من الأمور التي فرضت نفسها علي المشهد المصري بعد 25 يناير 2011، ظهور جماعة الإخوان بوجههم المكشوف، وأطماعهم اللامحدودة، الحد الذي وصلوا معه إلي حكم مصر. وقد تأرجحت الكتابة الروائية – في تلك المرحلة - حول مسارات ثلاث، في عمومها: إما تسجيل الحدث. وإما البحث في أسباب الثورة من سوءات النظام التي أدت للغضب. وإما البحث في جذور أطماع المتأسلمين وسعيهم للسيطرة والحكم عبر التاريخ. والتي سعت بالدرجة الأولي للبحث عن أسباب ما كان، ليأتي شريف ماهر مليكة ليخرج عن ما قبل إلي مابعد. للبحث عن أسباب الفشل. بإعادة تأمل التاريخ مسرودا بهدوء وحيادية، تكشف عن لوحة نسيجية، غزل خيوطها الملونة، بتأن، مدركا، إلي أين يمكن أن يمتد هذا الخيط النسيجي، ليلتقي مع خيط آخر، صانعا ذلك التجانس اللوني، الذي يصنع به تلك اللوحة التاريخية الإبداعية، المشكلة من وقائع التاريخ الفعلي، متضافرا مع سحر الخيال والتخييل، الذي يصل بالقارئ إلي لحظة الارتياح النفسي، والقناعة العقلية. فكانت روايته الأحدث "خاتم سليمان"[i]. متتبعا ذلك الصراع بين الدولة، والإخوان المسلمين، الذي تصاعد بعد أن ألغي عبد الناصر الأحزاب السياسية، فاستغلوا اتساع المجال لهم، حتي ولو من وراء ستار، وراحو يشكلون من أنفسهم قوة تستطيع الصراع بالقوة، لفرض سيطرتهم، وحقهم المزعوم في حكم البلاد، الذي تحقق لهم بعد ثورة يناير 2011، الذي لم يكن يقبله الشعب، ولا السلطة العسكرية بالطبع، فتحول إلي مرحلة من مراحل سعيهم، ليستمر ذلك الصراع بعده بأعنف مما كان قبله، ولتصبح مصر هي الضحية في النهاية.
وإذا كان شريف مليكة لم يصل بروايته التي بدأت أحداثها من العام 1951، قبيل قيام ضباط الجيش بحركتهم في يوليو 1952، ولم يصل بها إلي ذلك التاريخ، حيث انتهي بها بعد إغتيال السادات، كأحد العلامات البارزة في مسيرة ذلك الصراع، إلا ان الكثير من أحداثها تستدعي تلك المشاهد التي عايشها المصريون بعد يناير 2011، وما نال بعض طوائف الشعب من جراء ذلك الصراع، ومحاولات فرض السيطرة بالقوة، مثلما حدث مع المسيحيين من حرق للكنائس، او تهجير للبعض منهم من بعض قري الصعيد، دون أن يكون هناك تواجد قوي للدولة، مكتفية بتلك المجالس العرفية، والتي تعني غياب قوتها الفارضة لسلطتها علي أرضها. كاشفا عن ذلك الصراع العلني بين الجناحين علي السلطة وما كشف – الكاتب - عنه في تلك المقابلة بين "داود عبد الملك" و"الشيخ فودة"، ممثل الإخوان، بعد أن كانت مقابلة مماثلة قد حدثت بين "الخواجة داود" و"اللواء كامل فياض"، ممثل ثورة العسكر، عبر صياغة هادئة، وكأنه المؤرخ المحايد، أو النساج البارع الذي ينسج خيوطه بتؤدة، عالما إلي أين يمد خطوطه، وأين تتقاطع، ليخرخ في النهاية ثوبا منسجما في ألوانه، بديعا في نقوشه. وحيث تبدو أولي حيله الروائية في إطلاق والإصرار علي تلقيب "دادود عبد الملك" اليهودي المصري، أو الأدق المصري اليهودي بالخواجة، ذلك اللقب الذي ظل يطارده طوال حياته، رغم رفضه له، ورغم أنه تخلي عن يهوديته، واعتنق المسيحية، دون أن يعرف أحد ذلك سوي إمرأته "إيلين" الذي غير ديانته من أجلها. وكأن شريف مليكة يُلبث ثوب الحاضر للماضي، حيث يظل "داود عبد الملك" هو اليهودي الذي طارده المصريون في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، مرفوضا من الإخوان ومن العسكر، وهو ذاته "داود عبد الملك" المسيحي، المرفوض من الإخوان (والسلفيين) في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، بمباركة، أو علي أقل تقدير، بتغافل العسكر عما يجري.
يضعنا العنوان، كعتبة أولي، منذ البداية، في أرض الواقع، ممزوجا بالخيال. فخاتم سليمان، رسخ في مخيلة العامة، في الرغبة في تحقيق مالا يستطيع الإنسان تحقيقه، أو ما يتمني مساعدة قوة خارجية لتحقيقه. وقد سري "الخاتم" بطول الرواية، كخيط لامرئي، يربط سلسال تفرعاتها، وكانه العمود الفقري، الذي يجمع كل التفصيلات من حوله. حيث تبدأ بإظهار قوة السحر التي يملكها الخاتم، والتي تعيد السارد إلي فخر ومجد الدولة المصرية، التي أنشأت مدينة الأسكندري قبل الميلاد، بما تحمله من رموز الحضارة، الفنارة والمكتبة، قبل أن تفتتح القاهرة (الإسلامية) بعد ذلك بآلاف السنين {وما يزال يعبث في جيب معطفه بالخاتم الفضي الذي قبض عليه ثم أخرجه ليضعه حول بنصره، فانتابه ذلك الشعور الغامض بالقوة الكامنة بداخله كما كان قد اعتاد دائما كلما وضع الخاتم حول إصبعه، ورفع عينيه لأمام ناحية الصخور، فكأنه أبصر أطيافا تتهادي مع ضربات الأمواج المتلاحقة، تعرف من بينها علي شبه "دينوقراطيس"، المهندس الإغريقي الذي رأي رسمه في الموسوعة البريطانية التي ورثها عن والده، بردائه الأبيض الهفهاف، الذي كان قد خطط مدينته الإسكندرية بأمر من الإسكندر الأكبر، منذ أكثر من عشرين قرنا من الزمان، فحولها من مجرد شاطئ من الرمال البيضاء حول قرية صغيرة للصيادين، إلي مدينة عملاقة –وقتها – حافلة بالقصور والأبنية، مدينة الفنار العجيب والمكتبة العظيمة، وعاصمة للدولة المصرية لنحو ألف عام ممتدة منذ نحو ثلاثمائة عام قبل الميلاد، وإلي أن أسس "عمرو بن العاص" مدينة الفسطاط العاصمة الجديدة لمصر في منتصف القرن السابع الميلادي}ص18 ، 19. فنحن إذن أمام رؤية للدولة المصرية، التي كانت. ثم يفعل الخاتم أفاعيله فيها بعد ذلك، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، حيث تبين في عرض الكاتب حين حاول "سليمان" مدرس الفلسفة، ورئيس منتدي جماعة الفكر الحر، إقناع د رشاد فكري بالتحصن بالخاتم أثناء مناظرته المرتفبة مع محمد البوري، والتي يخشي علي حياته فيها{ قص سليمان عليه قصة الخاتم العجيب الذي بدا وكأنه القاسم المشترك في النجاح المبهر الذي حققه "سيد درويش" في مجال الفن، ووالده "داود عبد الملك" في الصيت والشهرة والثروة، و "جمال عبد الناصر" فنجت ثورته من الفشل بطريقة شبه إعجازية وبشهادة الجميع، و "ماجد البارودي" الذي خاض الحرب وعاد منها دون خدش واحد، في حين استشهد وأصيب كل أفراد وحدته. ثم بحياته هو شخصيا، بنجاحاته وصولاته وجولاته التي حسده عليها أقرانه..}ص359.
فإذا ما نظرنا إلي فعل الخاتم وما استتبعه لدي كل من عبد الناصر والسادات – مؤقتا – وفق ما جاء في توصيف سليمان بن داود، سنجد { و "جمال عبد الناصر" فنجت ثورته من الفشل لطريقة شبه إعجازية وبشهادة الجميع} حيث يقول التاريخ أن الضباط قاموا بحركتهم لتطهير الجيش من الخونة، والعودة لثكناتهم، غير أنهم لم يتصوروا أن يرفض الملك الدخول في صراع، حفاظا علي الجنود المصريين، فوجد الضباط أنفسهم علي الكراسي، التي رفضوا تركها بعد ذلك. ورفض الإخوان أن يخرجوا من العملية دون غنايم، حيث وقف عبد الناصر في طريق تحقيق أمنيتهم بحكم مصر، فكانت محاولتهم اغتياله، والتي نكلت بهم، وليظل "الشيخ محمد البوري" ممثل الإخوان في تلك المرحلة، في السجن ثمانية عشر عاما. ليخرج بعدها. وفي عهد السادات ليعلن رأيه في عبد الناصر حيث يصرخ "محمد البوري" بمرارة سنوات السجن التي امتدت به لثمانية عشر عاما، محددا رؤية الإخوان لعبد الناصر :
{ انتظره عند كل إشراقة شمس، وليلة مولد كل هلال، وعند قدوم الشتاء بصقيعه وسيوله المنهمرة، وعند هلول كل صيف بسعير نهاره وجفاف رياحه، ولكنه لم يأت...
حتي ..
حتي مات الطاغية. أخيرا!! .. أخيرا.. مات، بعد أن اضاع مع سنين وجوده كل شئ! خَرَب البلد بوجوده، ومعه هؤلاء الملاحدة الشيوعيين من الضباط إخوانه، الذين ابتعدوا بالناس عن العبادة وحكم الله وشريعته، ملتصقين بأمثال خروشوف وماوتسي تونج وتيتو وكاسترو، فسقط البلد بأهله في بالوعة الهزيمة والخراب. لم يستطع أن يغفر له ما فعل أبدا، وظلت سحابة الكراهية تلك تحلق في ذكراه.. ثم {أمر الرئيس الجديد محمد أنور السادات – أطال الله في عمره – والذي تلا المأفونة ذكراه، بالإفراج عنهم} ص282 ، 183.
ولم يكن خلاف الضباط مع الإخوان فقط، بل شملت كذلك كل اليهود في مصر، حتي من كان منهم من اشترك في حركة مقاومة الإنجليز قبل 52، ويمثلهم "داود عبد الملك" المصري حتي النخاع، والذي آثر البقاء في مصر، رغم هجرة ابنيه إلي إسرائيل، فهو من { جمع داود قبضته بكل ما أوتي من قوة مستمدا شجاعة وحزما من تصفيق الحاضرين، وفي لحظة خاطفة وجُّه ساعده وقبضته وفص الخاتم إلي الأنف الإنجليزي الأحمر فسالت دماه ....}ص46. وهو من منح عبد الناصر الخاتم السحري قبل القيام بحركتهم، وكان له مفعوله في نجاحها، الذي فاق حتي توقعاتهم أنفسهم. فها هو أحد رجالهم يهدد داود ببيع أملاكه والهجرة من مصر. ليتزامن ذلك مع طلب الإخوان منه نفس الطلب، ليوحد تلك الرغبة من كلا الطرفين، حيث يستدعيه الشيخ فودة، والذي يبدو أنه مرشد الجماعة أن يغادر البلاد فيطلب من الشيخ فودة إما النطق بالشهادتين، أو كما طلب منه اللواء كامل فياض ، احد رجال الثورة، وتابعه عبد الحميد، مغادرة البلاد، قائلا {شوف يا داود، من غير لف ولا دوران، اليهود من يومهم ما وراهمش إلا الخراب، من يوم ما خنتوا سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ولغاية إنهارده. شوف يا ابن الحلال قدامك حل من اتنين، يا تنطق بالشهادتين وتعيش وسطنا مسلم زيك زي أي واحد تاني، يا إما يا ابن الحلال تاخد قرشيناتك وتسيب البلد دي من غير مطرود. إحنا بصراحة مش مرتاحين لوجودك كده وسطنا! وإن مكانش فذنبك علي جنبك بقي!!" تذكر داود علي الفور كلمات اللواء كامل فياض وتعجب من تطابقها مع كلمات الشيخ، فإزداد يقينا في وجود سر ما يجمعهما، وأقسم لنفسه أن يكشف مكنونه فيما بعد.
- إنتم مين اللي مش مرتاحين لوجودي يا شيخ فودة؟
- إحنا المصريين يا خواجة داود! من أول الإخوان ولحد العسكر}ص213.
ويأتي السادات، لتستمر عملية الضغط والصراع بين الدولة، والإخوان، خاصة بعد إعتقالات سبتمبر الشهيرة، والتي جمع فيها السادات رموزا من كل تيارات المجتمع، الرافضة لِصُلحِه مع (اليهود). فعلي الرغم من أن الخاتم أيضا قد لعب دورا في انتصارات أكتوبر 1973، ورغم أن الكاتب لم يذكرها مباشرة، وإنما استخدم الرمز في زيارة "ماجد البارودي" الشاب الذي يخشي الحرب التي استدعوه لها – بعد هزيمة يونيو 67. واستسمح سليمان في أن يتحلي بالخاتم، حتي يعود سالما منها. فتنازل له سليمان عنه، ليكون الوحيد العائد سالما، بينما استشهد أو جرح كل أفراد كتيبته. كان السادات قد فرض علي البابا شنودة الإقامة في دير وادي النطرون، بعد رفضه لمعاهدة السلام. الأمر الذي إعتبره مسيحيو مصر إهانة لهم، وهو ما أدي ب "إيلين" المسيحية التي تنازل "داود عبد الملك" عن يهوديته من أجلها، وعندما إغتيل السادات {شعرت إيلين أنه نال الجزاء الذي كان يستحقه بعد ما فعل بالبلد وبرئيس الكنيسة}ص378. فضلا عن رؤية "الشيخ محمد البوري وتحوله من تأييد السادات الذي اطلق صراحهم، إلي إعتبار السادات هو الشيطان الذي يجب رجمه، فكان اغتياله علي أيديهم في يوم عرسه. ليظل الصراع بين الدين والدولة هو المسيطر علي المشهد خلال تلك الفترة.
من الأحق بالحكم
وإزاء تلك المواجهة المستمرة بين جناحي القوة، هل يري الكاتب أن أحدهما هو الأحق بالحكم؟ يقدم الكاتب ممارسة كل من الجانبين. حيث يحضر "داود عبد الملك" حفل تأميم القناة. ففي عام 1956 أعلن عبد الناصر تأميم القناة، الأمر الذي أخاف داود من انتقام بريطانيا وفرنسا، فلم يصفق بحرارة كما الآخرين الذين تم حشدهم لمقابلة الزعيم، فإذا باثنين بالزي الميري يقفان علي جانبيه { خاف "داود" علي الثورة ومن أجلها، وخشي علي كفاحاته الوطنية ومشاركته لعبد الناصر أفندي والشيخ حسنين إياها من أجل مصر أن تضيع هباءً، وربما أدي به ذلك التوتر الداخلي لأن يصفق بحرارة (أقل) أو أن يهتف بصوت (أدني) من باقي الجماهير من حوله، وإذا به يفاجأ باثنين من رجال الحرس يقفان بالزي العسكري عند جانبيه، اقتربا منه عقب انتهاء الخطاب، وتلاصقا بكتفيه، حين همس أحدهما في أذنيه أن يتبعهما، فسار مذعنا دون أن يتردد وتبعهما في صمت... كان يتساءل لو كان قد بدر منه فعلا ما يوحي بعدم الترحيب، وكيف تسني لهم أن يدربوا مثل هؤلاء الرجال إلي هذا المستوي من الكفاءة، التي تتيح لهم أن يلتقطوا بها أتفه التصرفات الموحية عن أفكار قد تدور بذهن المواطنين، ثم انتبه فورا إلي أنهم قد يدركون الآن ما يدور بفكره فيزداد معه عقابهم إياه، فتوقف فجأة عن التفكير}ص164 ، 165. وليكتشف داود بعد ذلك بأن "عبد الحميد" الذي دعاه لحضور خطاب الرئيس، والذي يعمل عنده في المصنع، هو أحد مرشديهم ، أو جنودهم حيث يؤدي التحية العسكرية لضابط التحقيق (اللواء كامل فياض)، الذي كان قد قابل داود بصحبة جمال، قبل الثورة. مارس الضابط عليه التهديد، والمساعدة في بيع جميع ممتلكاته وتسهيل عملية خروجه من البلد. وهنا {استأذن داود وانصرف وهو يغالب دمعه حتي لا يفر أمام الرجل الغريب، وهو يعبث بالخاتم في إصبعه في عصبية متسائلا عما إذا كان قد فقد مفعوله السحري!} ص174. حيث تتكشف تلك الممارسات الكابتة للحريات، والرافضة للآخر، وهو ما أكده أحد لطفي حسنين، رجال الحكم فيما بعد السادات حيث تعجب من مقارنة استقبال الشعب لموت كل من عبد الناصر والسادات { الناس خلاص مبقاش عندها دم! الراجل اللي كان راعبهم وكاتم علي نفسهم وما خلاش حد يستجري يتنفس كده ولا كده، وجاب ذل الهزيمة والاحتلال للبلد، كان حلو وجميل، والتاني اللي حارب وضحي بنفسه وراح لحد إسرائيل علشان يرجع الأرض، ورجع الأحزاب، وسمح لكل كلب يقف ويقول رأيه، وحش وكوخة! لما نشوف بقي الراجل الجديد ده هايعمل إيه} ص181.
وكذلك يقدم ممارسة الجانب الآخر، الإخوان". حيث كان "الخواجة داود" صديقا حميما للشيخ حسنين، الذي أودعه عبد الناصر المعتقل، فسعي داود لديه ليُخرِج صديقه من المعتقل. ينجح داود في مسعاه، ويَخرُج الشيخ حسنين من المعتقل. غير أنه سرعان ما يشعر بفتور العلاقة مع صديقه الشيخ حسنين، لتصل إلي القطيعة، غير أن داود، حفاظا علي الود بينهما، يذهب لزيارة صديقه، الذي يرفض استقباله في بيته، ويصطحبه إلي شاطئ البحر ليلقي عليه بالمفاجأة غير المتوقعة.
{"بذمتك إنت إيه اللي مقعدك في البلد دي لحد النهارده يا خويا؟ مش كفاية اللي عملتوه من تمانية وأربعين لحد دلوقت؟ إيه؟ مستنيين إيه تاني؟ ما تفارقونا بقي!!"} ص57.
وليرد الخواجة "داود" عليه: {هانسيبها ونرحو علي فين بس؟ طيب وإذا سبتها أنا .. هي هتسيبني؟ لايمكن أبدا! مكانش العشم. والله العظيم مكانش العشم."} ص60.
وهو نفس التحول الذي حدث لدي الشيخ "محمد البوري" تجاه صديقه وصاحب الفضل عليه د رشاد فكري- وما سيأتي ذكره لاحقا-. وايضا التحول الذي حدث تجاه السادات ، بعد الشكر والتمجيد، بعد أن أطلق صراهم، إذا به – السادات - يتحول لشيطان حين وضع يده في يد اليهود، لتصبح الرؤية رؤية دينية عدائية تجاه الآخر، لا رؤية دولة تضع أهدافها قبل كل الاعتبارات، كما تتطلب السياسة.
ثم وبطريقة إبداعية، يعلنها الكاتب، بفشل كلا الفريقين. بتلك الصور والعلاقة القائمة بين كل من "الخواجة داودة" و"قمر" (زوجة الشيخ حسنين ممثل الإخوان). وكما بين "سليمان داود" و و"بنهار" (زوجة لطفي حسنين البصري– رجل الدولة). حيث نجح كلاهما "داود" وابنه سليمان (بما يحملانه – الخاتم)، فيما فشل فيه كل من الشيخ حسنين، ولطفي حسنين مع زوجتيهما، لعجزهما الجنسي، تعبيرا عن العجز الذي أصاب كلا الجانبين، فلا يستطيعان إدارة بيتهما/ الدولة، أو أنهما غير جديرين بإدارتها. وهي النتيجة التي تصل إليها الرواية في النهاية. حيث يتم الكشف عن معرفة لطفي حسنين بالعلاقة بين سليمان وزوجته "بنهار". بل هو الذي سعي لها بعد أن هددته زوجته بفضحه وفضح عجزه الجنسي.وأعلنها صراحة لسليمان، بانه يود عقد صفقة معه، أن يعيره الخاتم، حتي يستطيع القيام بواجبه إزاء زوجته، مقابل شاليه علي بحر إسكندرية. ويلتقي ثلاثتهم هناك، بينما لم يعلم أيهم أن "ديدو" أحد القادة الجدد للإخوان، يتابعهم ويخطط للحصول علي الخاتم. تصطحب "بنهار" الرجلين إلي "بير مسعود" الذي تتصل مياهه بمياه البحر، وما أن يخرج سليمان الخاتم ليسلمه للطفي، ممثل الدولة، حتي ينقض "ديدو" ممثل الإخوان، ويدور الصراع بينهما للحصول علي الخاتم، ليسقط الخاتم في البئر، وليضيع إلي الأبد. ويفشل كل من الدولة والإخوان في الاستحواز بالخاتم، أو الاستحواز بالدولة التي تفرق دمها بين صراع القوتين المسلحتين، كأجمل تعبير عن الحالة المصرية بعد 25 يناير المغدورة.
التقنية و الشخصيات
علي الرغم من إعتماد الرواية علي بعض الأسماء الحقيقية، مثل عبد الناصر حسين، وابنه جمال، ومحمد أنور السادات، والكثير من الوقائع التاريخية التي كان يمكن أن تحول الرواية إلي الحكي التاريخي الجامد، إلا ان الكاتب نجح في تحويل تلك الشخصيات إلي شخصيات تخييلية، خرجت من مجال النمطية إلي الشخصيات الحية، بإظهار الجانب الإنساني، بما يمثله من نقاط ضعف، يرضخ الإنسان لها. كرضوخ جمال عبد الناصر لصديق والده، بالإفراج عن الشيخ حسنين من المعتقل، رغم ما يكنه لكل من هو إخواني من غِل وغضب، في تصرف إنساني بحت. كما كان موافقة سليمان علي التنازل عن الخاتم لصديقه الذاهب إلي الحرب، ثم للطفي حسنين، إنقاذا لفشل علاقة أسرية، تصرف إنساني بحت. وكذلك في تصرف الشيخ محمد البوري الإخواني تجاه كل من السادات، وصديقه في المعتقل دكتور رشاد فكري، ما يظهر الجانب الإنساني في تلك الشخصية. فبعد أن كان الشيخ قد قال عن السادات بعد قراره بالإفراج عنه {أمر الرئيس الجديد محمد أنور السادات – أطال الله في عمره – والذي تلا المأفونة ذكراه، بالإفراج عنهم}ص282 ، 183. غير أن تلك الرؤية للسادات سرعان ما تغيرت، علي أساس أنه وضع يده في يد اليهود، فاصبح الشيطان الذي يجب رجمه، رغم أنه من أطلقهم –لمواجهة التيارات الشيوعية - فكانت مآساة اغتياله في يوم عُرسه. وهو ما يكشف عن تشبع تلك الجماعة بمعتقداتها، حد التسليم الأعمي، متجاوزا تلك الرغبات الفردية الشخصية التي قد يكنها أحد أفرادها، وكأنها حولتهم للآلات صماء، تدور دون عقل. إلا ان الكاتب إستطاع أن يخرج من تلك النمطية الآلية، ويُخرج عمله منها، صانعا شخصيات إنسانية حية تنبض، تشعر وتتالم، تحب وتكره، وهو ما يكثف من تلك الرؤية الجمعية، لتلك الجماعة. وهو ما نتبينه في تلك العلاقة، أو المواجهة بين رؤيتهم كجماعة لا تستطيع الخروج من لواء السمع والطاعة، وبين الرؤية الفكرية التنويرية التي يحملها أمثال "الدكتور رشاد فكري". حيث بحث "محمد البوري" في سجنه عمن يستطيع أن يبثه همومه، فلم يجد، فراح يُفرغ همومه في (شخبطات) بالألوان، رآها الدكتور "رشاد فكري" لوحات تعبر عن موهبة مدفونة، تستحق الإلتفات لها، فسعي لدي مدير السجن، الذي أمر بعمل معرض لها ملحق بالسجن، وبيعت منها لوحات بالفعل. ودارت نقاشات بينهما، كشفت عن ميول دكتور رشاد المناصرة للعقل، في مواجهة محمد البوري المناصر للغيبيات، بل والمنغمس فيه حد الوجود. وبعد خروج البوري من السجن، ورحيل معظم قيادات الإخوان، وجد نفسه هو زعيمهم، مع "ديدو" الذي كان (مراسلة) لشيخهم. وتصدر الجماعة أمرا باغتيال رشاد فكري – الذي نستطيع تبين المفكر فرج فودة في شخصه -، المارق عن الدين، ويقع البوري في الحيرة، بين أفضال رشاد فكري عليه ، وقرار الجماعة، يضع بها الكاتب شخصيته علي قاعدة الإحساس الإنساني، ويخرج بها عن النمطية الرمزية { لم يزل موضوع "الدكتور رشاد فكري" يؤرقه ويشغله ليلا ونهارا، فمحمد البوري رجل متدين، ورجل المبادئ لا ينسي الصنيع الحسن، وما فعله الدكتور رشاد حياله في أشد أيام حياته ألما هو جميل يحمله حول عنقه مدي الحياة، فكما يقولون إن العشرة لا تهون إلا علي أبناء الحرام، وهو ليس منهم، ولكن ولاءه للإسلام ولحركة الإخوان المسلمين هو أهم وأقوي، وأغلب وأبقي، فماذا يمكنه أن يفعل كفرد واحد –حتي لو كان من قادتهم – إزاء رغبة الجميع؟}ص347.
الصور المشهدية للتفاصيل الصغيرة:
لم يكن الأسلوب الهادئ الذي إعتمد عليه الكاتب وحده هو الذي خلق الحميمية التي تخلق التآلف بين العمل وبين القارئ، دون أن ينزلق للملل بتعدد المشاهد والتنقل بين الأحداث، متلاعبا بالزمن بين استرجاع واستباق، فضلا عن اللهجة الدارجة التي استعملها في الحوارات، إلي جانب تلك التفاصيل الصغيرة التي تناثرت بطول الرواية، وما تخلقه من معايشة تمسك بالقارئ وصولا للرسالة المبتغاة منها، مثل تلك التفاصيل التي تنم عن إدراك ومعايشة في {وتناول كوب القهوة الممزوج بُنُها المطحون بجوز الطيب الفواح الذي أعدته له زوجته، مع سيجارة لفها لنفسه متعجلا، وكان قد إعتاد أن يلف بنفسه التبغ في ورق البفرة ويفرطه بطوله ثم يبرم الورقة ويلعق طرفها حتي يلتحم ببقية السيجارة، ثم يشعل طرفها ويدخنها وهو يتفل تباعا بقايا التبغ الذي يتسلل إلي شفتيه}ص20.
فـ"خاتم سليمان" هي رؤية د شريف ماهر مليكة، المصري المسيحي الذي يعيش خارج البلاد منذ ما يزيد عن الربع قرن، ولا زال يصر علي أن يعيش هموم الوطن، ويكتب رواياته بالعربية، ويصر علي مناقشة أعماله فيها، مؤكدا قولة البابا شنودة الباقية (مصر ليست وطنا نعيش فيه، وإنما وطن يعيش فينا). باعثا لذلك الشعار الذي اندلع مع ثورة المصريين منذ العام 1919، ولا زال شعارا يبحث عن أرض الواقع، صارخا بصوته الهادئ أن (الدين لله، والوطن للجميع). وليؤكد بها أن الرواية أصبحت بالفعل (ديوان العصر)، حيث القدرة علي قراءة التاريخ الشعبي، الأصدق والأقرب لنبض الشارع، بعيدا عن التاريخ الذي يكتبه الحكام، ليصنعوا به وعيا مزيفا، متسترا وراء السلطة وقوتها.
EM:shyehia48@gmail.com
[i] - شريف ماهر مليكة – خاتم سليمان – رواية – دار غراب للنشر والتوزيع – 2018.