تنهض التجربة الشعرية الناجزة على أربعة أسس جوهرية: الأول يتمثل بالرؤيا الشاملة للذات (النفس) والآخر (فرداً أو جماعة أو مجتمعاً)؛ وهي رؤيا للباطن والظاهر فيما يوحيان به من مضامين أخلاقية، ذاتية و/أو موضوعية عبر تجربة الحياة الكاشفة عما هو خفي في هذه الثنائيات؛ والثاني يتمثل في تحديد طبيعة الشكل الفني المتسق مع هذه الرؤيا؛ وهو الشكل الذي يغتني بالرؤيا من جهة ويغنيها من جهة أخرى حتى يصبح النص الشعري قادراً على التأثير في المتلقي على نحو مدهش ومتجدد بتجدد القراءات؛ والثالث يكمن في قدر من الطاقة الإيحائية في التعبير اللساني بلغة مجازية مفارقة للواقع ومندمجة فيه في الوقت نفسه، ففي الشعر يقوم الكلام، أو لغة الشعر، على الإزاحة الدائمة للعلاقة الراسخة بين الدال والمدلول وتكريس العلاقة التضمينية الاستعارية أو الكنائية، فهي إذن لغة توحي وتومئ وتتطلب متلقياً فاعلاً يسهم في تخليق النص من خلال فعل القراءة. ومن شأن ذلك أن يترك المجال فسيحاً للنهايات المتموجة العظمى للتجربة الإنسانية وجعل النص الشعري مفتوحاً للتأويل مثل انفتاح الحياة نفسها. ومن المؤكد أن هذه الأسس الثلاثة لن تتفاعل وتعطي ثمارها المرجوة إلا من خلال الأساس الرابع، وهو المخيلة الخصبة التي تأتي بالجديد المبتكر لتحقيق الإمتاع والدهشة حتى يعيش المتلقي التجربة التي طالما قرأ عنها في تجارب الآخرين، أو ربما عاشها هو بنفسه، وكأنه يقرأُها، أو يعيشها، للمرة الأولى. هكذا يولد النص الشعري الذي يبقى قادراً على إثارة المتعة والدهشة حتى بعد إعمال العقل النقدي فيه.
بل يمكن القول إن من أهم وظائف النقد التطبيقي أن يستكشف الحدوس الفكرية والنفسية والثقافية التي يتضمنها النص الشعري، وأن يحدد الخصائص الفنية والجمالية التي تشكل المبدأ الحيوي الدافع في عملية خلق هذا النص فتجعله فاعلاً جمالياً وثقافياً متجدداً، فاعلاً غير خاضع لأفق الزمان والمكان والثقافة السائدة وإن كانت هذه العناصر (الزمان والمكان والثقافة السائدة) حاضرة فيه. ونجد أن هذه الصيغة الإبداعية لا تمثل شروطاً عسرة التحقق بقدر ما تنطوي على مرونة تتيح لكل شاعر تكييفها بهذه الدرجة أو تلك حتى تكون الأساس لتحقق الوظيفة الشعرية للغة التي أشار إليها رومان ياكوبسن في خطاطة الوظائف الست للغة، وهذه الوظائف هي: المرجعية أو الإشارية referential، الشعرية poetic، الانفعالية emotive، الطلبية/الأمرية conative، الترحيبية phatic، الميتالسانية metalingual. وأيضاً لتحقيق هيمنة الوظيفة الشعرية على الوظائف الأخرى التي يتضمنها الشعر بوصفه كلاماً كلياً شاملاً لوظائف اللغة الست كافة.
في المجموعة الشعرية (شمس في قصبة) للشاعر عبد الحسين الحيدري،1 يشهد القارئ عالماً يموج بالصور التخييلية الكاشفة عن تجربة حياة نابضة بالألم، والمعاناة، والسفر الداخلي إلى أقاصي النفس بحثاً عن سبل مواجهة محنة الوجود من جهة، ومواجهة وحشية المجتمع من جهة أخرى. ولسنا هنا في مقام الحديث عن حياة الشاعر الشخصية، إنما نتحدث عن حياة الذات النصية في المتون الشعرية. فإذا كان الشعر والشاعر فاعلين وجوديين متداخلين من وجهة نظر البعض، فإننا ننظر إليهما على أنهما منفصلان من خلال إزاحة الذات التاريخية للشاعر وإحلال الذات النصية الباثة للرسالة الشعرية محلها. وهكذا ينشأ مشروع الصيرورة الشعرية الذي يكشف عن اشتباك الشعر والشاعر، كونه ذاتاً نصية، مع القضايا الكبرى النابضة في أعماق النفس البشرية نتيجة مواجهة أسئلة الوجود الكبرى.
ولسوف نكتشف أننا، حين ننتهي من رحلة قراءة المجموعة، سنلاحظ أنها انطوت على بحث حثيث عن الربح الميتافيزيقي فيما يمكن أن يعده البعض من الخسران الاجتماعي، وعن الاحتراق بنار التجربة الأولى، وكلمة (الأولى) هنا صفة للنار وللتجربة المحتدمة في نفس الشاعر في آن واحد، من دون أن تطلق الذات نداء استغاثة؛ فالتجربة الإنسانية، في الأدب عامة وفي الشعر على وجه الخصوص، اختيار وجودي قصدي، وهي ليست خطيئة ناتجة عن ضعف بشري بقدر ما هي امتياز لهذا الكائن الذي نسميه إنساناً. ونجد رحلة البحث هذه ماثلة في النص الذي يتخذ من غرابة الصور الشعرية وكثافتها تعبيراً عن ثراء التصور والتخييل للتجربة الوجودية التي عاشتها الذات الباثة للرسالة الشعرية. فهذه الذات تتجلى، عبر نصوص المجموعة، بصفتها شيطاناً رجيماً حيناً، وملاكَ رحمةٍ حيناً آخر، في جمع لعنصرين يتضادان فيولدان توتر عالم النص الداخلي أو ما ينطوي عليه من جدل تكويني ناتج من الجمع بين سمتين متناقضتين أو ثنائيتين ضديتين تتزاحمان في مساحة النص وتمنحانه توتراً راسخاً في عمق النص. ومن الناحية النظرية والشكلية، فإن التمثيل اللساني لهذه التجربة سيكون من خلال نشوء نوع من الجدلية بين مظاهر التماسك النصي coherence من جهة، في مواجهة تعويم الصور الشعرية floating poetic imagery وتواليها على نحو كنائي ترميزي allegorical من جهة أخرى، وذلك لتشكيل آلية توليد مادة النص الشعري.
في البدء، لابد لنا من الكلام في العنوانات، ولاسيما عنوان المجموعة، أو (شمس في قصبة)، وذلك لأن العنوان هو العتبة اللسانية الأولى التي يتلقاها القارئ؛ ولأن العنوان فعل إشارة قصدي في كل عمل أدبي، فإنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمقاصد الكلية النصية. ويرى الناقد وفيق سليطين أن العنوان "... يكون مجلى يتكشف فيه محتوى النص ويتركز، وقد يكون على خلاف ذلك، تأثيراً على هذا المحتوى واستنهاضاً لطاقته بعلاقة السلب، ...، وسيكون تحقق ذلك من منطلق هذه العلاقة الطباقية التي تصل بين الجانبين."2 وهذا يظهر أن العلاقة العضوية بين العنوان والمتن تتخذ مظهرين متعارضين: إيجابي وسلبي، وفي هذه الحالة فإن للعنوان أثراً بالغاً في توجيه تأويل المتن كما سيكون للأخير أثر في توسيع دلالة العنوان. ويرى الدكتور محمد مفتاح أن القيمة الفنية للعنوان تكمن في كونه " ... يتوالد دلالياً ويعيد إنتاج نفسه وفق العلاقة الثلاثية بين النص والمبدع والمتلقي، ..."3 قد يغرينا هذا التوصيف للعلاقة الثلاثية بالحديث عن المؤلف/ الشاعر بوصفه ذاتاً تاريخية معينة باعتبار أن ما ينتجه العنوان من تأثير أو يعبر عنه من دلالات لن يخرج عن نطاق الوضع التاريخي لولادة النص في سياق اجتماعي وتاريخي محدد؛ ولكننا سوف نقف عند حقائق التشكل النصي، ونكتفي بالإشارة إلى المقاصد على أنها أفعال إشارة ودلالة قارة في البنية اللسانية للنص من خلال دراسة التفوهات التي تطلقها الذات النصية الباثة للرسالة الشعرية. لذلك، لن نسأل: ماذا كان قصد الشاعر من اختياره لهذا العنوان أو ذاك؟ وإنما ستكون مقاصد النص التي يمكن الكشف عنها من خلال فهم لغة النص وتراكيبه وتحولاته وعلاقاته الداخلية، ومن ثم تأويلها، هي المنطلق والغاية في آن واحد معاً.
تكمن أهمية عنوان هذه المجموعة (شمس في قصبة) في كونه يقوم بوظائف محددة؛ فهو:
- يسهم في تكييف حالة التوقع لدى القارئ واستنفار طاقته التخييلية في فهم التحولات الداخلية في المجموعة برمتها لما ينطوي عليه من غرابة تخرق العلاقات المألوفة بين المكونين الأساسيين فيه وهما (شمس) و(قصبة). فالشمس سبب لنمو النبات كافة، ومنه عامة القصب، فالشمس أعظم جرماً بما لا سبيل فيه للمقارنة مع جرم القصبة الضئيل. لكننا نلاحظ أن الشمس الهائلة موجودة في قصبة تتناهي في الصغر. ونلاحظ أيضاً أن هذين العنصرين قد وردا نكرتين تعبيراً عن المساواة الضمنية بين الجسيم والضئيل.
- يوحي العنوان بملامح الثيمة الأساسية لنص شعري بعينه، ويقع في التسلسل الخامس من نصوص المجموعة، وفي الوقت نفسه يومئ بقوة إلى ثيمات فرعية أخرى ماثلة في بقية نصوص المجموعة.
- وهو ينجز حالة من التحدي لقدرة القارئ الناقد على استجلاء طبيعة العلاقة النصية التبادلية المعقدة بين العنوان من جهة ومتن المجموعة كلها من جهة أخرى.
وبالنسبة للوظيفة (3) أعلاه، فإنها تتخذ مظاهر شتى في نتاج هذا الشاعر أو ذاك، وقد تتغير من حالة إلى أخرى ومن نص إلى آخر لدى الشاعر نفسه، ولكن الفيصل في الحكم على نجاعة استنفار حالة التحدي المرجوة لدى القارئ تظل مرتبطة بالصيرورة النصية نفسها.
إذن يتألف عنوان المجموعة من جملة اسمية خبرية من ثلاث كلمات فقط، فهو (شمس في قصبة) (ينظر النص في الصفحات 73-79)، وهذه الكلمات هي: اسم +حرف جرٍ+ اسم، ونلاحظ هنا أن العلاقة الدلالية بين كلمة ’شمس‘ وكلمة ’قصبة‘ قد قررها حرف الجر ’في‘ لإرساء تعادلية واضحة بين الاسمين من جهة وليجعل الجرم الأعظم (شمس) كامناً في الجرم الأصغر (قصبة) من جهة أخرى. ولو قلبنا العبارة فقلنا (قصبة في شمس) لصارت الدلالة محدودة للغاية، ولوجب علينا أن نعرف الشمس لأن القصب كثير والشمس واحدة. ونلاحظ أيضاً أن الشمس، وهي مصدر الطاقة والحياة على الأرض، ذات الجرم الهائل حجماً الذي ربما يعادل، أو يفوق، مليون حجم الأرض، قد تحولت، بقوة المنطق التخييلي للشعر، إلى محض شيء موجود في (قصبة) وهي من أكثر الأشياء ضآلة على وجه الأرض! ولكن إذا كانت الشمس اسماً معرفاً بالعربية بحكم العرف اللغوي، فهي اسم لا يحتاج إلى التعريف، فهناك شمس واحدة وقمر واحد، وهو تعريف يستند إلى أسس معتمدة في اللسان العربي؛ لذلك، فإن ’ألـ‘ التعريف أو العهد في النص، قد فقدت هيبتها اللغوية لتكتسب هيبة شعرية ولتكون مؤهلة لسلوك شعري جديد يخرجها عما نعهده فيها، فإذا هي كائنة في ’قصبة‘ في انقلاب عجيب للأدوار! ونحن نعلم أن القصبة ما كانت لتكون لولا الشمس؛ فهل هذه القصبة هي قصبة فعلاً؟ أم أنها تعبير رمزي عن القصبة التي تصنع منها آلة موسيقية هي الناي أو المزمار؟ أم أنها كناية عن نفس بشرية هي الذات الباثة للرسالة الشعرية؟ ونميل إلى التفسير الأخير في أن هذا العنوان يشير ضمناً إلى الذات الباثة للرسالة الشعرية للإيحاء بامتلاك هذه الذات، وبقوة الشعر، طاقة تجعلها أعظم من سببها المادي الأول، أو الشمس. وهذا يعني أن اللعبة الشعرية ستكون مستمدة من الطموح لامتلاك رؤيا شاملة تتجاوز القوانين المعهودة والقدرة البصرية المألوفة إلى استثمار فعل المخيلة على نحو ديناميكي يمنح النص طاقة رؤيوية متجددة سواء أكانت الحالة الشعرية المحركة للنص اجتماعية أو سياسية أو ميتافيزيقية. وعلى هذا النحو نفهم عنوان المجموعة في علاقته بالنص المعنون به وبالمجموعة كلها.
وعموماً يمكن تقسيم العنوانات إلى ضربين: الأول يتأسس على الخرق الدلالي العميق، وتشمل النصوص (الجمال تصفق له زهرة الفافون) و(شمس في قصبة) و(في الهواء اليابس ... بحثاً عن ريف القصيدة)، والثاني يتألف من لفظة واحدة مثل النصوص (تيجان) و(فجوات) و(التوابيت)؛ والثالث يتشكل من عبارة خبرية اعتيادية ذات وظيفة بلاغية، مثل النصوص (كتابة على ورقة التين) و(لا أتذكر آخر البنائين) و(ميراث الوردة) و(بشارة الأسماء).
ففي النص المعنون (تيجان) (الصفحات 59-65) تتواصل لعبة قلب الأدوار التي لاحظناها في عنوان المجموعة فنقرأ:
تاجٌ لأحلامنا الموؤدة ..
تاجٌ لأكاذيب فقرائنا ..
تاجٌ للأدعية الملفوفة في جيوب قتلانا ..
وآخر لعرائسهم المزعومات ..
يتبعه واحد لقبورهم المهدمة ..
تاجٌ لعباءات أمهاتنا المهترئة ..
تاجٌ لكتب أطفالنا الممزقة ..
لمقاعدهم الجريدْ ..
لأحذيتهم التي أكلتها الأرضُ ..
وملابسهم التي علفها الزمن ..
تاجٌ لجورب معلمهم المثقوب! ..
ثم ينمو النص نوعياً ليكمل صور المأساة العراقية مستنداً على تكرار لفظة (تاج)، وهي مفرد الكلمة العنوان (تيجان) لتكون لازمة دلالية فاعلة في بيان ذلك التناقض الفاضح بين معنى كلمة (تاج)، وما توحي به من رفعة وتكريم وربما سلطة قاهرة من جهة، وتجليات الصور الشعرية التي تنشأ نتيجة معرفتنا بمن وما مُنِحْت له هذه التيجان، وهي صور تعبر عن هوان وبشاعة وانحطاط من جهى أخرى.
ومن العنوانات التي تستلزم فحصاً نقدياً (الجمالُ تصفق له زهرة الفافون)، وهو النص الأول في المجموعة؛ إذ يتألف العنوان من جملة فعلية في الأصل قبل أن يحورها النص إلى جملة أسمية، فالجملة في الأصل (تصفق زهرةُ الفافون للجمال)، ولكن جاءت كلمة (الجمال) المجرورة الأخيرة لتكون مبتدأً مرفوعاً، وجاءت عبارة (...تصفق له زهرة الفافون) لتكون في محل رفع خبراً. ونلاحظ هنا أن طرفي العنوان هما (الجمالُ) و(الفافون). وشتان ما بين الاثنين. فالأول مفهوم فكري وفلسفي مجرد، والأخير مادي وملموس يشير إلى عنصر الألمنيوم مما يشي بصيرورة من الرفيع (الجمال) إلى الوضيع (الفافون). ولكن ماذا لو استبدلنا كلمة (فافون) بكلمة (الربيع) لتكوين علاقة إسنادية (زهرة الربيع)؟ النتيجة ستكون أن يفقد العنوان شيئاً كبيراً من ثرائه الدلالي إذ سيقتصر على دلالة محدودة (الجمال تصفق له زهرة الربيع) وهو ما قد ينصرف إلى كون زهرة الربيع تحيي الجمال، أو أنها تدل عليه؛ أما التركيب الإسنادي (زهرة الفافون) فإنه ينشئ علاقة صادمة بين المفهوم الفلسفي التجريدي (الجمال) والمعنى الإسنادي الذي يتمرد على الدلالة المألوفة للزهرة من خلال تحويل الزهرة الطبيعية إلى زهرة خاملة، بل ميتة ومصنوعة من معدن مبذول. ويأتي متن القصيدة ليؤدي إلى تأطير هذا المعنى الجديد ومنحه عمقاً شعرياً وتصورياً شاملاً؛ فتتحدث الذات الباثة للرسالة الشعرية أو (القصبة) عن المسارات الانفعالية والنفسية الداخلية والمشهد الخارجي قائلةَ:
"أمَّا أنا فقد خَلعتُ قميصي،
آخرَ الحكاية ..
ولوحتُ براحتينِ ترابيتينِ ..
لزمرةٍ من الهميان؛
انبهرت لتوازنهم طيلة ألف مضينَ ..
فوقَ حقويَّ العاريين." (ص 5)
فلِمَ هذا الانبهار؟ وكيف تعاملت القصبة، أو الذات النصية، مع تفاصيل المشهد الشعري الأخرى؟ ستأتي التفاصيل في جمل خبرية:
"كانت الفزاعة نائمة في:
جناح الغُراب الميت ..
وحنطة الحلم مقضومة في:
حوصلة زرزور ..
والشاهد يقشر نبضهُ ..
ويضفرٌ غِلالةَ أيامِه؛
متَّكئاً على نونية عيدٍ تقطعَ ..
في جبال الأراجيح.
الجوعُ سادنٌ! ..
وأمعاؤنا سادةٌ،" (ص 5-6)
ليتوالى توليد الصور السريالية مختوماً بالقضية الاجتماعية في عبارة (الجوعُ سادنٌ) أو في محنة الترجيح بين خيارات الأنثى التي تنتمي للرجل في هيمنة ذكورية واضحة وماثلة في ياء التملك (أنثاي). أو أن يعلب بالتشكيل اللغوي محاولاً أن (يلج في فكرة المعدة، أو أن (يتمعدن في الفكر؟) ففي مركز هذ الصيرورة الشعرية كانت الذات النصية حاضرة بوصفها خالقة للرؤيا، وموجودة بها، ومن أجلها، بحثاً عن سبل "ترميم الخسارات" و"رتق الأحلام" (ص 12). وما ذلك إلا أن القصبة لم تستطع أن تعرف المسبب " في إحراق ظلها" (ص 14)! ولهذا فإنها من "أَذِنَ بالزوال"، فجعلتْ (الجمالُ تصفق له زهرةُ الفافون)! وهكذا تتوالي دوامة الصور الشعرية هذه، فتلامس حافات المعنى الشامل للنص من دون أن تتورط بالتصريح عما تريد؛ بل هي تسعى إلى خلق مزاج شعري يرتقى بالتلقي إلى مستوى المشاركة الوجدانية التي تقوم على اقتناص لحظةٍ النشوة المتشكلة عبر هذه الدوامة، لحظةٍ هي أشبه شيء بالذهول والنشوة والفهم تحت تأثير الإصغاء للموسيقى.
يحتل نص "شمس في قصبة" (الصفحات 73-79) منزلة خاصة لأنه يكشف عن التأسيس للعلاقة الكنائية الشاملة التي تشكل المفتاح لعملية تخليق الصور في نصوص المجموعة. ولسوف نكتشف أن هذه القصبة متحولة على الدوام ولها تجليات عديدة، فهي قصبةُ مفاتيحَ صدئةٍ، وقصبة نسيانٍ، وقصبة دهشة، وقصبة طريق، وقصبة أصلها ثابت وأنين ناياتها في السماء، ... إلخ. لكن النص يقرر:
"لتكنْ ظلالُك،
في تجليات القصبة، مسماة ...
لتكنْ أحلامُكَ،
في تقاسيم القصبة، معافاة ...
لتكنْ أنتَ أنتَ ..
والقصبةُ قصبةً ..
والناي ناياً .. " (ص 76)
وهذا الطلب من الذات التي تخاطب نفسها أن تكون هيَ هيَ، وأن تكون القصبة قصبة، والناي ناياً إنما هو توكيد ضمني على أمرين: الأول، اتحاد الذات النصية بالقصبة وبالناي، والثاني أن للموسيقى حضوراً تكوينياً لا تزييني لأن الذات/ القصبة، وهما مكونين ماديين، قد استحالتا ناياً غير منفصل عن المكونين اللذين يراد لهما أن ينفصلا عن بعضهما. وهكذا فإن مما لا شك فيه أن نصوص مجموعة (شمس في قصبة) للشاعر عبد الحسين الحيدري تصور، على نحو حافل بالجمال، جوانب مهمة من تجربة إنسانية كامنة في صلب الصيرورة الذاتية والاجتماعية والسياسية للإنسان والشاعر. ونجد هذه الصيغة الرؤيوية ماثلة، على هذا النحو أو ذاك، في شتى نصوص المجموعة، وهذه النزعة إلى الصدور عن رؤيا كلية خالقة للشعر نجدها ماثلة، ضمنياً في لاوعي النص، في قوله:
"لِيَكُنْ إِنشاؤكَ مَشيئَةَ
لِتَكُنْ مَشيئَتُكُ إِنْشاءً" (ص 78)
كل ذلك سيكون استجلاءً من أجل استنطاق "البوق الأخرس في السبابة" والانهماك "في الثبات في الوحشة" (ص82/83) فالذات النصية، وهي تغني وحشتها الوجودية، تومئ لنا قائلةً:
"قَبْلَ قرْنٍ سَتنْبَثِقُ الأعجوبةُ،
...................
ستعوض عن فرضيات تنبؤاتي ..
وأحلامي الرياضية
أعِدُكِ سَنلتقي في
القَرْنِ الرابعِ للهجرةِ
لأني حَلِمْتُ بِكِ في ..
الخَميسِ القادمِ ضائِعةً؛
في الدفلى المُضيئةِ
وفي الجُلَّنار الآفلِ" (ص 91)
فنلاحظ، هنا، أن طاقة الخلق الشعري متمثلة في كثافة الصور وتوهجها وإسهامها في تشكيل مزاج تخييلي يحوُّلُ الواقعة الشعرية إلى عنصر فاعل في عالم التجربة الذاتية للمتلقي من دون أن يفقد صلته الوثيقة بالواقع اليومي. ومن ذلك نجد النصوص تجمع بين أزمنة وأمكنة مختلفة: الماضي في قوله (قبل قرنٍ) و(القرن الرابع الهجري) من جهة، والمستقبل ممثلاً بسين الاستقبال في (ستنبثق الأعجوبة) وفي (الخميس القادم) الذي سيشهد ضياع المحبوبة في الدفلى المتوهجة والجلنار المنطفئ! فهنا يتجسد البعد الزمكاني الذي يتمرد على الحدود المألوفة بحثاً عن سبل الخلاص من أفق المحنة الوجودية ومن سجن الحدود الزمانية.
ولكن ماذا عن الواقع الراهن؟ هنا، ينبثق السؤال الوجودي الخطير: "لِمَ تقاضيْ الروحَ؟ أليست هي أولَ الشهداءِ؟" ( 94) ولأن المحنة الوجودية متأصلة فينا جميعاً، فإن السؤال الآخر: "مَنْ يوازنُ كفتي الهودج، على ظَهْرِ بَعيرٍ ضالٍ؟" (ص 96) يؤشر عبثية المحاولة، فما جدوى أن يتوازن الهودج إذا كان البعير ضالاً في صحراء تخلو من الصوى!
ولن ينقطع تدفق الصور الشعرية4 والأسئلة والتأرجح بين الأزمنة التي تُجلِّي جوانبَ مهمة من محنة الشاعر الذاتية والوجودية والاجتماعية في نصوص "شمس في قصبة". لذلك، تتسأل الذات النصية:
"لِمَ هذا الذبولُ الذي في الوردةِ ..
يَسْألُني عنْ أمسي؟
لست الأمسَّ،
لست الغدَّ، .." (ص 140)
ونفهم غياب الزمان الحاضر أو الآن من النصوص على أنه إشارة إلى حضور بالغياب، لأنه زمن النص، أو زمن الاكتواء بنار التجربة الشعرية! ولكن، كيف ذلك؟ تصرح الذات النصية:
"أومئُ،
إلى لَاتَ يَحْجَرونْ،
إصْبعٌ يشير إلى،
السَماءْ،
آخَرُ ...
إلى التُرابْ،
الوُسْطى إلى ..،
القَصَبْ ...
السَبابَةُ إلى:
مُشعلي الحَرائق،
بَيْنَ الأرضِ والسَماءْ .." (ص 142-143)
إنَّ هذه الصور، التي تشير إلى الذات النصية صاحبة الإصبع، وإلى السماء والأرض، وإلى من يمتهنون إشعال الحرائق، تنهض بمهمة توظيف مركب معقد من التكوينات البلاغية التي تتجاوز مفاهيم البلاغة التقليدية ووظائفها كاشفة عن ذلك الترابط التكويني بين جوانب محنة الشاعر إزاء التجربة الوجودية في الكليات والجزئيات؛ فالذات النصية كامنة في قلب التجربة لتعيشها أولاً، ولتؤشر عناصرها كافة ثانياً. وقد يتجرأ النص على تقديم جملة تلخص وتقصر المعنى الشامل، فـ"ما الحرمان إلا وحشةٌ" (ص 145)
غير أن العشق قد لا يضفي كثيراً من التوهج على عتمة التجربة، فإذا ما تحدثت الذات النصية عن لحظة عشق، فإننا سنقرأ:
"يا سيدة الشجر الصاعد في القلب،
يا ماسة روحي المدفونة...،
تحت الأنهار المحترقة،
أحضرت توابيتي الآن: ..." (ص 147)
فنلاحظ أن جدلاً بين الصور الشعرية ينبثق من التناقض القائم بين المخاطبة "سيدة الشجر الصاعد في القلب" وهي صورة إنشائية إيجابية، التي تتصادم في الحال مع صورة سلبية نابعة من حقيقة كونها ماسة مدفونة والدفن يرتبط بالموت! فالموت إذن، يهيمن على تألق العشق لأن المعشوقة، سيدة الروح، مدفونة تحت الأنهار التي غدت محترقة؛ وهكذا ستكون للذات النصية مجموعة من التوابيت لا تابوتٌ واحد في كناية تصورية عن تعدد ميتات الشاعر الناتجة من تعدد صور حياته؛ فهناك تابوت للنسيان، وللشاعر إذ يلبس جلد القنفذ، وللفجر المدفون بعرف الديكِ الميت، ولإله الحرب، وللمحنة في بطن الحوت، وللتاج المنصوب على أفواه الفقراء، وللبهجة تدخل قفصاً وتقاتل، و...إلخ. (ص 1480149) وانبثاقاً من هذا المزاج المأساوي، وفي تكرار له دلالته، تصرح الذات النصية في نهاية النص كما لو كانت تقدم اعترافاً أخيراً:
"فيا ماسة روحي المدفونة...،
تحت الأنهار المحترقة،
يا سيدة الشجر الطالع في القلب ..
ها إني عريانُ أمامِكِ ..
لستُ دَعياً مُكتهلاً ..
لكِنِّي أُكْثِرُ مِنْ ذكرِ الموتِ ..
لأصبح أكثر عملاً." (ص 151)
على هذا النحو، تصل الذات النصية إلى الكشف عن خواء التجربة التي تتحول شيئاً فشيئاً إلى محض ترديد للموت الكامن فيها حتى لا تواجه محنة العطالة الوجودية. إنها حقاً تجربة شاملة ومريرة، ولا تبحث عن الربح الاجتماعي بقدر ما تروم التحديق الشجاع والتأمل الجمالي بمظاهر القبح الاجتماعي وتجليات الخسارة التراجيدية لمحنة الوجود.
الملاحظات:
- عبد الحسين الحيدري، "شمس في قصبة" دار الصواف للطباعة والنشر. 2017.
- د. وفيق سليطين، "الكتابة السالبة من المتابعة إلى الحوار" دار الحوار، بيروت، 2006. ص. 3.
- د. محمد مفتاح، "دينامية النص" المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1987. ص. 72.
- يلاحظ المتابع لتجربة الشاعر عبد الحسين الحيدري أنه صانع صور شعرية ماهر فهو ينطلق من مبدأ جوهري يرى في الإنشاء الشعر على أنه فن الصورة. فالصور المبتكرة والنابضة بالجمال تمنح الشعر حيوية فائقة، كما تعمل على توسيع الأفق الدلالي والتأويلي فيه. ويظهر ذلك في شتى النصوص الشعرية التي نشرها الشاعر الحيدري على مدى بضعة عقود من تجربته الممتدة منذ أوائل السبعينيات حتى الآن. للمزيد، تنظر دراستنا لمجموعته الأولى (أهاجي الممدوح)، وعنوانها: "النص الأدبي وحزم المعنى"، في كتابنا (طاقة الكلمات) الصادر عن دار كلاويز للنشر في السليمانية في العام 2009 (الصفحات 220-230).