الحديث عن النقد الأدبي في عُمان مُوجِعٌ؛ لا لأن هذا النقد شحيحٌ فحسب وإنما لكون ما يتيسر منه خجولا غيرَ جريء ولا مغامر. أقول هذا على الإجمال دون الحاجة إلى الاستثناء الذي قد يكون متحققا وإن كان مغمورا. وليس هذا من باب جلد الذات؛ لأن وراء ذلك تفسيرا يطول، وسأقترب منه بشيء من الإيجاز.
زمنيا، لا يمكننا أن نتحدث عن وجود نقد أدبي في عمان قبل سنة 1970؛ للأسباب المتعلقة بظروف تلك المرحلة من غياب التعليم بمعناه الحديث. وما قدمه الأديب عبدالله الطائي من كتابات في الستينيات يعرّف فيها ببعض شعراء عمان والجزيرة العربية لا يمكن بحال عده دراسات نقدية؛ لكونها مادة إذاعية أو صحفية تدخل في تاريخ الأدب. وبعد أن انطلقت النهضة الحديثة في عمان، سنحتاج إلى عقد ونصف من الزمن كي نرى بداية ظهور مقالات وبحوث نقدية تتصل بالأدب العماني. إن افتتاح جامعة السلطان قابوس عام 1986، صاحبه حضور ثلة من الأكاديميين العرب الذين حاولوا مقاربة الأدب العماني، بجنسيه الشعر والقصة، عبر السياق العام للنقد العربي الحديث الذي بدوره لم يطور منهجا عربيا في النقد وإنما ظل يصدّر المناهج النقدية الغربية ويفصلها، في غالب الأحيان، على النصوص الشعرية والنثرية أكانت تحتملها أو لم تحتملها. وسينعكس تأثير هؤلاء الأكاديميين العرب على الطلاب العمانيين الذين التحقوا ببرنامج الماجستير في قسم اللغة العربية وآدابها سنة 1993. فعلى الرغم من أن الدفعة الأولى سنة 1995 حاولت أن تقدم أطروحات جيدة في نقد الشعر العماني القديم، سنجد أن التيار التقليدي جرف معظم الطلاب إلى الدراسات اللغوية والمعجمية وإلى تحقيق المخطوطات. ومع أن التحقيق عمل جليل ومهم؛ فإنه ليس أطروحة يرجى منها إكساب الطلاب، وهم في خطواتهم الأولى، أهم مهارات البحث العلمي مثل الحدس، والتأمل، والاستقصاء، والتحليل، والمقارنة، والاستنتاج. ولا شك أيضا، أن القسم لاحقا قدم أطروحات نقدية مهمة، رغم قلتها. كما أنه في السنوات الأخيرة؛ لانضمام كوكبة من الأساتذة القادمين من المغرب العربي إليه، استطاع أن يغير من مسار أطروحات الطلاب لتكون ذات مناهج جديدة ومداخل تمتح من اللسانيات الحديثة.
اخترتُ جامعة السلطان قابوس بحسبانها الجامعة الأولى والأفضل في عمان، وهذا سيعفيني من الحديث عن غيرها من مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة. للأسف لم تتمكن كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، حتى لا يكون الحديث مقتصرا على قسم اللغة العربية؛ إذ أن الحال نفسه إن لم يكن أسوأ في قسم اللغة الإنجليزية، من خلق جيل من النقاد العمانيين يتناولون الأدب العربي، والعماني بخاصة، بدراسات عميقة تتواكب مع تطور هذا الأدب الذي أصبح بجموحه وعنفوانه حصانا طرواديا يجر وراءه عربة متضعضة من الباحثين المبتدئين والأكاديميين العجَزة.
كلا، لم تستطع الكلية فعل ذلك رغم عمرها الطويل الذي يتجاوز ربع قرن؛ فلم يظهر في الساحة الأدبية ناقد متحقق كما حدث في بعض جامعات الخليج العربي المجاورة التي برز فيها أمثال عبد الله الغذامي، وسعيد السريحي، وسعد البازعي، وإبراهيم غلوم، وعلوي الهاشمي، وآخرين. وإن شئنا الحقيقة المرّة فهي أن الكلية لم تصدّر للساحة الثقافية بمجملها أي أستاذ عماني متحقق في الأدب، أو علم الاجتماع، أو التاريخ، أو المسرح، أو الإعلام، أو الفلسفة! والأخيرة هي العنقاء التي عناها الشاعر بقوله:
أيْقَنْتُ أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ ثَلاَثَةٌ * * الْغُولُ وَالْعَنْقَاءُ وَالْخِلُّ الْوَفِي!
ولن أخوض في الأسباب التي صنعت هذا المشهد البائس، ولكن ربما يكمن السبب في عدم تمكن النقاد العمانيين من التفرّغ للدراسة والبحث، فما زالوا يرزحون تحت أعباء الوظيفة ومتطلباتها القاسية. ونحن نعلم بأن النقد يحتاج إلى مثابرة وإخلاص كي يتحقق، والهامش المتاح حاليا لمعظم المهتمين بالنقد لدينا ضيق وفقير. فالمشتغلون بالنقد، وأخص الأكاديميين منهم، لا يوجد لديهم هامش من الوقت يكفي لهذه المتابعة المثابرة لأي عمل جديد في الإبداع أو الفن أو الثقافة بشكل عام. إن الأعباء التدريسية، والأعمال الإرشادية الأكاديمية، والإشراف على رسائل الماجستير، واللجان الداخلية والخارجية، كلها أثقال تنوء بالعُصْبة أولي القوة. وفوق ذلك فإن الأكاديميين مطالبون، كي ينالوا حقهم من الترقية، ببحوث ودراسات مُحكَّمة دوليا تستغرق شهورا وسنوات. ومما يؤسف له أن الجامعات لدينا تنظر إلى الأستاذ الجامعي على أنه مجرد عامل مصنع، مطلوب منه أن يعالج مجموعات من المُدْخَلات في معامل الجامعة؛ كي تكون صالحة لاستخدامها في السوق! وكما نعلم فإن عُمّال المصانع يكون وقتهم مستنزَفا في عملية التصنيع هذه، ولا يوجد لديهم هامش لممارسة أي نشاط آخر. لا تفقه جامعاتنا للأسف أهمية البحث العلمي، رغم أنها تنادي به ليلَ نهارَ. وفكرة تخفيف الأعباء التدريسية والإدارية عن كاهل الأساتذة من أجل أن يتفرّغوا ولو قليلا لواجبهم الوطني في إجراء الدراسات النقدية الرصينة للمنجز الإبداعي العماني أدبيا وفنيا وثقافيا، تكاد تكون مستحيلة، بل يسخر منها البعض ويعتبرها مجرّد ترَفٍ مَحْضٍ وعُطلٍ عن العمل. نحن نعلم بأن أشهر الجامعات في العالم إنما ترّسختْ سمعتُها الدولية عبر الزمن نتيجة الاهتمام بالبحوث والدراسات وليس بمجرد تفريخ الموظفين إلى سوق العمل.
هل قلتُ شهادة مزعجة حول الجامعة؟! حسنا، سأذهب إلى ما هو أبعد من هذا لأقول إنه لا توجد لدينا استراتيجية وطنية لخلق جيل من النُّخَب العمانية في شتى المجالات العلمية، والأدبية، والفنية، والثقافية. إن غياب الأسماء العمانية ذات المنجزات المتميزة في هذه المجالات، المنجزات التي تتجاوز حدودها الإقليمية لتصبح ضمن المنظومة العربية والعالمية، أمر يبدو أنه لا يُقلِقُ أحدا ولم يُلتمسْ له علاج. وسأستبعد يقينا أن يكون وراء هذه المشكلة سبب مرتبط بالجينات الوراثية! فعُمان تمتلك رصيدا تاريخيا قويا في هذا الشأن، والحديث عن ذلك مدعاة لإسهاب لا يتسع له المقام هنا. والراجح عندي أن الأمر يعود إلى توفير مناخ ملائمٍ للإبداع والتميز في هذه المجالات.
إن ما أعنيه باستراتيجية صناعة النُّخَب هو أن تكون لدينا خطة بعيدة المدى لاستقطاب الكفاءات المتميزة، من العمانيين، في مختلف المجالات وتذليل صعاب الحياة أمامهم كي يتفرغوا للإبداع كلٌّ في مجاله. ولا ريب أنه بتراكم الخبرات والإنجازات ستتشكل أعلام تتجاوز شهرتها الحدود الوطنية والإقليمية لتصل إلى العالمية؛ مما يصنع لعمان صيتا علميا وثقافيا يليق بموقعها التاريخي في الحضارة العربية.
لا أود أن أظهر عاطفيا وتبسيطيا بهذا الطرح، وأعلم جيدا أن المشروع يحتاج إلى ضوابط إدارية وتنفيذية تكفل له النجاح، كما تضمن له أن لا يتحول إلى مرتع للمنتفعين والمدّعين. أعي ذلك جيدا، وأعرف، مثلا، أن فرصة التفرغ العلمي التي تمنحها الجامعات والتي تصل إلى سنة أحيانا يسيئ استخدامها ثلة من الأكاديميين المزوَّرَين، ويستغلونها للكسب المالي بالعمل أو التدريس في جهات أخرى، بدلا من الاشتغال على البحث العلمي المفرغين لأجله. أعرف مثل هذه المحاذير، ولكني أدرك أن استقطاب الكفاءات أمر يمكن تحقيقه إذا صدقت النوايا وأخلصت أهدافها للوطن.
سأعطي مثالا لإمكانية صناعة النخب في النقد الأدبي، مادامت هذه الشهادة مرتكزة على هذا المجال. يمكننا أن نمهد الطريق لخلق نخبة من النقاد العمانيين باستقطاب كفاءات من أمثال الدكتور خالد البلوشي من قسم اللغة الإنجليزية في جامعة السلطان قابوس، والدكتور محمد المحروقي من قسم اللغة العربية بجامعة نزوى، والدكتورة جوخة الحارثي من قسم اللغة العربية بجامعة السلطان قابوس، والدكتور حميد الحجري من جامعة الشرقية، والدكتورة عائشة الدرمكي من الجامعة المفتوحة (دون شك هناك أسماء أخرى يمكن اقتراحها). هذه الأسماء، حسب معرفتي بها ومتابعتي لكتاباتها، يمكن أن تكون أعلاما متميزة في النقد الأدبي لو تهيأ لها مناخ آخر يعفيها من الكدح اليومي وراء لقمة العيش، فهي إلى جانب تأهيلها العلمي الجيد، لديها قدرات في الدراسة والبحث تتسم بالذكاء والاستنارة والانفتاح على اللغات الأجنبية والمناهج الحديثة. عُدّة الناقد الجيد متوفرة لديها، ولكن ما ينقصها هو الوقت. وهنا يمكن لمؤسسات مثل مجلس البحث العلمي أن يشتري أوقاتهم التي يصرفون جلها في متطلبات الوظيفة، مقابل التزامهم بمشاريع محددة تتصل بالشعر والسرد في عمان. ليس بالضرورة أن تكون الفترة الزمنية مفتوحة مدى الحياة، ولكن يمكن تقنينها وربطها بالإنجازات المتوقعة. إن فعل هذا ليس مستحيلا، وكثير من دول العالم استنّت في قوانينها حق «التفرّغ العلمي» المدعوم لمن يستحقه من العلماء والباحثين. وفي تاريخ الحضارة الإسلامية أمثلة كثيرة لقيام الدولة، أو الأعيان الميسورين، بواجب كفالة العلماء «ليتفرّغوا للعلم». وقد نُقِلَ في الأثر عن الخضر أنَّه قال لموسى عليه السلام: (يا موسى، تفرّغ للعلم إن كنتَ تريده، فإنما العلم لمِنْ تفرّغ له). ولعل أبيات الإمام الشافعي أيضا تلخص هذا الموقف الذي اتخذه العلماء المسلمون من مسألة التفرّغ العلمي:
لا يُـدرِكُ الحِـكمَةَ مَن عُمْرَهُ
يَـكـدَحُ فـي مَـصـلَحَـةِ الأَهْلِ
وَلا يَـنـالُ العِلمَ إِلّا فَتىً
خـالٍ مِـنَ الأَفكارِ وَالشُغْلِ
لَو أَنَّ لُقمانَ الحَكيمَ الَّذي
سارَت بِهِ الرُكبانُ بِالفَضْلِ
بُــلي بِــفَــقـرٍ وَعِـيـالٍ لَمـا
فَـرَّقَ بَـيـنَ التِـبْنِ وَالبَقْلِ
وهكذا نجد أن استراتيجية تفريغ العلماء والنّخَب المثقّفة للدراسة والبحث أمر لا مناص منه إن أرادت الدولة أن تضع لها قدما في سلم الحضارات والتقدم.
ثمة عامل آخر ساهم في تخلف عربة النقد الأدبي عن حصان الأدب الجامح في عمان، وهو عدم استكتاب المؤسسات الثقافية والإعلامية للناقد العماني. وأعني بهذا أن المجلات الثقافية مثل «نزوى»، والملاحق الثقافية مثل «شرفات» و«أشرعة» لم تخطط لفتح ملفات نقدية حول الشعر، والقصة، والرواية، والمسرح، باستكتاب المتخصصين في النقد الأدبي من العمانيين. ظلت هذه المنافذ الثقافية تنشر دون تخطيط، ودون دعم مُجْزٍ، مقالات متناثرة لا تجمعها ثيمة معينة، ويغلب على كتابتها التسرع وعدم التحليل العميق للنصوص. كان بوسع هذه الملاحق والمجلات أن تخصص ملفات متنوعة تتعلق بقضايا الشعر العماني مثل «قصيدة النثر»، أو «قصيدة التفعيلة»، أو «القصيدة العمودية»، أو «الحداثة»، وتفتح ملفات أخرى لقضايا السرد العماني. فتح مثل هذه الملفات سيترتب عليه تخطيط بعيد المدى، واستكتاب نخبة من المشتغلين بالنقد من العمانيين، وتخصيص ميزانية مجزية لهذا الاستكتاب. والحال نفسه فيما يتعلق بدور المؤسسات الثقافية كوزارة التراث والثقافة، والنادي الثقافي، والجمعية العمانية للكتاب والأدباء. بوسعها أيضا أن تخطط لندوات متخصصة في قضايا محددة تتعلق بالأدب العماني. ويقينا ستساهم هذه الجهود في خلق جيل من النقاد العمانيين المتميزين عبر تراكم الخبرات والكتابة.
حين أنظر إلى ركن في مكتبتي خصصتُه للإصدارات الشعرية والقصصية والروائية العمانية الحديثة، أتحسر على ضياع العمر وفقدان الوقت لتناول هذا الإنتاج الغزير بالنقد والدراسة، وأظن أن زملائي ممن ذكرتهم في هذه الشهادة وغيرهم يجدون الإحساس نفسه. إن تجربة شاعر غزير الإنتاج مثل سيف الرحبي مغرية بسبر أغوارها، وهي للأسف لم تُدرس إلا من طرْف خفي، فهل سيتمكن الجيل الجديد من النقاد الشباب من تتبع مثل هذه التجارب الشعرية العميقة؟ أم أنهم سيكونون ضحايا مثلنا تفترسهم طاحونة العمل والتدريس؟!
(نقلاً عن مجلة نزوى)