التلويح (يعني: كده وكده!)، برغبته في (ردم) قناة السويس!. وأفضيتُ لبعض خُلصائي بالفكرة، فكانت ردود أفعالهم مؤسفة، كأنني سأقترح فكرتي على السادات العاجز المكبل بكامب ديفيد، فيقول لي: عفارم عليك يا شاويش رجب .. هيا بنا نردم القناة!
لم أكن أفكر، وقتها، إلا في أن (التلويح) بردم القناة سيهز العالم هزاً، ويجعلنا نفرض مطالبنا على العالم، ليساعدنا في إعمار ما خربته معاركنا مع إسرائيل؛ كما أنه (الردم) سيكون زلزالاً للاستراتيجية العسكرية لإسرائيل، التي كانت القناة تخدمها في مرتين اجتاحت فيهما سيناء، وحال المانع المائي الذي حفرناه بأيدينا بيننا ووقف اجتياحها.
ثم إن القناة إن أصبحت أرضاً، اكتمل التواصل العضوي بالأرض الأم، وتضاعفت حركة البشر بالمنطقة عشرات الآلاف من المرات، وذلك هو أساس (التعمير) و(التنمية) اللذين تحتاجهما سيناء، واللذين يحال بيننا وتحقيقهما بكل الوسائل.
كما أن الردم لن يسيئ إلى مدن منطقة القناة، بل إن خريطة المنطقة سوف تختلف، وتضاف مساحات هائلة من الأراضي القريبة من موارد مياه الري، فتخضرُّ المنطقة، وتزدهر اقتصادياً.
فإن خاف العالم من تلويحات السادات التخيلية، ومن ضغوط إسرائيل وردود أفعالها الهيستيرية، جاء إلينا لـ (يشوف مطالبنا) .. أو هكذا تخيلت، تأسيساً على هذا التساؤل الافتراضي، الذي لا تزال الإجابة عليه تحتاج لسيناريوهات عديدة أخرى، تؤكد أن العالم لم يكن ليصبح على ما هو عليه الآن لو لم يفكر (سان سيمون) القس الفرنسي الذي تحول إلى إمبريالي لاديني، وترغم انجلترا حكام مصر على التنفيذ، لتظل متحكمة في (الشركة العالمية لقناة السويس)، حتى يأتي ناصر فيضيف إليها (ش.م.م.) !!
فيل جدو وحمامة مالك ..
في بيتنا لوحة لفيل أحلام .. مزركش بتشكيلات وألوان لا صلة لها بأي من الفيلين: الأفريقي والآسيوي.
يؤدي هذا الفيل رقصة وهو محاطٌ بثمار وورود وأفرع وأوراق أشجار، أستطيع أن أميز منها الأناناس والموز ..
وفي حوار لي مع (مالك)، وكثيراً ما نتحاور ونتبادل وجهات النظر، أشرت إلى اللوحة التي كان يراها لأول مرة، وقلت له: إيه رأيك في الفيل ده؟!
وكان ظني أنه صادف الفيل من قبل .. صحيح أنه لم يكن زار حديقة الحيوان في الإسكندرية، فهي حديقة فقيرة قذرة مُمرِضة، ولكن الأفيال تملأ الأفلام والبرامج التلفازية.
وفوجئتُ به يقرر : (حمامه)!
نظر الرجلُ إلى اللوحة، ورأى ما رأيتُه فيلاً حمامةً!
حاولتُ أن أثنيه عن رأيه، وأن (أصحح) له (رؤيته)، فأصر على أن (فيلي) حمامة!
وأصبح هذا (الجدل) من لزوميات زيارة مالك لي. (فيل يا مالك) .. (حمامة يا جدو)!
قضية خلافية، وزقاق سد!
لا أمل في أن يتزحزح أحدُنا عن رأيه الذي يؤمن به أشد الإيمان. فأنا واقعي الرؤية، أُجرِّدُ الفيل من كل ما يحيط به من ملامح الأسطورة، وأعود به إلى ما أعرفه من شكل أضخم حيوان أرضي في زمننا؛ ومالك لا يرتضي إلا بما يراه من حمامة خرافية، تعيش بين مكونات وسط يعيش فيه الحمام.
***
أنا لا أحكي هنا قصة خلافي مع مالك، ولكن قصص خلافاتنا جميعاً، فقد أصبحنا نرى الأفيال حمائم، والحمائم أفيالاً ...
كل سنة وأنت طيب يا مالك .. ستطفئ شمعتين السبت القادم .. وأتمنى أن تداوم على الدفاع عن (رؤيتك) التي تراها صحيحة. لا تُسلم عقلك لمن يحاول أن يفرض عليك فيله!
يا مالك .. يا مراد ..
يا مالك ويا مراد. ستجدان قدراً كبيراً من المنغصات، في عالم ما بعد النفط الذي ستتجرعان معايشته، في منطقة ظلت لأكثر من قرن من الزمان من أغنى بقاع الأرض، أفاء الله عليها بذهب أسود يتفجر تحت أقدام سكانها، وكان معظمهم من البدو، ينتظمون في تشكيلات أقرب إلى العصابات، فلما اغتنوا، حاولوا أن يقيموا دولاً، وهم أبعد ما يكونون عن (رجالات الدولة)، وأفقر ما يكونون عن تصور الدولة، فاحتفظوا بكياناتهم العصابية، في أشكال مخففة الوقع، مجمَّلَة، كأسرٍ تتوارث زعامات العصابات/ الدويلات؛ ولجأوا - وهم مفتقدو الوعي العام بحركة العالم وتأثيرات التقدم العلمي والتكنولوجي - إلى عصابات أخرى، ترتدي القبعات، جاءوا إلى المنطقة ليتعاملوا مع (أغنياء النفط) - وأخلاقياتهم كأغنياء الحرب - ويحتالوا عليهم ببناء أبراج شاهقة، ومناطق سياحية في مناطق لا تطاق حرارتها صيفاً، ولا قيم جمالية فيها، وإنشاء (مدن مستقبلية)، في مناطق نشاط الموجات التسونامية، ولن تمتد بها الحياة لأكثر من ربع قرن تالٍ، حين ينفد النفط تماماً، وتفلس الخزائن الوطنية، ويهرع (أصحاب البلد) إلى الخارج، يعيشون حياتهم على أرباح أرصدتهم التي أدارت ماكينات الرفاهية والتقدم في الغرب لنحو قرن كامل، ولن ينظروا وراءهم إلى بلادهم إلا في غضب، فقد عادت إلى حياة الصحراء والنياق والغنم، بعد أن أهملت خطط التنمية االحقيقية طويلاً، وأهمل الإنسان الوطني تماماً، وكان الاعتماد كل الاعتماد على غرباء جاءوا يعملون عبيدا من أجل أموال النفط البائد.
ستكون لكل ذلك انعكاسات حادة على حياتكما يا مالك ويا مراد، وأقرانكما، وسيكون عليكما الاحتفاظ بالـ (زخْم) الطبيعي للحياة المصرية، والتمسك بالحد الأدنى من التماسك الاجتماعي، ومقاتلة رؤوس الفساد أشد القتال، والتسلح بالعلم، وبالثقافة العلمية، وبألا تجعلوا من الدين قفصاً قد تدخلان من خلاله الجنة، بعد أن تموتا مختنقين من القهر فيه، ولكن اجعلوا منه فضاءً تحلقون فيه لتكونوا أنتم من يصنع جنة الله على أرضه، تعيشون فيها أنتم وأبناؤكم.
جدكما رجب
مطر ..
كان لديه في شبابه الوسيط معطفٌ ورقيٌ، بغطاء رأس، اشتراه في رحلة أوربية.
كان ينتظر الليالي التي يشتد فيها هطول المطر، فيغادر البيت خفيةً، يرتديه وينطلق إلى خط الشاطئ، ويُسلم خطاه للرمال المبللة، وأذنيه لهدير الأمواج، وكان وقع خيوط المطر الكثيفة يبثه طمأنينة، في شاطئ خالٍ غارق في الحلكة.
كان يتردد كثيراً في التوقف لالتقاط الأنفاس؛ لأنه إن فعل تلبسه خوف مبهم، وربما بكى، وانتابه شعور بضياع الطريق، وبأن البلل قد تسرب إلى رأسه وقدميه، وبالاحتياج إلى من يعود به إلى البيت، وإلى من يحميه من غضبة أم أصيب طفلُها بجنون المطر.
أجيب لك كاس ؟!
كانت طائرة الخطوط العراقية الضخمة شبه خالية؛ ومعظم إن لم يكن كل الركاب من المثقفين والفنانين المصريين.
كنت منعزلاً عن رفاق الرحلة، في كرسي مزدوج، ألتمس قليلاً من النعاس.
إقتربت مني المضيفة (التي تضجُّ بالكرم)، ومالت فوقي (ميْلاً)، وسألت بعامية مصرية (فادحة):
= أجيب لك كاس ينعنشك ؟!
شكرتها معتذراً. عادت تسأل بنفس العامية الفادحة، وهي تشير إلى محيط رفاق السفرية:
= كلهم منعنشين .. إنتا متدين؟!
قلت لها:
= أنا أسوأ المتدينين، ولكني لا أشرب الخمر، لأنني أحب أن يظل وعيي متيقظاً، فهو حارسي الشخصي !
هذا هو جوهر اتصالي بالدين.
لا أدعي، ولكني لا أرتكب خطاً، قدر استطاعتي؛ وربما كنت في هذه الناحية أقرب إلى ما استهدفه الإنسان من (صناعة) أديانه. نعم .. صنعها .. هي من روح الله التي أنزلها على بشر، ليسعدوا بها، فحولوها إلى أدوات شقاء.
أنا أعبُّ من (الروح) عبَّاً، وتزعجني الصنعة كثيراً.
أجيب لك كاس ؟!
الإسكندرية – باكوس – أول أكتوبر 2018