عتبة:
لا تروم هذه الورقة الكشف عن خبايا مقول النص، ولا البحث عن حقيقة كامنة خلف ملفوظه، كما لا تتغيا التصريح بما يلمح إليه من منظور تعرية الخلفية النفسية الباعثة على كتابته، وإنما المقصود مقاربة البنيات الكامنة وراء الحقيقة نفسها، لأن النصوص لا تخلو من حقيقة مهما غلفت نفسها بأزياء الاستعارية والسخرية...
- إطار القراءة:
تنطلق هذه المقاربة من النظر إلى المتن عبر غايتين تختلفان في بعديهما التيمي وإن كانا يتفقان في بعدهما الغائي، فالغاية الأولى يمكن اختزالها في تيمة: أزمة الثقافة وبالخصوص أزمة تلقي الثقافة، بينما يمكن اختزال الغاية الأخرى في: إعلان الإدانة لقيم منحطة، ويمكن تلمس ذلك عبر مسارات ثلاثة هي:
1- المسار الثقافي:
لعل الهاجس الثقافي هو النواة الأساسية المحركة للكتابة عامة عند الأستاذ لعميري، وليست الثقافة بالمعنى الذي يقدم وضعا اعتباريا لحامل الثقافة، وإنما بالمعنى الذي تعتبر انشغالا يوميا، واشتغالا على القريب المعتاد، يمكن صياغته في أبسط حالات التعامل اليومي، فحتى الاسم/اللقب وعملية بيع الكتب والمجلات لتوفير قسط من المال قابل لأن يصبح مادة ثقافية خامة، منطلقا لبناء تصور قيمي تجاه المجتمع ككل، ومثل هذه التيمات وبهذا البناء بالذات المتعاطف مع المهمش والمتناسى هي التي أضحت تستأثر بالاستقطاب الثقافي عموما سواء منه المعقلن أو المتخيل.
ولعل هذا هو مصير الثقافة والمثقف معا، أن يعيشا التهميش، شأنهما في ذلك شأن المواضيع التي يعالجانها، ويفقدا وضعهما الاعتباري المعتاد إلى درجة يباع فيها ميشيل فوكو بدرهمين، ويكون حظه أن ينشر في سويقة مهمشة "خانزة" مع الخردة وروائح السمك. وتصبح عولمة الأسماء/الألقاب مادة دسمة لبرنامج تلفزيوني يعاني المسخ، ويحيي طبيعة السجال العربي العقيم الذي ألفنا على طول تاريخه أن يهتم بالأمور التي تمكنه من تحوير جوهر المواضيع الحقيقية، والتمسك بالتافه، وتحوير النقاش الثقافي إلى سجال أيديولوجي يفتقد المعنى.
فلا عجب إذا كان قدر الثقافة والمثقف معا أن يعيشا مستنقع المحنة والتي عبر عنها المبدع الراغب في التنقيب في أعطاف وجنبات موضوعات من صميم محنة الثقافة نفسها عبر التقاط لحظات دقيقة وحساسة تكشف عن عمق أزمة بنيوية أضحت خيوطها تلامس أبسط مكونات الحياة اليومية، ولعل القالب الجمالي المعتمد على البناء المجازي/الاستعاري المغمور بالإيحاء الساخر ليدل على انخراط الكاتب في سياق تيار فرض نفسه في مسار الكتابة القصصية العربية مع أسماء مشهورة كزكرياء تامر ومحمد زفزاف وإدريس الخوري ...
هـي إذن لعنة الكتابة تطارد الكاتب في نحو بوح بتفاصيل الولادة العسيرة لسؤال الثقافة عموما، والثقافة العالمة منها على الخصوص. سؤال ضمني تولده نصوص وسطى الأباخس بلغة لا تخلو من سخرية، لكنها في الآن ذاته تبني موقفا ملتزما يسائل السياسي في غالبيته.
وإذا كانت محاولات المبدع ترفض أن تقوقع نفسها ضمن منظور أحادي، أو خلفية نمطية معينة تضمن للقارئ عملية التصنيف البسيطة، مما يجعل التلقي يتساوى مع المحاكمة، فإن انفتاح النص من خلال زخمه التأويلي يحقق له إبداعيته بالمفهوم الذي صاغته ج. كريستيفا. فالسويقة، مثلا، ورغم أنها إحالة دالة للقارئ المحلي على فضاء واقعي وجغرافي محدد، لكن من منا ينكر أن في كل منطقة من مناطق المغرب يوجد بها فضاء يحمل هذا الاسم نفسه وبالمواصفات نفسها، فالفضاء هنا يلعب دورا مزدوجا، يتصل الأول بتبيئة الحدث بما يربط القارئ بحدود مساحة جغرافية شبه معروفة في تفاصيلها، ويرتبط الثاني بآفاق منفتحة على احتمالات تحيل على خصوبة المتخيل الجمعي، ولعل هذا الانفتاح هو ما يجعل النصوص تتخلص من قيود الكتابة التي تدعي "الاحترام" الذي يعبر في الحقيقة عن شكل من الكتابة "المنقحة" التي تحترم قانون السير الاجتماعي والعرفي وبالتالي لا تخدش حياء اللغة والأخلاق والثقافة المحتشمة الصادرة عن منابر مصابة بداء فقدان الثقة المكتسب.
2- المسار الاحتجاجي:
إن كل ممارسة إبداعية مهما اختلفت أشكال تلقيها فهي بالضرورة رسالة، وبما أنها كذلك وتستحضر متلقيا ما مقصودا أو محتملا على الأقل، فإن الأمر يتعلق بمقاربة المعنى الثاني، وهو هنا معنى الإدانة، هذا المعنى المبثوث في نصوص الاحتجاج على كائنات يتم النظر إليها بعين الفضح والتعرية لكشف تناقضاتها أولا والتشطيب عليها من سلم الاعتراف الثقافي ثانيا، ذلك أن المتن ينظر إلى الثقافة باعتبارها حقلا لممارسة التفكير، وليس للتملق والتآمر والانبطاح، فهذه القيم تنوء بها كائنات طفيلية غريبة حتى عن ذاتها وعن محيطها، غير متحكمة في بنائها العضوي وبالتالي فهي تعاني من الميتامورفوزية كشكل من أشكال المسخ: فهي حجش متسيس، وبخوش انتخابي، ومن طينة المناضل في أنفه، ... وهي امتداد لنصوص كتبها المبدع ونشرها لكنها لم تجد سبيلا للتسلل إلى "وسطى الأباخس" في نسختها الحالية ومنها:
1- سقراط ومتملقه: وهو نص يعبر عن تضاد بين سقراط فيلسوف الفضيلة ومتملق حامل لصفة التزلف كقيمة مفعمة بالرذيلة.
2- حوار مع منبطح جدا: يعبر هذا النص عن التضاد بين مفهومي الحوار والانبطاح، فمعلوم أن المنبطح لا يحاور وإنما يجاري ويحابي وينافق، وبقدر ما يكون الحوار آلية للتفكير والتساؤل وإنتاج المعنى، بقدر ما يلغي ويقصي المنبطح ذاته لصالح ذوات أخرى غيرية تعفيه من التفكير وعناء إنتاج المعنى.
3- زاوية الجرابيع للتآمر والنميمة: وهو نص يعلن تناقضا صارخا بين الزاوية بحمولتها الدينية والروحية، الزاوية كمركز للحماية الجماعية، كمدرسة للعلم والفضيلة، وبين الجرابيع النمامة المتآمرة، كمكونات منبوذة أبعد ما تكون عن الزاوية، وتحمل الزاوية أيضا دلالة الركن بوصفه فضاء هامشيا غالبا ما يكون منسيا ومتسخا يليق بالجرابيع وثقافتها وبالتالي يتناسب هنا الفضاء وقواه الفاعلة ويتناغمان مع الثقافة المسخ، بحيث تصبح الذات متلذذة بقيمها الدنيئة بل وتنشئ لها إطارا لنشرها وتعميمها.
هذه النصوص كلها تقوم على النفس الاحتجاجي الواعي بطبيعة الاحتجاج ولونه، فالإدانة هنا لا ترتبط بطبيعة السلوك المدان فقط، وإنما تنبع أيضا من خلفية سمتها الانخراط في نسق سياسي بديل، يحكمه تصور مرتبك بالمؤسسة، أكثر من ارتباطه بحساسية المبدع الفرداني. ولعل نهاية قصة "الصوت" لكافية لتبرهن على هذا المعنى.
إن هذه النصوص تشيد تصورا يطرح علاقة الثقافة بالقيم، بل أغامر وأحكم فأقول: إن هذه النصوص تعلن أن المعرفة / الثقافة هي المدخل الرئيس والأنسب لبناء القيم، وبالتالي للإصلاح، ويكفي هنا أن أحيلكم على إشارات بسيطة من بعض هذه النصوص:
1- "وفي المقهى كان السادة الثرثارون يحللون عولمة الأسماء وانعكاساتها على هوية الثقافة المحلية". (يوم إحراق الأسماء المزيفة.)
2- فوكو عطشان، وكونديرا أصابته "الشقيقة"، ونجيب محفوظ يجتر ثرثرته، في السويقة الخانزة، أما غسان كنفاني ـ رحمه الله ـ فيصرخ: "هذا ما تبقى لنا...". (كبوة إحساس، وفوكو بدرهمين).
3 – "مكتبه ...، يحتوي على طاولة أنيقة وبضعة كراسي جلدية، وصور.. ويخلو من أي رائحة للثقافة والعلم..." (حوسبة الرئيس)
فمن خلال هذه النماذج أصبح المقهى ناديا لثقافة الثرثرة، والثقافة المتداولة هي ثقافة الخديعة الانتخابية، والكتب لا تقرأ ولا تجد لها مكانا في مكاتب المسؤولين، ويعاني ميشيل فوكو وميلان كونديرا ونجيب محفوظ وغسان كنفاني من أمراض التشرد والكسل والعزلة، ويؤسس ذووا المناصب لهواية تقشير الأنف عوض أي شكل من أشكال هوايات التنمية الذاتية....
الثقافة، إذن، تعاني من البطالة، وأصبحت غريبة "فطوبى للغرباء"...
ونحن عند حديثنا عن القيم غالبا ما نميل إلى استحضار الجانب التربوي، هذا البعد الذي عادة ما يُترجم بأفعال التوجيه وإسداء النصح، لكن المتن هنا، وإن أمكننا تأويله في هذا المنحى، إلا أننا سنسقط في باب التبسيط المدرسي الذي يمكن ألا يخلو منه متن قرائي حامل للقيم. وإنما تركيزنا هنا على عمق الإشارات التي بثتها نصوص المتن ويجمعها الاتجاه نحو الانخراط في مجتمع المعرفة بوصفه منطلق مجتمع القيم كما صاغه كوندورسيه وحنا أراندت.
وإن شئنا القول إن الاحتجاج الذي تعلنه نصوص المتن غايتها الإشارة مدخل بناء الإنسان بدءا بالعقل والفكر، وتنطلق من عقد مصالحة بين الفرد والكتاب أولا، "من هنا يتحدد الدور الوظيفي للمثقف، وكيف يمكن أن يكون فاعلا في كل المجالات التي يرتبط بها ارتباطا عضويا حيث لا مفر من أن ينخرط في أوارها، فهو يملك وعيه الخاص، ووعيه الخاص لا قيمة فعلية له إذا لم ينصهر في وعي الآخرين، وإلا سيظل فاقدا لروح المبادرة، وسيخضع أحب أم كره للسيطرة والهيمنة، ويسلب حقه في الوجود الكريم والتعبير عما يختلج طموحاته، مما يؤدي إلى المزيد من الإحباط وفقد الوعي بالذات"
(عبد الغني أبو العزم، الثقافة والمجتمع المدني، سلسلة شراع العدد 9 نونبر 1996/ص: 29 و 30)،
لكن الإشكال الأساسي الذي تقدمه نصوص المبدع ليس هو السيطرة والهيمنة فقط ونتائجها على المثقف، ولكن هو ذاك الاسترخاص الذي يكنه المحيط للثقافة، وكأن المبدع يردد المقولة: "لا معنى لوجود مثقف فاقد لرشده وذاكرته" (عبد الغني أبو العزم، الثقافة والمجتمع المدني، سلسلة شراع العدد 9 نونبر 1996/ص:24). ولعل هذا الإحساس بالضياع هو ما نلمسه من خلال خواتم بعض النصوص التي تنفتح على المجهول والتيه والسواد:
- "الحلم الجميل هو الذي لا يتحقق... من قال هذا؟... لا أذكر... وهل الأمر صحيح ...؟ ... لا أدري...". (الخيالة).
- "هل سأجدد معركتي القديمة ضد هذا الجمود؟ أم سأجدد الهروب؟" (رداءة الكائن).
- "كان الناس يمشون في جنازة رجل قيل إنه مات مقتولا! يلفهم الصمت وهم رافعين وسطى الأباخس..." (وسطى الأباخس).
- "وجلس الشباب على الأرض يستمعون للقاضي الذي يظهر ساكنا خلف السواد". (يوم إحراق الأسماء المزيفة).
- "أما كتابك فما زال معلقا بين الرغبة والتردد" (الذفراء).
- "أما أنا فقد كنت ضحية حاجتي للنقود وكبوة إحساس عابرة". (كبوة إحساس وفوكو بدرهمين).
3- المسار الفني:
"يتجلى الموضوع في الإبداع الأدبي من خلال سحره الخاص، ذلك أن المبدع نفسَه لا ينقاد إلى موضوعاته بملكاته الواعية وحدها. إنه على الأصح ينجذب إليها بقوة لا يطال دائما معرفة طبيعتها الخفية. المبدع لا يدرك باستمرار أسرار إبداعه. غير أن مغامرة النقد تطمح إلى كشف أسرار هذا الانجذاب الخفي في النص على تيمات محددة تتناسل وتتقاطع وتتعارض..."
(حميد لحميداني، سحر الموضوع، منشورات دراسات. سال، مطبعة النجاح الجديدة، 1990، ص:3).
وما دام قدر هذه الورقة هو البحث في الخلفيات المسكوت عنها، فإن الجانب الفني لن نعالجه من خلال جمالية الشكل أو النواحي التقنية، لكننا سنروم مغامرة مقاربة سحر الموضوع من خلال ملامسة جانبين بارزين: جانب السخرية وجانب البساطة.
1 - السخرية:
سخرت المجموعة القصصية من كل شيء، ولم تدع تقريبا أي طرف من أطراف معادلة المجتمع دون أن يطاله نصيب من لسعاتها، سخرت من الأغنياء والفقراء والوزراء والرؤساء، ومن الانتخابات والزمن والمكان ... ولنفهم طبيعة هذه الهجمة الساخرة أنطلق من قولة لسعيد علوش:
" تعد السخرية وعيا بالاكتشاف، وهي وعي ينجز في لحظة ظهور، تعبر عن الفكرة، ونفيها. ولا تقود السخرية إلى معرفة أو اكتشاف الجوهري، تحت ستار الكلمات الجميلة، بل تقود إلى التحليق، فوق عالم النص النثري، والتقليل من أهمية الفوارق المحسوسة وهي طريقة في التعبير، تتوجه إلى وسط اجتماعي، وتفكر في شيء، لتقول شيئا آخر، على طريقتها"
(سعيد علوش، هرمنوتيك النثر الأدبي، دار الكتاب اللبناني بيروت ط: 1 سنة 1985 ص:38).
ولفهم المقصود هنا نقدم مثالا لتوضيح خصوبة وزئبقية الخطاب الساخر عند مبدعنا: "الضامة بالبخوش" هذا التركيب في الثقافة المغربية، منظورا إليه من باب المسكوكات التركيبية، يحيل على العديد من المجالات، التي تفيد تجميع أطراف مستقلة لكنها تحقق انسجاما يؤدي في الغالب إلى المتعة (الطبخ مثلا...)، والتركيب هنا أيضا استعارة يمكن النظر إليها من جانب بعدها التصوري، لأن الاستعارة التصورية ستساعدنا في الكشف عن البنات التصورية الكامنة وراء الخطاب، ولتعرف ذلك نشير بداية أن الفلسفة ترى اللغة وعاء للفكر، وأن العملية التواصلية هي بالأساس عملية ذهنية قبل أن تكون لغوية. فالتمثلات المسبقة، والمخبرات والمعارف والبنيات الذهنية هي المتدخلة في تشكيل التعبير اللغوي الذي يعد تمظهرا للتواصل، وإذا كانت النظريات المعرفية وهي تبحث في الدلالة لا تخرج عن هذا السياق في اعتبار الدلالة تصورا ذهنيا يتمظهر عبر اللغة، فإن الاستعارة ولا شك سيكون لها موقع في الذهن قبل أن تتجلى لغويا، "إن جزءا هاما من سلوكاتنا وانفعالاتنا استعاري من حيث طبيعته، وإذا كان الأمر كذلك فإن نسقنا التصوري يكون مبنيا جزئيا بواسطة الاستعارة. وبهذا لن تكون الاستعارات تعابير مشتقة من «حقائق» أصلية، بل تكون هي نفسها عبارة عن «حقائق» بصدد الفكر البشري والنسق التصوري البشري."
(جحفة عبد المجيد، 2009، ص: 12)
ومنه فالتعبير "الضامة بالبخوش" وحسب نظرية لايكوف ستكون استعارة وجودية "تبني تصورا لما هو مجرد انطلاقا مما هو محسوس"، فلعبة الضامة وإن كانت تستدعي رقعة وبيادق إلا أن النشاط الذي يحكمها مجرد مرتبط بمهارات ذهنية خاصة، لكن البخوش وهو حشرة غير منضبطة بالضرورة لقواعد الضامة الذهنية، وهو ما يجعل المعنى يتجه نحو العبث، فاستعمال البخوش في اللعبة استبدال للحشرات بالذهن، لأنها هي التي ستقود زمام الرقعة وقد تخرج عنها. ولهذا فاللعبة برمتها تحيل على انهيار قيم التعاقد التي يبنيها المتنافسان وسيتحولان إلى متفرجين وتصبح إرادة البخوش هي السائدة.
ومن منطلق الاستعارة التصورية، سيصبح التركيب استعارة بنيوية عند جعل المنطوق والمقصود خارج البنيات اللغوية والنصية، وسيتجه نحو بناء المعنى انطلاقا من سياق دلالي آخر هو ربط اللعبة بالسياسة، فإسقاط المجال الثاني على الأول يجعلنا نربط بين مجالين بنيويين، فالضامة بالبخوش ولا شك تحيل على الضامة السياسية من حدث الانتخابات الوارد في متن القصة. فكلاهما لعبة وكلاهما لعبة إنسانية، إلا أنه عندما تمزجان بالبخوش فهذا يعني أن اللعبتين ما عادتا تحققان المتعة والفائدة المطلوبين أصلا في كل لعبة، وإنما ما سيتحقق هو التقزز والنفور. وإن كان منطوق القصة يربطها بنفور الكابران من المعلم (متقاعدان) والرغبة في طرده وجماعته الانتخابية من فضاء اللعب، إلا أن هذا الفعل الإرادي البسيط سيجر على الكابران ومجموعة "أحباب الفراغ" المساءلة القانونية وستحظر اللعبة وتنتقل إلى بيت الكابران لتتجدد بدون بخوش (انزعاج الزوجة / الداخلية).
وفي هذه الاستعارة سواء في صيغتها الوجودية أو البنيوية إدانة لفعل سياسي محصور في صيغته الانتخابية المزعجة، التي تجعل من العمل السياسية "طرحا" مؤقتا يتحدد فيها الفائز والخاسر وتنتهي اللعبة إلى شوط آخر في زمن آخر، بينما ما بين الشوطين / الأشواط فراغ تام.
ومن هنا لا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن وظيفة السخرية النثرية أنْ تقترح "موقفا غير ملتزم، فهي تُضجر في نفس الوقت، الذي تغري، وتولد الأشكال الحية، للسخرية الشعبية، التي تدمج القارئ والمستمع في عالمها، بسلوكها طرقا بيداغوجية / فضحية / فوضوية، وهذا ما يمكنها من التميز عن التهكم، بكثير من الخصوصيات، التي يلاحقها النقد الأدبي، عبر خفة روحها / دقتها / مرارتها / ونفاذها" (سعيد علوش، هرمنوتيك النثر الأدبي، دار الكتاب اللبناني بيروت ط: 1 سنة 1985 ص:40 ).
2- البساطة:
يتحول لفظ بساطة غالبا إلى تهمة عندما تلصق كصفة بخطاب ما، فعندما نقول "خطاب بسيط" يُفهم منه أنه من السهل إنتاج مثل هذا الخطاب أو حتى تجاوزه. لكن، إذا جاز قبول هذه الصفة/التهمة في مجال إنتاج الخطاب الممفهم / المعقلن / المفكَّر فيه، فإنها لا تجد موقعا لها في مجال الخطاب المتخيل، فمن منا لا يعرف الكلمات التالية: أشار – قرد – عجوز – محدث – لطم - ققهقه، ولكن من منا يتمكن من جمعها وترتيبها بالشكل الذي نضده المتنبي حين قال:
وإذا أشار محدثا فكأنه ** قرد يقهقه أو عجوز تلطم.
فالبساطة في الخطاب الأدبي سمة فنية/شعرية/جمالية، ذلك أن قيود الخيال قد تفضي بالأديب إلى تضييق مجال التأويل، ويصبح النص سجين إيحاءات محددة قد لا تتأتى لكل القراء، وعليه فالبساطة شكل من التواصل الفني والدلالي يثير في النص خصوبته وغناه.
إن القارئ "وسطى الأباخس" يدرك أن الهم الذي تهجس به غائيا يتعلق بالبعدين الثقافي والقيمي، لكن وصول القارئ إلى هذا الغاية لا يعني أن النص غيرُ متمنع، وإنما يتحقق منه مستوى من مستويات إدراك القارئ فقط، مما يعني أن لذة النص هنا تكمن في مستويات إدراكه، فكلما توغل القارئ في أبعاد الخطاب تحققت لديه لذة أعمق، ومن منا لا يروم مسار اللذة حتى يبلغ أعلى درجاتها متعة، وقدر وسطى الأباخس أن تجعل مدخل اللذة هو اللعب، تماما كما هي المداعبة في الواقع، فالنص هنا يداعب القارئ ويستميله بآليات التشويق وسخرية الخطاب إلى طرح ترسانته الاحتمالية لتأويل مكنونه، وفي التنقيب عن هذا المكنون ينخرط المتلقي في عملية للقراءة شأنها شأن الحب، كما يقول ابن حزم، يبدأ دائما بالهزل لينتهي بأشياء جدية. (الله ينجينا وينجيكم).